دانتي أليغييري
في أواخر القرن الثالث عشر، وفي أكثر الجمهوريات الإيطالية اضطرابًا، يُلقى شاعر، مشبع بالفلسفة واللاهوت وأحلام الحب الصوفية، في خضم صراعات بلاده. كان مولعًا بالحق، فسعى جاهدًا لأن يبصر النور وسط هذا الصخب، ولكن كيف له أن يهتدي إلى الطريق القويم وسط هذه الخصومات المتشابكة؟ فليست المبادئ هي التي تتصارع، بل هي أحقاد أسرية تتفجر داخل الحزب الواحد. وها هي فلورنسا أشبه بسفينة بلا ربان تتقاذفها أهوال العواصف. ولأجل أن يتشبث بثابت وسط هذه الاهتزازات المتواصلة، تصور في ذهنه مثلاً أعلى للنظام العالمي. ومن الفوضى السياسية لمدينته ارتقى بفكره إلى سياسة المسيحية جمعاء. لقد بدأ شاعرًا فصار مواطنًا، ثم تحول المواطن إلى مشرّع فلسفي صوفي، واتخذ من فكرته نورًا يهتدي به لفك شيفرة الفوضى الإيطالية. ولكن، من ذا الذي يتبعه؟ لا أحد. لقد حكم على نفسه بالعزلة بسبب نزاهته. كان وحيدًا، وكان يعلم أنه سيكون كذلك، ولم يرهبه هذا المصير. وحين عرضوا عليه أن يكون سفيرًا لدى البابا، خاطب أبناء مدينته بهذه الكلمات: «إن ذهبت، فمن يبقى؟ وإن بقيت، فمن يذهب؟» قد يُعد هذا غرورًا من غيره، لكنه بالنسبة له كان وعيًا بمهمته. وحين سيُنفى عن وطنه، سيظل وحده حتى في منفى رفاقه. فأولئك الذين طُردوا معه من فلورنسا ليسوا بأفضل من الذين طردوه. كانت دعوته أسمى من أن تُفهم، ومثاله الأعلى أنقى من أن تجد له موضعًا على هذه الأرض.
فراح يتنقل بين المدن، يستجدي قوت يومه لقمةً بلقمة، كما وصف بحسم أحد شخصيات عمله، حتى آوى أخيرًا إلى المدينة التي سيبنيها له الشعر. وهناك ستتجسد كل دراسته وأحلامه وهواجسه في عمل غريب، معقد، غامض، سيصدره ببساطة تحت عنوان «الكوميديا»، ليضيفه التاريخ الأدبي إلى أعظم ما أبدعه الإنسان. لم يسر دانتي، شامخًا ومتفردًا، وحده عبر عصره فحسب؛ فعلى الرغم من صيحات الإعجاب التي أطلقتها أوروبا عند ظهوره الأول، فإن المصير ذاته كان ينتظره بعد موته. فلورنسا لم تدرك مثل المحب العاشق لبياتريس؛ وحتى الأجيال اللاحقة، وعلى مدى قرون، لم تختلف عن معاصريه؛ فحتى أولئك الذين أعجبوا به، لم يفهموه إلا جزئيًا. كم من تعليق على «الكوميديا الإلهية» منذ القرن الرابع عشر! قبل عشرين عامًا، كان بإمكان المرء اعتبار المعنى العام لهذا العمل لغزًا؛ واليوم، وبرغم الأبحاث الرائدة، ما يزال موضوعًا للنقاش.
ويا لها من قصة طريفة لو أردنا تتبع حكاية شُرّاح دانتي! إذ يمكن بسهولة أن نلمح في شروحاتهم روح كل عصر مروا فيه. ففي القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر، ظهرت شروح ساذجة، امتزجت فيها السيرة الذاتية واللغة والبحث العشوائي عن الرموز، على نحو مضطرب. وفي الطليعة كانوا: ولدا دانتي، بيترو وجاكوبو، والمفسر المجهول صاحب «الشرح الأمثل»، والفرنسيسكاني أكورسو دي بونفانتيني، والكانون ميكّينو دا ميتسانو، والكارميلي ريكاردو، إلى جانب ستة مفسرين — اثنان من اللاهوتيين، واثنان من الفلاسفة، واثنان من الأدباء الفلورنسيين — الذين استدعاهم جان فيسكونتي، رئيس أساقفة ميلانو وحاكمها، في سنة ١٣٥٠، لشرح ثلاثية دانتي. ولم يكن لهذه الشروحات أن تُعرف إلا بين أهل الأدب؛ ولكن سرعان ما جاءت لحظة أريد فيها تقديم دانتي إلى عامة الشعب الإيطالي من منابر الوعظ في الكنائس. وكانت فلورنسا السباقة في هذه المبادرة؛ فبموجب مرسوم صدر في ٩ أغسطس ١٣٧٣، خصصت مرتبًا سنويًا مقداره مائة دوكات ذهبي للعالم الذي سيُعهد إليه بشرح تعاليم «الكوميديا الإلهية» للعامة.
وقد وقع الاختيار على بوكاتشيو، وهو أعظم كاتب في القرن الرابع عشر مع أستاذه بترارك؛ وقد تردد، لكنه رضخ أخيرًا لإلحاح المدينة، فبدأ دروسه في الثالث من أكتوبر من العام ذاته، في كنيسة سان ستيفانو. غير أن بوكاتشيو كان قد تقدم في السن — تجاوز الستين — وأرهقته الأعمال، فلم يُقدّر له أن يُكمل، فتوفي بعد عامين وقد شرح فقط السبعة عشر نشيدًا الأولى من «الجحيم». وبعد وفاة بوكاتشيو، تنافس كثير من العلماء على مواصلة عمله، وظهرت جوقة كاملة من الرواة. أصبح دانتي ملكًا لإيطاليا كلها، ففي حين جلس المؤرخ فيليبو فيلاني، ولاحقًا الفيلولوجي العظيم فرانشيسكو فيليلفو، في كرسي بوكاتشيو، كان بارتولو دا بوتي في بيزا، وغابرييلو سكوارو في فينيسيا، وفيليبو دي ريدجو في بياتشنزا، وبالأخص بِنفينوتو دِيمولا في بولونيا، يشرحون هم أيضًا أمام الجمهور هذه الموسوعة الشعرية التي أبدعها الفلورنسي العظيم. وقد شغل هذا المدّ الفكري الأذهان حتى ذاع صيته خارج إيطاليا، ولا سيما خلال مجمع كونستانس في مطلع القرن التالي. هناك طلب أسقفان إنجليزيان، نيكولا بوبويش وروبرت هالم، من جان دي سرافالي، أسقف فيرمو وأميرها، أن يترجم لهم «الكوميديا الإلهية» إلى اللاتينية مع شروح وتعليقات. فشرع سرافالي في العمل أول فبراير ١٤١٦، ولرغبته في تلبية طلب الأسقفين الإنجليزيين، أنجز عمله في ١٦ فبراير من العام التالي.
ولا عجب أن يلتمس لهم العذر على ركاكة لغته اللاتينية وسوء ترجمته، إذ إن الوقت الذي أتيح له لم يكن كافيًا لإنجاز مثل هذه المهمة. ويحق لمعظم شُرّاح تلك الحقبة أن يلتمسوا العذر ذاته. فهل تقدمت فهمهم للملحمة الإيطالية الكبرى من أيام بوكاتشيو إلى زمن سرافالي؟ لا، قطعا لا. وأطرف ما لدى هؤلاء المفسرين هو المعلومات البيوغرافية، فهم قريبون من عهد دانتي، وقد تمكنوا من نقل بعض الروايات الشفهية، فشهاداتهم ذات قيمة فيما يخص بعض التفاصيل. أما فيما يخص تفسير العمل ذاته، فلم يكن سوى حشد من الترهات المتحذلقة. وبوسعنا أن نكرر بكل ثقة العبارة الساخرة التي أطلقها تيرابوسكي، والتي تنطبق، وللأسف، على كثير من شروحات دانتي حتى في القرن التاسع عشر: «ومن يدري كم من الأفكار نسبوها إلى دانتي، وهو لم تخطر له على بال قط!».
مع النصف الثاني من القرن الخامس عشر، تبدأ مرحلة جديدة لمفسّري «الكوميديا الإلهية». ففي ذلك المدّ من الإلهامات الأفلاطونية الذي ميّز الحياة الأدبية في فلورنسا في تلك الحقبة، قدّمت أعمال دانتي مادة غنيّة للتفكير. ورجلان بالخصوص يمثّلان هذا الاتجاه الأسمى، وهما كريستوفورو لانديتو وأليساندرو فيلوتيلو. لقد كان دانتي متفوّقًا على العصور الوسطى إلى حدّ أن العصور الوسطى لم تفهمه؛ ولم يكن إلا عصر النهضة، المستلهم من أفلاطون، هو الذي رفع لأول مرة طرف الحجاب ونفذ إلى أعماق روح أليغييري العظيمة. صحيح أن دانتي قد دُرس في أيامنا بقدر أكبر بكثير من الجهد والدقّة، ومع ذلك فإن بعض الجوانب في تفسيره الفلسفي والديني ستظل دومًا تستحق العودة إلى لانديتو للاستفادة منها. ومؤخرًا، أعلن أحد كبار المعجبين بالكوميديا الإلهية و«الحياة الجديدة» — وهو المؤرّخ شلاسر — عن المشاعر الدينية العميقة التي أثارها فيه قراءة كريستوفورو لانديتو. وقد أضاف إلى هذه التحية أيضًا تعليق أليساندرو فيلوتيلو، الذي يعود إلى مطلع القرن السادس عشر، وكان بدوره مشبعًا بالأفلاطونية المسيحية، منزّهًا عن تعقيدات الفلسفة المدرسية. ومن يعرف الصرامة الناقدة للسيد شلاسر يدرك أن مثل هذا الثناء يعد حدثًا يستحق أن يحفظه التاريخ الأدبي. وعندما قرأت هذه الاعترافات من المؤرخ الليبرالي المسنّ، قدّرت حقًّا طبيعة هذه المرحلة الثانية من شُرّاح دانتي.
وهي المرحلة نفسها التي شهدت بروز ماكيافيلي ومايكل أنجلو وغاليلو. صحيح أن ماكيافيلي لم يقدّم بشأن دانتي سوى بعض الملاحظات اللغوية؛ وأن مايكل أنجلو، الذي كان يعرفه جيدًا، لم يتجاوز في تعامله معه كتابة بعض السوناتات الحماسية؛ أما غاليليو، فقد كان في الرابعة والعشرين من عمره حين قدّم في أكاديمية بيزا رسالتين دفاعًا عن التصور الكوني للكوميديا الإلهية في مواجهة جيرولامو بنيفييني. وقد تكون هذه التفاصيل مجرد مادة للتسلية؛ لكنها تكشف، من خلال المحبة الحانية التي أظهرها غاليليو الشاب، ومن خلال احترام مايكل أنجلو وماكيافيلي لأبيهم الروحي دانتي، إلى أي حدٍّ كانوا مدينين له في مسيرتهم وكفاحهم. لقد كان هؤلاء الثلاثة، بما فيهم من شغف وما في مسيرتهم من عذابات، التعليق الحي على هذا الجيبيليني العظيم. لكن، ويا للأسف، سرعان ما حلّ الروح الأكاديمي محلّ الدراسة الجادة للمعلم الكبير، وذلك منذ القرن السادس عشر. فقد أصبحت الكوميديا الإلهية مادة للجدال العقيم. وإن رسم الكاردينال بيمبو مقارنة أنيقة بين دانتي وبترارك، فلا بأس في ذلك؛ لكن المسألة العاجلة، على ما يبدو، أصبحت هي: هل دانتي أعظم من هوميروس؟ أم أن هوميروس أعظم من دانتي؟ وهكذا امتلأت مكتبات بأحجام ضخمة تناقش هذا السؤال العقيم.
وها نحن أمام مازّوني وبولغاريني يتنازعان أمام محكمة أرسطو المزيّف، كما يترافع صغار المحامين أمام القاضي بيرين داندين. يدافع مازّوني عن عمل الشاعر، بينما يثبت بولغاريني بجدارة أن هذا العمل يناقض كل قواعد أرسطو، ويصفق له جمهور الأكاديميات. ومن ذا الذي كان يجرؤ، في القرن السادس عشر، على القول إن لأرسطو في هذا الشأن كلمة لا وزن لها؟ بلاغة جوفاء، وتشدّق علمي، وتفاهات، كلها أسماء لشيء واحد. أما شُرّاح القرن السابع عشر، فلم يعودوا يهتمون إلا بالتفاصيل الصغيرة في الكوميديا الإلهية، ولم يبدُ عليهم أنهم يدركون عظمة العمل ككل. وهكذا حلت العبادة الآلية محلّ التقوى الحقيقية. وبينما استأثرت الأكاديميات بدانتي شيئًا فشيئًا، أضاعته الأمة.
يروي غويتشارديني أنه أراد أن يقرأ الكوميديا الإلهية، فاضطر للبحث طويلًا في منطقة رومانيا حتى وجد نسخة منها. ولم يتغير الأمر كثيرًا بعد التفاهات الأدبية للقرن السابع عشر؛ فحتى عندما حاول بعض العقول الرفيعة — مثل غرافيينا، وفيكو، وفارانو — أن يعيدوا للشاعر مكانته الحقيقية، لم يكن الإيطاليون يعرفونه إلا بالاسم، وكانوا، للوهلة الأولى، أكثر دهشة منه تأثرًا، عندما شنّ عليه ثلاثة يسوعيين — الأب فنتوري، والأب زكّاريا، والأب بيتينيللي — في بدايات القرن الثامن عشر، حملة اتهامات لاهوتية وأدبية. في عام ١٧٣٢، أشار فنتوري إلى هرطقات دانتي؛ أما بيتينيللي وزكّاريا، فقد أنكرا عليه، بنبرة تهكمية أعجبت فولتير، كل موهبة شعرية. وكانت هذه الهجمة السعيدة الحظ، إذ أيقظت الشعور الوطني؛ فصدرت أجمل طبعات دانتي بعد تعليق فنتوري، ولعل أبرزها طبعة «زاتّا» (البندقية، ١٧٥٧)، المهداه إلى الإمبراطورة إليزابيث.
وقد استثار ذلك الهجوم حماسة موراطوري، والعالم الفاضل الأب ميهوس، اللذين انكبّا على دراسة بدايات الأدب الإيطالي، فزادا من اجتهادهما: فنشر موراطوري بعضًا من أهم تعليقات الكوميديا الإلهية، ونشر ميهوس أعمال ليوناردو داريتسو وجيانوتسو مانيتّي — وهما من أفضل من كتب سيرة دانتي. ولم يكن هذا كل شيء؛ إذ أيقظت الثورة الفرنسية النفوس المتبلدة، وبدأت تتشكل مدرسة أدبية تسترجع ذكريات الماضي لتستلهم منها القوة والعزم. وسيكون دانتي هو القائد والسيد والمعلم: «أنت القائد، أنت السيد، وأنت المعلم». كاثوليكيًا كان أم حر التفكير، سيمجّده الجميع حسب وجهة نظره. قبل ذلك بقرنين، كان الراهب الصالح فينشينزو بورغيني قد دافع عنه في كتابه «دفاع عن دانتي بصفته كاثوليكيًا»، مبرّئًا إياه من تهمة الهرطقة؛ وقد أعاد الفرنسيسكاني لومباردي حججه، ووجهها ضد الأب فنتوري، مفنّدًا مزاعم اليسوعي سنة ١٧٩١. لكن لومباردي لم يكن وحده في الدفاع عن الشاعر الوطني؛ إذ يمكننا أن نذكر، من المعسكر الآخر، كلًا من ألفييري، ومونتي، وأوغو فوسكولو، وروسيتّي، الذين كانوا على عتبة عصر جديد، ولهم اليوم خلفاء أشدّاء. وقد دافع لومباردي عن أرثوذكسية دانتي، حتى لو كلفه ذلك التغاضي عن جرأة عبقريته؛ في حين أن فوسكولو وروسيتّي، وقد فهموا هذه الجرأة على غير حقيقتها، حوّلوا الجيبيليني العنيد إلى رائد سابق للثورات الحديثة. وهكذا باتت المسألة واضحة: لم تعد الشروحات الأدبية البحتة ذات أهمية كبرى، بل صار الرهان هو الكشف عن روح الشاعر.
لقد تناوبت هذه الدراسات المتنوعة في الحفاظ على ذكرى دانتي أو إحيائها من جديد. ومع ذلك، كان لا يزال بعيدًا عن أن تكون لدينا فكرة واضحة عن إلهامه وعبقريته. فهل استطاع قرننا، بما يميزه من مزيج بين الحماسة والنقد، أن يفسر هذه الشخصية الغامضة؟ لقد كان دانتي مجهولًا في عصره، وشوهه الشراح المدرسيون، وحتى أولئك الذين أحبوه كثيرًا لم يقدروه تقديرًا كاملًا. فهل ظهر لنا اليوم مع هالته الخالدة؟ نعم، أعتقد ذلك. لقد امتلكنا الشاعر، وفتح لنا السياسي أسراره، وهو الآن أمامنا بكل عظمته المعقدة والمضنية. وفيما كانت إيطاليا تُنجز هذا العمل على مدى خمسة قرون، بقيت فرنسا وإنجلترا وألمانيا بعيدةً تقريبًا عن هذا النقاش؛ لكنها الآن تحتل الصفوف الأولى، وبفضل دراساتها، دخل دانتي في الملكية المشتركة للشعر الأوروبي. أما في فرنسا، فإن الترجمة الفرنسية المقفاة التي أنجزها بالتازار غرانجييه عام ١٥٩١، رغم ما فيها من براءة وما تثيره من اهتمام، لم تكن كافية لنشر شهرة الشاعر الفلورنسي العظيم. فقد تجاهله القرن السابع عشر الفرنسي، وسخر منه القرن الثامن عشر على لسان فولتير، ولم يكن سوى ريفارول، على مشارف الثورة، هو الذي أدرك أصالة أسلوبه وقوة شعره — ذاك الشعر الذي يقوم على قوة الاسم والفعل وحدهما، دون الحاجة لأي صفة.
أما في إنجلترا، فإن الأسقفين اللذين عادا من مجمع كونستانس ومعهما الترجمة اللاتينية التي وضعها سيرافالي، لم يبدو أنهما نشراها في بلدهما؛ باستثناء بعض التأثيرات عند تشوسر في القرن الرابع عشر وميلتون في القرن السابع عشر، لا نجد أثرًا لدانتي في بلاد شكسبير حتى العصور الحديثة، حين صارت العصور الوسطى، كما عندنا، موضوعًا للدراسات. وأما ألمانيا، فقد بدأت في الاهتمام بدانتي بعد فرنسا؛ صحيح أن كتابه «الملكية» نُشر وتُرجم هناك في ١٥٥٩ و١٥٦٦، لكن أول ذكر للكوميديا الإلهية لم يظهر إلا في القرن السابع عشر في ملاحظة بإحدى مسرحيات غريفيوس بعنوان «بابينيوس يحتضر»، حيث تُرجم جزء من النشيد الثاني عشر من الجحيم. وفي منتصف القرن الثامن عشر، طالب المصلح المتحمس جاكوب بودمر كتاب عصره بتفسير للكوميديا الإلهية؛ لكن العقول لم تكن مهيأة لهذه المهمة، ولم تسفر دعوته سوى عن محاولات ضعيفة من مينهارد وباخنشفانتس. ولم يكن إلا بعد مقاطع دانتي التي ترجمها ببراعة فريدة فيلهلم شليغل عام ١٧٩٥ حتى بدأ هذا التيار من الدراسات الذي لم يتوقف منذ أكثر من ستين عامًا. لقد ألهم مثال شليغل تلاميذ مجتهدين؛ فبينما كان غريس، الممثل النشيط للآداب الرومانية في ألمانيا، يترجم أعمال أريوستو وتاسو وكالديرون، كان كانيجيزر يقدم لبلاده أول ترجمة جدية للكوميديا الإلهية سنة ١٨٠٩.
وهكذا، ففي أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، اشتركت الأمم العالمة في أوروبا في العمل الطويل الذي أنجزته إيطاليا حول ثلاثية دانتي. ويكاد يبدو وكأن مسابقة أُعلنت: فكل أمة قدمت ما يميزها. فبينما كانت إيطاليا تبحث في هذه الدراسات عن إلهام وطني، كانت فرنسا — مع فورييل وفيلمان — تعرض وضوح فكرها وحبها للجمال الأدبي، وكانت ألمانيا — تحت تأثير شليغل — تبرز اجتهادها في البحث العلمي. ولا ينبغي نسيان إنجلترا التي حفزت أبحاث أوجو فوسكولو، واحتضنت روسيتي وشجعته، وقدمت نقادًا مثل بارلو الذين، بفحصهم لنص دانتي، نافسوا دقة علماء ألمانيا، وأخرجت ترجمات، ربما فاقت كل ما قدمته بقية أوروبا من حيث الأمانة والقوة والمرونة. أليست هي أيضًا التي أهدتنا تلك الصفحات التي نفذ فيها أحد أعظم مفكري عصرنا — توماس كارليل — إلى قلب دانتي بعمق؟ فقد وضع كارليل الفلورنسي في تلك المجموعة الصغيرة من الأبطال الذين يمثلون، في رأيه، التاريخ الكامل للعالم؛ وبين الأنبياء والكهنة، رسم الشاعرُ — شاعر الكوميديا الإلهية — بملامح من نار.
أرغب في تلخيص أحدث الأعمال المتعلقة بأدب دانتي، كما يقول الألمان، إذ شهدت الثلاثون سنة الماضية إنجازات هامة، وسأسعى لاستخلاصها وتوضيحها. وعلى الرغم من أنني سأقتصر على هذه الفترة، إلا أن الموضوع واسع للغاية. سأركز على النقاط الأساسية: في إيطاليا — تشيزاري بالبو، وأريفابيني، وترويا، وفراتشيلي؛ في ألمانيا — كارل فيته، وفرانز فيغيلي، وإميل روث، والمؤرخ شلوسر، والأمير الحاكم لمملكة ساكسونيا؛ في إنجلترا — توماس كارليل، وكاري، وبارلو؛ في فرنسا — فورييل، وفيلمان، وأمبير، وأوزانام، ولامنيه، دون أن ننسى المترجمين الموهوبين. هؤلاء هم الذين توغلوا في فهم أعمق لأعمال دانتي. لم أذكر اسم المعلق الذي، معيدًا خطأ روسيتي لكن من وجهة نظر معاكسة تمامًا، جعل من دانتي اشتراكيًا. ومع ذلك، فهذه الحلقة ليست بالسخافة التي تبدو عليها، بل إن كتاب أرو، رغم نية مؤلفه، سيساعدنا على فهم أصالة دانتي القوية والصحيحة. أدخل في صلب الموضوع دون إبطاء. ومن بين هذا الكم من التفسيرات، بين الافتراضات الجريئة والاكتشافات الدقيقة، يبرز موضوعان رئيسيان يقسمان دراستنا طبيعيًا: أولًا، حياة دانتي — حياته السياسية والأخلاقية والأدبية، وفي خضم هذه الحياة المليئة بالصراعات، أعماله الصغرى التي تمثل تفسيرًا لأفكاره وتمهيدًا لعمله الكبير؛ وثانيًا، هذا العمل نفسه، القصيدة التي تلخص وتعلي من الشحنة الواقعية والروحية لحياته — الكوميديا الإلهية.
لم تكن طفولة دانتي وشبابه تثيران صعوبات خاصة أمام المفسّرين. فالمعلومات التي قدّمها في القرن الرابع عشر والخامس عشر بوكاتشيو، وجيوفاني فيلاني، وليوناردو داريتسو، والتي لخّصها بيلي في القرن الثامن عشر، تُشكّل الأساس الذي بُنيت عليه جميع السير الحديثة. وأهم حادثة في تلك السنوات الأولى هي لقاء ابن السيدة بيلا، الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره، بتلك الطفلة الجميلة بياتريس بورتيناري، التي ستصبح يوماً ما في رؤى الشاعر رمزاً للحب، وملاكاً للتأمل. يروي بوكاتشيو القصة كراوٍ للأخبار، فيما يرويها دانتي في «الحياة الجديدة» كشاعر. أما كتّاب السيرة الذاتية من الإيطاليين والفرنسيين في عصرنا، مثل تشيزاري بالبو، وفورييل، وأوزانام، فلم يفعلوا سوى إعادة إنتاج الروايات الأصلية حول تلك المرحلة. بينما ذهب الألمان أبعد من ذلك، محاولين استكشاف ما الذي درسه دانتي، وما هي الاستعدادات التي مهّدت لتلك العبقرية الغنية. ومن بين أفضل السير الذاتية التي نملكها لمؤلف «الحياة الجديدة» هي حتماً تلك التي كتبها أوغست كوبيش. ففي بضع لمحات دقيقة، أعاد كوبيش رسم ملامح المجتمع الإيطالي حوالي عام ١٢٦٥، مجمّعاً الأحداث التي لا بد أنها أثّرت في خيال الشاعر وهو طفل، وتتبّعه في المدارس الكنسية موضحاً نوع المعرفة التي تلقّاها هناك.
لقد تشرّب دانتي منذ صغره كل العلوم التي كانت تشكّل ثلاثية الآداب والرباعية العلمية، ومارس أيضاً الفنون الجميلة؛ ويُخبرنا بنفسه أنه كان يجيد استخدام القلم. كان صديقاً للرسّام جوتو، والموسيقي كازيلا، وتلميذاً لبرونيتو لاتيني. وقد فتحت شبابه المتّقد على كل الإلهامات وكل صنوف المعرفة في زمنٍ كانت الأرواح العظيمة تتحرّك فيه بطموح موسوعي. ذاك الذي كان منظر بياتريس يخطفه إلى عوالم التأمل الصوفي، كان يدرس الفلك، والطبيعة، والتاريخ الطبيعي بفضول مندهش، ميّز العصور الوسطى. وعندما حان الوقت ليأخذ مكانه بين فئات الشعب، وقد اشتهر بالفعل بقصائده، انتسب إلى نقابة الأطباء والصيادلة في المدينة. لقد روى كوبيش، ومؤخراً فرانز فيغيلي، أستاذ بجامعة ينا، هذه الوقائع بدقة كبيرة. وهذه ليست مجرد افتراضات، فالشهادات كثيرة، وقد أشار إليها بيلي من قبل؛ لكن كان لا بد من اختيارها بعناية، واستخلاصها من أعمال دانتي نفسه، من «الحياة الجديدة»، و«الوليمة»، ومن بيت شعري لم يُلتفت إليه؛ وقد فعل الكاتبان الألمانيان ذلك بيد خبيرة وحس رفيع، فجاءت الصورة بديعة. وإذا أضفنا إليها بورتريه برونيتو لاتيني الذي رسمه فورييل، نكون قد جمعنا كل ما يمكن اعتباره ثابتاً حول طفولة دانتي؛ فموسوعتا «الخزانة» و«الخزانة الصغرى» هما في النهاية الخلاصة الشعرية للكنوز التي نهل منها الطفل بملء يديه. يا لها من مصائر رائعة لهذين الكتابين! «الخزانة» أُهديت إلى الملك القديس لويس، و«الخزانة الصغرى» كانت دليل دانتي.
لكن أسئلة أعظم ستُطرح: هل كان دانتي غويلفياً أم غيبيلينياً؟ بالكاد بلغ الرابعة والعشرين، وهو لا يزال تحت تأثير أحلامه الصوفية وشعره العاشق، حتى وجد نفسه في خضم الحروب الأهلية في فلورنسا. كانت أسرته غويلفية. فكان غويلفياً بالميلاد قبل أن تتاح له فرصة التأمل في مصالح إيطاليا. شهد معركة كامبالدينو سنة ١٢٨٩، حيث هُزم الغيبلينيون، ويبدو أنه أظهر فيها شجاعة لافتة، إذ ينقل ليوناردو داريتسو، الذي قرأ رسائله المخطوطة، رسالة يروي فيها عاشق بياتريس بتلقائية عن لحظات الخوف والفرح التي انتابته وسط المعركة. غير أن هذه الانفعالات القتالية لا علاقة لها بقلق المناصر المقتنع. دانتي كان غويلفياً بحكم الظروف. وحين بدأ يتأمل في بؤس بلاده، أدرك كم كان مخطئاً في معاداته لعقائد الغيبلينيين. لكن متى حدث هذا التحوّل الحاسم في نفسه؟
هنا ألتقي بأعمال رجل أضاء الحياة الأخلاقية والروحية لدانتي بأشد نور. كارل ويت، أستاذ القانون بجامعة هاله، هو بلا شك أشد المعجبين بوفاء لمحبته لدانتي في عصرنا. بينما وجد الآخرون من المخلصين، مثل فورييل، وأوزانام، وأمبير، وتشيزاري بالبو، والملك الساكسوني، متسعاً لدراسات أدبية أخرى، فكان دانتي بالنسبة إليهم حلقة مدهشة في تاريخ الفكر الإنساني، لم يتوانَ ويت عن التفرّغ الكلي لأعمال أليغييري، كما يتفرغ الراهب لديره. وقد قال مؤلف «الاقتداء بالمسيح»: «الاقتران المستمر بالمحراب يمنح اللذة». ويبدو أن البقاء في محرابه قد أضفى عليه لذة لا نهائية. وها هو ويت منذ ثلاثين عاماً لا يغادر محرابه، وسيبقى فيه حتى النهاية. ولو زرته في جامعة هاله، لوجدت مكتبته التي جُهّزت خصيصاً لأعمال دانتي وحده: جميع طبعات أعماله منذ طبعة ١٤٧٢، كل ترجمات «الكوميديا الإلهية» إلى اللاتينية، والفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية، والألمانية، والدانماركية، والعبرية؛ وكل الشروح من الأوتيمو وبوكاتشيو حتى آخر ما طُبع بالأمس في فلورنسا أو باريس، فينيسيا أو برلين. لقد جمع ويت كل ذلك بدقة العالم وورع الكاهن. وتبدو مكتبته كأنها ضريح الشاعر الخالد.
وقد بلغ من عمق معرفته بأسرار دانتي، أنه استلذّ أدق التفاصيل. فالجملة، أو البيت، أو الكلمة، صارت لديه مادة لا تنضب للبحث. وهو يعمل حالياً على مقارنة النسخ الخطية الرئيسية لـ«الكوميديا الإلهية» ومقابلتها، وهو يصنّفها كما تُصنّف الكائنات الحية إلى عائلات وأجناس وأنواع. وقد يرى البعض في هذا ضرباً من ولع محبٍّ متطرف، لكنه لم يكن دائماً مشغولاً بهذه الدقائق. فأولى أعماله كشفت عن ناقد متميز، ولا أحد، أعيد القول، استوعب كما استوعب ويت وحدة الفكر العميق للشاعر، رغم ما يبدو من تقلباته. وقد تبنّى أبرز علماء الرومانسيات في ألمانيا نظامه النقدي، مثل أوغست كوبيش، وفرانز فيغيلي، وحتى شلوسر. كما رحّب به بعض النقّاد الإيطاليين مثل بيتشيوني، وجولياني، وغيرهما، وبشّروا به أوساط المثقفين في إيطاليا. فكان ذلك حدثاً أدبياً بحد ذاته. فماذا فعل ويت؟
قبل فورييل وأوزانام، أثبت ويت أن أعمال دانتي الصغرى، «الحياة الجديدة» و«الوليمة»، ما هي إلا مقدمة لـ«الكوميديا الإلهية»، وأن هذه الأعمال الثلاثة تشكّل معاً وحدة متكاملة. وبعده ببضع سنوات، عام ١٨٣٣، أخضع فورييل هذين العملين لنقده المتميز، مبرزاً ما فيهما من إعداد عقلي للشاعر. وإذا كان الهدف هو استكشاف طبيعة إلهام دانتي المركّبة، بما تحمله من حماسة ودقّة فكرية، ومن مزج غريب بين الحسابات الهندسية والفلكية وحالات الوجد العاطفي، فلا مزيد على دراسات فورييل. لكن هذا، في نظر كارل ويت، ليس الاهتمام الوحيد الذي تستحقه أعمال دانتي الصغرى. فـ«الحياة الجديدة» و«الوليمة» مع «الكوميديا الإلهية» تمثل في نظره سلسلة من الاعترافات الشخصية، يسرد فيها الشاعر صيرورة عبقريته وتحول معتقداته.
وقبل أبحاث ويت، كانت آراء دانتي غامضة. هل كان صادقاً حينما قاتل تحت راية الغويلفيين؟ هل كان يطيع قناعاته أم تحرّكه ضغائن لا تُقاوم حين انضم إلى معسكر الغيبلينيين؟ كانت هذه أسئلة بلا أجوبة. وأبسط تفسير هو أن دانتي، بعد نفيه من وطنه، صار غيبلينياً بدافع الانتقام، مثلما انضمّ كوريولانوس إلى الفولسكيين، ولم تكن هناك أمّ مثل فيتوريا لتثنيه. يا لها من قسوة غريبة على رجل يملك هذا القدر من السيطرة على فكره وثبات مبادئه! كيف غاب عن معجبي دانتي أن هذا التفسير يقوّض مصداقية كلماته؟ يؤسفني أن أجد هذا الرأي عند أعظم النقاد الفرنسيين والإيطاليين، لا سيما أولئك الذين قدّروا سموّ إلهامه الشعري. فورييل، وفيلمان، وأمبير، وأوزانام، كلهم رددوا أن دانتي صار غيبلينياً بدافع الثأر. أما فيلمان فقد منح هذا التفسير صياغة بليغة صان بها كرامة المواطن، فقال: «غويلفي، نُفي على يد الغويلفيين، فصار غيبلينياً. لا أدري إن كان قد أحسن صنعاً، لكن هذه النفوس المتقدة العالية لا تعرف إلا التنقل من طرف إلى آخر. حتى تقلّبهم ينبع من شدّة بأسهم. فلا تطلبوا منهم فضائل الاعتدال، ولا تقبّل الإهانة».
أما تشيزاري بالبو، رغم إعجابه الشديد بعبقرية دانتي، ورغم أنه وضعه فوق هوميروس وشكسبير، فلم يتردد في لومه على طبيعته المتقلّبة. وأحياناً، للتخفيف من وطأة اللوم، تراه يزعم أن دانتي صار غيبلينياً من غير أن يدري، وهو يصرّ على أنه لم يكن غيبلينياً قط. يالها من تبرئة غريبة، أقرب إلى الإهانة! لو صحّ هذا، لانطفأت هالة دانتي، ولم يبق منه سوى خيال قوي، ورسّام تتراوح لوحاته بين الظلمة والعذوبة. فأين هو الخيط الذي يربط كل تلك التصوّرات المتباينة؟ أين النور الأعلى الذي يضيء صرحه الشعري؟ إن وحدة فكره تنهار، وجلال إلهامه يتبدّد. وهنا كان لكارل ويت أن يعيد، بنظرته الرفيعة وشرفه النقدي، اكتشاف فكر دانتي. وهذه هي عظمته. ولقد جاء من بعده من استكمل ملاحظاته، وعلى رأسهم فيغيلي، الذي ركّز في كتابه «حياة دانتي وأعماله» على إعادة تركيب التاريخ الداخلي لذلك الشاعر العظيم. لقد توصّل ويت وفيغيلي إلى نتائج مهمة يمكن اختصارها فيما يلي: لم ينتظر دانتي حكم النفي حتى يصير غيبلينياً. فماذا كان الغويلفيون والغيبلينيون يريدون في أواخر القرن الثالث عشر؟
لقد تبدّلت معاني تلك الصراعات الكبرى منذ سقوط هوهنشتاوفن. لم يكن ذاك زمن الغويلفيين الذين كانوا بدفاعهم عن الكرسي الرسولي يحاربون لأجل استقلال إيطاليا، ولا زمن الغيبلينيين الذين كانوا يجسّدون الحرية المدنية في وجه الثيوقراطية الرومانية. لقد خمدت تلك المبادئ، وحلّت محلها الأحقاد العائلية، والضغائن بين المدن والفصائل. ولو لم يرفع دانتي بصره عن ضفاف الأرنو، لبقي بلا شك في الحزب الغويلفي الذي وضعه القدر فيه. وكان الغويلفيون يحكمون فلورنسا، ممزقين بين فصائلهم الداخلية: السود الذين مثلوا الأرستقراطية، والبيض الذين مثلوا الشعب. تخيلوا دانتي وقد انغمس مثل أهل عصره في هذه النزاعات الضيقة، لما برح فلورنسا، ولصار جندياً في أحد المعسكرين، ثم زعيماً لفصيل، ولوجد من يسنده سواء كان غالباً أو مغلوباً؛ لكان مثل كورسو دوناتي أو فاريناتّا. لكن دانتي نظر أبعد من فلورنسا، فرأى إيطاليا كلها. وما إن أصبح مواطناً ناشطاً حتى اختير، بفضل علمه وعبقريته قبل مكانة أسرته، لأرفع المهام. وفي الثلاثين من عمره، أُوكلت إليه سفارات خطيرة: إلى سيينا، والبندقية، وبذوة، ثم إلى روما لدى البابا بونيفاس الثامن. وقد أدخلته هذه المهام في صميم الشؤون الإيطالية؛ فعاين عن قرب دسائس الكبار، وذل الصغار، وبالرغم من إخلاصه لفلورنسا، فقد أثّرت فيه هذه المشاهد أعمق تأثير. ومن السياسة الخاصة لمدينته، ارتفع دانتي، بعد أن خاض غمار الشأن العام، محلّقاً كالنسر نحو تصوّر سياسة شاملة. وكيف يُقام النظام في فلورنسا، إن لم يسدّ نظام أعلى من صقلية إلى الألب؟
بالنظر إلى تصور دانتي أليغييري، نجد أنه يؤمن بوجود نظام أسمى، كوني، قد أقامه الخالق نفسه، نظام ينبغي تحقيقه في هذه الدنيا حتى تتمكن الإنسانية من أداء رسالتها. فما هو هذا النظام؟ ومتى تبلورت هذه الفكرة في ذهن الشاعر؟ ها هو السؤال الجوهري. وإذا استطعنا أن نجيب عنه بدقة، نكون قد أعدنا إلى دانتي صورته الحقيقية الحية، بدل تلك الصورة الغامضة المتنازع عليها بين الشُرّاح.
لم يبدأ دانتي المشاركة في إدارة شؤون فلورنسا إلا في السنة الأخيرة من القرن الثالث عشر، وكان يومئذ في الخامسة والثلاثين من عمره. فمنذ عام ١٢٩٠ حتى عام ١٣٠٠، أخذ ينخرط شيئاً فشيئاً في الحياة العامة؛ تسجل كمواطن، أُرسل في مهام رسمية إلى عدة بلاطات إيطالية، وراح يزداد نفوذه يوماً بعد يوم. وفي عام ١٣٠٠، انتُخب كواحد من الستة الأُمناء، أي من كبار القضاة الذين كانوا يتولون حكم الجمهورية. لقد دُرست هذه السنوات العشر دراسة دقيقة من قبل الباحثين في فرنسا وإيطاليا. فقد تتبعوا أعماله الأدبية، ونشره لكتاب «الحياة الجديدة»، وسفاراته، ورحلته إلى باريس، وقد رووا ذلك كله بتفصيل، لكن دون أن يلاحظوا فيه ما يخص تطور فكره. أما في نظر السيد ويت والسيد فيغيلي، فهذه هي الفترة الحاسمة من حياته، إذ وقعت خلالها في نفسه حادثتان كبيرتان: تحول ديني وتحول سياسي. وقد كشفت «الحياة الجديدة» عن الأول، أما الثاني فتجلى في كتابه «الملكية».
أُلفت «الحياة الجديدة» قبل عام ١٢٩٢ حسب رأي السيد فورييل، وفي عام ١٢٩٠ حسب السيد ديليكلوز. غير أن السيد فيغيلي يذهب، مدعماً أدلته، إلى أنها لم تُكتب إلا نحو عام ١٣٠٠. والتواريخ هنا ذات أهمية كبيرة. فـ«الحياة الجديدة» تمثل خلاصة تلك السنوات العشر التي نتحدث عنها، وهي الرواية الرمزية لذلك الصراع الداخلي الذي كشفه ذكاء الألمان. فماذا تعني «الحياة الجديدة» لدى معظم العلماء المعاصرين؟ مجرد رثاء لموت بياتريس. لكن السيدين ويت وفيغيلي، بالاستناد إلى شواهد مستمدة من أحداث العصر، كشفا أنها اعتراف دانتي الصريح بأزمة عميقة اجتاحت نفسه. ففي تلك الصفحات، المتناوبة بين الغرابة والرقة الصوفية، يحدثنا الشاعر عن سيدة شابة حاولت أن تواسيه بعد وفاة بياتريس. كانت هذه السيدة جميلة، نبيلة، حكيمة، واقتربت منه — كما يقول — لتعيد بعض السكينة إلى حياته. وفي البداية، وجد نفسه ممزقاً بين الجاذبية التي استشعرها نحوها، وبين ذكرى بياتريس، لكنه سرعان ما استسلم لجاذبية تلك المواساة، حتى لحظة رؤيته لبياتريس، مرتدية الأحمر، مشرقة بضياء طفولتها، كما رآها لأول مرة في نشوته الأولى. وقد أعادته هذه الذكرى إلى الحب الحقيقي. فعاد ووهب الأناشيد والأشعار التي كان قد نظمها في مديح السيدة المواسية إلى الروح السامية التي أصبحت مشعل حياته، ولما كافأته رؤيا فريدة على هذا الرجوع، صرخ قائلاً: «لقد حملتني هذه الرؤى على العزم ألا أتحدث عنها ثانية حتى أتمكن من تمجيدها بما يليق بها».
هذا الحدث، الذي لم ينل ما يستحق من الانتباه حتى الآن، يرمز، حسب السيدين ويت وفيغيلي، إلى ضعف الإيمان في نفس دانتي، وولعه بالتعمق في الفلسفة، وإلى انتصاره أخيراً على هذا الصراع بعودته إلى دين الطفولة. هذه المعركة، التي وردت بإيجاز في صفحات «الحياة الجديدة» الأخيرة، يبدو أنها هزت كيانه في شبابه، ولم يتمكن من الانتصار عليها إلا حوالي عام ١٣٠٠، وهو العام ذاته الذي حدده لبداية رحلته الروحية التي صورها في «الكوميديا الإلهية»، والتي جاءت امتداداً مباشراً لـ«الحياة الجديدة». لذلك، فإن عبارة «الحياة الجديدة» لا تعني ذكريات الطفولة أو الصبا، كما يذهب بعض المفسرين المعاصرين، مثل السيد بيترو فراتيتشيلي والسيد إميل روث، بل تعني، وبكل دقة، الحياة المتجددة، الحياة التي صقلتها التجربة وأضاءتها أنوار أنقى. وقد حلت هذه الاكتشافات، التي أتى بها السيد ويت، بشكل عارض، معضلة كانت حتى ذلك الحين غامضة. فطالما اعتُبرت «الحياة الجديدة» مجرد لوحة لعواطف الشاعر الفتية، لم يكن من الممكن ترجمتها ترجمة دقيقة تعني «الحياة الجديدة» بالمعنى العميق للكلمة، بل فُسرت على أنها الحياة في باكورة تفتحها، أيام نضارتها، وإذا أراد المترجمون الإبقاء على المعنى الحرفي، كان ينبغي عليهم توضيح السياق الخاص الذي استخدموا فيه هذه التسمية. ولعلنا نستذكر هنا قول لافونتين: «إن كان لي عند السماء بقية من الشرر الذي تألقت به في أيامي الأولى».
وهو بيت يشير بلا لبس إلى ربيع الحياة. وكان يجدر بمترجمي دانتي الذين استخدموا عبارة «الحياة الجديدة» أن يتجنبوا هذا اللبس، فيجعلوا التسمية تدل على التفتح الأول للحياة، لا على الحياة التي تجددت وتبدلت. ولكنهم، إذ لم يفعلوا، وقعوا في تناقض منطقي، فكانوا عرضة لنقد السيد فراتيتشيلي. ويصعب عليَّ أن أفهم كيف أن عقلاً نافذاً كعقل فورييل لم يتنبه إلى هذا التناقض. كما أتعجب من أن السيد ديليكلوز، رغم جودة ترجمته، أبقى على عنوان لا يتماشى مع المعنى الذي تبناه في تفسيره. أما آخر مترجم إنجليزي، السيد غارّوْ، فكان أكثر اتساقاً، إذ رأى ألا توجد في كتاب دانتي أية رمزية، بل مجرد رواية لحالات نشوته في الطفولة، فترجمه ببساطة تحت عنوان «الحياة المبكرة».
لنتحرر من الأشكال الرمزية ولننظر في المشهد الذي يختم «الحياة الجديدة»: دانتي، بعد وفاة بياتريس وقبل انتخابه قاضياً في فلورنسا — أي بين عامي ١٢٩٠ و١٣٠٠ — كان يبحث عن عزاء لحزنه، وعن مجال لنشاطه، في دراسة الفلسفة. وفي زمان بدأت فيه العقول تحاول أن تتحرر من قيد الإيمان، حيث كان أجرأ المفكرين يظهرون إلى جانب القديس توما الأكويني، وحيث برز مصلحون جريئون، مثل يواكيم دي فلوريس، وجان دوليف، وغيوم دو سانت-أمور، من صلب الكنيسة نفسها، وحيث كانت المدارس تضج بالمناقشات الحامية، حتى أن سيمون دو تورني، وقد بلغ به نشوة منطقه منتهاها، هتف أمام جمهور غفير بعد أن أثبت ألوهية المسيح: «أيها الصغير يسوع، كما عظمتُ شريعتك، أستطيع أن أحط منها إن شئت!» — في مثل ذلك الزمان، ومع عقل دانتي الحاد ونهمه الشديد للمعرفة، هل يعقل أنه لم ينجرف إلا قليلاً في سُبُل العلم؟ نحن نعلم أنه ذهب إلى باريس، وخاض غمار المناقشات المدرسية، وخاض فيها صراعات مشهودة. وقد كشفت أبحاث حديثة أن أستاذه، سيجير دي برابان، الذي وجده دانتي فيما بعد في الجنة، كان قد اضطر إلى الدفاع عن نفسه ضد تهمة الهرطقة. فهل كان دانتي قادراً على الوقوف عند حد معين؟ ألم يشعر بأن أسس إيمانه الأولي تهتز؟ يصعب إنكار ذلك إذا قرأنا الصفحات الأخيرة من «الحياة الجديدة» بنور النقد والتاريخ. لكن دانتي، عاشق الحب، المتردد على نشوات صباه، لم يجد في العلم السكينة التي طلبها. سرعان ما عاد إليه إيمانه، فرآه يعود — كما قال — مجسداً في صورة بياتريس الطفلة، في دلالة واضحة على أن بياتريس لم تعد، هنا، المرأة الشابة التي بكى وفاتها بحرقة، بل صارت رمزاً لحبه وإيمانه قبل أن تعبث بهما المعارف الدنيوية.
تلك هي الأزمة التي هزت عقل دانتي، وترك بصمتها في الصفحات الأخيرة من «الحياة الجديدة». أتظنون أن هذا مجرد استنتاج؟ إلى جانب حجج السيد فيغيلي، أستطيع أن أضيف دليلاً يبدو لي قاطعاً: إن ابن الشاعر نفسه، جاكوبو دانتي، يروي في شرحه أن حياة والده قد شهدت فترة اضطراب قبل سنة ١٣٠٠. لكن لنترك الشواهد الخارجية جانباً، فها هو دانتي ذاته سيجيبنا. فـ«الوليمة» وهو كامتداد لـ«الحياة الجديدة»، يكشف لنا بوضوح عن هذا الصراع الذي لخصناه للتو. ففيه يصرح صراحة أن تلك السيدة التي واسَته بعد وفاة بياتريس لم تكن سوى الفلسفة. وعندما كتب «الحياة الجديدة»، وكان لا يزال يلتقط أنفاسه بعد المحنة، تحدث عنها بحذر، كما لو كان يخشى أن يعيد فتح جرح لم يندمل بعد؛ أما في «الوليمة»، فقد كشف كل مراحل هذه الأزمة، لم تعد سحابة عابرة، بل صراع داخلي كامل طالما كابد مراراته.
تشهد آراء دانتي السياسية أزمة مماثلة لتلك التي عاشها في معتقداته الدينية. فعلى النحو نفسه الذي عاد فيه من الفلسفة إلى إيمان شبابه، ارتدّ أيضاً من السياسة القلقة لعصره إلى السياسة التقليدية للعصور الوسطى. والفكرة السياسية الكبرى في تلك العصور هي وحدة العالم المسيحي: البابا يحكم جميع أسقفيات الكنيسة الجامعة، والإمبراطور يهيمن على جميع الممالك. ورغم ما أظهره لنا القرنان الحادي عشر والثاني عشر من صراع عظيم بين الإمبراطور والبابا، إلا أن هذه المعركة كانت تهدف إلى تنظيم العلاقة بين السلطتين، لا إلى إلغاء إحداهما أو القضاء عليها. ومن هنا جاءت تلك الوحدة العجيبة في المشاعر والأفكار التي تميزت بها تلك العصور. حتى نهاية القرن الثاني عشر، لم يكن في أوروبا سوى لغة واحدة وأدب واحد. ولكن هذا الصرح المهيب، الذي كان أقرب إلى المثال منه إلى الواقع، لم يكن له أن يدوم. فمع تطور العقل البشري، وجد نفسه محصوراً في قيد تلك الوحدة المستحيلة، فانفجر من كل جانب، محطماً قيودها الهشة. ومن ذلك الكيان الغامض المسمى «المسيحية»، خرجت الأمم، تتعاقب كل منها في بروز وعيها بذاتها، مبدعةً لغتها الخاصة. وبعد أن كانت تلك الهويات واللغات القومية تُعدُّ في خفاء عبر القرون السابقة، ظهرت في القرن الثالث عشر بشبابها الفتيّ. وبالرغم من أن الوحدة الروحية قد استمرت بضعة قرون، إلا أن الوحدة الزمنية تحطمت إلى الأبد، وانهار آخر ممثلي الإمبراطورية المقدسة من آل هوهنشتاوفن على منصة الإعدام مع كونرادين، ضحيةً لضربة من يد شقيق القديس لويس.
لكن ما هو النظام الجديد الذي سيقوم مقام النظام الزائل؟ لا أحد كان يعلم. وسط مجتمع يتشكل، بدت الفوضى والاضطراب محبطين إذا ما قيسا بوحدة العصور السابقة. وهنا برزت عقول عظيمة تحاول بعث ذلك البناء المتهدم. ومن بين هؤلاء دانتي، الذي كان غيبيلينياً بروح تختلف عن تلك التي سادت الأحزاب الإيطالية آنذاك. فغيبيلينيو عصره، شأنهم شأن الغويلفيين، لم يكونوا سوى فئة ذات مصالح ضيقة. أما دانتي، فقد أراد أن يُشيّد المدينة الفاضلة التي حاولت العصور الماضية تحقيقها دون جدوى.
لكن كيف نثبت أن دانتي كان يحمل هذا الفكر قبل نفيه من فلورنسا؟ كيف نؤكد أن هذا الفكر كان نتيجة تطور حر لأفكاره لا مجرد نظرية انتقامية ألهمها الظلم؟ إن بحثاً حديثاً للأستاذ كارل ويت يقدم دليلاً حاسماً في هذا الصدد. إذ كان الاعتقاد السائد أن كتاب «الملكية» — الذي يعرض فيه دانتي نظريته السياسية كاملة — قد ألّفه في منفاه، إلا أن الناقد الألماني أثبت أنه من أولى مؤلفات دانتي، ومن نتاج الحقبة التي كتب فيها «الحياة الجديدة». ومن بين جميع كتاباته، ثمة اثنان فقط لا يذكر فيهما منفاه. ففي «الوليمة»، و«رسالة في البلاغة العامية»، وفي أناشيد الكوميديا الإلهية الثلاثة، كما في رسائله السياسية العديدة التي كتبها في ظل أحداث إيطاليا بين ١٣٠٢ و١٣٢١، كان المنفى حاضراً في صرخاته واحتجاجاته. فكيف يمكن أن نتصور أنه حين قدّم نظريته السياسية العظمى ودافع عن حقوق الإمبراطورية ضد اغتصاب الكرسي الرسولي، لم يشر إطلاقاً إلى دوره الشخصي في تلك النزاعات؟
وقد أورد ويت أدلة تفصيلية أخرى كفيلة بتبديد الشكوك، لكنني أرى أن هذا الدليل وحده كافٍ، وهو في نظري قاطع. فلو كان دانتي قد كتب «الملكية» بعد نفيه، لكانت كل صفحة منه تعج بالغضب الذي كان يمزق قلبه. ولا تنسوا أنه كان يبرز ذاته في كل ما يكتب، وأنه حاضر بكل كيانه في كل صفحة. فكيف يمكن لرجل مثله، في غمرة منفاه، أن يكتب بياناً طويلاً عن حقوق الإمبراطورية دون أن يظهر فيه شعور المنفي؟ يا لها من فرصة مواتية ليصب على الفلورنسيين صواعقه اللاذعة التي كان بارعاً في إطلاقها! لكنه كان هادئاً، يشرح ويعلم؛ هذا هو دانتي قبل المنفى، وقبل توليه منصب البريور، في زمن تأملاته الفكرية. ربما بين مهمتين دبلوماسيتين، وقد اعتصره الألم مما أصاب إيطاليا وحال العالم المسيحي عامة، راح يبحث عن العلاج. لقد عاد قلبه الحار والعطوف بالفعل إلى المثال الديني للكاثوليكية، وسارت أفكاره السياسية في المسار ذاته. فتشبث بفكرة الوحدة العظمى التي حلمت بها القرون السابقة، والتي كان العالم يبتعد عنها يوماً بعد يوم. كان يؤمن بالبابا والإمبراطور معاً، يؤمن بحق أحدهما الديني وبحق الآخر الزمني، وكان يراهما كلاهما خادمين مباشرين لملك الملوك. وأراد أن تبقى سلطتهما منفصلة مصونة لا يعتدي أحدهما على حق الآخر. وإذا ما انتهك البابا سلطة الإمبراطور، أو انتهك الإمبراطور حق البابا، فقد استحق كلاهما جحيم دانتي وعقابه العادل. ولسوف يندهش الناس يوماً حين يجدون الغويلفيين والغيبيلينيين وقد ألقي بهم معاً في دوائر الجحيم المروعة؛ فهذه النزاهة كانت سهلة على رجل ارتفع منذ البداية إلى هذا العلو السامق.
فلا مجال بعد الآن للحديث عن الأحقاد والميول العابرة؛ دانتي بنى نظريته في صمت التأمل والدراسة. لقد ترسخت هذه الرؤية المثالية للسياسة لديه لاحقاً، وكبرت، وأضحت فلسفة تاريخية تصدر عنها الأحكام الرهيبة للكوميديا الإلهية، لكنها كانت موجودة في فكره قبل أن يباشر العمل في حكومة الجمهورية. فكتاب «الملكية» كتب قبل عام ١٣٠٠. وانظروا إليه حين تولى منصب البريور في ١٥ يونيو ١٣٠٠: لقد كان فوق كل الأحزاب، ما جلب عليه كثيراً من العداء. فعندما اعتدى أنصار الحزب الأسود على أنصار الحزب الأبيض في شوارع المدينة، نفى دانتي قائد الحزب الأسود، كورسو دوناتي، الذي وصفه كل معاصريه بـ«كاتيلينا فلورنسا» لشراسته، لكنه في الوقت ذاته، ومن أجل الحفاظ على السلم الأهلي، نفى أيضاً الشخصية الأبرز في الحزب الأبيض، صديقه الحميم وشاعر شبابه غويدو كافالكانتي. أفهذا فعل رجل بلا مبادئ راسخة؟ أفهذا فعل غويلفي يستعد ليصير غيبيلينياً؟ لا، بل أرى فيه مؤلف «الملكية»، والشاعر المستقبلي للنعيم والجحيم. لقد كان يعتبر وظيفته كهنوتاً، وكان منظّراً وكاهناً لعقيدة سياسية ودينية، كاهناً صارماً، ومنظّراً متعجرفاً لا يعرف المساومة مع العامة. وهذا بالضبط ما وصفه به أحد المؤرخين المعاصرين بقوله: «كفيلسوف جاف، لا يحسن مجالسة العامة».
وقد كان أوزانام قد لمح إلى هذه الحقيقة التي أظهرها فيغيلي بوضوح تام حين بحث مسألة: هل كان دانتي غويلفياً أم غيبيلينياً؟ وخلص إلى أنه لم يكن هذا ولا ذاك بالمعنى السائد في القرن الثالث عشر. غير أن هذا النقاش ظل غامضاً بعض الشيء؛ إذ اكتفى الباحث بنصف الحقيقة. كان يجب الاعتراف بأن دانتي كان غيبيلينياً، مع التنبيه فوراً إلى أنه لم يكن كذلك على النحو المعروف في زمنه. لقد كان غيبيلينياً نزيهاً، مشرعاً أميناً لمبادئ العصور الوسطى. وباسم الإنجيل رفض أن يكون للكرسي الرسولي سلطة زمنية على المسيحية. ألم يمثل المسيح نفسه أمام ممثلي الإمبراطور؟ فإذا كانت الكنيسة تستمد سلطتها من المسيح، فإن الإمبراطورية في العصور الوسطى تستمد سلطتها من تلك الإمبراطورية الرومانية التي مثل أمامها المسيح. فالإمبراطورية، كالتجسد الإلهي، عمل إلهي مباشر. بل أكثر من ذلك، كانت الإمبراطورية ضرورية لتحقيق السر الأعظم الذي به فدى الخالقُ الإنسانَ بتجسده. كيف ذلك؟ لأن المسيح كان لا بد أن يموت ليخلّص الإنسانية كلها، فلا بد أن يصدر حكم موته عن سلطة يخضع لها العالم بأسره. فلو حكم عليه من قبل محكمة محلية، لما كان موته باسم الإنسانية، ولا من أجلها. لكن مشيئة الخالق قضت بغير ذلك؛ فعندما حكم بيلاطس على المسيح، كان ممثلاً للإمبراطور طيباريوس، ومن ثم صار الحكم نافذاً بحق العالم أجمع، وسُفك الدم الإلهي عن البشرية كلها، وتم الفداء! هذه الحجج البسيطة والجريئة في آن معاً كانت في نظر دانتي بمثابة الميثاق الاجتماعي بأسره. والملك يوحنا الساكسوني، الذي اهتم — مثل أوزانام — بإبراز صلات دانتي بفلاسفة المدرسة، فهم أفضل من الكاتب الفرنسي تسلسل الأفكار السياسية لدى الشاعر، وأشار بحق إلى «الغيبيلينية المثالية» عند دانتي. فلنحتفظ بهذا التعبير؛ فهو الصياغة الدقيقة لمواقف الشاعر وخلاصة كل هذه المناقشات.
هل كانت هذه التصحيحات الهامة، التي تُعزى بشكل رئيسي إلى فطنة السيد كارل ويت، ذات أثر إيجابي أم سلبي على مجد دانتي أليغييري؟ لا شك أن شخصية الشاعر قد اكتسبت بذلك عظمة جديدة؛ فقد بُرّئ دانتي إلى الأبد من تهمة التقلب والغضب المغرض التي كانت تثقل ذكراه. غير أنه إذا كانت هذه العظمة الأخلاقية قد أُبرزت في أتم صورها، أفلا يكون ذلك على حساب ذكائه السياسي والاجتماعي؟ أليس من الحق أن نقول إن دانتي، حين بشّر بالخضوع للإمبراطورية الرومانية المقدسة كعقيدة، كان يصطدم بروح عصره، ذلك العصر الذي كان في الوقت ذاته روح المستقبل؟ لقد كانت تلك الوحدة العتيقة، التي كانت تمثلها الإمبراطورية، قد أصبحت حلمًا واهنًا. فقد كانت الأمم تتشكل من حوله ككيانات مستقلة، وكانت بشائر العصر الحديث تلوح في الأفق؛ أفلا ينبغي أن نعترف بأن دانتي قد غفل عن هذا التحول العميق في عصره؟
هذه هي الخلاصة التي توصل إليها السيد فيغيلي، وإن لم يُحمل دانتي مسؤولية ذلك: «كثيرًا ما نرى، في خواتيم العصور التاريخية الكبرى، عقولاً جبارة تتمسك بروح مجتمع آيل إلى الزوال، وتسعى عبثًا إلى إنقاذه. كان دانتي من هؤلاء. لم يكن بمقدوره إنقاذ العصور الوسطى، لكنه شيّد لها صرحًا هائلًا لم يعرف له التاريخ نظيرًا في أوضاع مماثلة». وقد أبرز توماس كارلايل هذا الطابع في شخصية دانتي بأحرف نارية؛ فالوجد الصوفي والسخط -سخط مقدس بكل معانيه- وصوفية ذات رقة لا تضاهى، هذا ما يراه الفيلسوف الإنجليزي مصدر إلهام دانتي. فعند تأمله لصورة دانتي المنسوبة إلى جيوتو، يرى فيه رجلًا يحتج بكل قواه، يخوض معركة لا تنتهي ضد العالم، ولا يرضخ أبدًا — وجه إنسان يعيش في احتجاج دائم، ومعركة لا تقبل الاستسلام مدى الحياة ضد العالم. ومع ذلك، يضيف كارلايل، يا لها من رقة في شاعر الجحيم! رقة ساذجة كمداعبات طفل، وعميقة كقلب أم! دانتي، في نظر كارلايل، روح شديدة الرقة، شفافة إلى حد الصفاء، رغم مظهرها الكئيب والمرهب وغير القابل لللين. وهو بذلك الصورة الصادقة للعصور الوسطى. لولاه، لانمحت العصور الوسطى إلى الأبد، ولما سمعنا لا نشيد أفراحها ولا صرخة آلامها. إنه وحده صوت عشرة قرون صامتة.
ومع أن هذه التبرئة رائعة، إلا أنها غير كافية بعد. فإن دانتي، إلى جانب محاولته في إعادة إحياء المثال القديم المتمثل في البابوية والإمبراطورية، كان من أولئك الذين مهدوا السبيل للمستقبل من خلال جرأته في التفاصيل وابتكاراته الكثيرة. فصفحات كارلايل المبهرة حول روح الشاعر الفلورنسي، وبحوث فيغيلي في نظريته السياسية العالمية، تحتاج إلى أن تكتمل بما أسماه أوزانام «تشابه فلسفة دانتي مع الفلسفة الحديثة». فبينما لا يرى فيغيلي في دانتي سوى مشرّع العصور الوسطى السياسي والصوفي، تجرأ أوزانام على تمجيد دانتي باعتباره من أجرأ رواد المجتمعات الجديدة. وكان أوزانام على حق؛ فقد كان دانتي، متفوقًا على جميع معاصريه، يسمو حتى فوق نظامه الخاص. نظريته تبدو وكأنها تعيد الناس إلى الماضي، لكن الطريقة التي صاغها بها ومارسها، كانت تدفعهم قدمًا نحو المستقبل.
لقد كانت مبادئه وحياته مليئة بالتناقضات المهيبة. فهذا الرجل نفسه، الذي أراد تأسيس وحدة الشعوب المسيحية تحت راية الإمبراطورية، نراه ينحت اللغة الإيطالية بإصرار دؤوب، ويطلق بذلك أول شرارة للآداب الحديثة، أي للنهضة القومية الآخذة في التشكل. وهو، رغم كونه من طبقة النبلاء، نجده يطرح المبادئ الديمقراطية بأكثر التعابير جرأة ويعبر عن تطلعات الشعب بوضوح! لقد بشّر، كما قال فيغيلي بحق، بذلك «ملكوت الخالق على الأرض» الذي سعى وراءه العصور الوسطى عبثًا، ومع ذلك، وفي اللحظة التي كان فيها يحاول إخضاع المجتمع لسلطة دينية، أصر على الفصل بين الكنيسة والدولة بجرأة لا تلين، وأعلن حقوق الحرية المدنية.
وأخيرًا، من بين جميع تناقضات عبقريته —أو بالأحرى تعقيداتها— تبرز هذه المفارقة كأوضحها: يبدو وكأنه قد تخلى عن قضية الاستقلال الإيطالي، فكان دائم التطلع إلى الأباطرة الألمان حتى أن أحد أكثر معجبيه احترامًا، السيد تشيزاري بالبو، اتهمه بمشاعر تتنافى مع الوطنية، ومع ذلك لم يتصور أحد فكرة أسمى عن إيطاليا منه، ولم يسهم أحد أكثر منه في تمجيد الشعب الروماني والمصير العجيب الذي وهبته له الأقدار. وبما أن عصره كان مولعًا بالرموز ومتحررًا في التأويل، فقد كان يدمج دائمًا مصير روما مع التقاليد التوراتية، مؤكدًا أن التاريخين يسيران جنبًا إلى جنب: فإينياس، يقول دانتي، نزل في لاتيوم في العام ذاته الذي أصبح فيه داوود ملكًا على إسرائيل. ومن نسل داوود ستأتي العذراء القديسة، أم مخلص العالم، ومن نسل إينياس سيخرج الفاتحون الذين سيخضعون العالم، ليُهيّئوا بذلك وحدة الشعوب اللازمة لانتشار المسيحية.
وقد أشار بوسويه أيضًا إلى أن الهيمنة الرومانية كانت إحدى الوسائل العظمى التي استخدمتها العناية الإلهية لتمهيد السبيل أمام الإنجيل؛ فقد عبّد أغسطس، من حيث لا يدري، الطريق لدين المستقبل، فعمّ السلام في أرجاء العالم تحت سلطانه، وجاء المسيح إلى الأرض. هذه الرؤى العظيمة، التي استقاها أسقف مو، كان دانتي قد سبق إلى تطويرها، لكنه لم ينطق بها باسم الفلسفة الدينية فحسب، بل بلهجة الإيمان وعزة الشعور القومي في آن. وكم يتغنى بحب بمدينته روما المجيدة، وبلده اللاتيني الحبيب! لم يكن يعنيه أن تكون الإمبراطورية الرومانية قد صارت ألمانية، فهو لا يرى فيها سوى استمرار لروما، وإذا كان فيرجيليو مرشده، فلأنه أنشد أغسطس. رؤى غريبة وتناقضات طفولية أحيانًا، ولكن تحت هذا الغلاف المدرسي ينبض قلب أعظم الوطنيين الإيطاليين. فلا ينبغي لنا إذن أن نُسرع في الحكم على نظامه، ولا أن نردد مع فيغيلي أن دانتي كان ذا طبيعة جرمانية أكثر منها رومانية.
إنها عادة النقاد الألمان أن يروا أثر عرقهم في كل شيء؛ أما هنا، فالادعاء مثير للسخرية. فدانتي، رغم قوله عن نفسه إنه «فلورنسي بالمولد لا بالطباع»، أي روح يمكن أن تكون أكثر إيطالية منه؟ وأي ابن لفلورنسا كان أكثر إخلاصًا لها منه؟ حتى أقسى هجاءاته تدل على عمق محبته لها. في أعماق الجحيم، وفي أودية المطهر، وفي أنوار النعيم، تبقى فلورنسا دائمًا حاضرة في فكره؛ حتى ليكاد المرء يعتقد أنها بطلة قصيدته المكرسة لوصف العوالم الخفية. وهكذا، بفضل دراسات النقد الحديث، يبدو لنا وجه دانتي مرسومًا بوضوح كافٍ. والآن، اتبعه في منفاه من عام ١٣٠٢ حتى وفاته، وستبدو لك هذه العشرين سنة من المعاناة في جلالها المقدس. لقد ازدادت أبحاث كوبش وفورييل وبالبو وأريفابيني قيمةً بفضل اكتشافات كارل ويت وفيغيلي. ترحاله كشاعر منفي، دوره في بلاطات الأمراء الإيطاليين، إقامته لدى الغويلفيين والغيبلينيين على السواء، كل ذلك صار الآن واضحًا ومفهومًا. فما إن انكشفت وحدة إلهامه، حتى باتت قصة نفسه مكشوفة لنا دون أسرار. وكانت هذه المرحلة الأخيرة من حياته، التي درسها فورييل وكوبش بعناية، قد تركت لفيغيلي مجالاً ضيقًا للإضافة؛ ومع ذلك، فقد خصص لها فصلاً كاملًا يستحق التنويه بفضل جدة نتائجه وأهميتها.
فعندما نزل هنري اللوكسمبورغي إلى إيطاليا، وكان دانتي يشجعه في مناشير نارية على الزحف إلى فلورنسا، استولى الغضب والأسى على كل الشراح الإيطاليين ومن سار على نهجهم من المحدثين؛ وكأن روح الغويلفيين قد بُعثت بعد خمسة قرون في هؤلاء العلماء المسالمين. «خطاب مشؤوم إلى الأبد!» هكذا صرخ كاتب بليغ، بل إن أوزانام، رغم توقيره لدانتي، كاد يرى في ذلك وصمةً على تاريخه لولا أن الشاعر، بعد سنوات (١٣١٤)، قد محاها -على حد قوله- حين أوصى الكرادلة باختيار بابا إيطالي. ولكن، هل هذا هو دانتي الذي كشفت لنا عنه الأبحاث الحديثة؟ كيف يمكن أن يكون غيبلينيًا اليوم وغويلفيًا غدًا، ألمانيًا حينًا وإيطاليًا حينًا آخر، ويظل أسير أهوائه دائمًا؟ لو أمعن المرء النظر، لوجد في هذه التحولات معناها الحقيقي. إن هنري اللوكسمبورغي يمثل حلقة هامة في حياة دانتي، ومن العجيب أن كثيرًا من الشراح أغفلوا إبراز هذه الشخصية الغريبة في موضعها الصحيح. فدانتي وهنري، الشاعر والإمبراطور، كانا آخر ممثلي فكرة واحدة. كانت هذه الفكرة تتجلى في الأول بروح الفروسية، وفي الآخر بروح اللاهوت؛ لكنها في جوهرها كانت واحدة. ولمن أراد أن يفهم دانتي وعصره، فلا بد له من أن يضع هاتين الشخصيتين جنبًا إلى جنب.
فما كان إذن شأن هنري اللوكسمبورغي؟ لقد أصيبت الإمبراطورية الرومانية المقدسة بالموت السريري منذ منتصف القرن الثالث عشر. كانت سلطة تجمع بين الواقع والمثال، تعتمد في بقائها على إيمان الشعوب؛ لكنها سقطت، مهزومة بالسلاح، ومُخربة في أعين المسيحية بفظائع فريدريك الثاني، مع انقراض الأباطرة السوبيين. ولم يعد أحد يعتقد بإمكان عبور إمبراطور جديد للجبال. لم يكن لدى الغيبلينيين أوهام في هذا الشأن، ولم يعد الغويلفيون يخشونه. وقد أُعلن هذا الغياب الإمبراطوري شبه رسمي عام اليوبيل الكبير، حين ظهر البابا بونيفاس الثامن أمام الحشود على أبواب القديس بطرس، وعلى رأسه التاج الإمبراطوري، يتقدمه جنديان يحملان سيفين مجردين، ثم صاح: «ها أنتم ترون هذين السيفين؛ أنا البابا وأنا الإمبراطور!». لقد كان ذلك لحظة بدا فيها الصراع الطويل بين السلطة الروحية والزمنية كأنه انتهى للأبد. لكن موت بونيفاس الثامن أدى إلى أحداث غير متوقعة. وخلفه بنديكت الحادي عشر، الذي لم يدم حكمه سوى أشهر قليلة، ثم جاء البابا الذي جاء به مكر فيليب الجميل. كان غاسكونيًا، وسماه دانتي «الغاسكوني». ابن نبيل من لانغدوك، خادم لسياسة ملك فرنسا، هو كليمانت الخامس، الذي نقل الكرسي البابوي إلى أفينيون، وكان يجهل تمامًا أوضاع إيطاليا، ويبدو أنه لم يكن مهتمًا بمعرفتها. لم تكن تعني له كلمات مثل غويلفيين وغيبيلينيين شيئًا؛ فاقتصر على الدعوة إلى الوئام. وكان ذلك بحد ذاته ثورة. فمنذ غريغوريوس السابع حتى بونيفاس الثامن، كان البابوات قادة جيش الغويلفيين. فإذا بالكرسي البابوي في عهد كليمانت الخامس يغير سياسته جذريًا، ويغدو هؤلاء الحلفاء التاريخيون غرباء عن بعضهم. ولم يكن ثمة ما يمكن أن يجمعهم من جديد إلا عدو مشترك. وقد ظهر ذلك العدو، لكن من بلد لم يعد أحد يتوقع منه شيئًا؛ لم تأتِ به لا فرنسا ولا إيطاليا، بل جاء من ألمانيا.
بعد وفاة الإمبراطور ألبرشت النمساوي في الأول من أيار سنة ١٣٠٨، انتُخب هنري، كونت لوكسمبورغ، إمبراطورًا في فرانكفورت. كان رجلاً ذا روح متقدة، فارسًا لا يفقه شيئًا في السياسة، حالمًا لامعًا أذهلته حظوظه، فما إن ارتقى العرش حتى بدأ يفكر في المطالبة بدور وحقوق الإمبراطورية المقدسة. لم يكن تحركه طموحات دنيوية، ولم يكن ينوي مقارعة الكرسي الرسولي كما فعل الأباطرة السوابيون من قبله، بل كانت غايته أن يعود إلى إيطاليا ليستعيد، لصالح المسيحية، تلك السيادة التقليدية التي اعتبرها حقًا وواجبًا للإمبراطورية. كان يسعى لأن يكون الإمبراطور كما البابا هو البابا. لقد كان حلم هنري أن ينزل إلى إيطاليا ويتوّج في روما على يد البابا كليمنت الخامس. وكان حسن النية إلى حد أنه طلب الإذن من البابا نفسه، وكان البابا في منتهى اللامبالاة تجاه صراعات الغيبلينيين والغيلفيين، فوافق على طلبه بلا تردد. وفي أغسطس من عام ١٣٠٩، تلقى هنري في هايلبرون رد كليمنت الخامس، فبادر على الفور إلى الاستعداد للرحيل. عمت البلبلة أرجاء إيطاليا. فالغيبليّون، وقد كانوا في معظم الأماكن منفيين مضطهدين، اعتقدوا أن ساعة الانتقام قد دنت، فيما استعد الغيلفيون للمقاومة بضراوة، إذ لم يرَ كل فريق في الأمر إلا مصلحة حزبه. أما ذلك الحلم السلمي، الذي كان يملأ قلب هنري، فلم يعد سوى عقيدة بائدة نسيها الجميع. لكن رجلًا واحدًا، وسط هذا التحول في العقول، شارك الإمبراطور أحلامه — رجل أعاد في ذهنه، عبر سلسلة من الاستنتاجات اللاهوتية، كما أعادها هنري بدافع الروح الفروسية الإمبراطورية، بناء وحدة العالم المسيحي المهيبة. من هو هذا الرجل؟ إنه المنفي من فلورنسا.
كان هنري اللوكسمبورغي هو تجسيد حلم دانتي، هو مخلّص إيطاليا الذي كان يستدعيه في مؤلفيه «الوليمة» و«الملكية»، وهو الرجل الذي سيخلد اسمه في أبهى أمجاد الفردوس وسيسميه دانتي بـ«هنري العظيم» (ألّتو أريغو). إن الفصل الذي تناول فيه السيد فيغيلي هذه الأحداث بالتفصيل هو من أفضل فصول كتابه. فمن يقرأ بعد ذلك بيانات دانتي، واستغاثاته إلى إيطاليا، ورسائله إلى الإمبراطور، وكل تلك الكتابات الحماسية التي حيّرت المفسرين أو أثارت استياءهم، سيدرك مغزاها ويبررها. لم تعد أخطاء دانتي خيانة للوطن، بل أصبحت أحلامًا سامية لرجل مستنير. قد يضل تفكيره، لكن شخصيته تتبدى أمامنا أعظم شأنًا. يا لها من أحلام! يا لها من حماسة! يا لها من بلاغة! لقد كان قلبه كله مشتعلاً. ومن لا يحيط بتفاصيل هذه المرحلة لا يعرف دانتي حق المعرفة. بدأ دانتي بتوجيه نداء إلى إيطاليا كلها، ليبشرها بعظمة الأحداث المقبلة. لقد كان أشبه بخطيب، ولكن خطيب يجمع بين الشعبية والقداسة. بدأ خطابه وكأنه ترنيمة: «ها هو ذا الزمان المقبول… ها هو النور الجديد يبدأ في الانتشار. انهضوا أيها الملوك والدوقات، أيها السادة والجمهوريات، أفيقوا أخيرًا من ظلماتكم. ها هو خطيب إيطاليا، فرحة العصر، مجد الشعب، قيصر الوريث للقياصرة، يتقدم لملاقاة عروسه! فالمشيئة الأزلية شاءت ذلك».
ثم يلخص الشاعر، في لمحات خاطفة، فلسفة التاريخ التي كنا نتحدث عنها. وكانت تمجيد روما وإمبراطوريتها أول حجة يسوقها في تأييد هنري اللوكسمبورغي. لقد تجلى دانتي بكل كيانه هنا. كان من فرط ثقته، كأنه يرى الإمبراطور يتفق مع البابا لإقامة مملكة الخالق على الأرض. كان هذا حلم هنري، وكان كذلك حلم دانتي، وقد عبّر عنه في ختام رسالته ببراءة لا مثيل لها. لكن ما لبث هذا الحلم المشترك بين الإمبراطور والشاعر أن تحطم على صخرة الواقع. فبعد أن استُقبل هنري بحفاوة في تورينو، ارتفعت أصوات الغضب من مدن الغيلفيين، وانفجرت ثورة في ميلانو، وانتفضت لودي وكريمونا وبريشيا بإيعاز من عملاء فلورنسا، مستعدة بالسلاح لإيقاف هذا الزحف الظافر. وهنا نفهم مدى حنق دانتي. فلورنسا تتمرد على مشيئة الخالق، وتحطم وحدة الملكية الإيطالية العظيمة التي بشر بها إينياس، وأعدها سكيبيو، وتغنى بها فيرجيل، وكرسها السيد المسيح! هذا ما يعاتبه عليه دانتي في رسالة كتبها على ضفاف نهر الأرنو، وبأي قوة! وبأي غضب جارف! ومع ذلك، بدلاً من الزحف على فلورنسا، ضيّع هنري وقته واستنزف جيشه في مواجهة خصوم ثانويين. وهنا بدا كأن الشاعر تولى بنفسه قيادة الحملة، فرسم خطة الحرب، مؤكّدًا أن الضربة القاصمة لا بد أن توجه إلى فلورنسا وحدها، لأنها أصل التمرد الآثم. وعندها، حين أطلق دانتي لعنته على أولئك المتمردين الذين يحاربون الخالق ذاته، تفجرت عبقريته الكهنوتية في خطبة لاذعة رهيبة. فلورنسا، في نظره، هي الوحش الكريه الذي يفتك بالمسيحية، هي الأفعى التي تنهش أحشاء أمها، هي ميرّا الآثمة التي اشتعلت شهوة نحو أبيها سينيراس... وتراكمت الشتائم، مرفقة بتفسيرات تضاعف من حدتها. أما غيلفيّو فلورنسا، فردّوا على إهانة الشاعر بقرار جديد ينفيه مجددًا.
وأما هنري، كالمأخوذ بحلم، ظل غافلًا عن حقيقة الموقف وتقدم بلا هدى. ها هو في جنوى، ثم في بيزا، منشغل بمراسم الشكليات، يفاوض ملك نابولي روبرت، يركن إلى حقه أكثر من سيفه، لينتهي به الأمر مخدوعًا بروبرت الذي دفعه إلى القطيعة مع البابا أيضًا. وعندما همّ بالانطلاق من جنوى لمهاجمة روبرت في عقر داره، فاجأه المرض في بون-كونفينتو، فمات، حاملاً معه عالمًا من الأوهام. لقد كان ذهول الغيبلينيين وصيحات الظفر التي أطلقها حزب الغيلفيين أبلغ دليل على ما كان بمقدور الإمبراطور هنري، رغم أخطائه السياسية، أن يحققه في إيطاليا. وما إن سار جيشه عائدًا عبر الجبال، حتى تفرّق الغيبلينيون في كل صوب، وكأنهم كانوا على وشك الهلاك، بينما غمر الفرح الغيلفيين. حتى أن شعوبًا بأكملها ارتدت ثيابًا جديدة، تعبيرًا عن عودتها إلى الحياة. هكذا مات آخر ممثل للإمبراطورية المقدسة، وبدأت بالفعل حياة جديدة لشعوب إيطاليا — حياة من الحرية والعواصف، أعادتها مرارًا تحت نير الأجنبي الذي ما زالت ترزح تحته حتى اليوم. لقد اعتقد البعض أن الوحدة الإيطالية، لو تأسست في القرن الرابع عشر على يد الأمير الذي كان دانتي يستدعيه، لكانت قد حمت البلاد من أخطار المستقبل؛ ورغم أن هذه الفكرة تبرر مشروع دانتي الذي انتُقد بسببه، إلا أنه لا يمكننا أن نأسف على ما آلت إليه تلك الأحداث. فقد وُلد الشعور الوطني، والشعب الذي يدرك ذاته لا ينبغي له أن يقبل شيئًا من يد فاتح. إن مشاريع هنري السامية، وآمال دانتي الوطنية، كانت تنتمي إلى عصر آخر.
فهل غيّرت خيبة الآمال وفرح إيطاليا فكر دانتي؟ كلا، كان إيمانه أعمق من أن يتبدل، فمثل هذه النفوس لا تتغير. عاد يحمل عصا الترحال، وفي السنوات العشر التي تلت (١٣١١-١٣٢١)، ظل يتنقل من مدينة إلى أخرى، مستضيفًا عند غيبلينيين أحيانًا وعند غيلفيين أحيانًا أخرى، لا يبالي بميول مضيفيه، لأنه كان يعيش دائمًا في مستوى أعلى من الأحزاب. ظل متمسكًا بالأمل ضد كل أمل، يؤمن بقوة لا تلين بمجيء المخلّص. كان يتصور لحظة عودته إلى فلورنسا وقد توّجته المجد، ويتخيل اليوم الذي يعود فيه وطنه إلى طرق الرب، لتكلل بالغار الشاعر الذي صاغ هذا العمل الذي تعاونت فيه السماء والأرض. وإلى أن يحين ذلك اليوم من الإنصاف والانتصار، كان يكلل نفسه بالمجد في المدينة السماوية. ذلك التاج الإمبراطوري وذلك التاج البابوي، اللذان كان يحلم بأن يراهما يترأسان معًا المدينة الأرضية، أسلمهما إليه فيرجيل عند أبواب الفردوس ليكون هو الحارس عليهما. هذه هي الكلمات الأخيرة التي خاطبه بها الشاعر اللاتيني: «أمنحك التاج والميترا». ومات دانتي دون أن يرى حلمه يتحقق، لكنه، قبل أن يوارى الثرى، وضع في أعالي الفردوس، في قلب تلك الوردة المتألقة التي تنيرها أنوار الخالق، النفس الجليلة لذلك «الهنري العظيم» الذي جاء لإصلاح إيطاليا قبل أن تكون مستعدة للإصلاح. وأعلن أن الغاسكوني، البابا الذي خدع الإمبراطور — كليمنت الخامس — سيلقى به في جحيم السيمونية، وأنه، وهو يسقط فيه، سيدفع إلى أعماق الجحيم من بعده غاصب السيف البابوي، البابا بونيفاس الثامن. عندئذٍ، كان بمقدور دانتي أن يردد مفتخرًا في ساعاته الأخيرة المديح الذي أسبغه عليه جده كاتشاغويدا في النشيد السابع عشر من الفردوس: «وسوف يطيب لك، يوماً، أن تكون وحيداً، وأن تكون أنت لنفسك حزباً لا ثاني له».
ما إن يُعرف طبع دانتي حق المعرفة، وما إن تتحدد تعاليمه السياسية والأخلاقية تحديدًا دقيقًا، حتى تنقشع عنا أسرار الكوميديا الإلهية. فكل تفصيل، وقد أشرق عليه نور مباغت، يكشف عن وحدة منطقية تحكم هذه الملحمة كلها. فلنتذكّر عقيدة الشاعر الدينية والسياسية؛ فهي تشتمل، في جوهرها، على كل الرموز التي سيتضمنها عمله. ذلك الجحيم الذي ابتلع أفواجًا من المفسرين، وذلك المطهر وذلك الفردوس — وقد رأى فيهما البعض تناقضات لا حلّ لها — سوف تكشف لنا عن رؤى متلألئة إذا ما نظرنا إليها في ضوء هذا الفهم.
ما هي الفكرة الأساسية للكوميديا الإلهية؟ كثيرًا ما يُقال: إنها رمز عظيم، رحلة خيالية إلهامية عبر العوالم الخفية. هذه إجابة سطحية مبتذلة. فخلف أستار الرمز، وتحت زخرفة هذا الحجّ الصوفي، ثمة فكرة أصلية هي مبدأ العمل وجوهره. لقد أشار دانتي بنفسه، في تلك الرسالة الطريفة التي أهدى بها «الفردوس» إلى كان غراندي ديلا سكالا، إلى هذه المسألة، وألمح إلى الحلّ. قال: «إن معنى هذا العمل ليس بسيطًا، بل متعدد. فهناك أولًا المعنى الحرفي، ثم المعنى المستتر خلف الحرف». ثم، على طريقة تلاميذ علماء عصره، يذكر أيضًا المعنى الرمزي، والمعنى الأخلاقي، والمعنى الإشاري (الأناغوجي). لعل القارئ يظن أن ثمة قصيدة واحدة هنا؛ وإذا بنا أمام أربع أو خمس، بحسب طريقة القراءة. فلنكن أكثر إنصافًا مع دانتي من دانتي مع نفسه؛ ولنتحفظ من الأخذ بهذه التأويلات الرمزية المصطنعة التي أُلصقت بالعمل بعد إنجازه. ولا ننسَ أنه قال في موضع آخر: «حين يوحى إليّ الحب، أُسطّر، وعلى النحو الذي يمليه عليّ من أعماقي، أُخرج ذلك للناس». وحتى في تلك الرسالة إلى كان غراندي، بعد أن أدّى ما عليه من واجب مسايرة جنون الرمزية الذي كان سائدًا في عصره، يصرخ فجأة، ساخطًا على هذه التحريات العقيمة، وعائدًا إلى الحقيقة: «فلندع جانبًا هذا التنقيب في المعاني الدقيقة، ولنقل ببساطة: إن غاية هذا العمل، غاية العمل ككل وكل جزء فيه، هي أن ينتشل الأحياء من حال بؤسهم، ويقودهم إلى حال السعادة».
تمنحنا تفسيرات النقد الحديث الفهم الحقيقي لهذه العبارة. فالكوميديا الإلهية رسم لصورة العالم المسيحي وحكمٌ مهيب على الأجيال، باسم الفلسفة الدينية والسياسية للشاعر. فالذين انتهكوا النظام الروحي أو النظام الزمني، غاصوا في الجحيم؛ أما المطهر والفردوس، فهما لأولئك الذين خدموا الإمبراطورية والكنيسة. وهذا الجحيم، وهذا المطهر، وهذا الفردوس، ليست محصورة في العوالم التي يجوبها هذا الرائي العظيم، بل هي قائمة أيضًا في هذا العالم. فالجحيم في روما، تحت حكم البابوات السيمونيين؛ والفردوس في قلوب أولئك الذين ظلوا أمناء لقانون العناية الإلهية الذي تمثله الإمبراطورية، وللقانون الأسمى المتمثل في المسيح المصلوب. حتى في ذروة نشوته، لا يغفل دانتي عن العالم؛ فمن على أعتاب الممالك الخفية، يوجّه كلامه إلى الأرض، يخاطب المسيحية؛ فقصيدته وعظ وإرشاد. هذا هو معنى تلك العبارة التي نقشها في إهدائه إلى كان غراندي: «انتشال الأحياء في هذه الحياة من حال البؤس وقيادتهم إلى حال السعادة».
ويضيف السيد فيغيلي إلى هذا التفسير — الذي أفصح عنه دانتي بنفسه — تفسيرًا آخر لم يكن دانتي ليبوح به. فالكوميديا الإلهية، على حد قول هذا المؤرخ الألماني، هي في الوقت نفسه وعظٌ بالمثالية الغيبيلينية، وعرضٌ رمزي لمراحل تطور نفسية الشاعر. فقد ظهرت هذه السيرة الروحية لدانتي، إشارات متناثرة في أعماله السابقة، لكنها هنا تكتمل وتكتسي ملامح واضحة. فالحب، والعلم، والسياسة، والدين — قد تعاقبوا جميعًا على احتلال عقل هذا الرجل العظيم. فحب الهيام أضاء له «الحياة الجديدة»، والعلم ملأ «الوليمة»، والسياسة كانت موضوع «الملكية»، والدين، الذي خالط كل هذه الشؤون، ألقى عليها جميعًا من نوره. وفي «الكوميديا الإلهية» يتوحد الدين، والسياسة، والفلسفة، والحب، في انسجام كامل. وهذا العمل الذي جرى في نفس دانتي بصورة غريزية، لم يكن له أن يدركه هو، بل كان على النقد أن يسلط عليه الضوء، وهو ما فعله السيدان ويت وفيغيلي بإتقان بديع. هكذا كانت الكوميديا الإلهية، في وحيها الأول، مرآة لمراحل تطور عبقرية دانتي، وحكمًا على العالم المسيحي كله، باسم ذلك النظام العناييّ الذي شاده في فكره.
وشخصيتان عظيمتان تملآن الكوميديا الإلهية: فبين هذه الجموع التي نفخ دانتي فيها من روحه، وبين أولئك الهالكين العمالقة، وأولئك التائبين الودعاء السائرين إلى السماء، والمختارين المسبحين في النور السرمدي — يهيمن على هذا المشهد الهائل كل من فيرجيل وبياتريس. فمن يكون فيرجيل؟ ومن تكون بياتريس؟ لقد كان المفسرون قبل القرن التاسع عشر يجيبون بعبارات عامة: فيرجيل هو العقل الإنساني، وبياتريس هي اللاهوت. فلننظر أبعد من هذه الصيغ المبتذلة، إذ إنها تنطوي، مع ذلك، على معنى دقيق كشفت عنه الدراسات الحديثة. يظهر فيرجيل أولًا، مرسلاً من بياتريس. فعند منتصف عمر الإنسان، في ذات السنة التي اجتمع فيها الآلاف من الحجاج إلى روما بمناسبة اليوبيل العظيم، في السنة التي بدأ فيها قرن جديد — وهي فرصة رمزية مناسبة لحجّه — كان دانتي قد ضلّ طريقه في غابة مظلمة موحشة. وعند سفح جبل يعلو ضياؤه إلى السماء، همّ باعتلائه، هاربًا من هذا المكان الكئيب، لكن ثلاث وحوش اعترضت طريقه: نمرة خفيفة رشيقة مرقّطة، ثم أسد هائل مخيف، ثم ذئبة هزيلة جائعة تلهث؛ فأرغموه على التراجع نحو الدرك الأسفل. عندها يظهر رجل، منقذ: إنه فيرجيل. فالشاعر المانتواني سيقوده، لينقذه، نحو العوالم الأبدية. تلك النمرة، وذلك الأسد، وتلك الذئبة — هم الشهوات، والكبرياء، والجشع؛ الآفات الثلاث التي تفسد قلب الإنسان، والتي دفعت دانتي بعيدًا عن طريق الخير؛ وهم كذلك علل المسيحية الفاسدة. فدانتي يرسم نفسه حين يرسم عصره؛ وهو إذ يعود إلى الخالق، يريد أن يعود معه العالم المسيحي عبر التأمل في النظام العنايي. لقد أرسلت بياتريس فيرجيل لإنقاذه؛ فيرجيل يبدأ العلاج، وبياتريس تتمّه. فمن يكونان إذن، فيرجيل وبياتريتس؟ لقد سرت في آداب القرون الوسطى تقليدان مختلفان عن فيرجيل: تقليد شعبي، وآخر علمي.
ففي التقليد الشعبي، فيرجيل هو أول السحرة. فالشعر، والعلم، والسحر، كل هذا اختلط، في مخيّلات بلهاء مذعورة منذ فجر العصور المظلمة. وإذ انتقل اسم فيرجيل من عصور العالم القديم الأخيرة إلى أجيال جاهلة عطشى للمعرفة، أصبح فيرجيل في أذهان العامة أعظم العارفين بقوى الطبيعة الخفية، والقادر على تسخيرها. وتظهر الأساطير المسيحية الأولى — وقد جُمعت بعض منها في «أعمال الرومان» — هذا الشاعر، منشئ أغانٍ عن ديدو وأرستيوس، مدهشًا البشر بالمعجزات. ومن هذه الأساطير الشعبية، انتقلت هذه الصورة العجيبة إلى شعر الملاحم الفروسية؛ وأثبتها فولفرام فون إيشينباخ في «بارسيفال»، وجعل منها كاتب مجهول في «حرب فارتبورغ» خصمًا لبايزان من القسطنطينية وللمتسوطين من بغداد. أما التقليد العلمي، فهو أرفع شأنًا. فقد جعل من فيرجيل أحد المبشرين بالمسيحية. فقد قدم نشيد بوليون نصًا رائعًا لهذا التفسير التحويلي للشاعر. وكان الإمبراطور قسطنطين نفسه، في خطابه إلى المؤمنين، قد شرح مطولًا دور فيرجيل، معترفًا فيه بنبيّ للمسيح. وكانت هذه الفكرة شائعة في العصور الوسطى. بل إن تقليدًا رائجًا — لا تزال بعض آثاره باقية في مانتوا — يزعم أن القديس بولس، في طريقه إلى نابولي، وقف على قبر الشاعر وقال باكيًا: «لماذا لم أجدك حيًا، أيها الأعظم بين الشعراء؟ كم كنت لأكون سعيدًا لو استطعت أن أجعلك مسيحيًا!» وما لم يستطعه القديس بولس، فعله العصور الوسطى: إذ ربطت فيرجيل بتاريخ المسيحية. ففي مسرحية القديس مرسيال في ليموج، التي كتبت في القرن الحادي عشر، يظهر شاعر مانتوا جالسًا وسط الأنبياء، مبشرًا معهم بمجيء الفادي. وهل نحتاج لأن نعدد هنا كل الشهادات على هذا التحول المسيحي للشاعر الحبيب، كما يسميه دانتي؟ لقد صار هذا الموضوع من مسلّمات البحث العلمي الحديث. هذه الإشارات الموجزة تكفي لتذكيرنا بما كان عليه فيرجيل في نظر أهل القرون الوسطى: وسيط طبيعي بين العالم القديم والعالم الجديد.
يستعير دانتي شيئًا من التقليدَين اللذين تحدثنا عنهما للتوّ. فعندما يروي مرشده، في النشيد التاسع من الجحيم، أنه نزل مرةً إلى دائرة يهوذا بفضل تعاويذ الساحرة إريكتو، أليس هذا تجسيدًا لفرجيل الأسطوري الشعبي وقد امتزج بذكرى إحدى حلقات لوقان؟ أوَليس فرجيل المبشّر بالمسيحية حاضرًا في كل صفحة من الجحيم والمطهر؟ لكن هذه الاستعارات لا تكفي الشاعر، بل إنه يذهب أبعد من ذلك، فيحوّل التقليد على طريقته، ليُدخله في تماثل بنيان عمله الفني. إن فرجيل الكوميديا الإلهية هو قبل كل شيء شاعر الإمبراطورية الرومانية. فقد وُلد في عهد قيصر، وأنشد أغسطس، وهذان هما عنوانا شرفه في نظر أليغييري. بل أكثر من ذلك، فإن هذه الإمبراطورية التي مجّدها المانتواني تظهر في قصائده كأنها تتويج لكل تاريخ روما. شاعر أغسطس هو أيضًا شاعر الشعب الروماني ومصيره المنتصر؛ لقد مجّد، بأبيات خالدة، تلك الأمة الملكية، المولودة لحكم العالم. كل الفلسفة التاريخية التي يعرضها دانتي في الوليمة والملكية تجد أسسها في «الإنيادة».
السيد روسيتي، في تعليقه، هو أول من أدرك، على ما يبدو، هذه الصورة لفرجيل عند دانتي. وقد تبنّى السيد إميل روث هذه النظرية وطورها بوضوح ساطع. لقد تتبع خطى دليل دانتي في الجحيم والمطهر، ورصد كلماته وحركاته وملامحه، وكان كل حادث جديد يقدم له دليلًا إضافيًا. فلنذكر مثالاً واحدًا: يدخل فرجيل ودانتي دائرة السيمونيين، فيقود الدليل رفيقه مباشرة إلى الحفرة البشعة التي ينوح فيها البابا نيكولا الثالث. وعندما يسمع دانتي صراخه، يتكلم هو أيضًا قائلًا: «لا أعلم إن كنت قد تجاوزت الحد، لكني أجبته بهذه الكلمات...» وهنا تبدأ التوبيخات الشديدة ضد فساد الكنيسة، وهي توبيخات تُبهج فرجيل، إذ ترتسم على وجهه ابتسامة فرح، ويضيف دانتي على الفور: «أعتقد أنني قد أرضيت دليلي». قارن الآن هذا المشهد بمشهد آخر لا يقل عظمة: دخول الحاجَّين إلى دائرة الهراطقة. آلاف المدانين يرقدون في قبور نتنة وسط رائحة كريهة لا تطاق. ها هو الرهيب فاريناتا، وها هو كافالكانتي دي كافالكانتي، وها هو الإمبراطور فريدريك الثاني، والكرادلة أوبيرتيني. تبدأ المحاورة، ويقع جدال بين دانتي وفاريناتا، تتقاطع فيه الكلمات كالسيوف. أين فرجيل، ليعضد رفيقه؟ فرجيل لم يعد موجودًا؛ إذ لم يُبدِ أي اهتمام بعقاب الهراطقة، بل واصل طريقه. هذا التباين له دلالته؛ لماذا من جهة، هذا التأييد لتوبيخات دانتي؟ ومن جهة أخرى، هذه اللامبالاة التامة؟ لأن السيمونيين هم أعداء الإمبراطورية، أما الهراطقة فيقوّضون النظام الروحي. فرجيل ينحاز عندما يتعلق الأمر بالإمبراطورية؛ لكنه لا يملك الحق في التدخل في شؤون الكنيسة. فرجيل، إذًا، هو منظر الإمبراطورية، وممثل النظام الأرضي الذي أرادته العناية الإلهية.
تأمل هذه التماثلية الباهرة في بناء القصيدة! فإذا كان شاعر إينياس يمثّل النظام الإلهي الأرضي، فإن لدانتي مرشدًا آخر يكشف له النظام السماوي. في كل مكان من الكوميديا الإلهية، نصادف هذا الازدواج العظيم الذي يضم الكون بأسره. المدينتان اللتان يتحدث عنهما القديس أوغسطين تحضران دائمًا في ذهن المؤلف؛ مدينة الخالق تنير مدينة الإنسان، وبياتريس تفسر فرجيل. وهنا نبلغ التأملات الراقية لكل من السيد أوزانام وملك ساكسونيا، يوهان الأول. من بين جميع شُرّاح دانتي، فإن السيد أوزانام والملك الحاكم لسكسونيا هما بلا شك مَن ألقيا أشدّ الأضواء سطوعًا على شخصية بياتريس. ومعلوم أن أوزانام، وهو يدرس أليغييري بتلك العاطفة الرقيقة، لم يدّعِ أنه استوعب تمامًا وحي الشاعر. فمن ذا الذي لا يرتدع عن مثل هذه المهمة؟
إن دانتي، وهو لاهوتي، وفيلسوف، وأخلاقي، ومؤرخ، وسياسي، ومع كل هذا فنان لا يُضاهى، يقدّم لعقل المفكر موضوع تأمل لا ينضب. كل إنسان يمكنه أن يختار من قصيدته دائرة من نور أو ظلمة تحوي كنوزًا دفينة. وقد اختار أوزانام اللاهوتي الفيلسوف، تلميذ سيجر البْرَابَنتي والقديس توما الأكويني. وكان يمكنه، أعترف بذلك، أن يعرض بشكل أدق دور دانتي السياسي؛ وكان يمكنه أن يُمسك بجانب الشاعر ويشرح لنا، بوصفه فنانًا، غرابة خياله وتنوعه وعظمته؛ لكنه لم يرد ذلك. منبهرًا بالعقيدة المختبئة تحت ستار الأبيات الغريبة، لم يرَ سوى مريد فلاسفة القرن الثالث عشر. نشعر بوضوح أنه يستمتع باكتشاف صيغ توما الأكويني وريشارد دو سانت فيكتور في عبارة أو صورة. جميع الشخصيات التي رسمها دانتي بهذه الدقة الباهرة تتلاشى في تعليق أوزانام، لتترك بريق الفكرة المجردة فقط. شخصية واحدة فقط استثناها من منهجه، وهي بياتريس. كم تعويضًا سعيدًا وجده في هذا الاستثناء عن مساوئ طريقته! لا يمكن لأي شارح إيطالي أن يُضاهيه هنا. ففراتشيلي، وبونتا، وتوريتشيلي، ينشغلون طويلًا بشرح التفاصيل الرمزية، بينما أوزانام، مثل دانتي نفسه، منبهر بالرمز المشع.
فمن بين الشُرّاح السابقين، كان البعض يرون في بياتريس مجرد تجريد لاهوتي، وآخرون لم يكونوا يرون فيها سوى ابنة بورتيناري، تلك الفتاة الجميلة بثوبها الأحمر، التي أبهرَت دانتي ابن التسعة أعوام، وتوفيت بعد ستة عشر عامًا، في أوج شبابها. وكان أحد أساتذة أوزانام، فورييل، من أتباع هذه النظرة الأخيرة. فقد ضاق ذرعًا برؤية هذا الكائن الحي يتحوّل إلى تجسيد لعلم اللاهوت، فأطلق على شُرّاح المدارس لقب «الحمقى». ورغم علمه الغزير، كان لفورييل حسٌّ مرهف بالشعر؛ وبياتريس الشعرية، في نظره، هي بياتريس فلورنسا، تلك المرأة الشابة التي أحبها الشاعر. وهو يسأل: هل يعشق الصبية ذوو التسعة أعوام علم اللاهوت؟ ويسأل أيضًا: ماذا كان سيحلّ ببياتريس لو كانت مجرد تجريد رمزي؟ ويجيب بلا تردد: كانت ستبقى طيَّ غبار العصور الوسطى، شأنها شأن سائر الرموز اللاهوتية «بلا جدال». لكن الأستاذ البليغ الذي خلف فورييل في كلية الآداب بباريس يذهب إلى النقيض. من غير أن يردّ على حجج فورييل، التي قد لا يكون قد عرفها، يورد العديد من أقوال بياتريس في شعر دانتي، والتي تتجلى فيها خصائص تفوق الطبيعة البشرية، ويسأل بدوره: أيمكن أن تكون هذه خصائص امرأة في السادسة والعشرين؟
أوزانام محق؛ وهو محق خاصة حين يبتعد، في هذا الموضع، عن التجريدات التي لم يمتنع عنها بما يكفي في مواضع أخرى، فيُظهر الطابع الإنساني والروحي للشخصية في آن، ويجعلنا نشهد على هذا التحول الإلهي للحب. وقد فعل الملك يوهان الأمر نفسه. فكان أكثر شمولًا من أوزانام في تقديره لدانتي، إذ ساءله في «الكوميديا الإلهية» كشاعر ومؤرخ، إلى جانب كونه فيلسوفًا ولاهوتيًا. ومع ذلك، كانت له ميول واضحة نحو التلميذ الوفي للقديس توما الأكويني. لقد درس بعمق اللاهوت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر؛ وهو يعرف ويستشهد بكل المقاطع التي استلهمها أليغييري من علماء ذلك العصر. وعلى الرغم من أن كتابه لا يشبه كتاب أوزانام، فإن الفكرة نفسها تجمع بينهما. أما الكاتب المهيب الذي يختبئ تحت اسم «فيلاليثس» (محب الحقيقة)، فلم ينجح دائمًا في ترجمته لـ«الكوميديا»، فقد جاءت أحيانًا باهتة، مطنبة، فاترة؛ لكن شرحه من أكثر الشروح علمًا وابتكارًا على الإطلاق.
في هذا الشرح، تظهر بياتريس بكل إشراقها. لا شيء يمكن أن يغني عن قراءة نص دانتي نفسه؛ فهناك نرى حبيبة الشاعر، لا تزال متحدةً بالإنسانية في الأناشيد الأخيرة من «المطهر»، تتنقى شيئًا فشيئًا، وتتوهج، ثم، في كل سماء، تزداد بهاءً، حتى تجلس أخيرًا على عروش التسلسل الملائكي المقدس، و«تجعل من ذاتها تاجًا يعكس الأشعة الأبدية». ومع ذلك، فإن تعليق الملك يوهان يضيف شيئًا، إن جاز القول، إلى تلك الرسوم العجيبة. فالمُفسّر يتلاشى، ويتكلم أساتذة الشاعر أنفسهم. جميع أولئك العلماء الذين تختصر بياتريس تعاليمهم يأتون ليشهدوا لها، والتقريبات مُلهمة، والاقتباسات مختارة بمهارة، حتى تصبح هوامش العالِم عملاً فنيًا بحد ذاتها. أندم فقط على أن فيلاليثس يعتبر بياتريس الرمز الدقيق لـ«النعمة المكمّلة». لنترك جانبًا هذا اللاهوت المتهور: فالنعمة هي الخالق ذاته، والمرأة التي أحبها دانتي، مهما سمت في تحولها المثالي، لا يمكن أن تختلط بالجوهر الأول. لماذا نرغب بأن نكون أوضح من الشاعر نفسه؟ دعونا نقول ببساطة: بياتريس هي المحبة، المحبة التي تعود إلى منبعها، المحبة الإلهية التي بدونها تصبح علوم الفقهاء كلها حبرًا على ورق. المبادئ المدرسية، حين تمر عبر لسانها، تكتسب قوة جديدة.
وهكذا تكتمل رسالة فرجيل ببياتريس. فرجيل يعلّم النظام الزمني، وبياتريس تُعلّم النظام الروحي. أشرف الشعراء يمجّد حقوق الإمبراطورية؛ وحقوق الكنيسة تُمجَّد بواسطة روح لا تعرف سوى الحب. درس مزدوج مكتوب في كل صفحة من القصيدة: إمبراطورية يقودها العقل، وكنيسة مستوحاة من الحب، هذا هو حلم دانتي. فكيف يُستغرب بعد هذا من حرية الشاعر؟ إن تعليمه يشمل كل واجبات الإنسان في الدنيا. ومن علوّ هذا المنصب الذي يجلس فيه كقاضٍ، يوزّع الثواب والعقاب بيقين رهيب. لقد ظنّ البعض أنه وقع في تناقضات في أحكامه، وتعجبوا من وجود بعض الغيبيلينيين في جحيمه، وقالوا: «لقد رسم هذه اللوحة حين كان غويلفيًا، وتلك حين أصبح غيبيلينيًا». ولا شيء أكثر خطأ من هذا القول. فحين ننظر إلى نظريته الدينية والسياسية كما اكتشفتها الدراسات الحديثة، تتلاشى كل التناقضات. فاريناتا وفريدريك الثاني يرقدان في قبور الهراطقة بذات القانون الذي أغرق نيكولا الثالث وبونيفاس الثامن في هوّة السيمونية. وإذا أردنا أن نقيّم عدالة دانتي، فعلينا مقارنته بالكُتّاب الآخرين الذين تجرّأوا على الاضطلاع بنفس الدور. فقد استمتع فورييل وأوغست كوبيش، وشارل لابيت، وأوزانام بالبحث في تلك الرؤى الجحيمية والسماوية التي سبقت «الكوميديا الإلهية»؛ يا لبون الشقة بين تلك اللوحات وبين قصيدة دانتي! هناك نجد هجاءً فوضويًا، وأحكامًا عشوائية تصدر تبعًا لمزاج الكاتب وميوله؛ وهنا نرى سلّمًا من الذنوب والجرائم مبنيًا على خطة فلسفية.
وهذه الخطة من الوضوح، بحيث تمكن أحد المعلقين المعاصرين من إعادة تركيب القانون الجنائي لأليغييري انطلاقًا من «الجحيم» و«المطهر»: قانون شامل، يجمع بين القانون الروماني، والقانون الكنسي، والقانون الجرماني في العصور الوسطى. هذا ما فعله السيد فيغيلي. ومن المؤسف أن هذا المؤرخ العالم قد أضعف قيمة أبحاثه بمحاولته إثبات أن القانون الجرماني يحتل مكانة أكبر في «الكوميديا الإلهية» من القانون الروماني والكنسي. والحقيقة هي العكس تمامًا؛ فميزة القانون الجرماني في العقوبة أنه يعاقب الذنب لكونه ذنبًا بحد ذاته، في حين يهتم القانون الروماني بالجرائم ضد الدولة، ويهتم القانون الكنسي بالمخالفات ضد شريعة الكنيسة. دانتي، بمنطقه الصارم، يخص أشد العقوبات لأعداء الكنيسة والإمبراطورية؛ إنه يصدر أحكامًا تمثل عدالة اجتماعية أكثر مما تعكس قوانين الأخلاق الفردية. كيف لم يدرك السيد فيغيلي هذا النظام عند دانتي بعد أن كشفه بوضوح في بقية أبحاثه؟ لنكمل بدقة أكبر: تظهر الروح الإنجيلية دومًا في أحكام أليغييري. فتوزيعه الحر للعقوبات هو انتصار العدالة المسيحية. إن ضمير الجاني يُكشف بوضوح، وكلما علا مقامه في هرم السلطة، زادت عليه مسؤولية أعماله. لا تهاون مع عظماء هذا العالم! «كم من أناس يعدّون أنفسهم ملوكًا عظامًا، سينامون كالخنازير في هذا المستنقع، ولا يخلّفون بعدهم سوى الذكر القبيح!».
التصوير الذي رسمه أليغييري يضم شعبًا لا يُحصى عدده. ففي كل دائرة، وفي كل جزء من كل دائرة، حشود تزخر وتضج. كان الإغريق يملكون تعبيرًا مرعبًا لوصف الموتى؛ إذ كانوا يسمّونهم «الأكثر عددًا» — οι πλειονες — فيضعون بذلك في المواجهة سكان الأرض الحاليين مع جميع الأجيال التي ابتلعتها القرون. وهؤلاء الـ«الأكثر عددًا» يظهرون في كل موضع من تلك اللوحة الهائلة. فتارةً، مصطفّين في صفٍّ كقطيع من طيور الكركي، يجرفهم ريح أسود في دوامة لا تنتهي؛ وتارةً، يهطلون من السماء في الهاوية، كثيفين متراصين كقطرات المطر. وفي وسط هذه الجموع المجهولة، وضع دانتي شخصيات متميزة. فمن هم هؤلاء الأشخاص؟ ومن أي زمان أو بلد استقاهم؟ ولماذا هؤلاء دون سواهم؟ أسئلة مثيرة، وإذا ما دُرِست بعناية، أضاءت فكر الشاعر. كانت النقديات القديمة تقدّم لنا الشخصيات تباعًا عند دخولهم المسرح؛ لكن المفسرين المعاصرين فكروا في جمعهم ضمن مجموعات. وللوهلة الأولى، يبدو أن هذه الشخصيات مجمعة عشوائيًا؛ فكل الطبقات وكل العصور مختلطة، رجال من العهود القديمة ومعاصرون لدانتي، وثنيون ومسيحيون، يهود ومحمديون، يتزاحمون في خضم المعركة. لكن انتبه! ثمة مخطط متعمد يُتبع بإصرار؛ فالرسْم المتماثل للمهندس يظهر حتى وسط هذا الفوضى المروعة. فلو تأملت مليًّا، لرأيت أن جميع شخصيات «الكوميديا الإلهية» قد اختيرت ونُظّمت بحيث تمثل ثلاث قضايا متمايزة وإن كانت مترابطة ترابطًا وثيقًا: فتارةً تعبر عن النظرية العامة للشاعر، تصوره للمجتمع العالمي، ونظامه في الإمبراطورية والكنيسة؛ وتارةً تمثل الأخلاق بمعناها المجرد، بمعزل عن النظامين السياسي والديني؛ وتارةً أخيرًا تتناول التاريخ المعاصر، أي شؤون إيطاليا ومصير فلورنسا.
في «الجحيم»، تصدر الأحكام باسم النظام العالمي وشؤون إيطاليا؛ والشخصيات المأخوذة من التاريخ الحديث تمثل خاصة هذين الأمرين. فمنهم الهراطقة مثل فاريناتا وكافالكانتي وفريدريك الثاني، وذلك الكاردينال أوبالديني الذي أنكر وجود الروح؛ ومنهم العنيفون، مثل الكبرياء الحاقد أرجنتي، وفاني فوتشي الذي انتهك الكنائس، والكونت دي مونتيفلترو، أداة غضب بونيفاس الثامن؛ ومنهم المزورون كالعالِم الكيمياوي كابوكيو ومايستر آدم صانع النقود المزيفة؛ ومنهم الخونة ككانشيليري وماركيروني وكاميشيوني دي بازّي وبوكّا وبيكييرا وأوغولين وتيباديلو وبرانكا دوريا. وإذا استعان الشاعر بشخصيات من الأساطير الوثنية أو التاريخ القديم، فإنها تمثل حصريًا انتهاك النظام الكوني. فمثلًا، يمثل العملاق كابانِيه التمرد البدائي للإنسان ضد السماء؛ وسيكستوس بومبيوس ألقي به في الجحيم لأنه حارب قيصر؛ وأخيرًا، برتوس وكاسيوس، خائنو الإمبراطورية وقاتلو قيصر، يقترنان في فم الشيطان مع ذاك الذي خان المسيح. وقد ثبتت نظرية المدينتين عند دانتي حتى إنه اختزل فيها تاريخ الإنسانية كله. أليس هذا الهدف جليًا بطريقة فريدة عندما يصوّر محمدًا، لا كمؤسس دين، بل كمنشق عن المسيحية؟ فخارج الكنيسة الكاثوليكية وخارج الإمبراطورية المقدسة لا وجود لأي كيان بنظر دانتي. أما الذنوب الأخلاقية الخالصة، فما أنكر دانتي تناولها، غير أن هذه الذنوب — مهما قال في ذلك م. فيجيل — والتي لا تمس الإمبراطورية ولا الكنيسة، لم تحظ في «الكوميديا الإلهية» إلا بدور ثانوي. وهؤلاء الخطاة، الأخف ذنبًا من سواهم، يشغلون الدوائر الأولى، ودانتي يكلمهم بحنان، ويتأثر لمصيرهم، بل يسقط مغشيًا عليه عند سماعه حكاية فرانشيسكا؛ حتى إن فيرجيل نفسه يشرح له مدى المسافة الهائلة التي تفصلهم عمن اعتدوا على النظام الإلهي للعالم.
أما في «المطهر»، وعلى خلاف «الجحيم» — وهذه من السمات الفارقة للحكم الأخير — فلا يوجد خطاة، باستثناء واحد، ممن انتهكوا النظام السياسي أو الديني؛ فهذه الخطايا، في نظر أليغييري، فادحة جدًا لا يمكن لمن اقترفها أن يطهّر نفسه منها. والخاطئ السياسي الوحيد الذي شمله دانتي بالعفو هو شارل أنجو، شقيق القديس لويس، الذي روى جيوفاني فيلاني توبته وتقواه في خاتمة حياته. أما بقية سكان المطهر فقد أذنبوا فقط في حق الأخلاق الفردية؛ هم المتكاسلون، والحساد، والمتكبرون، والشرهون، وأهل الشهوة، والغضوبون. ولهذا السبب نجد عدد الأسماء الشخصية في «المطهر» أقل منه في «الجحيم»، وأقل منه أيضًا في «الفردوس»، المكرّس كله للمعلمين، ولبياتريس، وللسيدة العذراء، والثالوث الأقدس. أما آخر اسمين يظهران في هذا البهاء، فيلخصان الإلهام الدائم للشاعر؛ فكما اختتم الخونة للإمبراطورية والكنيسة مشهد الهاوية، فإن القديس برنار وهنري اللوكسمبورغي يتوّجان المشهد الأعلى: القديس برنار، ممثل الحياة الروحية في أسمى نقائها، وهنري اللوكسمبورغي، الذي ظل دانتي يراه المثل الأعلى للإمبراطورية المقدسة.
ولكن ماذا؟ هل هذا القصيد كله مختوم بخاتم قيصر؟ ألا تكفينا هذه الفكرة الإمبراطورية التي تطاردنا باستمرار؟ ففي كل مرة تُقارَن فيها الإمبراطورية بالكنيسة، تكون الغلبة للإمبراطورية! هاك عدة بابوات في الجحيم: نيكولا الثالث، سيليستين الخامس، بونيفاس الثامن، كليمنت الخامس، دون أن نذكر أولئك الذين زجّ بهم مع الكرادلة والكهنة في الحشود. وعلى الطرف المقابل لهذا الموكب الجنائزي، تمعّن في موكب الأباطرة في الفردوس: تراجان، قسطنطين، جستنيان، و«ألّتو أريغو»! أدرك ما يمكن أن يُقال ردًا على هذا: لقد كان دانتي يقاوم السلطة الزمنية للكنيسة في زمن كانت تلك السلطة تهيمن على العالم؛ وبعد أن قرر مبدئه، كان لا بد له أن يدعم الإمبراطورية المترنحة، وأن يكون صارمًا تجاه البابوات الطموحين. والبابوات الوحيدون الذين وضعهم في الفردوس — لاحظوا أنه اكتفى بتسميتهم ولم يُدخلهم المشهد — هم بابوات العصور الأولى: لينوس، كليتوس، كاليكستوس، أوربانوس؛ أي أولئك الذين قادوا الكنيسة قبل المنحة المشؤومة من قسطنطين. فهذه المنحة — التي كان دانتي، كغيره من أهل العصور الوسطى، يؤمن بها — قد أفسدت، في نظره، الكنيسة برمّتها. وبوفائه للمنطق المتعصب لنظامه، يقسم تاريخ الكنيسة إلى قسمين: من جهة، البابوات المتواضعون الذين سبقوا قسطنطين؛ ومن جهة أخرى، الكهنة المتكبرون الذين ورثوا عن قسطنطين إمبراطورية الغرب ومعها كل مغريات الثراء.
لكن، وهو يهاجم هذه الكنيسة المستبدة، أليس دانتي ميّالًا إلى الطرف الآخر أكثر من اللازم؟ لا، لا تخشَ! فعدو الثيوقراطية البابوية لا يفرّط بالحرية. لاحظ هاتين الشخصيتين في القصيدة؛ ستكشفان لك عن فكر أليغييري الخفي. إحداهما تنتمي إلى الجحيم: كوريو، نائب قيصر، الذي أشار عليه بعبور الروبيكون؛ إنه في الحفرة التاسعة الرهيبة، وقد قطع الشيطان لسانه، ذلك اللسان الذي كان جريئًا في النطق، «الذي تجاسر على القول»! والأخرى نالت، مع كونها وثنية، نعمة معجزة: كاتون، آخر مدافع عن الحرية الرومانية، الذي عهد الخالق إليه بحكم المطهر. فلماذا هذا العقاب لنائب قيصر؟ ولماذا هذا الشرف الاستثنائي لمنتحر أوتيكا؟ المفسرون يجهلون الجواب؛ وكثير منهم يلزمون الصمت حيال كوريو. أما كاتون، فيظن بعضهم أنه يمثل الإرادة، وأن قيادته العليا للأرواح التائبة ترمز إلى الجهد العظيم اللازم لبلوغ السماء. لكن لو كان الأمر مجرد رمز أخلاقي مسيحي، لكان اختيار المنتحر مثالًا غريبًا، ولا عجب أن أوزانام لم يجرؤ على الدفاع عن هذا الابتكار. ولا ينبغي أن نظن أيضًا أن الأمر مجرد اقتباس من بيت فيرجيل الشهير: «وهناك، للنفوس الورعة المنعزلة، يُقيم كاتون مشرّعًا للشرائع».
أليس الأرجح أن الشاعر الجريء أراد أن يضع هنا تصحيحًا، أو على الأقل تفسيرًا لنظريته في الإمبراطورية؟ فدانتي مؤيد مخلص للإمبراطورية، لكنه يكره الاستبداد. هذا هو مغزى هاتين الشخصيتين وموقعهما. فكاتون، كفيرجيل، أحد أساتذة دانتي؛ وفي «الوليمة» و«الملكية»، خاصة في المواضع التي يدافع فيها بحرارة عن حق ورثة القياصرة، يتحدث عن قلب كاتون الطاهر بأسمى العبارات. ولا تناقض هنا؛ فالإمبراطورية، في نظر أليغييري، هي حارس السلام وحامي الدول، لا سيد مطلق يفرض وحدة طاغية على العالم. وهو يصرّح بذلك صراحة في «الملكية»: «إذا ما تحدثت عن سلطة الأمير الواحد، فلا ينبغي أن يُعتقد أنه يستطيع أن يشرّع للمدن؛ فالأمم والمدن لها حقوقها الخاصة التي تتطلب مؤسسات مختلفة». لذا، كان المؤرخ شلوسر على حق في تلخيص المسألة بقوله: «السلطة التي يمنحها دانتي للإمبراطور تشبه إلى حد بعيد تلك التي يمارسها رئيس الولايات المتحدة على الديمقراطية الأمريكية. لقد ابتكر نظامًا حكوميًا مثاليًا كان مقدّرًا له أن يتحقق بعد خمسة قرون، في ذلك النصف الآخر من العالم، حيث وضعت الكوميديا الإلهية الفردوس الأرضي». هل فهمت الآن لماذا ألحق العار بمستشار قيصر ومنح المجد لكاتون أوتيكا؟ إن هاتين الشخصيتين تبدوان وكأنهما تقولان لنا: لا تسيئوا فهم قصد الشاعر؛ فالسلطة العليا التي ينشدها ليست الطغيان الذي يستهين بالقوانين، والنظام الإلهي الذي يمجده ليس القضاء على الحرية.
إن هذه القراءات التاريخية للكوميديا الإلهية، وهذه التحليلات الدقيقة لفكر مؤلفها، تعين على إدراك ما في خياله من قوة وجمال. فبفضل ضوء التاريخ، يظهر لنا عبقريته في صور متعددة لم نعهدها من قبل. فدانتي في صراع مع عصره، ومن هنا جاءت تلك الجلالة الكئيبة لفكره، وتلك الكآبة التي حتى الفردوس لا يستطيع أن يبرئه منها. وحينما نقش ذلك النقش الرهيب: «بي تُفتح الطريق إلى القوم الضائعين» — أأنتم واثقون أنه لم يضعه على عتبة العصر الآتي؟ ذلك الجحيم الذي يلتقي فيه بآلاف النفوس، إنما هو زمانه نفسه، وقد ضل عن سُبل العصور الوسطى. يسير فيه في طرق مظلمة، يغوص في الليل خلال الهاويات، الريح تصفر، والطبيعة تئن، وحتى في المواطن التي يخفف فيها الشاعر من حدّة غضبه، نسمع صدى تلك العبارة المؤلمة من «الحياة الجديدة»: «كانت النجوم شاحبة، حتى ليُخيّل للناظر أنها تبكي على الأموات». يتعطش إلى النور، فيخرج من الظلام، ويجوب وديان المطهر، باحثًا عن الرجال الذين لم يسقطوا سقوطًا تامًّا، والذين ما زالوا يؤمنون بمستقبل أفضل. ولكن، يا له من تغيير! لم يعد يحيط به ذلك الحشد الهائل من البشر. فدروب الخير أصبحت شبه خالية. ولم يعد أمامه سوى أن يلجأ إلى تلك المدينة الإلهية التي هجرها العالم.
آه، يا لبهجة السماء! ما أطيبها لقلب أضناه الألم! ولكن، مهما تكن حلاوتها، فإنها لا تقدر أن تنزعه من التعلّق بأمور الدنيا. فمهما اجتهد دانتي، لن يشبه الراهب الذي ينفض غبار العالم عن نعليه على عتبة قلايته. ففي قلب الفردوس، لا تزال عيناه شاخصتين نحو فلورنسا، يرقب إن كانت بارقة من السماء ستضيء وطنه المنكوب. ولكن، يا للأسف! فالظلام حالك أكثر من أي وقت مضى فوق مدن إيطاليا، وها هو بطرس الرسول، ينظر إلى الفاتيكان حيث يجلس بابا أثيم، فيصيح: «مكاني، مكاني، مكاني شاغر أمام ابن الله!». كم من مشاهد، وكم من مناظر، وكم من صور زاخرة بالإيحاء، أبدعها هذا الفكر الواحد، وصاغها بثراء لا نظير له! وعادةً، لا يلتفت الناس إلا إلى عدد قليل من مشاهد الجحيم — وذلك خطأ جسيم قد أنصفه توماس كارلايل. إن ما يثير الاهتمام في هذه الرؤى المتقدة، في المطهر والفردوس، كما في الجحيم، هو تلك العاطفة التي تفجّرت من أعماق الشاعر وتجلّت في شتى الصور؛ ففي كل موضع، هناك نفس تتألم، تصلي، وتومض بالومضات. فلا تغفلوا عنها، وعندئذٍ ستفهمون على نحو أفضل عظمة تصوراته. التهكمات القاسية، والنشوات الصوفية، كل ذلك يكتسب عندئذ دلالة أدق. وإنّ تناغم عمله، الذي أعاد النقد اكتشافه، يمنح كل جزء من أجزائه قيمة لم نكن نتوقعها. ولكن، أما نكون واهمين؟ هل دانتي حقًا شاعر الإمبراطورية والكنيسة؟ وهل كان عمله بالفعل تعبيرًا عن أحلام العصور الوسطى؟
لقد عرضتُ أبرز نتائج النقد الحديث حول حياة دانتي أليغييري وآثاره. وكما رأينا، فإن الجزء الأوفر من هذه النتائج يعود إلى كتّاب ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. وقد انصبَّت دراسة التفاصيل البيوغرافية على وجه الخصوص في أعمال الورثة الفكريين للاندينو ولومباردي؛ فمؤلفات مثل «الذئب الرمزي» للأب ترويا، و«عصر دانتي» لفرديناند أريفابيني، و«الكوميديا الإلهية موضّحة» لأوغو فوسكولو، و«حياة دانتي» لقيصر بالبو، هي من أشمل ما يمكن الرجوع إليه لمعرفة الحياة الظاهرة للشاعر، وجميع الشخصيات التي تملأ لوحاته. غير أن البحث في هذه التفاصيل بلغ حدَّ الإفراط والدقة المفرطة عند كتّاب أمثال بونتا وجولياني وتوريتشيلي؛ وينبغي التحذير من هذه المبالغة التي ابتُلي بها بعض العلماء الإيطاليين. وقد كان فرنسي مجتهد، أصبح فلورنتينيًا بحبِّه للكوميديا الإلهية، وهو كولومب دو باتين، من أشد العاملين غيرةً على هذا المشروع من إعادة إحياء دانتي. فقد كرّس حياته من أجل إنجاز «البيبليوغرافيا الدانتية». وقد حاول العديد من العلماء، كفولبي وتوري وبيتشي وفراتيتشيلي، هذا العمل من قبله، لكنهم لم يفلحوا في التغلب على صعوباته، أما دو باتين فقد نجح فيه. ورغم بعض الأخطاء التي نبه إليها كارل ويت في دراسته عن «أوتّيمو كومينتو»، تبقى «البيبليوغرافيا الدانتية» عملًا بالغ القيمة.
أما فرنسا، التي مثّلها دو باتين على ضفاف نهر الأرنو بجدارة، فلها كذلك أن تفخر بمجموعة من النقّاد اللامعين. وقد ذكرتُ سابقًا فيلمان وفورييل وأوزانام؛ وينبغي أن نضيف إلى أعمالهم «رحلة دانتي» لأمبير. وإذا كان التدقيق في التفاصيل قد أصبح ميدانًا للإيطاليين، فإن تذوّق الجمال الشعري كان ميدان تفوّق الفرنسيين. ففيلمان، الذي أضاء في خطوطه العريضة خيال الفلورنسي، وأمبير، الذي تعقّب في الأماكن التي عاش فيها الشاعر ينابيعه الفنية النابعة من صدق التعبير، لم يضاهِهم أحد من نقّاد أوروبا. فقد قدمت بعض مقاطع أنطوني ديشان القليلة مثالًا على الترجمة المخلصة والجريئة، ثم جاء سانت-بوف، في «عزاءاته»، ليترجم بلطف واحدًا من أرق مقاطع «الحياة الجديدة»، وتابعه صاحب «ماري»، في نثر رصين واضح، يجمع بين القوة والجاذبية، ليواكب الشاعر في رحلته من جحيم المالابولج حتى كواكب الفردوس. ورغم ما شاب الترجمات الأحدث من أخطاء منهجية، فقد حافظت على ذلك الحرص على الجمال. أما ترجمة لامنيه، فبعيدة عن أن تكون كاملة؛ فهي تارةً حرفية إلى حد التكلّف، وتارةً تبتعد عن النص بلا مبرر، وتبدو كمسودة لم تُصقل بعد. بل لم تخلُ من الأخطاء الفادحة والسهو الغريب الذي يعكر صفو القارئ. ومع ذلك، لا يمكن إنكار الحب العميق للنص الأصلي الذي يلمسه القارئ بين السطور. حتى في المواضع التي يتعثر فيها المترجم ويجبرنا على العودة للنص الأصلي، نشعر بأنه حاول صادقًا أن ينقل ملامح الشاعر بطفرات لغته ووقفاته واختزالاته المفاجئة.
لقد أثبت لامنيه أنه فهم بعمق جوهر إلهامات دانتي. صحيح أن مقدمته تفتقر أحيانًا إلى الوضوح، وأنه يبدو ميّالًا، هنا وهناك، إلى آراء روسيتي، لكنه خلص إلى أن دانتي، رغم عداوته الشديدة للسلطة الزمنية للباباوات، بقي كاثوليكيًا مخلصًا. وتحليله للكوميديا الإلهية يتلألأ بروائع أدبية من الطراز الرفيع. فلم يشرح أحد قبلُ، بهذه الشاعرية، النشيد العاشر من الجحيم، مشهد فاريناتا وكافالكانتي. أن يُقرأ دانتي هكذا، معناه أن يُبدَع. وتكفي هذه الصفحة وحدها لتكشف عن فنان عظيم. أما لويس راتيسبون ومسّنار، فاتبعا في ترجمتهما منهجًا مختلفًا تمامًا. شعر راتيسبون ونثر مسّنار ينزعان إلى الأناقة المفرطة، ولا ينقلان نَفَس الفلورنسي كما هو. ومع ذلك، ورغم كل النقص، تعكس هذه المحاولات مؤشرات طيبة. ومن يقارن ترجمة أرتو دي مونتور الهزيلة بأسلوب مسّنار البسيط سيلاحظ التقدم الذي أحرزه الذوق العام، حتى وإن تمنى لو أن القاضي المجتهد أبدى مزيدًا من الجرأة والقوة. مرة أخرى، هذه الترجمات لا تنفي حكمي السابق: لقد تميزت فرنسا في هذه الساحة بفضل حسها الفني وولعها بالجمال الشعري. وألمانيا تألقت، بدورها، بما تملكه من خصائص: لقد أعادت بناء منظومة دانتي، واستعادت وحدة هذه الروح العظيمة. وإذا كان دانتي قد أصبح اليوم مفهومًا حقًا، فالفضل يعود إليها. وإن كانت ترجمات شتريكفوس وكانغيسر في مطلع هذا القرن، ومؤخرًا ترجمات أوغست كوبّيش وملك ساكسونيا، لا تخلو من مآخذ، فإن أبحاث المؤرخين واكتشافات كارل ويت وفرانز فيغيلي وإميل روث، والدراسات المتأنية للملك يوهان، تمثل بحق مكاسب علمية عظيمة.
أما الأدب البريطاني، فقد تميز في هذا المجال لا بالأبحاث بل بترجمات من الطراز الأول. فالسيد سيمبسون عالم محترم، وبارلو درس نص دانتي بدقة الإيطالي وضمير الألماني، لكن كيف يمكن مقارنة جهودهما المحدودة بترجمة الكوميديا الإلهية لهنري كاري، أو أعمال توماس كارلايل وكايلي؟ لقد كرّست ترجمة كاري شهرتها بالنجاح، أما ترجمة كارلايل فتُظهر شعورًا نادرًا بروح دانتي. وليس عمل كايلي بأقل شأنًا. فهذا التاجر، الذي أبعدته أعماله إلى ميناء في روسيا الشمالية، اتخذ من دانتي رفيقًا في وحدته، يلتمس في صداقته الشمس وسط الثلوج والضباب. لقد ألهمه هذا الحب الصادق، واستغلّ ما في اللغة الإنجليزية من دقة وقوة لتأدية روح الشاعر الكبير. وقد سبق لي أن أشرتُ إلى كتاب توماس كارلايل «حول الأبطال»، وما يتضمنه من صفحات رائعة عن أليغييري. أما إيمرسون، ففي كتابه «الرجال الممثلون»، لم يفرد مكانًا لدانتي، رغم كثرة استشهاداته به وتقديره له. ففيما يخص الشخصيات التي تناولها، لم يأتِ من العصور الوسطى إلا بأفلاطون، بينما استقى الباقي من العصر الحديث. غير أن صاحب *«عبادة البطل» كان أكثر إنصافًا، إذ جاءت لوحته أشمل، فوقف الشاعر الكاثوليكي جنبًا إلى جنب مع لوثر وشكسبير.
وإذا كانت ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا تحافظ على تفوقها الأدبي في هذا الميدان، فهناك دول أخرى لا يجوز تجاهلها. ولا أتحدث هنا عن إسبانيا، فقد عرف دانتي طريقه إليها مبكرًا، غير أن محاكم التفتيش، أشد صرامة من الكنيسة الرومانية، سارعت إلى حظر أعمال شاعر فلورنسا، ولم ترفع هذا الحظر حتى مع بروز الفضول والانفتاح في أيامنا هذه. كان على إسبانيا أن تعيد إحياء أدبها الوطني، من «نشيد السيد» إلى مسرحيات كالديرون، قبل أن تلتفت إلى دانتي. ومع ذلك، وقع ما لم يكن متوقعًا: فقد قدمت الآداب الاسكندنافية، بل وروسيا نفسها، أعمالًا تستحق التقدير حول دانتي.
لدينا ترجمة دنماركية للجحيم على يد مولبيك (كوبنهاغن ١٨٥١)، قيل لي إنها توظف التيرتسا ريما بحرفية مدهشة وتتغلب على كثير من الصعوبات. وهناك «دراسات إيطالية» (أوبسالا ١٨٥٣) للكاتب السويدي ويلهلم بوتيغر، الذي ركز على أصول الشعر الإيطالي وأرفق بكتابه ترجمة سويدية لعشرة أناشيد من الكوميديا الإلهية. وفي روسيا، برز عمل يفوق ذلك أهمية؛ ففي عام 1843، نشر فاندينيا بسانت بطرسبرغ ترجمة نثرية لثلاثة وثلاثين نشيدًا من الجحيم، ثم طمح ديمتري مين إلى إعادة صياغتها شعرًا، فحاز عمله تقدير النقاد الشماليين، لا سيما دراساته المصاحبة التي استفادت بعمق من أبحاث الألمان: فيغيلي، ويت، روث، والملك يوهان، وأضاف إليها رؤى خاصة به. ولا بد من الإشارة أخيرًا إلى ترجمة أول عشرة أناشيد من الجحيم على يد بارسونز في بوسطن عام ١٨٤٣. إن الدول الاسكندنافية وروسيا وأمريكا تقف اليوم حيث كانوا الآخرين قبل نصف قرن: يقرأون الجحيم وحده. فدانتي ليس من أولئك الشعراء الذين يدركهم المرء من القراءة الأولى. والمؤرخ شلوسر قرأ الكوميديا الإلهية تسع مرات قبل أن يجد فيها لذة حقيقية، أما اليوم فيقرؤها بحماسة كأنها كتاب أخلاقي، ويشرح الفردوس في رسائل رقيقة لأحد أصدقائه. تلك الإرادة الصبورة هي ما يلزم لاختراق أسرار هذا المعين. وقد بدأت هذه المسيرة في أمريكا وروسيا والدول الاسكندنافية، وستُنجز، وستتم لدانتي فتوحاته الكبرى.
لم تكن الثقافة العربية بمنأى عن أثر دانتي أليغييري ونتاجه الشعري، وإن لم تبلُغ في هذا الميدان ما بلغته ثقافات أوروبا الحديثة من عناية وتحليل. وقد تأخّر ظهور دانتي في الوعي العربي الثقافي حتى القرن العشرين، حيث بدأت ترجماته ودراساته تأخذ مكانها شيئًا فشيئًا في الساحة الأدبية والفكرية. ولعل أبرز إسهام عربي في نقل «الكوميديا الإلهية» إلى العربية هو الترجمة التي أنجزها الدكتور حسن عثمان، والتي ظهرت تباعًا بين عامي ١٩٥٧ و١٩٦٣ في القاهرة، وهي أول ترجمة عربية كاملة لهذا العمل الخالد. امتازت هذه الترجمة بكونها دقيقة وواضحة، مع حرص على إيصال المعاني بعبارة عربية رصينة، وإن كانت قد اكتفت بالنثر ولم تحاول مجاراة الوزن الشعري الأصلي الذي نظمه دانتي بالتيرتسا ريما. وقبل هذه الترجمة، لم يعرف العالم العربي سوى مختارات محدودة من «الجحيم»، أقدم عليها بعض المستشرقين أو المهتمين بالأدب المقارن. أما من حيث الدراسات، فقد تناول عدد من أعلام الفكر والأدب العرب دانتي في سياقات مختلفة. فقد أشار إليه طه حسين في بعض مقالاته حول الأدب الأوروبي، واستعرض جوانب من رؤيته الشعرية وموقفه من عصره. كما وقف عنده بعض الباحثين المحدثين مثل حسين مروة والطيب تيزيني، متأملين في الأبعاد الفكرية والرمزية في شعره. ورغم ذلك، لم يتشكل حول دانتي في العالم العربي تيار نقدي واسع كالذي نشأ في فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا.
غير أن الحضور العربي في عالم دانتي لم يقتصر على الترجمة والدراسة، بل ارتبط أيضًا بجدل علمي وفكري شهير تناول العلاقة بين «الكوميديا الإلهية» و«رسالة الغفران» لأبي العلاء المعرّي. هذا الجدل أطلق شرارته المستشرق الإسباني ميغيل آسين بلاثيوس عام ١٩١٩، حين نشر دراسته التي حملت عنوان «الإسكاتولوجيا الإسلامية في الكوميديا الإلهية»، وزعم فيها أن دانتي قد استلهم في بناء ملحمته الأخروية بعض عناصرها من عمل المعري، خاصة في تصوير رحلة الروح إلى العالم الآخر. وقد لقيت هذه الفرضية صدى واسعًا في الأوساط العربية، فوجدت من يؤيدها مثل حسين مؤنس والطيب تيزيني، ومن يتحفظ عليها أو يرفضها، معتبرًا إياها ضربًا من المبالغة في التأويل. ولا شك أن هذا النقاش، مهما تكن المواقف منه، يعكس شعورًا عربيًا بالصلة الممكنة ـ وإن من طرف بعيد ـ بين التراث العربي وتراث الإنسانية الكبرى، وهو ما يشير إلى رغبة عربية في استعادة الدور الثقافي والفكري في الساحة العالمية. وهكذا، لم يكن العرب بمنأى عن تأثير دانتي، وإن تأخر تفاعلهم معه، ولم تكن علاقتهم به علاقة دراسة فحسب، بل علاقة جدل حضاري وثقافي حول منابع الإبداع الإنساني ومصادره. ولا تزال الحاجة ماسة إلى مزيد من الدراسات الجادة التي تستكشف أثر دانتي في الثقافة العالمية، وتضع العلاقة العربية به في سياقها النقدي الموضوعي.
إن هذا الإقبال العالمي على دراسة الكوميديا الإلهية علامة نرحب بها بكل سرور. وقد يبدو لأول وهلة أن عملًا كهذا لا يمكن أن يثير اليوم سوى اهتمام الباحثين، بعدما انقرضت كوسمولوجيته وتلاشت نجومه الصوفية أمام علم نيوتن. وهو مشبوه لدى الكاثوليك الحذرين، لأن الكنيسة قد قدست بابا كان دانتي قد ألقاه في الجحيم، كما أنه مشبوه لدى الأذهان الحرة بسبب نظريته في السلطة الإمبراطورية. فما اللغة المشتركة التي يمكن أن نتحدثها معه؟ وأين صلتنا به؟ خطأ جسيم! فوسط ركام الرموز المرفوضة وأوهام عصره، تكمن هناك شعلة خالدة: شغف بالعدالة. لقد أمعن الباحثون في درس دانتي تاريخيًا وفنيًا، وبقي أن يُسأل باسم الأخلاق الحيّة. ألا ترى أنه يلتقي في هذا مع باسكال؟ ما دامت البشرية قائمة، ستظل «خواطر باسكال»، ولا سيما نظريته في المراتب الثلاث، غذاء الأرواح السامية. وما دامت قوانين العدالة العليا غير مطبقة على الأرض، ستظل الكوميديا الإلهية تمنح المعذَّبين في الحياة عزاءً ساميًا.
وأنا، في هذا العصر، أفهم جيدًا لماذا قد يصبح دانتي شاعر القرن الواحد والعشرين. فقد كان وحيدًا وسط النزاعات التي مزقت وطنه، أرقى من صراعات زمانه، لا يرى حوله سوى الغدر والطمع والضعف والتملق—أي كل أشكال المصلحة—فهرب إلى المدينة المثالية التي شيدتها عبقريته. ونحن أيضًا نشعر بالغربة في هذا العالم، ونرى فوق الأحزاب الفاسدة الأخلاق الأبدية التي تمنحنا ملاذًا. هناك يكمن أمل المستقبل؛ هناك يجب أن نخلع الإنسان العتيق لنخلق الإنسان الجديد. ودانتي، رغم نشوته، كان عقلًا عمليًا؛ لم يفصل قط بين الحياة العملية والتأمل؛ لم ينقطع عن الأرض والواقع. فلنكن مثله. لنكن حزبنا بأنفسنا، ولنعيد في صمت تكوين الصفوة النبيلة التي تحتاجها الإنسانية. ليكن لنا جحيمنا وفردوسنا في أعماقنا، ونعاقب الناس ونكافئهم في محكمة ضميرنا السري. لنتعلم كيف نحب، وإذا اقتضى الأمر، كيف نكره. لنحب الخير، ولنكره الشر. لنبقِ حيّة فينا هذه القوة الروحية، هذا الشغف بالخير، هذا الظمأ إلى العدالة، التي تظل عبر القرون السمة المميزة للغيبيليني العظيم. إن هذا هو خير وسيلة للاستجابة لما كتب على ضريح سانتا كروتشي: «أكرموا الشاعر العظيم».