«عن الأسلوب» لديمتريوس

قد يكون كتاب «عن الأسلوب» أقدمَ ما وصلنا كاملًا من المؤلفات النقدية بعد أرسطو؛ وحتى إن لم يكن كذلك، فإنه يُعدُّ مصدرًا مبكرًا مهمًّا يتناول طيفًا واسعًا من الموضوعات. وعلى خلاف كتاب «فن الشعر» لأرسطو، الذي يمتاز بالإثارة لكنه يتسم أحيانًا بالتفرد، وكتاب «عن الأسلوب السامي» للونجينوس، فإن «عن الأسلوب» لا يُحتمل أن يكون ذا ابتكارات بارزة، ولكن هذه السمة تحديدًا تجعل منه مدخلًا مفيدًا ودليلًا يعيننا على فهم مواطن القوة والضعف في النقد الأدبي الكلاسيكي. يقدّم لنا المؤلِّفُ فيه أشملَ عرضٍ باقٍ حتى اليوم لنظرية الأساليب، وهي الإطار الذي كان يحظى بشعبية كبيرة في التحليل النقدي وإصدار الأحكام. ويعرض هذه النظرية من خلال تقسيم معقّد إلى أربعة أساليب، لا نجد لها نظيرًا دقيقًا فيما وصلنا من التراث. كما يقدّم شروحًا موجزة وواضحة وغالبًا ثاقبة لموضوعات معيارية مثل نظرية الجملة والاستعارة. ويُظهر اهتمامًا شخصيًّا بموضوعات أقل شيوعًا، كفن الرسائل، والموسيقى، والتمثيل، وبمؤلفين غير معتادين على الظهور في مثل هذه الأعمال، مثل سوفرون وكتيسياس وديمايدس. ويستعين المؤلف في عرض نظرياته بأمثلة موجزة، مختارة بعناية، تميّزها جودة الانتقاء. وعلى خلاف كثير من المصادر الأخرى، خصوصًا اللاتينية منها، لا يظهر في هذا العمل أي تحيّز لفن الخطابة.

يُشار تقليديًا إلى مؤلف كتاب «عن الأسلوب» باسم ديمتريوس. وأشهر ناقد حمل هذا الاسم هو «ديمتريوس الفاليري» (حوالي ٣٦٠–٢٨٠ ق.م.)، تلميذ أرسطو، الذي حكم أثينا بين عامي ٣١٧ و٣٠٧ ق.م. وكتب في عدد من الموضوعات الأدبية والبلاغية. وقد نُسب إليه كتاب «عن الأسلوب» خطأً في عنوان المخطوطة الباقية من القرن العاشر الميلادي. لكن هذه النسبة جاءت لاحقًا، كما يتبين لنا من الصيغة الأبسط الموجودة في الخاتمة (الاشتراك) لنفس المخطوطة: «لديمتريوس، في التفسير» (Δημητρίου περ ρμηνείας)، ويبدو أن هذه الصيغة هي الأصلية. كذلك، يظهر اسم «ديمتريوس» بهذه الصورة في بعض الإشارات الأقدم التي ذكرت مؤلف «عن الأسلوب». ومن المحتمل أن يكون الربط اللاحق بين هذا الديمتريوس وبين الناقد الأشهر الذي يحمل نفس الاسم أمرًا كان لا مفر منه، بل وربما ساهم هذا الربط في الحفاظ على الكتاب من الضياع، لكنه لا يستند إلى دليل موثوق، بل يبدو في الحقيقة متناقضًا. بل ولا يمكننا حتى أن نجزم بأن اسم المؤلف فعلًا كان «ديمتريوس»؛ وإن صح ذلك، فالاسم شائع، ولا سبيل إلى ربطه بشخصية معروفة بعينها.

أما تاريخ تأليف الكتاب، فهو موضع خلاف كذلك، ولا تزال الآراء حوله متباينة. فقد رجّح كثير من الباحثين في القرن العشرين تاريخًا يعود إلى القرن الأول الميلادي (ولا سيما روبرتس وراديرماخر)، لكن في الآونة الأخيرة، بدأ بعض العلماء يميلون إلى تاريخ أقدم؛ فمثلاً اقترح غروبه نحو ٢٧٠ ق.م.، ورجّحت موربورغو تاليابويه القرن الثاني قبل الميلاد، في حين اقترح تشيرون أواخر القرن الثاني أو أوائل القرن الأول قبل الميلاد، بينما رأى شينكيفيلد أن العمل كما وصلنا هو إعادة صياغة تعود إلى القرن الأول الميلادي لمحتوى يعكس ما كان شائعًا في القرن الثاني أو أوائل القرن الأول قبل الميلاد. وأنا أجدني أميل إلى هذا الرأي المتزايد الذي يرى أن محتوى الكتاب، على الأقل، لا يستبعد القرن الثاني قبل الميلاد، بل قد يكون من أفضل ما يعكسه. لكن العثور على دليل قاطع أمر صعب، لأننا لا نملك نصوصًا كاملة، ولا نعرف إلا شذرات عن النظريات الأدبية والبلاغية التي ظهرت بين زمن أرسطو وكتّاب القرن الأول قبل الميلاد؛ وهي فترة تضم «ثيوفراستوس» وكتابه «في التعبير» (περ λέξεως) وتطورت نظريات الأساليب، والمحسنات، والزخارف البلاغية، التي نجدها لاحقًا في أعمال «شيشرون» ومعاصريه. وينبغي ألا نغفل أن الكتب المدرسية تميل عادة إلى المحافظة والتقليد، مما يعني أن وجود مادة قديمة لا يثبت بالضرورة قِدم التاريخ، كما أن التعديلات «التحديثية» قد تُدخل إشارات متأخرة معزولة لا تصلح دليلًا على تأريخ بقية العمل.

أما أحدث الأشخاص الذين ذُكرت أسماؤهم في «عن الأسلوب»، فهم ممن عاشوا تقريبًا في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، مثل: براكسيفانيس، وسوتاديس، وديمتريوس الفاليري، وكليتارخوس، ويبدو من الإشارات إلى ديمتريوس وسوتاديس أن تأليف الكتاب تم بعد وفاتهما. وقد شدد غروبه على كثرة الاقتباسات من مؤلفي القرن الرابع وبدايات القرن الثالث قبل الميلاد، لكن يمكننا مقارنة هذا مع نصين آخرين يتسمان بتنوع استثنائي في مصادرهما، وهما: الأنتياتيكيست وروتيليوس لوبوس. ومن الملاحظ كذلك، ويبدو أنه يُفسَّر بانتماء ديمتريوس للمدرسة المشائية، تركيزه الملحوظ على أمثلة من أوساط سقراط وأفلاطون وأرسطو.

ويُعد ادعاء ديمتريوس بأنه أول من ناقش موضوع «التركيب البليغ» (γαλαφυρ σύνθεσις) دليلاً على جهله بمعالجة هذا الموضوع لدى «ديونيسيوس الهاليكارناسي» في كتابه «في تركيب الألفاظ»، المكتوب بعد عام ٣٠ ق.م.، وهو ما يتوافق مع غياب مواد معيارية أخرى متأخرة. فمثلًا، لا نجد أي ذكر لنظرية الأساليب الثلاثية في دفاع المؤلف عن تقسيمه إلى أربعة أساليب في مقابل من يقصرونها على اثنين. كما أن ديموسثينيس يقتصر ذكره في الغالب على الأسلوب القوي، بخلاف مكانته اللاحقة كمثال جامع لكل الأساليب، وهي المكانة التي كانت معروفة على نطاق واسع في زمن «شيشرون» (مثلاً: في الخطابة)، وقبل ذلك عند «ديونيسيوس الهاليكارناسي». ويرجع هذا جزئيًا إلى أن ديمتريوس ميّز بين الأسلوب الرفيع والأسلوب القوي، ولأن الخطابة السياسية — في رأيه — تنتمي إلى الأسلوب القوي، ومع ذلك، لم يحظَ ديموسثينيس بأي تقدير خاص يضاهي الثناء الذي حظي به ثوسيديديس عن الأسلوب الرفيع، أو الشاعرة الإلهية سافو في الرقة، أو أرسطو في كتابة الرسائل.

وربما كان أكثر الأسئلة إثارة للاهتمام هو علاقة ديمتريوس بأرسطو وبالمدرسة المشائية المبكرة. هل هي علاقة وثيقة على نحو استثنائي؟ وهل لها دلالات على تاريخ الكتاب؟ وهل عرف ديمتريوس مؤلفات أرسطو مباشرة أم عبر وسطاء؟ إن التأثر بالمشائية أمر طبيعي إلى حد ما، نظرًا لأن المدرسة المشائية المبكرة — خاصة أرسطو وثيوفراستوس — كان لها تأثير كبير في تطور النقد الأدبي. لكن من اللافت أن النقاد الذين ذُكرت أسماؤهم في «عن الأسلوب» هم إما من المشائيين (أرسطو، ثيوفراستوس، وبراكسيفانيس)، أو ذُكروا في سياقات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأرسطو (أرخيديموس وأرتمون). ويبدو أيضًا أن تقديم المشائيين في صدارة من امتدحهم المؤلف لفصاحتهم، وإعلاء شأن أرسطو في كتابة الرسائل، بل وربما — إذا كان النص صحيحًا — اعتباره مثالًا للظرف الكوميدي، يدل على إعجاب خاص. ومع ذلك، فإن الطريقة التي أشار بها المؤلف إلى المشائيين توحي بأنه لم يكن واحدًا منهم، بل كان ينظر إليهم كجماعة مميزة ذات أسلوب خاص يجمع بينها، كما أشار إلى ذلك شيشرون.

تبدو تأثيرات أرسطو قوية بشكل خاص في مناقشة الجملة والفاصلة، وإيقاع النثر، والاستعارة، والركاكة (حيث يسمح نص الخطابة لنا حتى بملء فجوة نصية)، والوضوح (بما في ذلك التمييز بين الكتابة والإلقاء الشفهي). لكن ليس من المؤكد أن ديمتريوس قد قرأ أرسطو مباشرة. إذ لا واحدة من الاقتباسات الأربع التي تبدو مباشرة تطابق نص أرسطو حرفيًا. ورغم أن الاعتماد المعتاد على الحفظ في الذاكرة والتكييف مع السياق الجديد قد يفسر الفروقات، إلا أن ما يثير القلق هو أن الاقتباس في الفقرة ٣٨ يحرّف نص الخطابة لأرسطو وما بعدها) بطريقة توحي بتأثير النظريات اللاحقة عن عظمة «البيان» (كما في خطابة شيشرون، حيث يقارن بين الإيامبوس بوصفه أسلوبًا بسيطًا، والبيان بوصفه أكثر عظمة: «البيان في المقاطع الأعظم»).

لقد اتُّهم ديمتريوس أيضًا بسوء فهم جوهري لنظرية أرسطو حول الفاصلة، لكن هذا الاتهام يعتمد على تفسير مشكوك فيه ومثير للجدل لمذهب أرسطو. والأقرب إلى الصواب أن ديمتريوس ربما خلط في بعض التفاصيل، لكنه قدّم تفسيرًا صائبًا لأرسطو، بينما اتبع أيضًا نظريات لاحقة. هناك اتفاق حول المسألة الجوهرية، وهي أن الفاصلة وحدة فكرية، كيان منظم يكتمل فيه الفكر والشكل معًا. أما الفروقات فتتمثل في أن أرسطو حصر الفاصلة في جملتين كحد أقصى (وهو قيد يرفضه ديمتريوس صراحة في الفقرة ٣٤)، وفضّل الفواصل التي تحتوي على مقابلة أو جناس، وغالبًا ما استشهد بنماذج من إيسقراط. أما ديمتريوس فقد عرّف الفاصلة أولًا وقدم أمثلتها وفقًا للنظرية اللاحقة لأرسطو، مع التركيز على الخاتمة، واستشهد بمثال من ديموستين يظهر فيه التقديم والتأخير بشكل بارز. ولم يأت على ذكر أرسطو إلا بعد ذلك. ويمكن ملاحظة تأثير أرسطو في الفواصل التي تعتمد على التوازي في البنية، وفي إدراجه للفاصلة ذات الجملة الواحدة. ومع ذلك، هناك مصطلحات أخرى تعود إلى ما بعد أرسطو، وكذلك الحد الأعلى المتمثل في أربع جمل، والأصناف الثلاثة للفاصلة. كذلك، فإن «القياس الخطابي» في الفقرات ٣٠-٣٣ يحمل المعنى الأرسطوي، لكن بعض المصطلحات المستعملة فيه جاءت لاحقًا، مثلما قد يلاحظ في الخلط المحتمل مع «القول الختامي» في الفقرة ١٠٩ (وقد نقارن ذلك مع كوينتيليانوس، حيث يجوز للقياس الخطابي أن يُستخدم للزينة على طريقة القول الختامي). ويضيف ديمتريوس كذلك توصية شخصية قوية في الفقرة ١٥ بالاستخدام المعتدل للفواصل، وهو تعبير يوحي بمبدأ الاعتدال الأرسطوي، لكنه لا يرد عند أرسطو.

وهذا الجمع بين المادة المستقاة من أرسطو والمعدّلة وفقًا للنظريات اللاحقة هو أمر نموذجي في عمل ديمتريوس. ففي الفقرات ٧٨ وما بعدها مثلًا، يظهر تأثير أرسطو واضحًا في نظرية الاستعارة، لكنه يضيف إليها مادة أخرى نجدها في نظريات لاحقة، خاصة فيما يتعلق بالتشبيه والاستعارات الميتة. أما الاستعارة الناتجة عن إضافة صفة سالبة (الفقرة ٨٥) فهي قليلة الأهمية في النظريات اللاحقة، ولذلك يُحتمل أن تعكس اهتمامًا خاصًا بأرسطو، الذي يقدّم المثال المستخدم؛ مع ذلك، يضيف ديمتريوس اسم المؤلف، ثيوغنيس. وتظهر تعديلات طفيفة مماثلة عند استخدام نظريات أرسطو وبعض الأمثلة في الفقرات ٢٢ وما بعدها و١١٦. وقد تعود بعض هذه التعديلات إلى ثيوفراستوس؛ مثلًا، فكرة عظمة «البيان». وهناك أربعة إشارات صريحة إلى ثيوفراستوس. ومن المحتمل أيضًا أن يكون مصدر التحليل الخاص بالفكاهة والجاذبية عن الأسلوب الأنيق، وكذلك الاهتمام بالإلقاء، والتسلسل المتكرر للمواضيع التي تُحلل تحت قسمي اللفظ والتركيب، هو ثيوفراستوس أو غيره من فلاسفة المدرسة المشائية الأوائل.

أما نظرية المحسنات البديعية والاستعارات في كتاب «عن الأسلوب»، فهي أقل تطورًا من تلك الموجودة في كتاب «إلى هرينيوس» وعند شيشرون، الذي يفترض بازدراء أن جمهوره على دراية بالقوائم اللانهائية من المحسنات. ومن المرجح أن يكون هناك تأثير خاص للرواقيين هنا، خصوصًا في المحسنات المرتبطة بالأسلوب القوي، وهو الأسلوب الوحيد الذي يميّز فيه ديمتريوس بين محسنات الخطاب ومحسنات الفكر. كما يظهر تأثير الرواقيين في نظريته عن توليد الألفاظ الجديدة، وفي المصطلحات النحوية المستخدمة في الفقرات ٦٠، ٢٠١، و٢١٤، وربما في استعمال كلمة «στεος» بمعنى «جيد» في الفقرة ١١٤، وتعريفه للاستعارة الزائدة عن الحاجة، وتعريفه للتشبيه في الفقرة ٨٠. وقد يكون «أرخيديموس» المذكور في الفقرة ٣٤ هو الرواقي أرخيديموس ذاته، وقد يكون «كريسيبوس» (٢٨٠-٢٠٧ ق.م) مصدر الأمثال المذكورة في الفقرة ١٧٢. لكن هذه الآثار الرواقية سطحية أو تقتصر على نظرية اللغة، وهو مجال أثّر فيه الرواقيون على كل النظريات اللاحقة. لذا، فإن ما نراه في كتاب «عن الأسلوب» هو عمل يُظهر تأثيرًا قويًا وملموسًا من المدرسة المشائية، لكنه تأثيرٌ غالبًا ما يكون معدلًا ومكمّلًا لينسجم مع النظريات الشائعة في العصور اللاحقة. كما سنرى، فإن هذا العمل موضوع أيضًا ضمن إطار تصوري مختلف تمامًا يعتمد على نظرية الأنماط الأسلوبية الأربعة. أخيرًا، هناك الدليل اللغوي، وهو مؤشر غير يقيني، لأننا نعرف القليل عن النثر اليوناني الهلنستي المعياري والمتعلم، ولا سيما بدايات الاتيسية اللغوية، وهي محاكاة مقصودة لليونانية الأتيكية الكلاسيكية. لكن وفقًا لما نعرفه حتى الآن، فإن هذه الاتيسية اللغوية أقل احتمالًا في وقت مبكر من القرن الثاني قبل الميلاد؛ ومع ذلك، هناك بعض المؤشرات عليها في نص ديمتريوس، مثل استخدام التثنية لأشكال غير «ονο» و«μφίρω» (في الفقرة ٢٨٨)، واستخدام حروف الجر على نحو خاص. أما المفردات، فليست حاسمة عمومًا، لأن كثيرًا من الأشكال التي كانت تُعتبر «متأخرة» قد ثبت وجودها في نصوص أقدم أو لها نظائر مبكرة. وأكثر هذه الملاحظات إثارة للاهتمام هي تلك المصطلحات القليلة التي يقال صراحة إنها استخدامات حديثة، مثل «λόγιος» بمعنى العظمة في الفقرة ٣٨، ومجموعة الكلمات «κακόζηλος»، « κακοζηλία»، و«γηροκακοζηλία» في الفقرة ٢٣٩. وهذه الأخيرة لا تُذكر إلا هنا، ومن المغري أن نربطها بعبارة «النوع الجديد من التقليد السيئ» التي نسبها معاصر معادٍ إلى فيرجيل، والتي توصف بأنها مظهر جديد من التصنع ليس متضخمًا ولا جافًا، بل ناتج عن كلمات عادية، وبالتالي أقل وضوحًا. وعليه، قد تكون هناك بعض المؤشرات اللغوية القليلة التي توحي بإمكانية تأليف هذا العمل في وقت متأخر يصل إلى أوائل القرن الأول قبل الميلاد.

بنية كتاب «عن الأسلوب» واضحة ومنهجية. يبدأ بمقدمة تمهيدية حول نظرية الجملة، يتبعها تحليلٌ لأنواع الأسلوب الأربعة: الرفيع، الرشيق، البسيط، والقوي. ورغم غياب مقدمة أو خاتمة رسمية، قد يبدو أن هذين القسمين عرضان مستقلان، إلا أن بينهما روابط وإشارات متبادلة. كما أن القسم الأول يُعد تمهيداً مفيداً لموضوع مشترك بين جميع الأساليب في القسم الثاني، ويطول حتى لا يمكن حصره في أسلوب واحد. بالمقابل، نجد ملاحظات عامة حول إيقاع النثر، والاستعارة، والاشتقاق تظهر أولاً ضمن تحليل الأسلوب الرفيع، وملاحظات حول الوضوح والتصوير الحي ضمن الأسلوب البسيط، وأشكال اللوم المباشر وغير المباشر عن الأسلوب القوي. تحليل الجمل والفِقَر يجري وفق تسلسل منهجي يشبه ما نجده في كتب التعليم. إذ يقدم عرضاً مفصلاً على نحو غير معتاد للجملة، ينتقل من أصلها وتعريفها إلى استعمال الجمل الطويلة والقصيرة في مواضعها المناسبة. أما الفقرة، فيتناولها بالتعريف، والأصل والتاريخ، والطول، والأنواع الفرعية، مع ملاحظات متفرقة عن كيفية استخدامها. وأخيراً، يضيف ملحقين يعودان لموضوع التعريف، على غرار الطريقة التي يتبعها بتحليل الموضوعات الثانوية بعد الانتهاء من التحليل الرئيسي داخل كل أسلوب.

بعد تمهيد للدفاع عن نظرية الأساليب الأربعة، يبدأ ديميتريوس بتحليل كل أسلوب على حدة. وينتهي كل منها بمناقشة موجزة لنظيره المعيب: فالأسلوب الرفيع يقابله التكلف المفرط، والرشيق يقابله التأنق المصطنع، والبسيط يقابله الجفاف، والقوي يقابله النفور. ومع استثناء جزئي للأسلوب الرشيق، يعالج كل أسلوب بحسب ثلاثة محاور: الألفاظ، والتركيب، والمضمون. يظهر هذا البناء الأساسي في أبسط صوره في العرض الموجز للأساليب المعيبة، وعن الأسلوب الرفيع، وإذا استبعدنا الاستطرادات، عن الأسلوب البسيط أيضاً. أما عن الأسلوب القوي، فتغطي العناوين الثلاثة الفقرات ٢٤٠-٢٧٦، يليها بعد ذلك مجموعة غير مترابطة من الموضوعات: مزيد من صور البلاغة، الحديث عن ديماديس، أشكال التوبيخ، وانتقاد الوصل الصوتي بين الكلمات.

أما الأسلوب الرشيق فالأمر أعقد فيه، ويشوبه شيء من الاضطراب بسبب التقسيم الفوري إلى نوعين من الظرف: الشاعري الرقيق، والهزلي الظريف، ويتداخل فيه تحليل المضمون مع تحليل الأسلوب، وهو ما يعود إلى التقليد القديم في معالجة الطرافة. ولئن كان محور «اللفظ» (Λέξις) يشير عادة إلى اختيار الكلمات، فإنه يشمل هنا بعض موضوعات التركيب، ثم يُحصر، في الفقـرات ١٤٢-١٤٥، بشكل محير، في الكلمات المفردة. وفي هذه المرحلة، يبدو وكأن المناقشة الرئيسية قد انتهت، إذ تليها ملاحق عن الفروق بين الظرف والضحك، والاستعمال المناسب وغير المناسب للهجاء، ثم تعريف ثيوفراستوس للكلمات الجميلة والنظرية الموسيقية. ولكننا نجد بعد ذلك معالجة للتركيب الرشيق، وكأن ديميتريوس قد لاحظ ثغرة وأراد أن يستكمل هيكل التحليل المعتاد لديه القائم على ثلاثة محاور. ويعتذر هذا القسم الأخير عن ابتكاره، ويُعيد تقديم المصطلح العام للأسلوب وهو «الرشيق» (γλαφυρός)، الذي كان قد استُبدل ـ مع استثناء واحد في الفقرة ١٣٨ ـ بمصطلحي «الظرف» (χαρίεις) ومشتقاته. وإذا جمعنا هذه السمات البنيوية معاً، يتضح أن ديميتريوس اعتمد وصفاً جاهزاً للأسلوب الظريف وقام بتعديله، لأنه لم يكن يملك نموذجاً تفصيلياً سابقاً للأسلوب الرشيق.

تاريخ نظرية الأساليب أو الطابع (χαρακτήρες) في بداياته غامض ومثار للجدل، ولا سيما ما يتعلق بإسهام ثيوفراستوس، غير أن المعيار الأساسي فيها هو مبدأ الملاءمة، أي أن هناك موضوعات تناسب أساليب بعينها، ومخالفة ذلك تُعد عادة خطأً. وقد ظهر التقسيم الثنائي للأساليب، بين الرفيع والبسيط، منذ زمن بعيد كما في مسرحية «الضفادع» لأريستوفانيس، حيث يُتهم يوربيديس باستخدام أسلوب بسيط على نحو غير ملائم، إذ «الأفكار العظيمة تستوجب كلمات عظيمة». ولهذا السبب نجد أن نظرية الأساليب دائماً ما تمنح المضمون مكانة أساسية، كما في مقولة شيشرون في كتابه «الخطابة»، وهو مثال على نظرية الأساليب الثلاثة، التي أصبحت النموذج المعياري في العصر الروماني: «الخطيب الحق يستطيع أن يعبر عن الموضوعات المتواضعة بأسلوب بسيط، والموضوعات الرفيعة بأسلوب جليل، والموضوعات المتوسطة بأسلوب معتدل». غير أن التركيز في هذه النظريات ينصب على الأسلوب نفسه، ويلاحظ أن مناقشة ديميتريوس للموضوعات المناسبة لكل أسلوب تظل موجزة على الدوام. ولأن اختيار الأسلوب يتوقف على السياق المناسب، فإن جميع الأساليب متساوية من حيث المشروعية، ورغم أن ديميتريوس يظهر شيئاً من الاستخفاف بالأسلوب البسيط، إلا أنه لا يُظهر تفضيلاً لأي أسلوب على آخر، كما لم يفعل صاحب «إلى هيرينيوس»، بخلاف ما نراه عند شيشرون، الذي رفع من شأن الأسلوب الرفيع كخيار مفضل للخطيب.

وللتحليل الأسلوبي وظيفتان: تقييم الكُتّاب السابقين، وتوجيه الكُتّاب المستقبليين. وغالباً ما تجتمع الوظيفتان، وإن كانت إحداهما قد تطغى أحياناً. ويظهر أن ديميتريوس يتبنى المنهج التوجيهي بوجه خاص (حيث يكثر من استعمال صيغ الأمر والمستقبل)، بينما يلتزم ديونيسيوس مثلاً في كتابه عن ديموستينيس بالتحليل النقدي. وقد يُصنف الكُتّاب الأفراد أيضاً ضمن أسلوب معين، كما يبدو أن ديميتريوس يصنف ثوسيديديس ضمن الأسلوب الرفيع، بينما نجد أن كُتّاباً آخرين مثل هوميروس وأفلاطون يميلون إلى الجمع بين أكثر من أسلوب أو التنقل بينها (الفقرة ٣٧؛ وقارن بما يقوله شيشرون عن تمكن ديموستينيس من الأساليب الثلاثة في «الخطابة» ٢٦). غير أن التمييز بين الوظيفتين يصبح صعباً حين يُستعان بالكُتّاب السابقين كنماذج يُقتدى بها في الحاضر. أما صياغة ديميتريوس لنظرية الأساليب الأربعة فهي أمر غير معتاد في حد ذاتها، ولكن طبيعتها واستخدامها لا يختلفان في جوهرهما عن صيغ النقاد الآخرين.

ويمكننا أن نميز بين عدة خيوط في تطور نظرية الأساليب عند ديميتريوس. فالنظرية الثنائية للأسلوبين، الرفيع والبسيط، ظلت مؤثرة (كما عند شيشرون في «البلاغة»)، ويكاد ديميتريوس أن يعترف في الفقرتين ٣٦-٣٧ بأنه استقى نظريته عن الأساليب الأربعة من هذه الثنائية، بتقسيمه للأسلوب الرفيع إلى رفيع وقوي، وللأسلوب البسيط إلى بسيط ورشيق. وهو يتجاهل نظرية الأساليب الثلاثة، التي ظهرت بوضوح لأول مرة في «إلى هيرينيوس» و«الخطابة» لشيشرون، وهي لا تعنينا هنا إلا لأن هذا التجاهل يثير التساؤل إن كان ثيوفراستوس يعرفها بالفعل. ومن المرجح أن ثيوفراستوس كان يقر بوجود أسلوب جيد واحد فقط (أو ديباجة واحدة)، وهو الأسلوب المتوسط بين الإفراط في البساطة والمبالغة في التنميق، غير أن تعريفه لهذا الأسلوب المتوسط استُعملت فيه مفردات ارتبطت لاحقاً بالأسلوب الرفيع تحديداً. ويتوافق هذا مع ما وصلنا من شذرات قليلة: فقد اعترف بوجود ثلاثة أنواع من الديباجة، موصياً بالنوع الذي يجمع بين النوعين الآخرين، وتحدث عن السامية في التعبير (في «عن ديموستينيس» و«عن إيسقراط» بحسب فورتنبوه)، وعرّف البرودة بأنها ما يتجاوز الشكل المناسب للتعبير، وهو تعريف يوحي بأن الخطأ محصور في الإفراط فقط. وإن صح ذلك، فإن ثيوفراستوس كان يطور ما كان قائماً بالفعل عند أرسطو، الذي أوصى بالتعبير الملائم، لا المتدني ولا المتكلف، وضرب أمثلة على الإفراط في التعبير تحت عنوان «البرودة».

ويشكل مبحث الصفات أو الفضائل (ρεταί) خيطاً آخر في نظريات ديميتريوس. ولتسهيل موضوع خلافي آخر، فإن الأسلوب الواحد الجيد عند أرسطو، وهو فضيلة واحدة تجمع بين الوضوح والتميّز، تحوّل على يد ثيوفراستوس إلى قائمة من أربع فضائل ضرورية: النقاء، والوضوح، والملاءمة، واللطف في التنميق الأسلوبي، أو ما أسماه شيشرون «الزينة العذبة المتدفقة». غير أن النقاد اللاحقين أضافوا إلى هذه القائمة، وبحلول زمن شيشرون وديونيسيوس (الذي أشار في «عن ثوسيديديس» إلى أن غيره سبقوه إلى تطوير النظرية)، أصبحت الفضائل تنقسم إلى ضرورية وإضافية. وهذه الإضافات لم تعد تسمح بوجود حزمة واحدة من الفضائل المتزامنة المطلوبة في كل أسلوب، وأصبح بإمكان الكاتب أن يكون متميزاً في واحدة وضعيفاً في أخرى. وهكذا أصبح التمييز بين الأساليب والفضائل مشوشاً، إذ أن أي أسلوب، كالأسلوب الرفيع مثلاً، هو خطاب مشكَّل ليعكس صفة معينة، كالسامية، وديميتريوس — مثل غيره من النقاد اللاحقين — يتنقل بسهولة بين مفردات الأساليب ومفردات الفضائل. ومع ذلك، فإن قائمة الفضائل هي أقرب نظير لمقولات الأسلوب التي يميزها ديميتريوس كأساليب مستقلة، حيث أن ديونيسيوس يقسم الفضائل الإضافية إلى ثلاث مجموعات: السامية، والقوة، والجاذبية. ومن هنا يمكن اعتبار أن الأسلوب البسيط يكتفي بالفضائل الضرورية، بينما الأساليب الرفيع، والقوي، والرشيق تظهر فيها خصائص السامية، والقوة، والجاذبية على التوالي.

الأسلوب الرفيع يلائم المعارك الكبرى والظواهر الطبيعية العظيمة، وتدل الأمثلة على تفضيل الملحمة والتاريخ، مثل هوميروس وثوسيديديس، وشخصيات مثل أياس، ومشاهد سردية ووصفية كبرى مثل طاعون أثينا، ونهر أخيلوس، والمعركة البحرية عند بيلوس. وهذا قريب من رؤية شيشرون للتاريخ كأدب: «يروى بأسلوب منمق وتُوصف المعركة أو المعركة البحرية بأسلوب ملكي غالباً». والجدير بالذكر أن الخطابة غائبة هنا تقريباً، باستثناء مقطع وصفي غير نمطي من أنتيفون، واستعارة من ديموستينيس، وهي تُستشهد على نحو أنسب في الفقرة ٢٧٢ لقوتها. ويبدو أن السامية الخطابي غالباً ما يمزج بين القوة والسامية، ومن المرجح أن ديميتريوس فضّل التركيز على جوهر الأسلوب. وربما لهذا السبب نجد أن العاطفة قد استُبعدت تقريباً. صحيح أن الاستعارة تُثير الهيبة والخشوع (τ φοβερν)، لكن هذا الجانب — الذي عادة ما يحظى بمكانة بارزة في نظريات السامية — لم يُطور عند ديميتريوس، ربما بسبب تداخل هذا المجال مع الأسلوب القوي، حيث تعود الأمثلة ذاتها للظهور.

الأسلوب الأنيق يفتقر إلى الوحدة الواضحة والمُرضية، كما يتبين من التقسيم الأولي له إلى نوعين: الجاذبية الوقورة، والتهكم الهزلي. فالتشبيه الذي استخدمه هوميروس عن أرتميس، والعجوز الخرفاء التي وصفها ليسياس، يبدوان غير متصلين بأي صلة. غير أن هذين المثالين يمثلان الطرفين النقيضين، حيث تميل الجاذبية في أحدهما نحو الأسلوب الجليل، وفي الآخر نحو الأسلوب القوي. وفي التطبيق العملي، يحصر ديميتريوس تركيزه على مجال أكثر وحدة، هو الظرف الأنيق عند سافو أو إكسينوفون. وكما رأينا، يبدو أن ديميتريوس لم يجد مصادر أفضل، فحاول تعديل معالجة لموضوع الظرف. لذا، يمتلك هذا القسم وحدة خاصة به وملاحظات ثاقبة، ويتقاسم تقليدًا مشتركًا مع شيشرون وكوينتيليانوس. ولكن مع أن الظرف يعني كلاً من الجاذبية والظرف، وكلا المفهومين جزء من اللذة أو المتعة، في مقابل الجلال والقوة، إلا أنهما لا يتطابقان دائمًا. وما تشير إليه الموضوعات الموصى بها في الفقرتين ١٣٢-١٣٣ هو الجاذبية، لا الظرف: حدائق الحوريات، أغاني الأعراس، الحب، الطيور، والربيع.

الأسلوب الأنيق يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأسلوب البسيط في كتابات ديميتريوس (لاحظ كيف أن الطيور الصغيرة والزهور تُقابل المعارك الكبرى في الفقرة ٧٦). وتصنيفه كجزء من الأسلوب البسيط، وهو على الأرجح أصله (قارن بالفقرة ٣٦)، يمكن مقارنته بقول شيشرون في كتابه «الخطابة»، حيث للأسلوب البسيط فرعان: أحدهما يتعمد أن يكون كالكلام العادي، والآخر«"أكثر أناقة وظرفًا، مع لمسة من الإشراق وزخرفة متواضعة». ومع ذلك، فعندما يتمثل في نمط الجمل الإيسقراطية ذات الإيقاع السلس والعذب، قد يكون الأسلوب الأنيق على طرف نقيض مع الأسلوب القوي، وقد يجتمع أحيانًا مع الأسلوب السامي. وبما أن ديميتريوس يحاول جاهداً التعبير عن طبيعة هذا الأسلوب، فمن الصعب العثور على أمثلة موازية له لدى كتّاب آخرين. لكننا نجد مفهومًا أكثر وحدة للجاذبية في الجودة الأدبية المتأخرة المعروفة بالحلاوة (غليكوُتيتيس)، التي تتميز بالمناظر الطبيعية الجميلة وموضوعات الحب. وتظهر أهمية الجاذبية كعنصر مستقل في الأسلوب جلية منذ القرن الأول قبل الميلاد، سواء من خلال موقعها في نظرية الفضائل الأدبية، أو عبر المحاولات المختلفة لإدراجها في نظرية الأساليب، كجزء من الأسلوب المتوسط.

أما الحديث عن الأسلوب البسيط، فقد كان موجزًا وتقليديًا: موضوعات بسيطة، وألفاظ بسيطة، وترتيب بسيط. واستنادًا إلى الأمثلة القليلة المقدمة، يبدو أنه يلائم الخطابات الخاصة والمشاهد المنزلية (كما في ليسياس) والحوار السقراطي. ويمكننا مقارنة ذلك بمجموعة الموضوعات المشابهة التي يمثلها الأسلوب البسيط عند ديونيسيوس في «ديموستينيس»، و«إلى هيرينيوس»، وعند المنسوب زيفًا لأفلاطون في «حياة هوميروس» (المشهد العائلي بين هكتور وابنه في الإلياذة وما بعدها). ونظرًا لقلة ما يقوله، يضيف ديميتريوس مناقشات عامة حول الوضوح، والحيوية، وقوة الإقناع. وهو هنا يتبنى فضائل السرد التقليدية (التي كانت تشمل الوضوح، والإيجاز، وقوة الإقناع، مع أن بعضهم أضاف الحيوية، كما عند كوينتيليانوس). والكثير مما أورده يمثل جزءًا من النظرية الأدبية اللاحقة: قارن حول الوضوح مثلًا «الخطابة» لدى شيشرون، وكوينتيليانوس؛ وحول الحيوية كوينتيليانوس؛ وحول الإقناع كوينتيليانوس. كما يميز ديميتريوس بين نوعين من الحيوية، وهما استخدام كل التفاصيل، واستخدام التفاصيل العرضية المناسبة ــ وهذان النوعان اعترف بهما كوينتيليانوس أيضًا. لكن ديميتريوس يظهر أصالة في أمثلته، حيث يعقب إشارة سريعة إلى مقاطع مألوفة من هوميروس بتحليل أكثر تفصيلًا لشخصية أقل شيوعًا، وهو المؤرخ كتيسيوس (الفقرتان ٢١٢-٢١٦)، متضمنًا تحليلًا قويًا للتوتر الدرامي في مشهد تبلغ فيه الأم بوفاة ابنها.

ويختم ديميتريوس عرضه للأسلوب البسيط بمثال عن الأسلوب المختلط: مزيج من الجاذبية والبساطة، وهو ما يلائم الرسالة. وهذا التحليل هو أقدم ما وصلنا من تناول لطبيعة الكتابة الرسائلية، ويستعرض ببصيرة الفروق بين الرسالة والحوار، والاختلاف بين الرسائل الموجهة إلى الأصدقاء وتلك الموجهة إلى الملوك، مع التأكيد على أهمية إظهار الشخصية في رسالة الصداقة، لأن الرسالة تعكس روح كاتبها. وفي إطار نظرية النثر الكلاسيكية، يشكل هذا توسعًا نادرًا يتجاوز حدود التاريخ والفلسفة والخطابة المعتادة.

أما الأسلوب القوي، فيتناسب مع التعبير عن العاطفة القوية، خاصة الغضب والهجاء. والمصدر الرئيسي لأمثلة هذا الأسلوب هو الخطابة، وخصوصًا ديموستينيس، وفي ملحق خاص ديماديس. وتستمر الملاحق في التركيز على الاتهام، لكنها تضعف وحدة هذا الأسلوب بإدخالها أشكالًا أخف من التوبيخ غير المباشر، وأحيانًا النقد اللبق. وفي نظرية الأنماط الثلاثة، يندرج هذا النوع من القوة ضمن الأسلوب الجليل، وفي «إلى هيرينيوس»، يمثل مقطع هجائي مثالًا على الأسلوب الجليل. ولكن تم التعرف على مفهومي القوة والجلال بوصفهما مفهومين مستقلين في نظرية الفضائل (كما ذكرنا أعلاه). وقد أولى الفلاسفة المشائيين الأوائل اهتمامًا خاصًا للقوة، لا سيما التمييز بين الأسلوب الاستعراضي السلس الخالي من العاطفة، والأسلوب القضائي الحيوي المعتمد على الإلقاء الشفهي. لاحظ الإشارة إلى «الكلام التنافسي» في الخطابة لأرسطو، والاعتراف بجرأة ديموستينيس (شذرة ديموستينيس الفيلالي رقم ١٦٣ عند فيهرلي)، ونقد إيسقراط لافتقاره إلى مثل هذه الحيوية (شذرة هيرونيموس رقم ٥٢ عند فيهرلي).

أما الأنماط الخاطئة، فلكل أسلوب نظير خاطئ مجاور له. وهذه فكرة مألوفة، نجدها مثلًا في «إلى هيرينيوس» و«لونجينوس». ومع ذلك، ورغم طابعها التقليدي، فإن الأنماط الخاطئة عند ديميتريوس ليست مقنعة تمامًا. فالنمط المصطنع وغير المستساغ يبدو مزيجًا من نقاط مستمدة من أساليبه الصحيحة، وعلى الرغم من أن الأسلوب الفاتر (البارد) والأسلوب الجاف يبدوان أكثر تماسكًا، إلا أنهما يكملان أحدهما الآخر بدلًا من أن يكون كل منهما نقيضًا لأسلوبه الصحيح. فالأسلوب الجاف هو موضوع عظيم يُقدَّم بلغة تافهة، في حين أن الأسلوب الفاتر هو موضوع تافه يُقدَّم بلغة منمقة. كما أن الأسلوب الجاف لا يمثل خطأ إفراط كما هو حال العيوب الأخرى ــ كان من المتوقع أن نجد مثالًا على الإفراط في البساطة، مثل مشاجرة الحمام في «إلى هيرينيوس». ومن الجذاب هنا أن نستنتج أن العيوب كانت مبدئيًا مقصورة على الأسلوب الجليل والأسلوب البسيط، وأن طبيعة الأسلوب الجاف عند ديميتريوس تعكس مرحلة سابقة كانت ترى أن الأسلوب الجيد هو حد وسطي وفق النظرية المشائية، يقع بين عيوب الإفراط والتقصير (الإفراط والتفريط)، أي بين البرودة والجفاف.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق