التمرد على الواقع

 

إنّ «الواقع» عند الفيلسوفة آيريس مردوك، كلمة مفتاحية يقرع صداها كأنّه طارق أبواب الفكر، فلا تكاد تُذكر إلا ويُبنى عليها نداء يطغى، يرتفعُ على الكلمات «العدوّة»؛ كالوهم والخيال والحلم، بل وأحيانًا على الحرية والإرادة ذاتها، دفاعًا عن الحيز المقدس الذي تستحقّه هذه الكلمة بين أروقة المعنى. ولكثرة المواضع التي تتردد فيها هذه الكلمة في فكرها، وحرارة العاطفة التي تُحمّلها، يصعب على المرء أن يقلل من ثقلها في فلسفتها. بيد أنّه، رغم الجهد الذي يبذله الباحثون في استقصاء ملامح الواقعية عند هذه الروائية العظيمة والفيلسوفة، فإنّ حصر النقاش في إطار الواقعية كـ«نظرية ميتا-أخلاقية» وحده يبتعد عن لب القضية. 

فإنّ اختزال هذا الغوص العميق في مجرد تحديد موقف مردوك بين هذا النمط أو ذاك من الواقعية الأخلاقية، وإن كان مشروعًا وضروريًا، لا يفي حقّ دعوتها العميقة للعودة إلى الواقع، تلك الدعوة التي تقفُ شاهدةً على ثراء نظرتها واتساع أفقها. إنّ انتساب مردوك إلى الواقعية ينبع من نقدها الصارم للوجودية بكل تجلياتها، ذلك النقد الذي سعت من خلاله إلى فضح كل فلسفة تجعل القيمَ صنيعة إرادة الفرد وحدها. فهي ترى في هذا ما يُشبه الانحدار نحو هاوية تتساوى فيها الوجودية الفرنسية، كما رسمها جان بول سارتر، مع الفلسفة الأخلاقية البريطانية التي مثلها أ. ج. آير وغيرهم من معاصريها. 

فالوجودية عند مردوك ليست إلا إفرازًا لخيارٍ أخلاقيّ «ليبرالي»، لا يقوم على أساس فلسفي متين. وتتمثل الوجودية، في رأيها، في موقف يجعل الخيرَ بلا تعريف، قائمًا على اختيار الفرد وحده، وكأنّ الخير ليس جزءًا من العالم، بل هو مجرد لافتة متنقلة تُثبتُ أينما شاء الفرد. وهذه الحرية المطلقة، التي تُعطي للفرد سلطة «الطيران رغم الحقائق»، تُقابلها مردوك بنظرة عميقة، لا ترفض فقط هذه الحرية العقيمة، بل تقدّم بديلًا أخلاقيًا متجذرًا في واقع ممتلئ بالمعنى. تعارض مردوك هذا التصور بميتا-أخلاق واقعية، وبممارسة فاضلة تتركز حول «الانتباه» و«الخيال»، وبعودة إلى مفهوم ميتافيزيقي للخير. فهي ترفض الأخلاق التي تُختزل في لحظة اختيارية عمياء، لتعيد تعريفها كقدرة على رؤية الحقائق الأخلاقية بوضوح، والتفاعل معها بحسٍّ مستنير. فالعالم الأخلاقي ليس فراغًا، بل هو نسقٌ من الحقائق التي تتطلب منا جهدًا لرؤيتها كما هي، والخضوع لسلطانها. 

إنّ هذا الانحناء أمام الحقائق لا يعني التسليم العاجز، بل هو ثمرة رؤية أخلاقية تتطلب خيالًا حيًّا وجهدًا مضنيًا. تقول مردوك: «إنني أختار فقط داخل العالم الذي أراه، والمعرفة بهذا العالم ليست سوى نتيجة للخيال الأخلاقي والعمل الأخلاقي». إنّ موقف مردوك الميتا-أخلاقي الواقعي يبدو صريحًا، لكن الخلاف يثور حول نوع هذه الواقعية. هل هي واقعية كلاسيكية؟ أم براغماتية؟ أم أنها واقعية تأملية كما يقول البعض؟ أم أنها، كما يذهب آخرون، موقف يتجاوز التصنيف التقليدي؟ الواقع أنّ لغتها تحملُ في طياتها التباسًا غنيًا؛ فهي تجمع بين الدعوة إلى الخضوع لواقع قائم بذاته، والرؤية إلى هذا الواقع باعتباره بناءً أخلاقيًا يتشكل عبر مفاهيمنا وجهودنا الروحية. هكذا تتراقص «الحقائق» بين كونها معطياتٍ نذعن لها، وكونها تجليات عميقة لرؤيتنا التي نصوغها بأيدينا وعقولنا.

إن قراءة بعض الفقرات الأساسية من تأملات مردوك بدقة كافية تُظهر أن الواقع الأخلاقي ليس مجرد واقع من الحقائق الخام. تقول مردوك: «تبدو الاختلافات الأخلاقية أقل شبهاً باختلافات الاختيار، بالنظر إلى نفس الحقائق، وأكثر شبهاً باختلافات في الرؤية. بمعنى آخر، يبدو المفهوم الأخلاقي أقل شبهاً بسياج متحرك ومرن مُعدّ لتحديد منطقة معينة من الحقائق، وأكثر شبهاً باختلاف شامل في الإدراك (Gestalt). نحن مختلفون ليس فقط لأننا نختار أشياء مختلفة من نفس العالم، ولكن لأننا نرى عوالم مختلفة». 

لذلك فإن الواقع الأخلاقي الذي تشير إليه مردوك ليس هو الواقع الخام العاري فقط، ولكنه جزء من الرؤية الشاملة التي لدينا عن العالم. بمعنى أن الحقائق الأخلاقية التي تستدعيها هي نوع معقد جدًا من الواقع: «وفقًا للرؤية البديلة التي أقترحها، تختلط الحقيقة والقيمة بطريقة غير ضارة تمامًا. سيكون من الصعب للغاية الاعتراض على القول بأن هناك 'حقائق أخلاقية'، يُنظر إليها على أنها تفسيرات أخلاقية للمواقف، حيث يُحدد المفهوم الأخلاقي المعني ماهية الموقف، وإذا انهار المفهوم، فإننا لن نكون بعد ذلك في نفس الموقف أو أمام نفس الحقائق. باختصار، إذا اعتُبرَت المفاهيم الأخلاقية تشكيلات عميقة للعالم الأخلاقي بدلاً من كونها حدودًا مرسومة لفصل المناطق الواقعية، فلن تكون هناك حقائق 'وراءها' يمكن اعتبارها بشكل خاطئ حقائق على هذا النحو». 

وتضيف: «العالم الذي نواجهه ليس فقط عالمًا من 'الحقائق'، ولكنه أيضًا عالم قد عملت عليه خيالاتنا بالفعل. وعلى الرغم من أن هذا العمل يمكن أن يكون في كثير من الأحيان 'خيالاً' يشكل عائقًا لرؤية ما هو موجود بالفعل، إلا أنه لا يجب أن يكون كذلك دائمًا». 

لذلك، يجب قراءة دعوة مردوك إلى الواقعية بحذر وذكاء: فهي لا تُعيد ببساطة طرح الواقعية الأخلاقية التقليدية، كما تُذكّرنا مرارًا: «الحرية، التي هي في حد ذاتها مفهوم أخلاقي وليس مجرد شرط مسبق للأخلاق، لا يمكن هنا فصلها عن فكرة المعرفة. ما يتم التعرف عليه، أي تلك 'الحقيقة' التي نميل بطبيعتنا إلى التفكير فيها على أنها تُكشف من خلال 'الانتباه السليم'، يمكن بالطبع، نظرًا لتنوع الشخصية البشرية والمواقف، أن يُعتبر شيئًا 'واحدًا'، ككيان واحد للجميع، فقط بمعنى بعيد جدًا ومثالي». 

ومع ذلك، فهي لا تدعو أيضًا إلى شكل من أشكال البناء الذاتي (constructivism)؛ لأن إصرارها على الرؤية، والطاعة، ونظامية فكرة الواقع، والحاجة إلى كسر الصور التي تأسر الذات، قوي جدًا. تتابع مردوك: «أشعر بأنني أستطيع أن أقترح أنه على مستوى الحس السليم الجاد والتأمل غير الفلسفي في طبيعة الأخلاق، من الواضح تمامًا أن الخير مرتبط بالمعرفة: ليس بمعرفة غير شخصية وشبه علمية للعالم العادي، أيًا كان، ولكن بإدراك دقيق وصادق لما هو موجود بالفعل، وهو تمييز صحيح وصبور واستكشاف لما يوجد أمامنا، والذي لا ينتج فقط عن فتح أعيننا، بل عن نوع من الانضباط الأخلاقي». 

تقول أيضًا: «الإرادة تؤثر باستمرار على القناعة، سواء للأفضل أو الأسوأ، ويمكنها من الناحية المثالية التأثير عليها من خلال انتباه عالٍ للواقع. هذا ما تعنيه سيمون فايل عندما تقول إن 'الإرادة هي طاعة، وليست قرارًا'. كعوامل أخلاقية، يجب أن نحاول رؤية الأمور بالطريقة الصحيحة، التغلب على التحيزات، تجنب الإغراء، السيطرة وكبح الخيال، توجيه التأمل. الإنسان ليس مجرد مزيج من مفكر عقلاني غير شخصي وإرادة شخصية. إنه كيان موحد يرى ويرغب بناءً على ما يراه، وهو كيان لديه بعض السيطرة، ضعيفة ولكن مستمرة، على اتجاه ورؤية إدراكه». 

وتضيف: «ما هو حقيقي يمكن أن يكون 'غير تجريبي' دون أن يكون منظومة كاملة. في مواقف معينة، 'الواقع'، بمعنى ما يتم الكشف عنه للعين الصبورة للحب، هو فكرة مفهومة تمامًا للإنسان العادي». في هذا الإطار، العامل الأخلاقي «ملزم بالطاعة للواقع الذي يستطيع رؤيته». لذلك، هناك فكرة معقدة ومتطورة للواقع، حيث لا يُقصد بالواقع أن يكون مجموعة من الحقائق المادية الخام التي يمكن ملاحظتها وقياسها تجريبيًا، بل حدًا مثاليًا أو فكرة عقلانية؛ أي فكرة معيارية دون الانزلاق إلى «طبيعية غير دوغمائية». «الخير لا يمكن تعريفه، ليس للأسباب التي قدمها الفلاسفة الذين جاءوا بعد مور، ولكن بسبب الصعوبة اللا متناهية لمهمة إدراك واقع يمارس جذبًا مغناطيسيًا لا ينضب».

«وتتمثل هذه المهمة في صياغة 'أنساق مفاهيمية غنية ومثمرة، تساعدنا على التأمل في طبيعة التقدم والفشل الأخلاقيين، وأسباب اختلاف المزاج الأخلاقي بين فرد وآخر، وفهمها'». ما هو مؤكد أن النداء إلى الواقعية، أو بالأحرى النداء العاطفي للعودة إلى الواقع، يشكل أحد الأعمدة الأساسية في فكر مردوك، وهو ثابت في كتاباتها، يتكرر كنغمة مستمرة في لغتها التي تغمرها المصطلحات ذات الطابع الواقعي الواضح.

وفي هذه المرحلة، من المهم أن نلاحظ أن هذا النداء قد تم استيعابه في المقام الأول كجزء من نظرية ميتا-أخلاقية، في حين أنه لم يُعطَ الاهتمام الكافي لتحليل الواقعية عند مردوك باعتبارها منظورًا شاملاً لا يمكن فهمه إذا اقتصرنا على اعتباره أطروحة ميتا-أخلاقية فقط، دون أخذ تعقيداته الأخرى في الاعتبار. بمعنى أن الواقعية لا تظهر فقط كموضع في ميتا-الأخلاق، بل أيضًا كـ«واقعية منهجية»، أي كمعيار للحكم على جودة النظرية، و«واقعية وجودية»، أي وصف لموقف وأسلوب أساسي للعامل الأخلاقي في التعامل مع الوجود، وهو يتمثل في الانفتاح على الواقع والخروج من الأوهام.

أما بالنسبة للجوانب الأولى، فإن الواقعية المنهجية تبرز بقوة من خلال الانتقادات التي توجهها مردوك للنظريات المعارضة. بعد أن تعرض لمفهوم الوجودية عن الحرية، على سبيل المثال، تساءلت مردوك، قبل أن تبدأ في تفنيدها: «دعونا نسأل أنفسنا الآن ببساطة ما إذا كان هذا حقيقيًا. دعونا نسأل إذا كانت تجربتنا الحياتية فعلاً تعكس هذه الفكرة للحرية الأخلاقية؟». إنها منهجية مثيرة جدًا: فحجج مردوك لا تجري أبدًا في الفراغ؛ بل دائمًا ما تستند إلى الخبرة العادية، وأمثلة مأخوذة من الحياة اليومية التي يمكن للإنسان العادي فهمها، وعند تقييم صلاحية فكرة معينة، تجعل الواقعية، بمعنى المصداقية والقدرة على التفسير الواقعي، معيارًا للحكم. ليس كافيًا أن تعمل نظرية ما؛ بل يجب أن تكون قادرة على شرح وتجسيد التجربة كما هي في واقعها. وهذه ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل هي المنهجية الاستدلالية المستمرة لمردوك؛ حتى فيما يتعلق بالوجودية: «الوجودية... هي، في رأيي، عقيدة غير واقعية ومتفائلة بشكل مفرط تنقل قيمًا زائفة تمامًا»، «الصورة التي نملكها عن أنفسنا أصبحت متضخمة للغاية، لقد عزلنا أنفسنا من خلال تحديد أنفسنا بفكرة غير واقعية عن الإرادة«، «الفكرة الوجودية عن الاختيار، سواء كانت سريالية أو عقلانية، تظهر غير واقعية، مفرطة التفاؤل، ورومانسية...». 

الالتزام بالواقع، إذًا، يصبح إلزاميًا حتى بالنسبة للطريقة التي يتم بها البحث الفلسفي: تُقاس صلاحية نظرية ما من خلال قدرتها على تفسير ما يحدث بالفعل في الخبرة اليومية. والنظرية التي تتناقض بشكل صارخ مع أكثر الحدس شيوعًا وعميقًا في الإنسان العادي، مهما كانت متقنة أو مثيرة، يجب رفضها. المتعلق بالحقل الأوسع. نحن لم نعد في مجال الفلسفة الأخلاقية فقط، بل أصبحنا نتحدث عن الممارسة الأخلاقية الفعلية. الخطوات نفسها التي تعرض فيها مردوك مفهومها للواقعية الميتا-أخلاقية يمكن قراءتها كأنها نماذج لموقف أخلاقي يتسم بممارسة «تنسك» للخروج من الذات، وهي ممارسة لا تهدف فقط إلى تحقيق فهم أفضل للظاهرة الأخلاقية، بل أيضًا إلى عيش حياة جيدة، وهو أمر ممكن أيضًا للإنسان العادي الذي يجهل النقاشات حول الوضع الوجودي للقيمة. ولفهم ذلك تمامًا، يجب أن نبدأ بتعريف الوكيل الأخلاقي باعتباره «حاجًّا أخلاقيًا»، وتوصيف الإنسان الذي تعارضه مردوك مع التصور الوجودي: «نحن مخلوقات تعذبها القلق. عقولنا دائمًا في حالة نشاط؛ إنها تخلق ستارًا قلقًا، في الغالب مشغولًا بنفسه وغالبًا ما يشوه الحقيقة، مما يخفي جزئيًا العالم».

لكن إذا كان هذا هو ما نحن عليه، فكيف يمكننا إعادة التوجيه في عصر أصبح فيه الدين غائبًا، ومعه غابت ليس فقط تعزيته، ولكن أيضًا الدوافع التي كان يوفرها لتوجيه الطاقة والانتباه؟ كيف يمكننا إذن تنقية المساحة الواسعة للحرية، بعد أن تم التعرف عليها على أنها لا تختزل إلى اللحظة الفردية للاختيار المنعزل، وحدد طابعها الشامل والمتغلغل، والمشبع بالعناصر المعرفية؟ كما تقول مردوك: «هل من الممكن تحديد تقنيات للتنقية وإعادة التوجيه للطاقة التي هي بطبيعتها أنانية، تقنيات قادرة على جعلنا نتصرف بشكل صحيح عندما تظهر لحظات الاختيار؟... تقنيات الدين أقرب إلينا وأكثر ألفة؛ أكثرها ممارسة هي الصلاة. فما مصير هذه التقنية في عالم بلا إله؟».

إجابة مردوك، كما هو معروف، تكمن في اقتراح إعادة تركيز البصر، أي اكتساب مواضيع جديدة للانتباه، تمامًا كما أن الشخص الذي يرغب في فقدان مشاعره لا يكفيه (أو ربما يكون ضارًا) بذل جهد «عضلي» للإرادة، بل يجب عليه توجيه طاقته المعرفية والعاطفية نحو موضوعات مختلفة عن المحبوب. والهدف من هذه المسيرة من إعادة التوجيه هو الخروج من الحلم والخيال الشخصي، والقبول بالواقع كما هو: «يمكن للمرء أن يبدأ بالقول بأن الأخلاق، أي الخير، هي شكل من أشكال الواقعية. فكرة الإنسان الطيب الذي يعيش في حلم خاص به تبدو غير مقبولة بالنسبة لنا... العدو الرئيسي للكمال في المجال الأخلاقي (وأيضًا في المجال الفني) هو الخيال الشخصي: تلك الشبكة من التأكيدات الذاتية، والرغبات، والأحلام المريحة التي تمنعنا من رؤية ما هو غيرنا...».

الدليل على هذا المسار هو فكرة الكمال، التي يُقصد بها مثالية لا يمكن إدراكها بالكامل، لكنها في نفس الوقت تجذب وتدعم، مما يقود الحاج الأخلاقي ويضبط مفاهيمه. كما هو معروف، يجر الحاج إلى خارج حلمه الخاص بمساعدة الجمال والمحبة. لكن ما نريد التأكيد عليه هنا ليس ما هي الطرق التي يتم بها الخروج من الذات، أو ما هي القوة المحركة التي تجعل ذلك ممكنًا، بل حقيقة أن الميزة الأساسية للوكيل الأخلاقي الفاضل هي تلك الصفة من الواقعية الوجودية التي تم الإشارة إليها سابقًا. على الرغم من أن مردوك تشارك مع تي. إس. إليوت الوعي بأن «البشر لا يستطيعون تحمل الكثير من الواقع»، إلا أن جوهر تأملها هو التلاقي بين الفضيلة والخير والمحبة والقدرة على قبول الواقع، بالإضافة إلى إعادة التصور للإرادة والحرية التي يحملها هذا التلاقي. كما تظهر بوضوح أمثلة الفن العظيم وتأمل الطبيعة: «السلطة على الخير تظهر لنا ضرورية لأن الواقعية (القدرة على إدراك الواقع) المطلوبة من أجل الخير هي القدرة العقلية على إدراك ما هو صحيح، وفي نفس الوقت، بديهياً، تهدئة الذات... للوصول إلى رؤية دقيقة لا يكفي فقط تهدئة الذات. الفنان العظيم يرى موضوعاته من منظور العدالة والرحمة (وهذا ينطبق في جميع الحالات، سواء كانت حزينة، أو سخيفة، أو مزعجة، أو حتى شريرة). التوجه يكون، على عكس ما يحدث عادة، نحو الخارج، بعيدًا عن الذات التي تختزل كل شيء إلى وحدة زائفة، نحو التنوع الكبير والمذهل للعالم، وما يجعلنا قادرين على توجيه انتباهنا بهذه الطريقة هو الحب». وأيضًا: «الفن والأخلاق شيء واحد... جوهرهما هو نفسه. جوهر كليهما هو الحب، والحب هو القدرة على فهم الفردية. الحب يعني الفهم، ومن الصعب جدًا أن ندرك أن شيئًا ما غيرنا هو حقيقي. الحب، ومن ثم الفن والأخلاق، هو اكتشاف الواقع... الحب هو الاعتراف التخيلي بالآخر من غيرنا، مما يعني احترام هذه الغيرية».

الحاجّ الأخلاقي هو ذاك الذي يشرع في مسيرة تحرر من استبداد الأنا واستحواذاته، ويقبل بالمهمة العسيرة المتمثلة في الانفتاح على الواقع في غرابته لاستقباله بمودة ومحبة؛ وفي ذلك، يبلغ الحاجّ حقيقة الحرية، لأنه يقطع قيود الأوهام المُسكِّنة التي تقيده، ويتصالح مع الواقع: «الحرية، التي تمثل الغاية الصحيحة للإنسان، هي الحرية من الخيال، أي الواقعية القائمة على الشفقة. ما أسميته بالخيال، هذا التفشي للصور والأهداف الأنانية الوهمية، هو في حد ذاته نظام قوي من الطاقة، ومعظم ما يُسمى إرادةً وعفويةً ينتمي إلى هذا النظام. ما يعارض هذا النظام هو الانتباه للواقع المستوحى من المحبة والمبني عليها. [...] إن التعلق بما هو خارج آلية الخيال، وليس تحليل الآلية ذاتها، هو السبيل للتحرر».

هذا التوجه تجسده الديناميكية التي تظهر في المثال الشهير لـ«M» و«D» . فعندما يحلل الفيلسوف الأخلاقي هذا المثال، يمكنه استخدامه لإظهار أنه، في مواجهة الوجودية، هناك عالم أخلاقي يتمتع بسلطته الخاصة، أو، في مواجهة السلوكية، أن الحياة الأخلاقية لا يمكن اختزالها في الأفعال المرئية فقط، بل تمتد إلى أعماق داخلية للفرد، على الأقل فيما يتعلق بحالة الانتباه المحب التي تعيد توجيه نظرة الفاعل. ولكن عند النظر من منظور الفاعل، فإن الواقعية التي تُظهرها «M» ليست مجرد نظرية ميتا-أخلاقية، بل هي خيار أخلاقي جوهري، اختيار الانفتاح وقبول إمكانية تغيير النمط الإدراكي. إنها قرار إدخال الخارج بدلًا من إسقاط الأوهام والتطلعات النرجسية عليه. إنه موقف وجودي، واختيار أساسي. «ما تحاول 'M' فعله، وفقًا للفرضية، ليس فقط رؤية 'D' بدقة، ولكن أيضًا بإنصاف ومحبة. [...] نشاط 'M' في جوهره شيء تقدمي، شيء يمكن تحسينه إلى ما لا نهاية. [...] إنها منخرطة في مهمة لا نهائية».

الحاجّ الأخلاقي، الذي يبذل جهده في التحرر من الذاتية والانفتاح على الواقع، يتخذ موقفًا متاحًا لأي إنسان عادي، حتى لو كان في أوضاع حياتية مألوفة. لكن هذا لا يعني، بالطبع، أن المهمة سهلة: بل هي رحلة طويلة لا تكتمل أبدًا بشكل مثالي، وتشمل العقل والإرادة والانتباه والخيال، وتحمل طابعًا دراميًا بطبيعته، وأحيانًا مأساويًا. فالمسيرة تتطلب صراعًا دائمًا مع الدوافع الأنانية، ليس بهدف القضاء عليها، بل لتحويلها إلى طاقة موجهة نحو الخير، وإعادة تشكيل العالم في المخيلة بما يحترم غربة الآخرين ويحبها. إنها رياضة روحية حقيقية، قد تعرف لحظات سقوط، ويجب أن تُمارس بوعي كامل، حيث يتحمل كل فرد المسؤولية الأخلاقية عنها، لأنها تؤثر على جودة العلاقة بين الذات والعالم.

الواقعية الوجودية لدى آيريس مردوك تجد صدىً مدهشًا في كلمات مفكر معاصر لها، تأثر بلا شك بدائرة فكرية مشتركة، وإن كان يختلف عنها في كثير من النواحي: سي. إس. لويس. هذا الكاتب الكبير، المعروف بكتاباته المسيحية والسردية، يُعد واقعيًا أخلاقيًا بمعنى عميق على طريقة توما الأكويني. من منظور ميتا-أخلاقي، يمكن أن تصنّف مردوك لويس ضمن «أخلاقيي القانون الطبيعي»، وهي فئة لا تدينها بقدر ما تدين الوجوديين، ولكنها لا توافق عليها تمامًا، إذ ترى أنها تقيد الفرد ضمن بنية تتجاوزه وتعلو عليه. ومع ذلك، يظهر تقارب مدهش بين هذين المفكرين فيما يتعلق بنمط الواقعية الوجودية. يتجلى هذا التقارب عند تحليل واحدة من أكثر أعمال لويس تفرّدًا، وهي «يوميات حزن». كتبها لويس تحت اسم مستعار «إن. دبليو. كليرك» عام ١٩٦١ بعد وفاة زوجته الحبيبة غويدافيدمان بمرض السرطان عقب زواج لم يدم سوى ثلاث سنوات. يُعد هذا العمل بمثابة سجل حي لتجربة ألم مروّع، وتحديات هذا الألم للإيمان واليقينيات التي كان يتمسك بها لويس كلاهوتي وأخلاقي. جوهر هذا العمل هو وصف ظلام الشك الوجودي ورحلة العودة إلى النور، حيث كانت الطريق تمر عبر هدم الصور والالتصاق بالواقع.

يبدأ لويس بوصف حالته: فقد فقد زوجته المحبوبة (يشير إليها طوال الكتاب بحرف «هـ.»، وهو اختصار اسمها الأول، هيلين). يجد نفسه في قبضة الألم، ويصفها بأنها أشبه بـ«غابة مظلمة» من الذكريات والصور التي تميل إلى مثالية غير واقعية، مما يحوّل حقيقَتها إلى صورة يمكن تشكيلها كيفما شاء، ويجعله أسيرًا لعالمه الخاص المثقل بالأفكار، فيفقد بذلك التواصل مع العالم الخارجي. يقول: «أفكر بها دائمًا. أفكر بالأشياء التي كانت هي: كلماتها، نظراتها، ضحكاتها، أفعالها. ولكن من يختار ويجمع تلك الأمور هو عقلي. لم يمر شهر واحد على وفاتها، وأشعر بالفعل ببداية عملية بطيئة وخبيثة تجعل من هـ. التي أفكر بها امرأة أكثر فأكثر خيالًا. […] لم تعد الحقيقة موجودة لتوقفني، لتفاجئني كما كانت تفعل هـ. الحقيقية، بطرق غير متوقعة، بكونها هي تمامًا وليست أنا».

لقد اختفت حقيقة الحبيبة التي كانت، كما تقول مردوك، تقف أمام فيض الخيال، معارضةً إياه بصلابة كيانها المختلف. فكما ترى مردوك، كذلك يرى لويس أن الحب، وبالأخص حب الشخص الآخر، هو وسيلة جبّارة تجذب الذات إلى الواقع، منتشلةً إياها من أسر أوهامها: «أثمن هدية تلقيتها من الزواج كانت هذا الاحتكاك المستمر بشيء قريب جدًا وحميمي، ومع ذلك كان دائمًا وأبديًا مختلفًا، مقاومًا – بكلمة واحدة، حقيقيًا». لكن بفعل الموت، انتهى هذا الدور القيّم الذي كان يهدم أوهام الخيال، وتركت الذات في مواجهة صورها الخاصة: «ببطء وصمت، مثل تساقط رقائق الثلج […]، تتراكم طبقات صغيرة مني على صورتها: انطباعاتي، اختياراتي. وفي النهاية ستصبح الشكل الحقيقي مغطى بالكامل. عشر دقائق، عشر ثوانٍ من هـ. الحقيقية كانت لتصلح كل ذلك. لكن حتى لو أُعطيت هذه اللحظات، ستبدأ الرقائق في السقوط مرة أخرى بعد ثانية واحدة. ذلك الطعم اللاذع، المرهف، المطهر لغرابتها قد اختفى».

ومع ذلك، فإن كتاب «يوميات حزن» يروي رحلة «الحج الأخلاقي»، كما تصفه مردوك، من أسر الصور إلى مواجهة الواقع؛ من صورة الحبيبة وصورة الإله (كما ينبغي أن يكون الإله في تصوره) إلى الحبيبة الحقيقية وإلى الإله الحقيقي. إنه حج من الإيمان الظاهري (كقصر من الورق) إلى الإيمان الحقيقي، ومن حب الصورة الذاتية لـ «هـ.» إلى تسليم السيادة لـ«هـ.» الحقيقية. فـ«هـ.» والإله هما محوران أساسيان في حياة لويس، يحتاجان إلى تحريرهما من الخيال واستعادة حقيقتهما المستقلة.

هذه الرحلة ممكنة لأن الواقع، على حد تعبير لويس، «مدمر للصور». فمهما يكن، تظل هناك نقاط من الواقع تخترق الصور وتدمر الأوهام. العمل الجبار الذي قام به لويس هو إيجاد مساحة لهذه النقاط، ومغادرة الحلم، بامتلاك الشجاعة للتخلي عن الصور، رغم كونها أدوات مطمئنة تُسكّن الألم. يقول: «القبر والصورة كلاهما رابط لما لا يمكن استعادته ورمز لما لا يمكن تخيله. لكن الصورة لها عيب إضافي، وهو أنها مستعدة لفعل كل ما نريده. ستبتسم أو تكتئب، ستكون رقيقة، مرحة، صريحة أو جدلية، وفقًا لحالتنا المزاجية. إنها دمية نحرك خيوطها. لكن الحديقة الواقعية، على النقيض، هي عنيدة، صلبة، وغالبًا ما تكون عصية – تمامًا كما كانت هـ.».

الصورة هي إغراء خادع يجب تجاوزه وهدمه من خلال الالتصاق بالواقع: «الصور، على ما يبدو، لها فائدتها، وإلا لما كانت شائعة جدًا. […] لكن بالنسبة لي، يبدو خطرها أكبر. الصور المقدسة يمكن أن تتحول بسهولة إلى قداسة الصور. فكرتي عن الإله ليست فكرة إلهية. يجب أن تتحطم باستمرار. وهو نفسه من يحطمها. إنه المدمر العظيم للصور. […] كل الواقع هو مدمر للصور. المحبوبة الأرضية، حتى في هذه الحياة، تنتصر باستمرار على فكرتنا البسيطة عنها. ونحن نريدها كذلك: بكل مقاوماتها، عيوبها، وتناقضاتها. أي، في واقعها الصلب والمستقل. وهذا، وليس الصورة أو الذكرى، هو ما يجب أن نستمر في محبته بعد وفاتها. […] ليس فكرتي عن الإله، بل الإله. ليس فكرتي عن هـ.، بل هـ.».

يتابع لويس ليكشف بعمق أن إدراك الحقيقة يتطلب منا صدمة جذرية تعيدنا إلى الواقع عندما نكون غارقين في أوهامنا وصورنا المصطنعة عن الآخرين. هذه الصدمة ليست مجرد لحظة عابرة، بل هي اختبار حاسم يواجه الإنسان به وهمه، ليكشف مدى المسافة التي تفصل بين ما يتخيله وبين الحقيقة الصلبة والمستقلة للآخر. يقول: «وربما لا ندرك أبدًا هذا الخطأ، إلا إذا ابتعد الآخر عنا بطريقة جذرية تجعلنا نفيق من أوهامنا، وندرك أننا كنا نتعامل مع صورة، لا مع حقيقة». هذا الاعتراف يضعنا أمام مسؤولية أخلاقية ووجودية كبرى، حيث ينبغي علينا ألا نكتفي بتصوراتنا عن الآخرين، بل أن نسعى إلى فهمهم كما هم في حقيقتهم، بكل ما تحمله هذه الحقيقة من اختلاف وتحدٍ. لويس، كفيلسوف وكاتب وجودي، يبرز هنا أهمية أن تكون علاقتنا بالآخر، سواء كان إنسانًا أو فكرة أو حتى الإله، قائمة على انفتاح حقيقي، يرفض التمسك بالخيال الذي يُطمئننا لكنه يُبعدنا عن الجوهر.

وكما أن صورة «هـ.» لدى لويس كانت معرّضة لخطر أن تصبح مجرد انعكاس هشّ يمكن التحكم به عبر خياله الخاص، فإن الإيمان كذلك قد يتشوه في وجه الألم، ليصبح إله الواقع مجرد مرآة للمعاناة، مشوهًا إلى درجة أن يُرى كـ«السادي الكوني» أو «الأبله الخبيث» الذي يعذب مخلوقاته لمجرد التسلية، أو حتى «الجراح الأبدي» الذي يعامل البشر كما لو كانوا فئران تجارب: «وماذا لو كانت الحقيقة هي أن الإله دائماً ما يجري عمليات جراحية بلا توقف؟».

بالنسبة إلى مردوك، علاقة الإنسان بالإله قد تتحول بسهولة إلى وسيلة لصناعة عزاءات وهمية؛ أما لويس، فيرى أن الإله هو أحد الكيانات التي يجب أن تُمنح الانتباه المحب، بحيث لا يتم اختزاله في مجرد إسقاط لرغبات الإنسان أو جعله كبش فداء لمخاوفه: «تحدثوا إليّ عن حقيقة الدين، وسأصغي بسرور. تحدثوا عن واجب الدين، وسأستمع بتواضع. لكن لا تحدثوني عن عزاءات الدين، وإلا فسأشك في فهمكم». الطريق لاستعادة رؤية واقعية عن الإله ليس سهلاً، بل يتطلب انتباهاً وأمانةً شديدين: «لماذا أتيح لهذه الأفكار البشعة أن تجد مكاناً في عقلي؟ [...] أليست كل هذه الأفكار مجرد تفاهات سخيفة، تدل على أنني لا أريد قبول حقيقة أن المعاناة لا تقدم سوى المعاناة؟». إن هذا الصراع الداخلي العميق، كما يصفه لويس، يشير إلى أن التصورات التي صنعها من غضبه لم تكن نتيجة تأملٍ واعٍ، بل كانت نابعة من كراهية دفينة. 

ومع ذلك، فإن النهاية التي يصل إليها لويس بعد هذا السفر الداخلي ليست سوى التخلّي عن الصور المتخيلة والاستسلام للواقع الإلهي. يرى الإله في النهاية كـ«الجراح الذي يهتم فقط بخيرنا»: «هذه المحن ليست تجارب يختبر الإله من خلالها إيماني أو محبتي ليقيس جودتها. فهو يعرفها جيداً بالفعل؛ أنا الذي لم أكن أعرف. هذه المحن هي أشبه بدعوة للمحاكمة، حيث يجعلنا الإله متهمين وشهودًا وقضاة في آن واحد. كان يعلم دائمًا أن معبدي مجرد قلعة من الورق، والطريقة الوحيدة ليجعلني أدرك ذلك هي أن يهدمه». لقد كانت رحلة لويس من الوهم إلى الحقيقة رحلة مليئة بالتحديات، لكنها أعادت إليه اتصالاً عميقًا مع الواقع. ومع مرور الوقت، وصل إلى مرحلة القبول بأن الواقع، بجوهره، يتسم بتحطيم الأوهام: «الواقع، كما أراه مرارًا، ذو طبيعة أيقونوكلاستيكية (أي كاسرة للأيقونات). السماء ستجيب على أسئلتنا، ولكن ليس عن طريق تقديم مصالحة دقيقة بين كل الأفكار التي بدت لنا متناقضة. بل ستُزال تلك الأفكار من تحت أقدامنا، وسنكتشف أنه لم تكن هناك أي مشكلة من الأصل [...] والإجابة الحقيقية ستكون ذات بساطة مذهلة ومربكة». يرى لويس أنه لا يمكننا فهم كل شيء، لكن ربما الأفضل هو أن نقبل بما لا نفهم، وأن نسمح لهذا الغموض بأن يكون مجالًا للثقة والمحبة. فهو يدعو إلى أن نسمح للإله بأن يحبنا، دون أن نحاول إضفاء تفسير عقلاني أو منطقي على هذا الحب، وبدون أن نختزل العلاقة في تصوراتنا البشرية المحدودة.

لقد سعيت في هذا المقال لتوضيح أن «الواقعية» في فكر آيريس مردوك ليست مجرد أطروحة ميتا-أخلاقية، بل هي موقف شامل يدمج بين الممارسة التأملية والمنظور الوجودي، والذي يحمل في بعض جوانبه تشابهات مدهشة مع المسار الذي وصفه سي. إس. لويس في عمله «يوميات الحزن». كل من مردوك ولويس يشتركان في اهتمام عميق بجوهر الواقعية، وهو ما تعلمته مردوك جزئيًا من تأملات المفكرة الكبرى سيمون فايل، التي ترسم صلة عميقة بين استعادة العلاقة مع الواقع وتجربة الألم.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق