الكتابة بالسكين مرتين

 

لدينا إيمان بالسم. سوف نُسلِم حياتنا كل يوم بشكل كامل. لأن هذه هي ساعة القتلة.

- آرثر رامبو، صباح مخمور

إن الثورة كانت في شعره منذ البداية وحتى النهاية: باعتبارها انشغالًا من طبيعة تقنية، أي محاولة لترجمة العالم إلى لغة جديدة.

- هربرت ماركيوز، مستعرضًا آراء بريتون حول رامبو

حين ننظر في الوظيفة الاجتماعية-الأخلاقية-السياسية للفن، يسهل علينا أن نغفل عن الفن ذاته. فنغدو مأخوذين كلّ الأخذ بالتصنيف، والتراتبيات، والنظرية، والفعل التأويلي نفسه، إلى درجة أن الفعل التأويلي يكفّ عن التحقق في بعض الأحيان. إن منهجة الفن أو تجربة الفن تُعد مفيدة لأغراض البحث الأكاديمي، ولكن حين نتحدث عن علاقة الفن بالمجتمع، فعلى الفن ألا يعلو على أصوله وواقعانيته فحسب، بل كذلك على الأفكار والمسلّمات ذاتها المتعلقة به والتي يكرّسها الأكاديميون. يُنظر إلى المخطط الجمالي والمخطط الاجتماعي غالبًا كأنهما كائنان مختلفان تمامًا، ومع ذلك يرتبطان ارتباطًا لا فكاك منه عبر سِمة جينية ما: فكلاهما إنساني، لكن أحدهما علمي والآخر حسي. كلا المنظورين: المدرسي والحسي، فيما يخص الفن والمجتمع، هما في حقيقتهما مغلوطان وخاطئان. فالفن ليس أقل تقنية أو تخصصًا أو علمية من علم النفس أو علم الاجتماع أو الفلسفة. ومع ذلك، فإن العلوم الإنسانية (بما فيها التخصصات الاجتماعية والفكرية المذكورة) كثيرًا ما تُجرد من إرثها الفني. لقد فقد التحليل الاجتماعي حسيّته في خضم محاولته صقل النظرية، والبقاء على تماسّ مع مسعى العلم لفهم الكائن البشري في كليّته. توجد استثناءات، كجورج باتاي، الذي تحوّلت تأملاته الشذرية حول السادية والمازوخية والإيروتيكية المرضية إلى تعبيرات سيرة ذاتية وتأملات استبطانية تربط رؤيته الشخصية ونفسيته بنظريته الاجتماعية؛ وكجان بول سارتر، الذي مدّ في أعماله المتأخرة، مثل «أبله العائلة» و«نقد العقل الجدلي»، فكرة اليوميات التاريخية والتحليل النفسي الوجودي والأصالة الوجودية إلى حقل النظرية الماركسية والنقد الأدبي. غير أنه، مع بروز البنيوية في ستينيات القرن الماضي وتأثيرها اللاحق على مَن يُطلق عليهم ما بعد الحداثيين (واستخدامنا لهذا التصنيف ليس إلا لأغراض التوضيح، فمعظم المفكرين الذين أتحدث عنهم يتجاوزون هذا المصطلح)، أصبحت النظرية الاجتماعية والتاريخية تركز أكثر على النظام والبنية والتضاد الثنائي بدلًا من الفعل الإنساني أو الشعور بالعالم. لكلا المنهجين إرث ثمين وتطبيقات عملية في النظرية الاجتماعية المعاصرة، ولكن هيمنة أيّ منهما على الآخر تفرغ التعددية البنيوية والنقدية التي كشفت عنها ما بعد الحداثة من معناها. إن الجدل بين الكلية والجزئية، بين البنية والوجود، بين النظام والإحساس، لا يزال غير متوازن وغير محسوم بسبب التحيز الأكاديمي تجاه النظرية ما بعد الحداثية أو ما بعد البنيوية. إن إعادة اختراع أي من المنهجين لخدمة حاجات الآخر هو أمر غير منتج، ومع ذلك فهذا أقرب ما يكون إلى ما رأيناه من محاولات للتوفيق بين الطرفين. والنقاش لا يزال مستمرًا (والنار تؤجّجها الجهتان) منغمسًا في التلاعب بالألفاظ والنقد التحليلي، وفي الأثناء، يزدهر نمط الإنتاج الرأسمالي ويتوسع ليس فقط على الصعيد العالمي بل الأيديولوجي كذلك (وقد يقول قائل إن كلا التوسعين شيء واحد). يجب أن يتحول تركيزنا من النظرية والمنهجية (فقد تمّ بالفعل تقديم عرض كافٍ للنظريات والأساليب المقترحة من كلا الجانبين) إلى الممارسة وتغيير فاعل في وعي البروليتاريا. إن المحاولة للتوفيق بين اللاوجودية في ما بعد الحداثة والإنسانوية في الحداثة النقدية، أو حتى في الوجودية ذاتها، لا بد أن تفضي إلى الفعل.

إن انشغالنا المفرط بالنظرية يغدو حجر عثرة في طريق الممارسة الثورية أو التأويلية. وما أحاول توضيحه في هذه المقالة هو أن الفعل التأويلي – أو التفسيري – في الفن يجب أن يتجاوز مجرد التفسير أو التحيز نحو منهج نقدي معيّن. منهجي في النقد ذو طابع تفكيكي وبنائي في آن. إنها محاولة لتركيب الفاعلية الجبارة للتحليل البنيوي في ضوء التفكيك، بالتزامن مع المشروع الحداثي غير المكتمل، من أجل تدعيم الادعاءات بالشرعية بحيث يصبح الفعل الممارَس الواقعي ممكنًا. وبالتالي، لا ينبغي أن تنتهي التأويلية عند حدود القبض على المعنى، بل عند لحظة القوة، أو الفعل. بعبارة أخرى، يجب أن تكون وسيلة لكشف كيف يتجاوز الفن كونه تعبيرًا شخصيًا ويغدو فعلًا مواجهًا؛ يجب أن يكون أداة تفاوض بين موقعين بدلًا من أن يكون تأكيدًا حاسمًا. وما إن نبلغ هذه النقطة، يمكننا أن نُظهر الوظيفة الثورية للفن دون أن نُثقَل بتصنيفات جمالية اعتباطية مثل الكلاسيكية أو الرومانسية. وفي الوقت ذاته، من المهم أن نعي لعب الأيديولوجيا في التصنيفات الجمالية والاجتماعية أيضًا. وسيثبت ذلك أهميته في نقاشنا للفن كفعل تخريبي.

ولأغراض هذه المقالة، سيتم تناول الوظيفة الثورية للفن أساسًا من حيث كونه نقدًا للأيديولوجيا. إن نقد الأيديولوجيا يعني تحطيم وعي زائف أو وهمي تمّ ترسيخه في الطبقات الخاضعة بهدف الحيلولة دون نشوء أي وعي طبقي أو ثوري. وعلاوة على ذلك، فإن الأيديولوجيا تُعبّر عن نفسها من خلال الطرق التي نبني بها البُنى الاجتماعية (وخاصة، في هذا السياق، الدين كأيديولوجيا والسياسة كأيديولوجيا). وذلك لأن هذا الوعي الزائف مغروس في إعلامنا، وأخلاقنا، ومنظومة قيمنا، ونفسيتنا (وبالتالي، في كثير من الأحيان، في فنّنا). فبطرق عديدة، الأيديولوجيا هي مسألة انضباط. إن التقنية التأديبية في لعبة الأيديولوجيا الرأسمالية شديدة الفعالية. جزء من هذا الوعي الزائف (الرأسمالية) يصبح هو أفكارنا السائدة عن الطبيعي والشاذ فيما يخص النشاط الاجتماعي. وكما يفضح فوكو بذكاء في كتابه «المراقبة والمعاقبة»، فإن أجسادنا قد تحوّلت إلى موضوعات. لا موضوعات للآخر الظاهراتي، بل للآلة. هذه التجزيئية أو الاغتراب يحوّل الجسد والوجود الإنساني ذاته إلى مجال للخطاب التقني بدلًا من لغة الوجود الأصيل أو المزاج كما عند هايدغر، مثلًا. وما يتجاوز هذه التقنيات التأديبية هو البُنى الاجتماعية التي يُراد للتأديب أن يحفظها. وليس ثمة شيء خارج البنية الاجتماعية ذاتها. لقد تغلغلت الرأسمالية حدًّا لم يعُد بالإمكان الإفلات من نظرتها الخاوية. في المدارس، والسجون، وحتى في الحدائق العامة، لا شيء يُخفى. لقد أصبحت «البانوبتيقية»، أي فكرة أن يُراقب المرء، وأن يكون حاضرًا، ذات أهمية قصوى في حياتنا اليومية. وبالتالي، يجب التحكّم في ما يُرى.

هنا تغدو مفهومان اثنان، أحدهما جمالي بوجه ما، والآخر سياسي، مفيدين في نقاشنا عن الأيديولوجيا والفن. الأول هو المواجهة. أوضح تعبير عن مفهوم المواجهة في السياق الجمالي نجده عند أرتو. علاوة على ذلك، فإن «مسرح القسوة» الذي اقترحه أرتو، وتوصياته الطقوسية والبدائية للفنان، تتجاوز الحقل الجمالي إلى حقل الثورة والتغيير الاجتماعي.

يُشير أرتو إلى أن، في المسرح خصوصًا، إلغاء الفصل بين الجمهور والمؤدّي أمر محوري. وبهذا، يصبح من الممكن أن يواجه المؤدي المشاهد وجهًا لوجه. فالمؤدي لم يعُد موضوعًا يتأمله المشاهد، بل غدا مُعترفَه. المسرح يصبح استجوابًا لنفس الإنسان (تأمل ذاتي تثيره أفعال الأداء). ينبغي أن يُستثار المشاهد استثارة عاطفية من خلال تجربة صدامية عنيفة. يجب أن يحدث اضطراب في الوعي، حيث، مأخوذًا بالأداء، تقع ثورة داخلية في وعي الفرد، يتمكن عبرها من تجاوز ملكاته العقلانية، وخضوعه، وأخلاقيته، ليصل إلى رغباته اللاواعية ويُعبّر عنها: القوة، الإمكانية، الشبق، الفائض، أو باختصار: الجنون والنشوة. التطهير للمشاهد ليس هو تطهير الانفعالات، بل هو احتضان هذه الانفعالات، أو الاصطدام العنيف بين الرغبة والكبت، بين الواقعية والتجاوز، بين وعي الذات والعالم المرئي وعالم الغيب - الحضور الخفي لـ«الرغبة».

لكن اقتراح أرتو يتجاوز مجرد الصدمة. فالصدمات يُمكن تجاوزها. يرى أرتو أن على الجمهور أن يُصاب كما لو كانوا ينقلون وباءً إلى بعضهم البعض:

وكما أنه ليس مستبعدًا أن يفضي يأس مجنون، يصرخ في مصحّ عقلي، إلى التسبب بالطاعون بفعل قابلية الصور والمشاعر للانعكاس، يمكننا على ذات النحو أن نُقِرّ بأن الأحداث الخارجية، والنزاعات السياسية، والكوارث الطبيعية، وأمر الثورة وفوضى الحرب، حينما تحدث داخل الحدث المسرحي، تُفرَغ في حساسية الجمهور بكل قوة الوباء.

- أرتو، المسرح وقرينه

المسرح يصير «طاعونًا» يصيب الجمهور بطريقة تغيّر حساسيته بالكامل. وقد انتقل هذا التصوّر إلى مسرح سياسي أكثر صراحة مع ظهور بريشت ومسرحه الملحمي الماركسي. فقد تعمّد جعل مسرحياته مضادة للذروة ورفض أن يسمح للمشاهد بنسيان أن ما يراه مجرد مسرح. وقد حقق بريشت ذلك بوسائل مثل الغناء المفاجئ، إبقاء أضواء المسرح مشتعلة، وجعل الشخصيات ترتدي لافتات تحمل أرقام الفصول، على سبيل المثال. وبهذا، لا يستطيع المشاهد أن ينخرط عاطفيًا، ويُجبر على مشاهدة المسرحية بعقلية تحليلية والتأثر بمحتواها السياسي. ومع ذلك، فإنني أفضّل أن أُبيّن كيف أن الفن، وإن لم يكن سياسيًا بشكل مباشر أو مقصود، يؤدي وظيفة سياسية.

من المثير للاهتمام أن أرتو، في الاقتباس السابق، يُشبه «الطاعون» الذي يتحدث عنه بالأثر الذي يخلفه المجنون في الجمهور. فلو تُرك المجانين يتجولون في الشوارع، ولو لم تقم العلوم والهياكل الهرمية بتصنيف ما نُسميه بـ «الجنون» وتسميته كذلك تحديدًا، لتلاشت الحدود بين الغرابة البسيطة والهذيان المطلق. وحدها اللغة والتصنيف هما ما يُمكّن من هذه الفروقات. وهكذا، وعلى نحوٍ يشبه إلى حد بعيد أطروحة فوكو في «تاريخ الجنون»، يكشف أرتو عن التهميش الذي يطال «المجانين»، دون أن يبدو واعيًا بذلك.

وقد يعود هذا إلى أن كثيرًا من فنّ أرتو يميل إلى صور سحرية، مضطربة، ومجنونة. إنه كيميائيّ، يحوّل إدراكاتنا للواقع إلى ما ليس هي عليه، ويدفعنا إلى مواجهة ما جرى استبعاده من الخطاب «المنضبط». يبدو أن أرتو يرى أن الهَذَيان، أو الإدراك المشوش والمفكك كما يتجلى في الصور، يجب أن يكون الأثر البصري للمسرح. فالمواجهة، لدى أرتو، تتجلّى في الكيفية التي يعمل بها المسرح الحقيقي على «إزعاج سكينة الحواس، وتحرير اللاوعي المكبوت، وتحفيز نوع من الثورة الافتراضية... وفرض موقف على الجماعة المجتمعة، موقف صعب وبطولي في آن».

أما التأثير البصري (الإضاءة، الصور التي تشكلها خشبة المسرح، الأزياء، إلخ) والأثر السمعي (الكلام، الصراخ، الضحك، الصيحات، المؤثرات الصوتية، وأسلوب أداء الجمل) في مسرح أرتو، فتصبح خارجة عن المألوف، غير مريحة، وغير أرثوذكسية. إن مفتاح أرتو في استثارة وعي معيّن يكمن في صدمة الجمهور لإخراجه من حالة الرضا والامتثال، وسحره إلى الحد الذي يجعل هذا الوعي الجديد غير زائل، بل دائم وقابل للانتقال إلى الآخرين كما العدوى. وفي أعمال أرتو نفسها، تكون الشخصيات تجديفية، فظة، جارحة، ومُهانة (كما في مثال الكاهن المجدف والعاهرة التي تعض معصم الإله في مسرحية «دفقة من الدم»). لقد شكّل إلحاده الصارخ، وتعاطيه للمخدرات، ومثليّته الجنسية في حد ذاتها صدمة للفرد المحافظ أو المكبوت.

وهنا تبدأ فكرة التخريب (Subversion) في التجلّي. ففي نظرية أرتو ثمة تلميح نحو ممارسة عملية. أداء يصدم، ويهين، ويواجه، ويتهم، ويأسر في آن واحد. يستخدم أرتو في أكثر من موضع من كتاباته حول المسرح الغربي كلمة «عرض» أو «مشهد» (افتح فقط مقالته في «المسرح وقرينه» المعنونة بـ «حول المسرح البالي»). لكن هذا العرض ليس مجرّد استعراض بهلواني. إنه يغدو أكثر من مجرّد عرض بفعل طاقته التعبيرية وقدرته على التأثير في الجمهور. فحسب أرتو، يجب أن تكون السمة التعبيرية للمسرح بدائية، غير مقيّدة، عنيفة، وسحرية... يجب أن تكون مغايرة للواقع. ويقترح ألا تكون الموضوعات ذريعة لـ«إملال الجمهور بانشغالات كونية متعالية.» (أرتو، «المسرح وقرينه») بل يجب على المؤدي أن يستخدم الأقنعة، والطقسية، والأنين، والصيحات، واللغة المشوهة، والصور العنيفة، والفكاهة البذيئة لهدم وتحطيم أهداف المسرح ذاته، وبالتالي ردود أفعال الجمهور تجاهه. فإذا دمرنا طبيعيّة المسرح، قضينا على إمكانية الطبيعة في استجابة الجمهور. تصبح طريقة أرتو انقلابًا على التقنية «التطبيعية» أو «التأديبية»: أن نُظهر ما لا يجب أن يُرى. هذه الممارسة التخريبية تقوّض عندئذٍ ما يسميه نيتشه «الأخلاق المعتادة» أو «الأخلاق التقليدية» التي غرستها الثقافة البرجوازية في عموم الشعب. هدف أرتو هو أن يُشوّه وجه الواقع ليغدو عبوسًا قاسيًا وساخرًا في آن؛ أن يكشف للجمهور عن الرغبات والطاقات البدائية التي تمّ كبتها فيهم. تغدو اللغة والرمز حسيين لا شكليين. وتصبح الرومانسية والكلاسيكية معًا غير كافيتين ومملتين. ويغدو صراخ المؤدي: «طقس، عرض، رعب، نشوة؛ أو لا شيء على الإطلاق!» وهكذا، عبر تحويل مفهومي الواقع والطبيعة، وعبر تقويض المعايير الأخلاقية والتقليدية، والتعبير الصريح عن خيبة الأمل والكبت والإحباط الذي يعانيه العامة نتيجة افتقارهم التام للحرية، والإبداع، والرضا في وجه بنية اجتماعية قمعية، يصبح الفن تخريبًا. وحين تُفضي المواجهة إلى التخريب، ومن ثم إلى استثارة وعي ثوري وراديكالي، تكون الممارسة قد تحققت بالفعل، وتغدو قابلة للاستمرار. هذا هو الانقلاب الجمالي. حيث ينقلب الفن على نفسه: فلا يعود يسعى لإعادة تعريف أو تأويل المعلوم، بل يصبح «المفتاح الغامض» لكشف المعلوم المجهول، أو الرغبات المكبوتة في قلب الإنسان.

وهكذا يصبح الفن أحد أشكال نقد الأيديولوجيا. فتصوّر أرتو يغدو مثالًا باهرًا لكيفية استرداد الحسية والإبداع الذين قمعتْهما الرأسمالية في الجماهير زمنًا طويلًا. إن الدين وما جاوره من قيم أخلاقية تقليدية كالرحمة، والخضوع، والتواضع، ليست إلا مفاهيم تأديبية تمّت إعادة تجسيدها في وعي الجماهير حتى يمكن التحكم بهم، ليس فقط من قِبل المؤسسة الدينية، بل كذلك من خلال شعورهم الداخلي بالذنب بوصفهم جماعة متدينة. وهنا تبرز فائدة النقد النيتشوي. إذ يكشف عن البناء الاجتماعي للقيم الأخلاقية، ويبيّن كيف أنها تنشئ «أخلاق العبيد». غير أن الأنانية والتفاخر النرجسي في «أخلاق السادة» ليست كافية أيضًا. فالعالم هو إرادة قوة، لكن هذا لا يعني الإذن بالهيمنة. إن سلب إنسان آخر حقوقه هو إقرار بالضعف. إنه يبيّن أن استقلالنا رهين بالبيئة الاجتماعية ومن فيها؛ وفي هذا السياق تحديدًا، المهمشين أو الضعفاء. وحضور اللانهائي، أو الوجود، في داخلنا جميعًا، يصبح عندئذٍ نداءً لعلاقة أخلاقية. لا مهرب من النظرة. وجه الآخر لا ينبغي أن يكون قيدًا، لكنه في الوقت ذاته لا يجوز أن يُختزل إلى مجرد موضوع، أو وسيلة لتحقيق غاية. بهذه الطريقة، يجب أن نصير أحرارًا تمامًا، وفي ذات الوقت واعين وعيًا تامًا بالآخر وبما يُمليه علينا وجوده من مسؤولية أخلاقية. الإنسان الأعلى هو تحقق القوة في الفرد بحيث يمتلك نفسه وهو يعيش مع الآخر. وبهذا، وعلى نحو أصيل، لا يعود هناك هيمنة ولا سيطرة، لأن كل فرد «يحكم ذاته»، ويُعيد بذلك التأكيد على العلاقة الأخلاقية.

بينما كانت نظرية أرتو تتمحور أساسًا حول المسرح، إلا أن نطاقها يمكن تمديده ليشمل أي شكل فني آخر. ففي العصر الحديث، شهدنا تجليات لأفكار أرتو في التصوير الفوتوغرافي السادي-المازوخي لروبرت مابلثورب، وفي شعر ويليام بوروز، وجيم كارول، وريتشارد هيل، وتلك «الأساطير الهيرويينية» التي نسجوها، كما في نوع خاص من موسيقى البانك التي خرجت من مدينة نيويورك، حيث الكلمة كانت تصرخ لا تغني، وحيث الجسد المتمرد كان هو القصيدة. في ذات الوقت، لفكر أرتو إرث تاريخي غني داخل الطليعة الفرنسية ذاتها، فنجد أسماء مثل بودلير، ولوتريامون، وساد، وجاري، ورامبو، كلٌّ منهم يحتل زاوية صغيرة في كتابات أرتو. غير أنني أرغب الآن في تركيز الضوء على رامبو تحديدًا، على أن يبقى الآخرون في أدوار داعمة، وهو دور أعي جيدًا ضآلته إذا ما قيس بموهبة هؤلاء وعظمتهم.

في نصوص رامبو نجد من جديد المفهومين الأساسيين اللذين يجعل بهما الوعي الاجتماعي ممكنًا عن طريق الفن: المواجهة والتقويض. لكن نسخته الخاصة من المواجهة كانت أكثر لعبًا، أكثر ازدراء، بل وأكثر صبيانية من تلك التي نجدها عند أرتو، خاصة في أشعاره المبكرة. ورغم النضج الموضوعي والأسلوبي فيها، إلا أنه يتضح أنها كتابات مراهق. حتى آخر قصيدة معروفة لرامبو هي قصيدة عن الجنود الذين يتشجَون. قد تبدو تلك الوقاحة والمراهقة واضحة، لكنها تخفي تحتها نقدًا لاذعًا وساخرًا لكل ما يُعد «سويًّا» أو «نظيفًا». هناك تزايد ملحوظ في تعظيم رامبو للعلم والمنهج، إلى جانب اهتمام سياسي آخذ في التبلور. غير أن انشغاله بالعلم والمنهج لم يكن سوى وسيلة لتجاوز خلفيته البرجوازية، إذ حاول في البداية أن يفر منها بالانتماء إلى طبقة المثقفين، ثم، بعد أن خاب أمله في الحلقة الفكرية «المضادة للبرجوازية» التي مثلها فيرلين، شرع رامبو في عكس الاتجاه: أراد أن يجرّ هذه «النخبة» إلى العالم السفلي، إلى ما يسميه دوستويفسكي بـ«إنسان الجحور».

لقد منح رامبو بعدًا جماليًا وفكريًا لما كان يُنظر إليه تقليديًا على أنه منحط ودنيء. واهتمامه السياسي أيضًا أبدى تعاطفًا واضحًا مع الطبقات الدنيا، تلك التي رآها البرجوازي الفرنسي على أنها عارٌ ومصدرُ قذارة. لقد رسم رامبو بنفسه تصورًا لمجتمع شيوعي، وأبدى تعاطفه مع جهود الكومونة (انظر ماركيوز، الثورة المضادة والتمرد). غير أن أسلوبه في تحقيق هذه الغايات عبر الفن كان، أقل ما يقال فيه، وقحًا، جريئًا إلى أقصى حد.

حدّة طباع رامبو، وغروره، وسخطه، قد يُعزى بعضها إلى حداثة سنه، لكن ما هو أعمق من ذلك أنه كان مرآة لشخصية عنيدة، ساخطة، لا ترضى بما هو معروض. تلك هي الكآبة والمرارة التي تنعكس بوضوح في «فصل في الجحيم». نعلم أن والدته كانت سلطوية، حاولت قمع كل مجهوداته الأدبية، خاصة حين بدأ يُبدي اهتمامًا بالكتّاب الطليعيين في فرنسا آنذاك كهوغو وبودلير. علاوة على ذلك، لم يجد رامبو أبدًا ذلك الفهم أو الحرية التي كان ينشدها اجتماعيًا (وهو أمر يبدو واضحًا في علاقته العاصفة بفيرلين. لقد بدأت خلافاتهما حين شعر رامبو بالملل من عاطفية فيرلين البرجوازية وتدينه المصاب بالبارانويا). كان رامبو بطبعه متمردًا، قلقًا، متوترًا، وعليه كان دائم الاصطدام بالعالم من حوله. وعناوين كتبه مثل «اعترافات شيخ أحمق» و«خرائب الحب» خير دليل على استعداده الفطري لاستفزاز الحساسيات.

ورغم سوداويته في النظر إلى العالم، ورغم تهكمه اللاذع، إلا أنه كان يملك في أعماقه ميلًا غريبًا نحو الجمال الغنائي، والحنين الريفي، والحزن الصادق. قصيدته «صباح مخمور» من «الإشراقات» تبرِز هذه الرؤية المتعددة الأبعاد بوضوح. المقطع الأول يمجّد «الجسد الرائع» ويتغنى بـ«رفوف الفتنة»، وكأنها ترنيمة استحضار، استحضار للـ«إلهة الإلهام – Muse» الخاص به. هذه الـ«إلهة الإلهام» ليست إلا تمثيلًا للحسي، والنشوة، والقلق المبدع في النفس الإنسانية، ذلك الجزء الهائج، المتوتر، الباحث عن المعنى، المتشظي. ثم في المقطع الثاني، يباغتنا رامبو بهجوم فجائي وعنيف على الأخلاق كإيديولوجيا. إنه يساوي بين الأخلاق والوعي الزائف، بين الأخلاق وبين صورة مشوهة لكيف يجب أن يُضبط السلوك البشري ويُصنَّف.

لنعِد تكوين أنفسنا على ضوء ذاك الوعد الفائق للإنسان

الذي أعطي لأرواحنا وأجسادنا يوم الخلق:

ذلك الوعد، ذلك الجنون!

الأناقة، الصمت، العنف!

لقد وعدونا بدفن شجرة الخير والشر في الظلال،

وبنفي صدق طاغٍ،

لكي نزدهر في حبّنا النقي تمامًا.

- رامبو، صباح مخمور

هذا المقطع يحمل نَفَسًا نيتشويًا بامتياز. لدينا هنا صورة فردانية وقوية للكائن الإنساني، وقد أفسدته «الأمانة الطاغية»، يسعى لدفن «شجرة الخير والشر». عبارة «صدق طاغٍ» تستحضر نقد نيتشه لنظامنا القيمي الأخلاقي. فالقيمة الممنوحة للأمانة هنا ليست سوى شكل استبدادي من الإلزام، لا يقبل التعديل أو الفهم الجديد، بل يُفرض كما لو كان حقيقة أزلية (وهو ما تعززه البنية الأخلاقية اليهودية-المسيحية). الأمانة تُعد «خيرًا» بحد ذاتها، وكل ما يخالفها يصير شرًّا. لكن نيتشه، ورامبو معه، لا يدافعان عن الكذب الخبيث، وإنما عن فكرة أن هذا التصنيف الجامد، الموروث، ليس أكثر من بناء زائف. الأخلاق، في نظرهما، يجب أن تكون أكثر سيولة، أكثر حياة. رامبو يُردد هذا المفهوم في المقطع أعلاه، فدفن «شجرة الخير والشر» ما هو إلا دعوة لتجاوز هذه التصنيفات التعسفية التي يشعر كلاهما أنها متجذرة في المسيحية. فكلاهما يدعوان إلى «إعادة تقييم القيم»، بحيث لا تكون معاييرًا مفروضة من الخارج، بل إبداعًا داخليًا، ذاتيًا. بهذه الطريقة، تصير الأخلاق أكثر أصالة، وتتخلص من نزعتها الفاشية إلى التهميش والتصنيف والإقصاء لكل من لا ينسجم مع النسخة الطبيعية للثقافة البرجوازية.

في المقطع الذي يلي الاقتباس مباشرةً من قصيدة «صباح مخمور» لرامبو، يصرّح بأنّ هذا الوعد، هذه الرؤيا للإنسانية، قد «انتهت بتبعثر العطور». هذه العطور لا تفعل سوى التغطية على عفن سخطنا واستغلالنا واغترابنا عن ذواتنا. رامبو يعكس إلينا الأكاذيب التي قبلنا بها طوعًا، يصفعنا بمرآة صادقة تقف في وجه الخداع؛ يدعونا للهدم وإعادة التكوين، كي نتجاوز إدراكنا المشوّه لما يحيط بنا. هذه العطور، التي يبعثرها الزمن علينا كستار مخمليّ، ليست سوى الأيديولوجيا. أما «السهر الصغير المخمور، المبارك!»، فليس سوى مواجهته لها، نشوته بالتمرّد، ورقصته النبوئية. هكذا، يصبح الشاعر-الرائي خالقًا لعالم أكثر واقعيةً من الواقع، لأنه أكثر صدقًا من الزيف اليومي الذي نعيش فيه. بإفراطه في استحضار الرغبة والحسيّة، يخلق رامبو «واقعًا» أكثر نقاءً من واقعنا المُدلّس بالتأديب والذعر والتطبيع. ذاك السكون المميت، تلك اللامبالاة الجمعية، هي ما يدفع رامبو نحو السخرية المريرة والتشاؤم الجذري. كما يقول ماركيوز:

الصحيح والخطأ، الألم واللذة، الطمأنينة والعنف، تصبح كلّها مقولات جمالية داخل إطار العمل الفني؛ وبهذا التجريد من واقعيتها (المباشرة)، تدخل حيّزًا آخر، حيث حتى القبح والقسوة والمرض تصبح أجزاءً من الانسجام الجمالي الذي يحكم الكل.

- ماركيوز، الثورة المضادة والتمرّد

لكن رغم عمق شرح ماركيوز لكيفية تحوّل الفن، حتى في انحرافه أو لاواقعيته، إلى واقع أعمق من الواقع ذاته، إلا أن هناك نزعة تأويلية تصنيفية تحكم نظريته. ففي «الثورة المضادة والتمرّد»، يعبّر ماركيوز عن راديكالية سياسية، لكنه في المقابل يجنح نحو العقلانية والكلاسيكية في تنظيره الجمالي، كردّ على النزعة التصادمية للكثير من فنون الطليعة. وهو يرى أن هذا التصادم، بدل أن يخدم الثورة، يستفز السلطة ويؤدي إلى ردّ فعلٍ مضاد. غير أن هذا الاستفزاز بالضبط هو ما يسعى إليه رامبو. نيّته هي القرف، الاشمئزاز، أن يجعل خصومه يتقيؤون ذواتهم. إنه نبيّ غير مرغوب فيه، نبيّ الغثيان. في قصائد مثل «المدن الأولى» من «الإشراقات»، نقرأ مدنًا تهتف فيها الجماعات بـ«أفراح العمل الجديد، في هواء كثيف، تتحرك بلا كلل، لكنها لا تفلت من الأشباح النازلة من الأعالي، حيث كنّا لِنلتقي». هذه الكلمات، اليوم، نبوءة تقشعرّ لها الأرواح في ظل العولمة الرأسمالية وبرامج كـ«الرفاه الاجتماعي المشروط» التي تغلّف العبودية بأغلفة المساعدة. رفضنا لمواجهة المؤسسة جعلنا أكثر اعتمادًا على فتات الديمقراطية التمثيلية وابتسامتها الكاذبة.

نحن، مرّة أخرى، ضحايا الأيديولوجيا. هذا القرف من الجماهير المتواطئة يظهر في أكثر قصائد رامبو سخريةً في «الإشراقات»، قصيدة «بيع»:

للبيع

الفوضى للجماهير؛

الرضى الوحشي للعارفين؛

موت شنيع للأوفياء والعشّاق!

ثم لاحقًا:

فرار بلا معنى، لا نهائي، نحو بريق غير منظور،

نحو لذة لا تُحس-

جنون أسراره يصدم كلّ رذيلة معروفة!

والغوغاء مذهولة من بهجته!

ومع ذلك، لا يترك رامبو باب الأمل موصدًا رغم امتلاء رؤاه بالسخرية والاشمئزاز. ففي قصيدة «جني»، نراه يرصد إمكانيات كامنة في الإنسان والعالم، ويُبقي على نغمة النبوءة حاضرة، رغم استمرار تهكّمه من الأعراف والتقاليد («إلى الجحيم بهذه العصور والخرافات!»). ومع هذا، تتردّد في صوته نغمة رجاء بأننا قد نتجاوز الخوف، والقلق، والاضطهاد الخارجي، الذي يمتهن كرامتنا ويفتّت كياننا. إنه يتحدث عن الجني بلهجة مخلصٍ موعود، ويعلن:

إنه الحنان والمستقبل، القوّة والحب

الذي، نحنُ، المحاطون بالغضب والإرهاق،

نراه يعبر في سماءٍ عاصفة،

وفي رايات النشوة.

مسيح رامبو ليس كمسيح العهد القديم أو الجديد؛ لا يعِد بالخلاص، ولا يصعد في مركبة سماوية، ولا يعلن عن قدومه بترانيم ملائكية، بل بعبارة قاسية: «تحطّم النعمة أمام عنف جديد!»، وهي الصدمة التي يأمل رامبو أن تهزّنا إلى حدّ أن نتعلّم أن «نتبع صورته، تنفّسه، جسده، ضوء يومه».

فرادة رامبو لا تكمن فقط في رقصاته التصادمية، بل في قدرته على خلق توتر خلاق بين المواجهة والحلّ؛ صدام وانفراج، يدمّرهما في لحظة ويدعونا لتجاوزهما. هذه الثنائية، ذات الطبيعة الجدلية، لا تكتمل في دائرة مغلقة، بل تُفجَّر قبل أن تنضج، تُمحى قبل أن تُبلور، ليتحوّل كلّ شيء إلى إحالة على الفعل – على praxis. هذا الفعل عند رامبو ليس تنظيرًا، بل حركة. ليس عنفًا انفعاليًا، بل قوّة حاسمة، عنفٌ من نوع آخر: ذكوريّ في عنفوانه، مكتفٍ بذاته، خصبٌ في توتّره. «ساعة القاتل» ليست لحظة قتل، بل لحظة انفجار في الإدراك؛ رجّة في الوعي. انفجار الصور الجدلية عند رامبو في وعي القارئ أو المستمع يقاوم «تحلّل الهالة تحت وطأة الصدمة» (والتر بنيامين، «حول بعض الدوافع عند بودلير»)، كأن القصيدة نفسها صدمة مضادة، أو قنبلة جمالية تتحدّى انطفاء الحواس وتهاوي الإدراك الحديث.

رامبو بدوره يضعنا وجهاً لوجه أمام الجانب القذر من الذات، من العالم، من التفكير السري، من رغبات لا نعترف بها إلا في عتمة الوعي. حركية شعر رامبو ليست حركة سطحية، بل حركة جوهرية: ولادة أو اضمحلال، صيرورة تذكّرنا بمرحلة ما قبل سقراط، بشعر هيراقليطس وأمبيدوقليس. يمرّ رامبو بسلاسة من السمو إلى القذارة، من الجنون إلى النظام، دوماً في حركة مائعة، خاضعة لإيقاعه وحده. وشعره قطبي، يتراوح بين نبرة تفاؤلية ــ مسيانية ونبوئية ــ وبين تشاؤم متطرف ــ نهاية العالم كإعلان شعري. الصور والألفاظ في شعره تتأرجح بين الموت والحياة، السماء والجحيم، القسوة والعذوبة الإلهية. لا يخشى رامبو مواجهة القارئ، لأنه لا يستجدي رضاه. هو يريد أن يستفزّ، أن يستخرج من القارئ ردة فعل. وفي تلك الاستجابة تحديداً تكمن دعوته إلى الفعل. لأن فعل القراءة عند رامبو ليس انعكاساً سلبياً، بل تمرين على المبادرة، على الاستقلال، على الثورة الذاتية، وربما الجماعية.

رامبو لم يخضع لعائلته، ولا لتقاليد بيئته، بل ظلّ مدمِّراً للأصنام في كتاباته. لا الكنيسة، ولا الأخلاق، ولا سلطة الدولة تمكّنت من استعباد رؤيته الشعرية. ولهذا كان ناقداً فذّاً لكل هذه الإيديولوجيات، لأنه ببساطة لم يكن متواطئاً معها. كان خارج المجتمع، ولهذا استطاع أن يشهد على العالم بلا مواربة. ولم يكن نادماً على تمرده، بل كان، دوماً، وفياً لنبضه الخلاق، لغرائزه الحسيّة والمعرفية. لقد اختار أن ينأى بنفسه عن الاغتراب الجماعي، عبر اغترابٍ ذاتي واعٍ - وإن لم يكن هذا الخيار متاحاً أو ممكناً لكل إنسان. فقد رأى مبكراً أثر النظام الاجتماعي على أقرانه وأهله، ونمَت فيه كراهية تجاه البرجوازية، لكنها لم تكن كراهيةً محضة، بل خيبة وجودية. لأنه كان يرى في الإنسان القدرة على الإبداع، وعلى الجمال، وعلى الإشراق الروحي. تشاؤمه لم يكن إدانة شاملة. كان وظيفياً، يخدم غرضين: أولاً، صدم الجماهير كي تدرك قوتها الكامنة، وكي تتخلّى عن البلادة، وتتحرّك، وتبدع، وتشكك فيما أُملي عليها من أخلاق وسرديات سياسية وثقافية. وثانياً، إسناد أولئك الذين سبق أن شعروا بالاختناق تحت قبضة الرأسمالية، وتذكيرهم بأن بإمكانهم أن يحوّلوا هذا الغضب إلى فن، وأن التغيير المنشود ليس مستحيلاً، بل يكمن في قلب النظام ذاته، وما عليهم إلا أن يبحثوا عن هذا الاحتمال ويقتلعوه. أسلوب حياة رامبو، في غموضه، في نزعته الطوباوية، في خروجه عن المعايير، هو أيضاً إعلان عن إمكانية «الحياة الطيبة»، حياة مليئة بالحرية، الفرح، والنشوة الدفينة. تشاؤمه كان صادقاً، لكنه لم يكن مصيراً محتوماً. لقد كان ردة فعل طبيعية على خيبات متكررة، وهو يحاول أن يوقظ السعادة في ذاته وفي الآخرين. لقد حاول أن ينقذ ذلك الشرر الخافت في داخلنا جميعاً، بسكب البنزين عليه. وإن تراجع لاحقاً عن الكتابة، فإن توقه ظل مشتعلاً في شعره. شعره نصب تذكاري لإرثه المتمرد.

كما كتب في قصيدة «أسطر»، في أكثر لحظات «الإشراقات» سطوعاً وقوة:

حين نكون أقوياء جدًّا، فمن ذا الذي يوقفنا؟

وحين نكون فرحين حقًّا، فبأي سخرية يُمكن أن يُمسّنا الضرر؟

وحين نكون أشرارًا بلا مواربة، فماذا عساهم يصنعون بنا؟

تأنّقْ،

وارقصْ،

واضحكْ.

ما استطعتُ قطّ أن أطرح الحُبّ من النافذة.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق