صهٍ يا كلام، فقد قالَ اللحمُ كلمته
في عام ١٩٦٨، نال الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا جائزة نوبل في الأدب. ولم يكن هذا التتويج باعثًا على الدهشة في أوساط القرّاء اليابانيين، إذ كانوا على دراية تامة بأسلوب كاواباتا المرهف والمشحون بالأسى، منذ زمن بعيد. غير أنّ كثيرين أبدوا اندهاشهم من كون الجائزة لم تُمنح لليوكيو ميشيما، ومن بين أولئك المتفاجئين كان كاواباتا نفسه، إذ يُروى أنّه قال عن زميله الأصغر:
يمتلك ميشيما موهبة خارقة، وهي ليست موهبةً يابانية فحسب، بل موهبة من الطراز العالمي. إنّه من طينة العباقرة الذين لا يُولدون إلا مرة كل ثلاثمئة عام... قبل أن أُمنح جائزة نوبل كنت أتنبأ بأنّها ستؤول إلى ميشيما. فحين يتعلّق الأمر بالموهبة، فإنّ ميشيما يفوقني بدرجات كثيرة.
ولا يسع القارئ، إذن، إلا أن يتساءل عن هذا «الآية الأدبية»، الذي اعتبره الحائز على جائزة نوبل ذا موهبة تفوق موهبته بكثير. فميشيما، وإن كان لا يُقارن بكاواباتا من حيث الأسلوب، فإنه يُعدّ دون شك أحد أعظم كتّاب اليابان على مرّ العصور. وعلى الرغم من أنّه لم يُكرَّم بأبرز الجوائز الأدبية، فقد كان ولا يزال من أكثر الكُتّاب اليابانيين شهرة وانتشارًا، سواء في الترجمة أو القراءة على مستوى العالم.
وُلد يوكيو ميشيما باسم كيميتاكي هيراوكا، وكان من أكثر الأدباء اليابانيين المعاصرين إنتاجًا، إذ خلّف وراءه رصيدًا متنوّعًا من الأعمال، تضمّن الرواية والقصة القصيرة والمقالة والشعر والمسرح. وقد بدأ صيته يذيع في اليابان بعد صدور روايته الأولى «اعترافات قناع» عام ١٩٤٩، وهي رواية تستعرض، بدقّة متناهية، الصراعات التي تعصف بشاب يواجه بدايات اكتشافه لميوله الجنسية الملتبسة. وقد أثار هذا الموضوع الحساس اهتمامًا إعلاميًا بالغًا، جعل من ميشيما كاتبًا لا يتوانى عن اقتحام الممنوعات والخوض في المحظورات. ولم يتردد في وصف هذه الرواية بـ«سيرته الذاتية الأولى»، في ما يمكن اعتباره استفزازًا إضافيًا. ولاشكّ في أنّ البعد السيري أو الطابع الذاتي عُدَّ عنصرًا محوريًّا في أدب ميشيما. وربما تعزّز هذا التفسير بسبب الحياة المثيرة للجدل التي عاشها الكاتب، إذ كانت حياته حافلة بالأصوات المتضاربة بين استنكار علني لسلوكياته ومواقفه، وإشادة نقدية بإنتاجه الأدبي. ومع ذلك، ظلّ ميشيما يجوب بحريّة المساحة الملتبسة بين الواقع والوهم. وليس من السهل البتّ في مدى واقعية أو تخييلية الأعمال التي يطلق عليها اسم «السيرة الذاتية»، ولذا ينبغي إعادة طرح سؤال «صدق» النصوص السيرذاتية من زاوية أخرى: لا من حيث مطابقتها لوقائع حياة الكاتب، بل من خلال التقاء نية الكاتب بتأويل القارئ لها. ومن ثمّ، فإنّ ما يستحق الوقوف عنده في حالة ميشيما ليس التماس التشابه بين حياته وأدبه، بل تأمل الواقع الذي تبنيه تلك النصوص وتمنحه روحًا.
وبحلول عام ١٩٥٥، كانت شهرة ميشيما في اليابان قد ترسّخت، وقد صدرت آنذاك عدة روايات أسهمت في توسيع شهرته عالميًا في السنوات اللاحقة، مثل: اعترافات قناع، عطش الحب (١٩٥٠)، ألوان محرّمة (١٩٥٣)، وهدير الأمواج (١٩٥٤). وكان في ذلك الوقت يعكف على كتابة ما سيُعتبر لاحقًا رائعته الكبرى «المعبد الذهبي» (١٩٥٦). غير أنّ ذلك العام شهد أيضًا بداية تحوّل حاسم في حياته؛ ففي عام ١٩٥٥ بدأ ميشيما في ممارسة رياضة كمال الأجسام، ساعيًا إلى تقوية بدنه الضعيف آنذاك. وقد رافق هذا التغيير الجسدي إنتاج عدد من الأعمال التي تناولت، بشكل مباشر أو غير مباشر، مسألة الجسد، الذي غالبًا ما يُصوّر في كتاباته على أنه قوي وجميل. ظلّ ميشيما وفيًّا لهذا الشغف بالجسد والتدرّب البدني حتى يوم وفاته، التي وقعت بعد خمسة عشر عامًا. وجدير بالذكر أنّ موته الدرامي عبر طقس «السيبوكو» (الانتحار الطقسي بالسيف) داخل مقرّ القيادة العامة للجيش الياباني، لا يزال حتى يومنا هذا من أكثر المحطات إثارة في سيرة هذا الكاتب الفذّ.
باختصار، ما كنت أبحث عنه هو لغة الجسد.
الشمس والفولاذ.
في نوفمبر من عام ١٩٧٠، وقبل انتحاره المدوي بأسابيع قليلة، أُقيم في طوكيو معرض بعنوان بسيط: «يوكيو ميشيما». تألف هذا المعرض من سلسلة من الصور الفوتوغرافية التي توثق حياة الكاتب، وقد ظهرت في العديد منها هيئته الجسدية مفتولة العضلات، عاريًا جزئيًا، في أوضاع توحي بإيحاءات جنسية واضحة. قسم ميشيما المعرض إلى أربعة أقسام، حمل كل منها اسم نهر يصبّ، كما وصف، في ما دعاه بـ«بحر الخصوبة». هذه الأنهار الأربعة كانت: نهر الكتابة، ونهر المسرح، ونهر الجسد، ونهر الفعل. وقد اعتبر ميشيما هذه العناصر الأربعة المفاتيح التي ينبغي من خلالها فهم حياته وأدبه، وهي مفاتيح زاخرة بالمعنى والدلالة، حتى أنها تكاد تصبح بوصلة لا غنى عنها لكل تأمل في سيرته أو إرثه الإبداعي. وفي كُتيّب المعرض، شدّد ميشيما على أن نهر الجسد هو الذي يُتيح وجود نهر الفعل، وأن هذين النهرين يندمجان في مجرى واحد، ينساب بعيدًا عن مياه نهر الكتابة. وبالطبع، لم يكن ميشيما أول من أشار إلى هذه الثنائية بين الأدب والفعل، تلك الثنائية التي تستدعي التقابل الأزلـي بين الفكر والجسد، بين العقل والمادة. إلا أن اهتمام ميشيما ينصبّ في الأساس على الهوّة الفاصلة بين الفعل (المتحقق عبر الجسد) وبين الكتابة (المتحققة عبر اللغة)، وهو يُصرّ على إبراز هذا التوتر بينهما، حيث تتعايش هاتان القوتان في آنٍ واحد، رغم ما بينهما من تعارض جوهري. ويبدو أن ميشيما قد منح الفعل والجسد منزلة أعلى من منزلة الكلمة والكتابة. فالجسد المثالي، كما يراه، هو التجلي الوحيد لـ«الواقع»، ولا يمكن له أن يوجد إلا في فضاء تُقصى فيه الكلمات وتُستبعد تمامًا. أما الكلمات، وإن كانت تسعى لمحاكاة جمال الواقع (وبالتالي جمال الجسد)، فإنها تبقى عاجزة عن بلوغ مرتبة الجسد نفسه. وهذه الفجوة غير القابلة للردم ظلت حاضرة في حياة ميشيما حتى نهايتها. ففي مقالته«"الشمس والفولاذ»، أقرّ ميشيما بأنّه، بمرور الوقت، بات أقرب إلى عالم الفعل، وازداد ازدراؤه للكلمات ومجالها. وأكّد أنه كلما انغمس في مياه نهر الفعل، ازداد اشمئزازه من اللغة، كما لو أن سعيه وراء جسد مثالي (ووجود مثالي، كما يقول) قد حرره من لعنة الكلمات التي لا تنفكّ تفسد كل شيء.
لكن، لا ينبغي أن نقع بسذاجة في فخ
الكلمات التي ينصبّها ميشيما بهذا التصريح؛ فرغم وفائه للتدريب الجسدي وتكريسه له،
لم تتراجع كتاباته أو تقلّ غزارتها. لم يستبدل ميشيما الكلمات بالجسد؛ بل، على
العكس، أنشأ هدفًا جديدًا، مستحيلًا: أن يجد كتابة غير مُفسدة بالكلمات، أدبًا
بالفعل، لا تدنّسه الكلمة. وهذا، في نظره، لا يمكن أن يتحقق إلا عبر فعل. وماهية
هذا الفعل، ومعناه الحقيقي ضمن نظريته عن الجسد، هو ما سنتناوله لاحقًا. من أجل الغوص في مقاربة ميشيما لمسألة الجسد والفعل، سنتبع مسارًا من
ثلاثة حركات متتالية. الحركة الأولى تصوّر تحوّل الطفل العليل إلى
كاتب يتنفس بين أحرف اللغة. في هذا الطور الأول، يُخلق شخص جديد: هيراوكا يتخلّى
عن اسمه الأصلي، ويتّخذ اسم «ميشيما» شخصية بديلة، قناعًا لا ينزعه حتى وفاته،
شخصية مهمتها الأساسية هي ترويض اللغة، وتحويل صحراء الكلمات الموحشة إلى موطنٍ
شعري مأهول. الحركة الثانية تأخذ «ميشيما» (الشخصية والكاتب)
في رحلة بحث عمّا يتجاوز اللغة: لغة جسدية مثالية لا يمكن بلوغها إلا بالتحرر من
فخّ الكلمات والانطلاق على درب الفعل. وقد قال:
بما أنّ وجودي الجسدي الشاذ كان، بلا شك، ثمرة التآكل العقلي الذي أحدثته الكلمات، فإنّ الجسد المثالي، والوجود المثالي، لا بدّ أن يكون بمنأى كامل عن أي تدخل لغوي.
ومن الواضح أن هذه المرحلة تنقل التركيز من اللغة إلى الجسد. رغم تعارض هاتين الحركتين، فإنّ ميشيما قدّمهما على أنهما متزامنتان. فإدراكه لقوة الكلمات المفسِدة أنتج في نفسه نزعتين متناقضتين:
إحداهما هي الاستمرار في التزامي بوظيفة الكلمات المُفسدة، وجعلها مهنتي؛ والأخرى هي الرغبة في العثور على الواقع ضمن حقل لا تشارك فيه الكلمات بأي شكل.
لكن هذه الحركة الثانية تنتهي إلى طريق مسدود؛ إذ وجد ميشيما نفسه أسير التناقض بين عالمين لا يمكن التوفيق بينهما: عالم اللغة وعالم الجسد. ومن رحم هذا التناقض نشأت الحركة الثالثة، وهي الفصل الحاسم في حياته: للتغلّب على هذا الصراع، اختار ميشيما أن يجعل من جسده أداةً لفعلٍ أخير، يُختَتم بالموت بيده هو، لا بيد غيره. وقبل أن نخوض في تفصيل هذه الحركات الثلاث، لا بدّ لنا من إلقاء نظرة على العلاقة بين اللغة والجسد من منظور التحليل النفسي. في «الشمس والفولاذ»، يطرح ميشيما إشكالية الجسد بوصفه نقيضًا للغة. في مستهل هذا المقال، نجده يكتب:
عندما أمعن النظر في طفولتي المبكرة، أُدرك أن ذاكرة الكلمات تعود إلى زمن أبعد بكثير من ذاكرة الجسد. أظن أن معظم الناس يعيشون أولًا في لحمهم، ثم تأتي الكلمات. أما أنا، فقد كانت الكلمة أول ما وجد، ولم يأتِ الجسد إلا بعد حين، وبطريقة مترددة تمامًا، بل إنه حينذاك لم يأتِ إلا في هيئة تصوّر ذهني. ولا حاجة للقول إن ذلك الجسد، آنذاك، كان قد نُخِر بالفعل بفعل الكلمات.
يُثير هذا المقطع الانتباه على مستويين على الأقل. أولًا، في قوله إن الجسد ليس شيئًا يولد المرء به، ولا كيانًا بديهيًا، بل إنه بُنية مكتسبة، نتاج وليس معطى. وثانيًا، نجد أن مفهوم ميشيما للجسد، على الأقل فيما يخص جسده هو، يبدو مشروطًا ومقولبًا مسبقًا بلغة سابقة عليه. هاتان السمتان اللتان يشير إليهما ميشيما على أنهما خاصّتان بتجربته الذاتية، تُذكّران مباشرة بمفهوم «المرحلة المرآوية» لدى جاك لاكان، والتي يرى فيها أن الجسد لا يتشكل إلا من خلال صورة مُسبقة عنه، محكومة باللغة ومشروطة بها. في ضوء هذا المفهوم، لا يمكننا اعتبار الجسد ملكية فطرية أو هوية بديهية؛ بل هو اقتناء لاحق، حاصل بعد المرور عبر بنى خارجة عن الذات. إن الذات، في هذا السياق، تملك جسدًا لكنها لا تكونه. ووفقًا لـ«بومييه»: «لا يمكننا سوى أن نمتلك جسدًا، لأن هذا الجسد كان في المقام الأول موضوعًا للّذة الأمومية. لقد كان جسدنا، في بداية تكوّنه، مثار رغبة الآخر (الأم)، ومن ثم فهو ليس نحن، بل نمتلكه، نسكن هذه البنية العضوية التي كانت في الأصل غريبة عنا، وما تزال حتى اليوم ملاذًا تعلمنا التأقلم معه، هيئة نستطيع التأكد من حدودها فقط عبر نظرة الآخر أو انعكاس المرآة».
الجسد، إذن، هو بناء تحكمه بنية سابقة عليه، وهو ملكية لا هوية. وإذا سلّمنا بأن الجسد ليس معطًى أوليًا من مقوّمات الذات، بل حصيلة سيرورة مكتسبة، فلابد أن نتساءل: كيف نكتسب هذا الجسد؟ ما هي الوسائل التي نصل من خلالها إلى امتلاكنا له؟ في «الشمس والفولاذ»، لا يتوقف ميشيما عن تصوير الجسد على أنه تجسيد للواقع، وكأن الجسد عنده هو الشكل النهائي للطبيعة المتجسدة. وهذه الفكرة في ذاتها شديدة الوضوح، لكنها تفتح فورًا سؤالًا أعقد: ما هو الواقع؟ وكيف يتكوّن؟ وفقًا للاكان، الواقع لا يمكن اختزاله في كونه نقيضًا لـ«الواقع الحقيقي (le Réel)»، بل هو تركيب معقّد من ثلاثة أنساق: الواقعي، الرمزي، والمتخيَّل. فكيف تتشكل هذه «الواقعية الجسدية» التي يتحدث عنها ميشيما إذن؟
شدّد لاكان على التمييز الجوهري بين الكائن العضوي (organisme) والجسد (corps): لكي يتحول الكائن إلى «جسد»، لا بد من وسيط أولي هو الصورة. لكن المبالغة في التركيز على الصورة وحدها قد تؤدي إلى تجاهل الدور المركزي للرمزي (اللغة، المعنى). فالصورة، وإن كانت ضرورية، لا تكفي بمفردها. الطفل الإنساني، الذي يُولد «ناقص التكوين» مقارنة بسائر الحيوانات، يدخل في مرحلة تنتهي بظهور منتَج مركّب: «الأنا» – و«الجسد» كتمثيل مرئي لها. لنتذكر هنا السياق النظري لما يُعرف بـ«المرحلة المرآوية»: عندما يوضع الطفل، بعمر يقارب ستة أشهر، أمام مرآة، يبدو كأنه يتعرف على صورته. لكن هذا «الاعتراف» لا يجب أن يُفهم باعتباره وعيًا مباشرًا، بل هو تَمثُّل، أي عملية تقمص هوية مرئية. «التحوّل الذي يحدث في الذات عندما تتبنّى صورةً». وما يثير الدهشة في هذه اللحظة هو أنها تحدث رغم افتقار الطفل إلى الاكتمال العضوي. الوظيفة التي تلعبها الصورة في هذه المرحلة، كما أوضح لاكان، «هي حالة خاصة من وظيفة الصورة (الإيماجو)، والتي تهدف إلى إقامة علاقة بين الكائن العضوي وواقعه». بمعنى آخر، الصورة هي ما يمنح الكائن غير المكتمل شعورًا بالوحدة والتماسك، وذلك عبر ربطه بمنظومة من الصور السابقة والمحيطة التي تحدد هويته. ومع أن تحليل لاكان للمرحلة المرآوية غالبًا ما يُقسَّم إلى فترتين – إحداهما تغلب عليها الخيالية (l’imaginaire)، وأخرى لاحقة تهيمن عليها الرمزية (le symbolique) - فإن لاكان نفسه أكد بأنه لم يتبنى في أي لحظة هذا الفصل الثنائي في تعليمه. إذ أن العنصر الرمزي، أي اللغة والمعنى والقانون، لا يحدد فقط هذا المشهد التأسيسي، بل يسبقه.
من العوامل المهمة في لحظة مواجهة الطفل لصورته في المرآة، وجود شخص بالغ بجانبه، غالبًا ما تكون الأم. الطفل، حين ينظر إلى صورته، يوجه نظره أيضًا إلى هذا البالغ، وكأنه يطلب منه تأكيدًا، اعترافًا. هذه النظرة لا تتجه فقط إلى الأم، بل إلى «الآخر الكبير (le Grand Autre)» الذي تمثله، ذاك الذي يمثل سلطة المعنى، ولغة القانون، ومصدر التسمية. إذن، عملية التماهي المرآوية ليست مجرد تعرف على صورة، بل هي ترجمة تخييلية لأمر رمزي مصدره الآخر. وهنا نعود إلى ميشيما، يبدو واضحًا أن تصور ميشيما للّغة على أنها عنصر سابق ومفسِد للجسد، يتقاطع مباشرة مع تصور لاكان عن الجسد بوصفه نتاجًا للغة والصورة، محكومًا بالرمزي منذ البداية. فـ«جسد» ميشيما، الذي سبقه الخطاب وأفسده، ليس إلا ما تبقّى من مواجهة بين الصورة والرمز، بين ما يُتوهَّم أن يكون هو، وما يُفرض عليه أن يكون. ومع ذلك، ثمة بعد أخير لا يمكن إغفاله: في كل صورة، مهما كانت مكتملة، هناك فائض، بقايا، نقص؛ بمعنى أن كل علاقة تخييلية بالجسد تحدّدها حدودٌ غير قابلة للتجاوز - حدّ لا تُتمّ معه أبدًا الوحدة الموعودة، ولا تتحقق فيه الهوية الكاملة. هذا «الباقي» هو ما يرسم هشاشة كل صورة، وكل جسد، وكل واقع متخيل.
إن الصورة الجسدية التي تتأسس عليها عملية التماهي لا تتطابق مع الكائن العضوي إلا جزئيًا، إذ أنها، بحكم طابعها الخارجي البنيوي، لا يمكنها أن تكون انعكاسًا صادقًا للجسد. ثمة دائمًا شيءٌ في الجسد لا يمكن للصورة ولا للغة أن تلتقطه، شيء يتملّص من التمثيل. هذا الفائض الذي يفلت من القبض عليه هو ما ينتمي إلى حيّز «الواقع» في تنظير لاكان. إنه الأثر الذي لا يُختزل، والذي لا يذوب لا في التمثيل الرمزي ولا في الانعكاس الخيالي. هذا الواقع، أو ما يسميه لاكان «الواقع الحقيقي» (le réel)، لا يُعرّف بما هو موجود، بل بما لا يمكن تمثيله، بما يقاوم الإدراك والتصوّر، ويبقى مع ذلك حاضرًا في جسد المتكلم كأثر للذة الفائضة، وكبقايا تَظهر عبر العرض أو العارض (le symptôme). هذا «الواقع» لا ينطق بصوت ذات المتكلم، بل يتكلم من خلالها دون أن يكون صوتها بالكامل. لا يمكن الإمساك بجوهر هذا الواقع بسهولة، لكننا نستطيع تبينه من خلال أشكال ظهوره، لا سيما من خلال ظاهرة التكرار كما حددها لاكان. ففي «الندوة ١١»، يشير لاكان إلى أن «التكرار يظهر أولاً في شكل غير واضح، غير بيّن، لا كتكرار مباشر ولا كحضور فعلي، ولهذا السبب وضعتُ كلمة 'الفعل' مع علامة استفهام كبيرة في أسفل السبورة، للدلالة على أن العلاقة بين التكرار والواقع تجعل من الفعل أفقًا لا بد من أخذه بالحسبان». التكرار، بهذا المعنى، ليس استعادة واعية، بل هو دوران حول ما لا يمكن قوله – ما لا يكفّ عن التكرار لأنه لا يُقال. وقد أوضح فرويد أن التكرار يظهر حين يعجز الفرد عن استدعاء الحدث المكبوت بوصفه ذكرى؛ أي حين يصطدم بما لا يمكن تذكره – بالجرح الذي ينتمي إلى «الواقع». عند هذه النقطة، يتوقف الاستذكار ويبدأ التكرار في شكل فعلٍ لا واعٍ. وهكذا، بدل أن يتذكر المحلَّل ما نُسي وقُمِع، فإنه يعيده من حيث لا يدري، لا كتذكر بل كفعل. هذا «الفعل المتكرر»، غير المبرر على السطح، هو ظهور الواقع في الزمن الحاضر. بهذا المعنى، فإن التكرار بوصفه شكلًا من أشكال عودة الواقع، والمتصل جوهريًا بالفعل، يفتح أمامنا مسارًا إضافيًا لفهم بناء ميشيما النظري حول الجسد.
«لماذا لا يُعدّ الفعل سلوكًا؟ لنثبت نظرنا، مثلًا، على ذلك الفعل الخالي من أي التباس، فعل شقّ البطن في ظروف معينة - لا تقولوا هارا كيري، الاسم هو سيبوكو. لماذا يفعلون شيئًا كهذا؟ لأنهم يعتقدون أن في ذلك إزعاجًا للآخرين، لأنه، من حيث البنية، فعل يُنجز تكريمًا لشيء ما. تمهّلوا، لا تتعجلوا قبل أن تفهموا، ولاحظوا أن الفعل، الفعل الحقيقي، يتضمن دومًا جزءًا من البنية، لأنه يتعلّق بواقعٍ لا يُمنح هكذا سلفًا». جاك لاكان، المفاهيم الأربعة الأساسية للتحليل النفسي.
لقد رأينا كيف أن الصورة واللغة تنشئان جسدًا لا يختلف كثيرًا عن كونه بناءً خياليًا، هو في الآن نفسه أساس الذات؛ كما رأينا أن ثمة فُضلة مستعصية على التمثل، ولكنها مع ذلك بنيوية، تعاود الظهور - على سبيل المثال - من خلال أفعال التكرار. ويبقى علينا الآن أن نتفحص كيف تكتسب هذه العناصر وعملياتها طابعًا خاصًا في حالة ميشيما. بالنسبة لميشيما، فإن «جسده الأول» كان ضعيفًا، مريضًا، ومخترقًا إلى حد بعيد من قِبل الكلمات. ولكي يجعله موجودًا بالفعل، كان لا بد من الفصل بين بُعدَي الجسد والكلمة. هكذا، يقرر ميشيما أن يهرب من هذا السجن عبر مسارين، يقابلان أول حركتين تحدثنا عنهما سابقًا.
من جهة، يتبنّى ميشيما شيفرة الآخر، ويجعل من الكتابة عمله. ويمكن النظر إلى هذا الأمر، بوجه عام، باعتباره الجهد الذي ينهض به كل كاتب بملء إرادته، وإن لم يكن ذلك خاليًا من المعاناة. على صعيد اللغة، تتحول الكلمات - التي يجب أن تكتسب طابعًا كونيًا لتكون وسيلة تواصل - إلى كيان فردي صرف بفعل تدخل الكاتب. فبحسب ميشيما، الكاتب يستولي على الكلمات ويستخدمها لأهدافه الخاصة، يحرّفها، ويجد في هذا الانحراف أسلوبه الخاص. «حين يبدأ الاستخدام الخاص، وتخصيص الكلمات، وحين يبدأ الناس باستخدامها - ولو بشكل طفيف - على نحو اعتباطي، تبدأ الكلمات بالتحول إلى فنّ». ومن ثمّ، فإن الكتابة تمثّل بالنسبة لميشيما أداةً للتأريخ، ولتحققه كذات؛ بوصفه مؤلفًا، يخصخص اللغة ويجعلها ملكه، ويُنشئ مسرحًا يصبح فيه جسد النصوص هو جسده أيضًا. ومع ذلك، فإن الكلمات - بحسب ميشيما نفسه - تفشل في التحول إلى «لغة حقيقية»، أي إلى لغة قادرة على الإمساك بجوهر الذات.
هذا ما يفتح الطريق أمام الحركة الثانية. في هذه المرحلة، يقرر ميشيما أن يصوغ جسدًا جديدًا، مثاليًا، انطلاقًا من الجسد القديم، المرفوض. يتبنّى ميشيما تصورًا كلاسيكيًا للجمال الجسدي ويُلزم نفسه بالتماهي معه. «وهكذا، كانت العضلات التي صنعتها، في آنٍ واحد، وجودًا خالصًا وأعمالًا فنية. بل إن لها، بصورة مفارِقة، طبيعةً تجريدية إلى حدٍّ ما [...] وظيفتها كانت على الضد تمامًا من وظيفة الكلمات». هذه المقاربة نحو المثال (التي يجب فهمها كاقتراب لا نهائي asymptotique، إذ إن المثال لا يُمكن بلوغه بالكامل) تنتهي بأن تجعل جسد ميشيما كيانًا تجريديًا، منزوع الخصوصية، ومن ثمّ يصبح عملًا فنيًا كونيًا، نوعًا آخر من الأداء الأدائي، لا يختلف كثيرًا عن الخيال الذي تُنتجه الكلمات. ومع أن هذه الحركة تتطابق مع ما يسميه ميشيما «الفعل»، فإنها لا تؤدي إلا إلى نفس عجز اللغة. أي أن محاولة ميشيما في إيجاد «لغة للجسد»، في أن يجعل الجسد يحتل مكان الكلمة، تنتهي إلى الفشل، ويبقى الرابط الممكن بين هذين الحقلين غير قابل للتحقق. وهكذا، تبدو التحولات التي تطرأ على اللغة كما على الجسد هي الإمكانية الوحيدة لربط الفن بالحياة. غير أن ميشيما يكتشف أن كلما حاول عزل هذين البعدين والعمل على كل منهما منفردًا، اتسعت الهوة بينهما أكثر فأكثر. وعليه، فإن الالتقاء بينهما لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال القبول بتضادهما. يقول: «إدماج التناقض داخلي، وقبول التناقض والتضاد، بل حتى المواجهة - هذا هو مفهومي لـ'القلم والسيف'». غير أن هذا القبول لا يعني أبدًا الاستسلام. على العكس تمامًا، يرى ميشيما أن الفعل الحقيقي وحده قادر على منح هذا القبول شكله الواقعي.
لكي نفهم الحركات الثلاث التي تناولناها سابقًا، لا بد أن نعيد النظر في السجلات الثلاث، ولكن هذه المرة من منظور مختلف. ففي ندوته العاشرة، يطوّر لاكان مفهومي «المشهد» و"العالم". فـ«المشهد» هو الحيّز الذي يظهر فيه الذات بوصفها ذاتًا، مُجسّدة، مُرمّزة، مُؤرخَنة. إنه إطار يتشكّل من التلاقي بين المتخيل والرمزي، ويحدد الفضاء الذي تبني فيه الذات فانتازمها. «كل الأشياء في العالم تدخل إلى المشهد وفق قوانين الدال، وهي قوانين لا يمكن بأي حال اعتبارها متجانسة مع قوانين العالم». ومع ذلك، فإن هذه البنية تظهر ضمن سياق «العالم» الذي ينتمي إلى بعد الواقع، حيث لا تستطيع الذات الوجود كذات، لأنه لا يوجد ما يمكنه أن يتكلم باسمها أو عنها. ومن ثمّ، لا يمكن للذات أن تظهر إلا على «المشهد»، ككائن ناطق. تتردد أصداء هذه الفكرة في مفهوم ميشيما لما يسميه «نظام المظاهر». فبالنسبة له، يشترك الجسد والروح في «ميلٍ إلى خلق كون صغير خاص بهما، ونظام زائف خاص بهما».
تتشابه هذه الوظيفة التي يقوم بها الجسد والروح، في خلق «عوالم صغيرة»، مع طريقة عمل الأوهام. غير أن الإحساس الزائل بالسعادة في الحياة الإنسانية يدين بالكثير لهذا النوع من «نظام المظاهر». إنه أشبه بوظيفة دفاعية تقوم بها الحياة في مواجهة الفوضى التي تحيط بها. هذا «نظام المظاهر» يشترك مع مفهوم «المشهد» لدى لاكان في كونه مجرد وهم، غير أنه، وبشكل مفارق، يمثل بالضبط ذلك الوهم الذي يوفّر للذات مكانًا لتتعلق به وسط الفراغ القاحل الذي هو العالم. في كتابه «الشمس والفولاذ»، يقدّم ميشيما فكرة «نظام المظاهر» لتفسير الأسباب التي دفعته إلى خوض دروس في كمال الأجسام. فقد كان هدفه من التدريب الجسدي هو «تحطيم نوع من 'نظام المظاهر' وخلق آخر بدلاً عنه». فإذا كانت الكلمات ليست سوى وهم عابر، فبإمكانها أن تُستبدل بوهم آخر، ينتمي هذه المرة إلى الحقل الجسدي.
في هذا المجال التخييلي الذي يُدعى «المشهد»، يحدث ما يُعرف بـ«التمثيل الانفعالي - acting out»، وهو مفهوم نشأ في السياق العيادي. يشير هذا المصطلح إلى عودة محتوى مكبوت يظهر أثناء التحليل، لا في شكل ذكرى، بل في هيئة فعل يبدو دون دافع واضح، موجَّه إلى «آخر». ووفقًا للاكان، فإن ما كُبت ولم يُعبر عنه في البنية الرمزية يعود للظهور في مجال الواقعي. فـ«التمثيل الانفعالي» هو مظهر آخر من مظاهر ظهور الواقعي؛ إلا أن الفارق هنا يكمن في أن الذات لا تعاني من عودة هذا المحتوى، بل تُجسّده، وتقوم به. ثمة حقيقة تتحدث عبر الذات ذاتها، من دون أن تعي الرسالة التي تحملها أفعالها. لكي يحدث «التمثيل الانفعالي»، لا بد من توفر عنصرين: مشهد، وآخر يتوجه إليه هذا التمثيل. في حالة ميشيما، من الواضح أن المشهد قد بُني من خلال ما أسماه هو بـ«الفعل» (الحاضر، كما ذكرنا، في أعماله الأدبية وكذلك في عرضه المتكرر لجسده العضلي). يقول: «عندما تمكنت أخيرًا من امتلاك جسد كهذا، أردت أن أُريه للجميع، أردت التباهي به، وتحريكه أمام كل الأعين».
وعلى الرغم من أن هذا الجانب الاستعراضي قريب من عنصر المشهد في «التمثيل الانفعالي»، إلا أنه لا يمكن الجزم بأن كل عرض أدائي هو «تمثيل انفعالي» بالمعنى الدقيق للكلمة. يمكننا القول، في هذه المرحلة، إن كمال الأجسام لدى ميشيما، وأدبه، وظهوره الدائم على الساحة، إضافةً إلى صوره العارية جزئيًا، تشكّل جميعها نوعًا من «التمثيل الانفعالي». أما بخصوص «الآخر»، فمن الواضح أن ميشيما لم يكتف ببناء المسرح الذي سيتصرف عليه، ولا الشخصيات التي ستدخل المشهد، بل نجح أيضًا في خلق صورة تمثيلية للآخر، مفصّلة على مقاس حاجاته. مع ذلك، فإن نظرية ميشيما حول «الفعل الحقيقي» لا تتوقف عند حدود أشكال «التمثيل الانفعالي» التي أتى بها، بل تتجاوزها إلى مستوى آخر، لا يعود إلى «الفعل» بقدر ما ينتمي إلى «الحدث».
يُمكن أن نقيم علاقة من نوع آخر مع «المشهد». حين لا يتصرف المرء على خشبة المشهد، بل يهرب منها، حين يسقط خارجها، يحدث ما يُعرف بـ«القفز إلى الفعل - passage à l’acte». إنه قفز من المشهد إلى العالم، حيث تتلاشى الرمزية. إنه فعل جذري تتخلى فيه الذات عن كل ما بنته على خشبة المسرح، وتهرب من مجال المعنى إلى مجال الواقعي. ومن المؤكد أن الذات المعنية بمثل هذا الاصطدام لا تخرج منه كما كانت؛ فمن الحدث الحقيقي تنبع الذات وقد تغيّرت، بُنيتها وقد تبدلت. لعل ما قام به ميشيما في الحركة الثالثة يشبه إلى حد بعيد هذا «القفز إلى الفعل». وهنا، لا في «الفعل» المسرحي، يجب البحث عن النظرية الحقيقية لجسد ميشيما. إذا كان الجسد الحقيقي، بحسب ميشيما، لا يُنال إلا عبر «فعل حقيقي» – أي فعل يكشف عن طبيعة الجسد – فإن هذا الفعل لا بد أن يكون مختلفًا كليًا عن كل أشكال «التمثيل الانفعالي»، وكل أشكال المشهدية. غير أن هذه «الطبيعة» للجسد لا يمكنها أن تظهر إلا بصفتها ذلك الباقي المستعصي الذي تحدّثنا عنه سابقًا: الباقي الواقعي الذي لا يُدرَك. فحقيقة الجسد لا يمكن أن تُمسك ضمن إطار صورته، لأن هذه الصورة، في أصلها، ليست سوى بناء مبني على تفتت الجسد. وبالتالي، فإن محاولة القبض على جوهر الجسد تعني ضرورة تمزيقه. يقدّم ميشيما هذا المعنى بوضوح أكثر، من خلال استعارة لافتة:
المعارضة بين الرؤية والوجود حاسمة. إنها مسألة كيف يمكن رؤية قلب تفاحة تغطيها القشرة الحمراء المعتمة. [...] لنتخيل أن لدينا تفاحة سليمة. وبما أنها لم تولد من الكلمات، فإن قلبها لا يمكن رؤيته من الخارج، على عكس تفاحة أميل الغامضة. قلبها يجب أن يظل غير مرئي. في الداخل، محاطًا بلحم الثمرة، يرتجف القلب في عتمة باهتة، باحثًا عن وسيلة للتأكد من أنها تفاحة حقيقية.
إن مفاد هذه الاستعارة واضح: مجال الرؤية (وبالتالي مجال الإظهار) لا يعادل بأي حال مجال الواقعي، الذي وحده يستطيع أن يشرح طبيعة الوجود الحقيقية. كون القلب خارج إطار الصورة لا يجعله عنصرًا زائدًا عن البناء. فما الحل الذي يقترحه ميشيما لهذه الثنائية؟ لنواصل الاقتباس:
التفاحة موجودة، لكن بالنسبة إلى القلب، فهذه الوجودية غير كافية. إذا لم تكن الكلمات قادرة على ضمان هذا الوجود، فلا بد من ضمانه من خلال النظرة. في الحقيقة، إن وجودًا مؤكدًا، بالنسبة إلى القلب، يتكون من الوجود والنظرة. غير أن ثمة طريقة واحدة فقط لحل هذا التناقض: أن يُغرس في التفاحة سكين، فتُشق إلى نصفين، ويُعرض قلبها للنور. ولكن عندها، فإن وجود التفاحة سينهار إلى أشلاء.
هنا يتجلى جوهر نظرية الجسد لدى ميشيما. فالجسد الحقيقي، كما يراه ميشيما، ليس فقط ذاك الذي يُعرض، بل هو الجسد الذي يستطيع أن يُظهر قلبه، أي ما لا يُمثَّل، وما هو من صميم الواقعي فيه. بانتحاره، ينسحب ميشيما من المشهد الذي بناه بعناية، ويحقق أخيرًا تحرره الكامل من الكلمات. ولعل هذا ما كان يبحث عنه طوال الوقت: أدب الجسد. لكن، بعد «القفز إلى الفعل»، لا يبقى من ذات تستطيع أن تروي ذلك. هنا، يتوقف الكلام، ولا يبقى سوى أثر واحد وأخير، كُتب في هذه الحالة بحبر من الدم.