خطيئةُ المعرفة… أن تُنكر أصلها

 

أودّ أن أنظر إلى الإنسان هنا بوصفه حيوانًا؛ ككائن بدائي نُقرّ له بالغريزة دون أن ننسب إليه العقل، كخليقة في حالة أولى. وأي منطق يكفي للتواصل في هذا المستوى البدائي يُعدّ كافيًا، ولسنا بحاجة إلى أن نستحي من استخدامه. فاللغة لم تنشأ عن عملية عقلية واعية.

في اليقين، الفقرة ٤٧٥.

وتُعدّ هذه النظرة جزءًا لا يتجزأ من التصور المعرفي الذي يقدّمه فيتغنشتاين في «في اليقين»، إذ يرى أننا لن نفهم طبيعة المعرفة الإنسانية حقّ الفهم حتى ندرك كيف يتطور الذكاء البشري من الغريزة الحيوانية. ومن المؤكد أن فيتغنشتاين لا يعرض «نظرية علمية» عن الطبيعة البشرية، كالسلوكية مثلًا، ولا يساير الاتجاهات المتطرفة في علم السلوك التي تذهب إلى أن الإنسان ليس إلا «قردًا عاريًا». لكنه مع ذلك يرى أن إغفال الفلاسفة المحدثين للأهمية المعرفية لتاريخنا الطبيعي إنما يرتبط ارتباطًا وثيقًا برفضهم الاعتراف بالحدود التي تفرضها الطبيعة ذاتها على كائن ناطق. إن مشكلاتنا في نظرية المعرفة، في نظره، هي من بعض الوجوه مشكلات أخلاقية، لأنها متجذّرة في نوع من الكِبْر يجعلنا نأنف من رؤية أنفسنا على حقيقتنا، ونفضل أن نتصور ذواتنا على النحو الذي نرغب أن نكون عليه.

إن الآراء التي يطرحها فيتغنشتاين، وهي قائمة على وقائع عامة لا يُنكَر صدقها عن كيفية تعلُّم البشر، تختلف اختلافًا جوهريًا عن كل ما ورثناه في التقليد الفلسفي من ديكارت حتى راسل، حتى إن بعض الفلاسفة قد رأوا فيه شذوذًا أو مسًّا من جنون. وهذه النظرة المؤسفة الشائعة تأخذ فيتغنشتاين على أنه فيلسوف بدائي، كرسام هاوٍ موهوب لم يبلغ ما وعدت به بدايته، ثم صار لاحقًا سفسطائيًّا من أسوأ طراز. ولأن تصوره للفلسفة لا يزال يثير سخط الفلاسفة التقليديين، فإن فكره لا يزال في حاجة إلى إعادة بناء، رغم كثرة ما كُتب عنه من سِيَر وشروح في العقود الأخيرة. فإذا كان ثمة بصيرة فلسفية حقيقية في مفهومه للفلسفة بوصفها تحليلًا يهدف إلى «حلّ» المشكلات من خلال النفاذ إلى عمل اللغة وطبيعة الإنسان التاريخية، فالسؤال المطروح: كيف بلغ فيتغنشتاين هذه الرؤى غير المألوفة التي تبدو وكأنها تناقض مجمل التراث الفلسفي الغربي؟ وكيف له أن يعتقد أنها ليست جديدة؟ هذه الأسئلة لا تزال مفتوحة، ونقّاده لا يزالون غير مقتنعين بانتماء مشروعه الفلسفي إلى سلالة فكرية مشروعة.

إن جزءًا من المعضلة أن فيتغنشتاين – كما نغفل أحيانًا – كان دائمًا أكثر جذرية مما نظن. فلم يكن في أي مرحلة من مراحله الفكرية تابعًا وفيًّا لراسل أو فريجه، ولم يُرد أن يكون كذلك. لقد أراد مساعدتهما في مشكلاتهما حول أسس المنطق، غير أنه كان يحمل منذ البداية تصورًا مختلفًا لطريقة اشتغال الفلسفة التحليلية. تأمّل دهشة راسل في لقائه الأول به عندما أنكر فيتغنشتاين إمكانية التحقق من العبارة القائلة: «ليس في هذه الغرفة فرس نهر». وهذه القصة – كغيرها، مثل تلك التي أجاب فيها فيتغنشتاين على سؤال راسل: «هل كنت تفكر في المنطق أم في خطاياك؟» بقوله: «في كليهما!» – كثيرًا ما تُروى على أنها طرائف، لكنهما في الحقيقة تعبيران عن مواقف فلسفية عميقة. فالموقف الأول ينبع من ما صار يُعرف خطأ بـ«فرضية دوهِم–كوين - Duhem–Quine»، التي تقول بأن التمييز بين القضايا التجريبية والمبادئ المنهجية في العلم أمر نسبي. إن معرفة فيتغنشتاين بهذه الفكرة تعود إلى اطلاعه المبكر على فلسفة هاينريش هرتز في الفيزياء. ومن ثم، فإن الموقف الأول يعكس تأثير هرتز، أما الثاني فسنرى أنه يعكس تأثير أوتو فاينينغر. وكلاهما ذو أثر في فلسفة فيتغنشتاين، وليس مجرد شذوذ في شخصيته.

لكن لفهم تأثير فاينينغر، علينا أولًا أن نفهم تأثير هرتز. فقبل أن يلتقي راسل، كان فيتغنشتاين قد تعلم من هرتز – الذي سبق دوهِم في هذا المضمار بنحو أحد عشر عامًا – أن وظيفة القضية في النسق، سواء اعتُبرت مبدأً أو نتيجة أو ملاحظة تجريبية، تتحدد من خلال كيفية بناء النسق نفسه. إننا لا ندرك كيف صغنا هذا البناء إلا من خلال مقارنة تمثيلات مختلفة للمضمون نفسه. ولا عجب بعد ذلك أن تظهر في كتاب «في اليقين» فكرة «ما يظل ثابتًا» (فقرة ١٤٤ وما بعدها) بوصفه ما قد «تصلّب» (فقرة ٩٦) من خبرتنا وصار معيارًا لها. ولذا، فإن تزامن كتابة نص «في اليقين» مع صدور مقال كوين «مقالتان في التجريبية» لا ينبغي أن يُعزى إلى «روح العصر» أو تقاطعات فكرية غامضة، لأن فيتغنشتاين كان يعرف هذه الفكرة قبل أن يُولد كوين، بل حتى قبل أن يصوغها دوهِم في عام ١٩٠٦. وإنّ من ثمن تجاهلنا لقول فيتغنشتاين لصديقه دْروري بأن أفكاره الأساسية جاءته في وقت مبكر من حياته، أننا نُغفل دلالات كهذه. والحقيقة أن ما ذهب إليه بعض الباحثين مثل فان، وِنش، ويوهانسن، من أن «الفلسفة المتأخرة» عنده أقدم من «الفلسفة المبكرة»، له ما يسوّغه، إذ يرجع بجذور فكر «في اليقين» إلى بداياته الفلسفية، بل إلى ما قبل لقائه براسل.

في واقع الأمر، إن تصور فيتغنشتاين للفلسفة – في مراحله الثلاث، المبكرة والوسطى والمتأخرة – هو تطوير لافت للفهم الهرتزي للفلسفة كما ورد في مقدمة كتاب «مبادئ الميكانيكا»، والذي اطّلع عليه فيتغنشتاين وهو بعدُ فتى. وقد غفل كثير من القرّاء – حتى أولئك الذين عدّوا هرتز من المؤثرين الرئيسيين فيه – عن جوهر الموقف الفلسفي الذي يعرضه هرتز، وهو أن بوسعنا التحرر من الحيرة الناتجة عن الخلط المفهومي الذي يوقعنا في شَرَك الأسئلة الميتافيزيقية، من خلال إعادة صياغة عرض المسألة لا بوضع نظرية معيارية عن «معنى اللغة». وعلى خلاف ما ذهب إليه كل من نويْراث وكارْناب، فإن الرؤية الوضعية المنطقية للفلسفة لم تكن هي السبيل العلمي الوحيد، وللأسف تطلّب الأمر قرنًا من الزمان حتى ندرك ذلك، ومع ذلك فإننا لم نوفِّ هرتز بعدُ حقَّه من التقدير كفيلسوف علم أصيل ومبدع.

إن النقطة الفلسفية في نظرية التصوير لدى هرتز كما وردت في كتابه مبادئ الميكانيكا (١٨٩٤)، تتمثل في إظهار إمكانية التخلص من الأسئلة الميتافيزيقية حول مفاهيم مثل «القوة» — تلك الأسئلة التي أقلقت النقاد التجريبيين لنيوتن، أمثال ماخ — من داخل العلم ذاته، أي من دون الاضطرار إلى تأسيس نظرية فلسفية عن العلم كما فعل ماخ في تحليل الأحاسيس. لقد رأى هرتز أنه إذا نشأ إشكال، كالمعضلة الكلاسيكية حول طبيعة «القوة»، من داخل لغة الميكانيكا، فإن من الممكن إذًا إنتاج نسق بديل لـ«نحو» الميكانيكا (grammar) بحيث لا تنشأ فيه هذه المعضلة أصلاً. كان في ذلك يتجاوز ما اقترحه فيلهلم أوستفالد والطاقويّون (Energeticists) من بديل للعرض النيوتني للميكانيكا، إذ سعوا إلى استبعاد «القوة» كمبدأ تأسيسي، عبر بناء الميكانيكا على أساس مفهومي «الزمان» و«المكان» بوصفهما كميتين رياضيتين صرفتين، ومفهومي «الكتلة» و«الطاقة» بوصفهما كميتين فيزيائيتين. لكن هرتز وجد هذا النموذج معقدًا ومربكًا نظرًا لاعتماده على مبدأ أولي مركب، فسعى إلى إنتاج عرض أبسط وأكثر أناقة، مؤسس على نسقٍ بديهي.

لقد أخفقنا في إدراك مدى تأثير هرتز في فيتغنشتاين لأننا — حينما التفتنا إليه — فعلنا ذلك من منظور التقليد الوضعي في إعادة البناء المنطقي أو النسق الأُصولي، ولم نفعل كما ينبغي، من منظور التأويل العلمي البراغماتي. والحق أن هرتز، حين أخذ يُبلور فكرة فيزياء مؤسسة على النمذجة الرياضية، كان يطوّر في الوقت ذاته ضربًا غريبًا من الفلسفة الترانسندنتالية — وإنْ دون دعوى وجود مقولات قبلية تركيبية. لقد اعتبر أن المشكلات الميتافيزيقية التي تنشأ داخل العلم إنما هي نِتاج لبُنى تعبيرية «معتادة» في الخطاب العلمي، هذه البُنى التي، وإنْ كانت نافعة من الناحية العملية، فإنها — كما قال — «عائق في سبيل التفكير الواضح». وإن هذا الوضوح لا يُنال إلا إذا وعينا بأن العناصر الشكلية، والعناصر التجريبية، والعناصر البلاغية (إن جاز التعبير) في النظرية الفيزيائية ليست ثابتة بحكم طبيعتها، خلافًا لما كان يظنه ماخ، ولاحقًا الوضعيون المنطقيون.

لقد عجز ماخ — بخلاف هرتز — عن إدراك القيمة الإيجابية للبلاغة في العلم. ومن هنا لم يفهم أن السؤال عن «بساطة» نموذج ماخ، لا بد أن يُطرح على نحو: «بسيط لمن؟» — وهو السؤال الذي طرحه هرتز بالفعل. إن ما هو بسيط للطالب يختلف تمامًا عما هو بسيط للخبير، رغم أن كليهما «صحيح» على حد سواء. إن تعدد التمثيلات الممكنة للنظرية الفيزيائية يكشف أن ما هو ضروري في طريقة التمثيل إنما يتحدد بحسب الغرض من التمثيل، وهو بدوره يرتبط بحاجات الجمهور الذي نتوجّه إليه بهذا التمثيل. وما يكون كاشفًا في سياق ما، قد لا يكون كذلك في سياق آخر، والعكس صحيح. ولهذا، إذا أردنا أن نفهم كيف يُفضي نمط من أنماط التمثيل — سواء أكان صورة أم جملة أم نظرية — إلى التباس في الفهم، فعلينا أن نقارنه بنمط آخر — وهذا بالضبط ما فعله فيتغنشتاين. لقد هاجم الأوهام العميقة المتجذّرة في التقليد الفلسفي من ديكارت إلى راسل، من خلال مواجهتها بأمثلة من نوعٍ لم يكن هذا التقليد قد نظر فيه قط. ومثال ذلك: حين يحاول تفكيك الفكرة القائلة بأن «الوضوح لا ينافي الالتباس»، فإنه يطلب من محدثه أن يناوله «مكعبًا»، لكنه في الواقع يتوقع منه أن يناوله منشورًا قاعدته مربعة.

وبالجملة، حين نفهم موقف هرتز على حقيقته، فإننا نلمس خطًّا مباشرًا يصل بين رؤيته الفلسفية في مبادئ الميكانيكا وبين تحقيقات فيتغنشتاين الفلسفية، حيث تتجلى أهمية «التمثيل الواضح (darstellung übersichtlich) الذي من شأنه أن يحلّ المشكلات الفلسفية لا بإجابات تقرّرها، بل بإضاءات تُبطلها. وقد أشار تشارلز تايلور بحق إلى أن هذا التمثيل الواضح هو تمثيل تبايني (perspicuous contrasts). أما إستراتيجية فيتغنشتاين في تحرير الفيلسوف من استهلاك أمثلة أحادية الجانب، فكانت تقوم على العثور على حالات وسيطة تحلّ محل الحالات القصوى المضلّلة التي طالما اعتمدها التقليد — وهذه المقاربة في جوهرها هرتزية. إنّ كل ما يُعدّ «فضائحيًّا» أو «ضدّ الأنوار» في فكر فيتغنشتاين — من استبدال التفسير بالوصف، إلى رفض طرح أطروحات في الفلسفة، إلى القول بأن الفلسفة لا تغيّر شيئًا بل تترك كل شيء على ما هو عليه — يصبح واضحًا وغير مثير للريبة إذا ما نُظر إليه في ضوء فلسفة هرتز في العلم. فإنّ هرتز يقدّم لنا نقطة الانطلاق التاريخية التي تمكّننا من إعادة بناء تطور فيتغنشتاين بوصفه تطورًا لفكرة «الإظهار - (Zeigen)» كما وردت في المبادئ. وهكذا، فإن ما كان يبدو غامضًا في منطق الرسالة - Tractatus يفقد غموضه في ضوء هرتز.

وإذا بدا لنا التعلّق الوجداني المبكر لدى فيتغنشتاين بالتأويل الهرتزي للعلم أمرًا غريبًا، فما علينا إلا أن نتذكّر أن الانشغال ببدائل للهوية الشخصية، واستحضار نماذج أدبية للمقارنة — كما في رواية غوستاف فريتاغ الدين والدائن (Soll und Haben) — كان من الألعاب التأويلية التي تُمارس في صالون عائلة فيتغنشتاين. ومن ثم فإن الإستراتيجية الفلسفية التي تلقّاها فيتغنشتاين من هرتز كانت، في الواقع، امتدادًا لأساليب تأويلية مألوفة لديه منذ شبابه. وإذا أضفنا إلى ذلك ما أظهرته البحوث الحديثة من دورٍ جوهري للرسم والتصوير في تمثيل الفروق من خلال المقارنة، كما تدرّب عليه فيتغنشتاين في تعليمه الهندسي بمدرسة شارلوتنبورغ التقنية، فلا عجب أن يكون «الإظهار» من خلال المقارنة بين صيغ بديلة هو الأسلوب الذي اعتمده فيتغنشتاين لحل مشكلاته الفلسفية والوجودية على حد سواء — بل حتى مشكلاته كمعلم مدرسة ابتدائية.

وبروح هرتز كتب فيتغنشتاين الرسالة ليُظهر أن الجدل حول ما إذا كانت هذه البديهيات أو تلك أساسية أو ضرورية في المنطق، هو جدل زائف. فكل ما نحتاجه حقًّا هو طريقة جديدة في تمثيل القضايا بحيث تُظهر بجلاء طابعها التحصيلي الصوري (truth-functional). ولهذا اخترع تقنية تُميز القضايا المنطقية من القضايا التجريبية ومن التناقضات، عن طريق تمثيلها في مصفوفة واحدة (أي: جدول الحقيقة من الدرجة الثانية - meta-truth table ، كما في الفقرة ٥.١٠١ من الرسالة). وهكذا، فإن القضايا المنطقية أصبحت قادرة على أن «تعتني بنفسها» عبر تمثيل خصائصها بطريقة لا تقبل الجدل. وباختصار، فإن تقنية فيتغنشتاين كانت تهدف إلى إلغاء الحاجة إلى نظرية داخل المنطق ذاته. وهذا ما عنته عبارته الشهيرة في الدفاتر عام ١٩١٤: «يجب أن يعتني المنطق بنفسه».

ومن ثم فإن فيتغنشتاين كان قد تشرّب المنظور الهرتزي للفلسفة منذ بداية عمله على الرسالة، ولهذا كان من الطبيعي أن لا يفهمه راسل، الفيلسوف الوضعي الذي لم يكن ليقدّر هذا المنحى. بل إن الانتقال من الرسالة إلى «في اليقين»، حيث تُصبح الممارسة هي ما يعتني بنفسه، لم يكن انتقالًا بعيدًا. ومع هذا أصلُ أخيرًا إلى محوري الأساسي: التحوّل الذي طرأ على تفكير فيتغنشتاين الفلسفي بعد هجوم بروسيلوف في يوليو من عام ١٩١٦. في مطلع يوليو، وعلى نحو يبدو وكأنه خرج من العدم، بدأ فيتغنشتاين يطرح أسئلة حول «العالم»، أسئلة يفسّرها في دفاتره الفلسفية بمعنى أوغسطيني-باسكالي واضح، حول الله، ومعنى الحياة، وحدود الإرادة، وطبيعة السعادة.

لماذا تظهر هذه الموضوعات في ذلك الوقت تحديدًا؟ ومن أين تنبع؟ إنها أسئلة محورية.

فحين نتأمل بتمعن ما كان يكتبه فيتغنشتاين عن نفسه لنفسه، نكتشف أنه، في اللحظة ذاتها التي بدأ فيها بطرح «الأسئلة الكبرى» عن الله والسعادة ومعنى الحياة، كان منخرطًا في صراع نشط لربط كفاحه ضد الخوف من الموت بسعيه لفهم أسس المنطق. يقول في إحدى الملاحظات: «توتر هائل في الشهر الماضي. لقد تأملتُ كثيرًا في كل شيء، لكني، بطريقة غريبة، كنتُ عاجزًا عن إحداث الصلة مع مساراتي الرياضية من التفكير. ومع ذلك، ستنشأ الصلة! فما لا يمكن قوله، لا يمكن قوله». يبدو أن فيتغنشتاين صار «فيتغنشتاين» حقًا حين شرع في البحث عن حل مشترك لمشكلاته الوجودية ومشكلاته الفلسفية، مستندًا إلى ما تعلمه من هرتز، ومطبّقًا إياه على بضع صفحات من كتاب أوتو فاينينغر حول الأمور الأخيرة تحت عنوان «علم نفس الحيوان». تلك الصفحات لم تكن إلا تركيزًا مكثفًا لما كان قد تلقاه وتأثر به من شوبنهاور، وتولستوي، وويليام جيمس. لكن ما وجده في تلك الصفحات من فاينينغر — أكثر من أي مصدر آخر — كان صورة بديلة عن العلاقة بين الذات والعالم، صورة كانت صادمة بما يكفي لدفع تفكيره نحو مسار جديد كلّيًا.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق