مولد الفارس المعوز

 

فيما يتحدث أهل الأرض عن جنون دون كيخوته، وحتى من خط حروف الرواية يتهمه أحيانًا بذلك، يظل في أعماق روحه شيء مهيب، شيء يضرب جذورنا حين نتأمله. وحين يحل ختام القصة، إذ يعود الرجل ليكفر عن مغامرات عمره، نشعر وكأننا ينبغي أن نفرح – فقد صحا العقل بعد غيابة طويلة – ولكننا بدل ذلك نغرق في بحور المأساة. أليس في هذا التراجع انكسار لنور كان يحاول أن يشق طريقه في ظلمة الحياة؟ فيعود إلينا السؤال: ماذا كان يبتغي دون كيخوته من حياته؟ أي جوهر كان يسعى لأن يخلقه، وأي عقبات حالت دون أن يبلغ مراده؟ إن أردنا فهم عثراته، فلنبدأ من حيث لم يكن بعد دون كيخوته، بل كان مجرد ألونسو كيخانو، رجل في زاوية مجهولة من «لامانشا»، مجهولة الاسم، مجهولة الزمن. يقول الكاتب في أول السطور:

في مكان من لامانشا، لا أريد أن أذكر اسمه، عاش رجل نبيل، من أولئك الذين لديهم رمح ودرع عتيق على الرف، وفرس هزيل وكلب سلوقي للسباق... بشرته متشققة، جسده هزيل، ووجهه نحيل، وكان مبكر الاستيقاظ، مغرماً بالصيد.

أي عالم هذا الذي يلفه الغموض؟ أي حياة تلك التي تغيب ملامحها وكأنها غبار يتلاشى في الريح؟ ألونسو، كما يصفه القلم، رجل عادي، بلا مجد ولا مأثرة، ولكن شيئًا ما كان يوشك أن يحدث له، شيئًا سيحيله إلى بطلنا الذي نعرف. إذ كيف لرجل كهذا، مغمور ملامحه وهزيل روحه، أن يصبح بؤرة الرواية ومحورها؟ ما نراه في الصفحة التالية ليس إلا البداية، فقد أخذ يقرأ. 

قضى السيد المذكور أوقات فراغه – التي تشكل غالبية أيامه – في قراءة كتب الفروسية بشغف مفرط، حتى أنه نسي تقريبًا أمر الصيد وإدارة شؤونه، وبلغت به الحماسة أن باع مساحات من أرضه ليشتري المزيد من تلك الكتب، ويكدسها في بيته.

ما كان يومًا من ملامحه – حبه للصيد – قد تبدل. نراه يهجر حياة العملية وضرورات الأرض ليكرس ذاته لعالم الكتب. غاب عن ذهنه أن يحرث أرضه، واستبدل الحقول بحروف مطبوعة، حتى وُصف بالحمق والطيش. وهل من عجب أن يراه أهل عصره غريب الأطوار؟ فمن يقيس العالم بالمادة، ومن يزن القيمة بميزان الإنتاج، سيجد هذا التحول جنونًا صرفًا. لكن هل كانت المشكلة في فعل القراءة ذاته؟ أم في تلك الكتب بعينها؟ ما نقرأه لاحقًا يكشف مزيدًا من أعماق هذا التحول. فقد استسلم ألونسو للغة مسحورة، لغة تنطق بما في القلب قبل أن يدركه العقل:

... كان يرى أن لا كتاب يضاهي تلك التي خطها فيليسيانو دي سيلفا، فقد كانت وضوح عباراته وتعقيد أسلوبه أثمن عنده من اللآلئ، خصوصًا حين يقرأ ما فيها من خطابات غرامية، حيث كان يجد عبارات كـ: (سبب اللاسبب الذي قاد سببي إلى ضعف السبب، يجعلني بحق أشتكي من جمالك)، وأيضًا: (السماوات العُلى تُعلي إلهيتك بنجومها، وتجعل منك أهلًا لما تستحقه عظمتك من مكافآت).

ها هو ألونسو يغير مقاييس قيمه؛ لم تعد الجواهر أثمن ما يُقتنى، بل الكلمات. لكن الغريب، أن وصفه لما يقرأه يحمل تناقضًا: إذ يمزج بين الوضوح في العبارة والتعقيد في الأسلوب، وكأنما يسعى وراء نور يتوارى خلف ستائر الحرير. أليس في هذا دلالة على عمق جوعه، على حيرته بين المعنى المباشر وزخارف البلاغة؟ بهذا، نجد أن ألونسو لم يكن مجنونًا، بل كان يبحث، يحاول أن يخرج من ضيق العادة إلى رحابة الخيال، أن يخلق من ذاته قصة تستحق أن تُروى.

إن الأمثلة التي نقلها القلم تكشف عن هذا التشابك الغريب في المعاني بمزيد من العمق. المثال الأول يعتمد على استحضار كل دلالات كلمة «العقل» أو «السبب»، إلى حد يربك الفكر ويغرقه في دوامات التأويل. فالكلمات هنا لا تقف كمرآة شفافة للمعنى، بل كألغاز متشابكة، تلعب على علاقة اللفظ بالمعنى حتى نفقد خيط ما يُقال. أما المثال الثاني فينسج لعبته في عالم الأصوات، حيث تتردد الأصداء بين كلمات مثل «السماوت»، و«العلى»، و«تعلي»، و«إلهيتك»، وكأنها ألحان لغوية تستدعي بعضها البعض. (وفي الإسبانية: divinidad، وdivinamente، وmerecedora، وmerecimiento). هنا أيضًا، يتعامل النص مع اللغة كلعبة، حيث لا تُعطى الأولوية للمعنى بقدر ما تُحتفى بالأصوات وتكرارها. لكن إذا ما انقطعت هذه الألاعيب عن المعنى، وإذا ما أصبحت مجرد عبث باللغة، فإنها تسقط تحت طائلة النقد المستحق لذلك النوع من الشعر الذي لا يقول شيئًا، بل يكتفي بتحريك القشرة الخارجية للغة. مثل هذا العبث يهدد بتحويل اللغة إلى كلام فارغ. 

بهذه الكلمات والعبارات فقد الرجل عقله، وأمضى الليالي ساهرًا يحاول فهمها واستخلاص معناها، وهي كلمات لو بُعث أرسطو من موته خصيصًا لفك شيفرتها لما استطاع فهمها أو تفسيرها.

أرسطو، الذي كان يحذر دائمًا من اختلاط المعاني ويدقق في قوالب اللغة، لو كان حياً لما استطاع فك شيفرة هذه الكلمات، مهما اجتهد لفهمها واستخلاص معانيها. وهنا يبدو أن سرفانتس يعيدنا مجددًا إلى العلاقة بين اللغة والمعنى. هل يجب أن تكون اللغة شيئًا آخر لكي تُفهم؟ وعندما نفهم اللغة، هل ما نقوم به هو استخراج المعنى أم شيئًا أعمق؟ للسؤال الأول، إذا كان لا بد أن تُفك شيفرة اللغة لفهمها، فهذا يعني أن هناك درجة إضافية من الفصل بين الشيء الذي تشير إليه الكلمة، وبين الكلمة ذاتها، وبين العقل الذي يحاول فهمها. وإذا أصبحت الكلمة مجرد شيفرة، فإن اللغة تصبح أكثر تجريدًا، ومع هذا التجريد تزداد احتمالية سقوطها في دائرة العبث اللفظي، حيث يبتعد المعنى لدرجة يصبح معها من الصعب الوصول إلى ما تشير إليه الكلمات. 

والمثير هنا أن الجنون الذي أصاب ألونسو كيخانو لم يكن نتيجة أفكار مترابطة ومتماسكة، بل كلمات وعبارات منفصلة، كلمات تقف بلا جذور في العالم الواقعي. 

باختصار، انشغل الرجل بالقراءة حتى أمضى الليالي مستغرقًا فيها من الغروب حتى الشروق، وأيامه من الفجر حتى المغيب. ومع قلة النوم وكثرة القراءة، جفت دماغه، وفقد عقله. أصبحت مخيلته مغمورة بكل ما قرأه في كتبه: السحر، والقتال، والمعارك، والتحديات، والجراح، والغزل، والحب، والعذاب، وغيرها من الحماقات المستحيلة، حتى بات يعتقد في أعماق خياله أن هذه القصص هي أصدق ما كُتب على الإطلاق.

قد يُقال إن هذا مجرد وصف شعري لانتقال ألونسو كيخانو إلى الجنون، لكن اللافت هنا هو التركيز المكثف على الزمن وعلى كيفية استثماره بالكامل في القراءة. ماذا لو كان قد قسم يومه بين القراءة وأشياء أخرى؟ هل كان ذلك ليمنعه من فقدان عقله؟ يبدو أن الانغماس الكامل والمطلق في عالم الكتب يخلق خطرًا؛ إذ تصبح اللغة في هذه الحالة معزولة عن العالم الحقيقي الذي تشير إليه. وإذا كانت اللغة تشير إلى أشياء في العالم، فإننا بحاجة إلى تجربة تلك الأشياء لفهم ما تشير إليه. لكن إذا قضينا حياتنا كلها غارقين في الكتب وحدها، نلاحق كلمات تشير إلى كلمات أخرى دون أن تمتد جذورنا في الأرض التي تعطيها المعنى، فإننا بذلك نعيد خلق الكلام الفارغ نفسه الذي أوقعتنا فيه تلك الأمثلة الشعرية.

الدراسة الفكرية تطلب منا نشاطًا مزدوجًا: فهي تشمل دراسة الأفكار المرتبطة بالعالم، ولكنها تتطلب أيضًا أن نعكس تلك الأفكار على حياتنا لنستخلص منها معنى حقيقيًا. يمكننا تحقيق ذلك عبر التجربة أو الخيال؛ ومع ذلك، حتى عندما نفهم الأمور عبر الخيال، يبدو أن الخيال يعتمد هو الآخر على مزيج من الأشياء التي نعرفها مسبقًا من خلال التجربة. إذا تم إهمال التفاعل مع جوانب أخرى من العالم، وإذا لم يكن هناك وقت للراحة أو التأمل، فإن اللغة قد تبدأ بفقدان ارتباطها بتجربتنا للأشياء. وعندها، تصبح اللغة دائرية وغريبة، متقوقعة على ذاتها. وإذا ما مُنح الخيال كلمات وعبارات فقط للعمل بها، وإذا ما امتلأت «الخيالات بكل ما قرأه في كتبه»، كيف يمكننا إذًا أن نُقيم معيارًا للحقيقة؟ لكن، لمعالجة هذا الأمر، قد يكون من المفيد التعمق أكثر في العلاقة بين الكتب والأفكار والحياة.

لنبدأ ببساطة: الكتب تحمل قوة تدعونا للتوقف للحظة، للابتعاد عن صخب العالم والانغماس في التأمل. تمنحنا فرصة لرؤية العالم بعيون الآخر، لنرى الحياة اليومية التي نعيشها من خلال بنية تفسيرية مختلفة عن تلك التي نعيش بها عادةً. وكما أشرنا، لفهم ما يقوله الكتاب، نحن مطالبون بترتيب تجاربنا الشخصية والبحث عن المعاني التي ترتبط بكلمات المؤلف من واقع حياتنا. نبدأ بما هو أكثر قربًا لنا، التجارب التي قادتنا إلى تشكيل الأفكار التي توفر لنا بنية نعيش من خلالها في العالم. لكن ربما كنا متهورين أو سريعَي الحكم، حيث تطغى الحاجة إلى التصرف على رغبتنا في الفهم. يمكننا بسهولة أن نصبح متصلبين في أفكارنا ونبدأ في عيش حياتنا وفق افتراضاتنا عن العالم دون التساؤل عما إذا كنا قد فهمنا حقًا. هذا لا يعني أن آراءنا سيئة بالضرورة، بل على العكس، من الضروري الاعتراف بها كي نعرف من أين نبدأ. يبدو محاولة محو جميع آرائنا لبدء جديد أمرًا غريبًا، كما لو كان يفترض أنه لا قيمة لآرائنا أو أن لا سبب دفعنا للتفكير كما نفعل. وهذا يبدو غير صحيح، لأننا حتى وإن لم نفكر في الأمور بشكل كافٍ أو لم نرَ سوى لمحة ضئيلة منها، فإن هناك شيئًا يمكننا البناء عليه، وتوسيعه، وضبطه.

علينا أن ندرك مع ذلك أن هذه الآراء ليست سوى آراء، وأنها بحاجة إلى إعادة صياغة وتنقيح مع تقدمنا في الحياة ورؤيتنا للمزيد. هناك توازن دقيق مطلوب بين القدرة على التصرف في العالم، واتخاذ قرارات عملية، والبقاء منتبهين للآراء التي نحملها والتي تدفعنا للتصرف، مع إبقائها مفتوحة كمسائل للنقاش. قد تكون هناك أيضًا أمور اكتشفنا أنها أكثر صدقًا من غيرها، أفكار وصلنا إليها بعد تفكير عميق، تتكرر في تجاربنا وملاحظاتنا حتى نقنع بأنها تلعب دورًا جوهريًا في بنية الأشياء. وقد نجد في الكتب أحيانًا أشياءً تتردد مع الحقيقة، لكنها تحمل في ذاتها خطرًا مصاحبًا لقوتها. فالكتب، بينما تتيح لنا رؤية أوسع للعالم، ويمكن أن تمنحنا صياغات أكثر وضوحًا ودقة للأشياء التي ربما لم نرَ منها سوى ظلالًا ضبابية في السابق، يمكنها أيضًا أن تجعل أفكارنا أكثر جمودًا. الكلمات قد تصبح سلطات نهائية نعتمد عليها بدلًا من التفاعل معها.

مرة أخرى، هناك توازن دقيق مطلوب. من جهة، تقدم الكتب أفكارًا قد نحتاج إلى الجلوس معها طويلًا لفهمها، وتعكس حياتنا وأفكارًا أخرى عليها. نحن نمسك بها، نختبرها، ننتظر لنرى من أي زاوية يجب أن يسقط الضوء عليها لتنبض بالحياة. من جهة أخرى، قد يبدو هذا قريبًا من التمسك العقائدي بالأفكار، الجمود الذي يردد تلك الصياغات كأنها شعارات، والذي يصر ويفرض نفسه ورؤيته للحقيقة على العالم. لكن على الرغم من أن هذا التطرف مقلق لدرجة أننا قد نرغب في الابتعاد عنه تمامًا، إلا أنه لا ينبغي أن يردعنا عن امتلاك نوع من الإيمان الفكري. هذا الإيمان الفكري يشبه الفكرة التي تقول إن آراءنا ليست خاطئة تمامًا، بل إنها تلامس شيئًا من الحقيقة، والتحدي يكمن في مدى قربها من الشيء الذي نحاول التفكير فيه. إنه إيمان بأن العقل البشري يميل بطبيعته إلى الحقيقة، وأن له علاقة حقيقية بالعالم، وأن هناك صلة بينه وبين تجربتنا. لكن ربما كلمة «إيمان» ليست الكلمة الصحيحة هنا، لأنها تحمل إشكاليات. فالإيمان غالبًا ما يستخدم في سياق ديني كمفهوم معارض للعقل، كفعل إرادة يسكت هواجس العقل لأنه يعترف بعدم قدرته على إدراك ما يبحث عنه. هذا ليس تمامًا ما أقصده. لكن ما الذي أعنيه إذن، ولماذا أميل إلى تسميته إيمانًا؟

ما يتبادر إلى ذهني أولًا عندما أفكر فيما أسميه «الإيمان الفكري» هو مقطع في حوار «مينو»، حين يسأل مينو سقراط كيف يمكننا أن نتعرف على الأشياء التي نبحث عنها إذا كنا لا نعرفها: 

وكيف ستبحث يا سقراط، عن شيء لا تعرف عنه شيئًا؟ ما نوع الشيء، من بين تلك التي لا تعرفها، الذي تقترح أن تبحث عنه؟ أو حتى إذا حدث، في أحسن الأحوال، أن تصادفه، كيف ستعرف أنه هو الشيء الذي لا تعرفه؟

يرد سقراط بسؤال مينو عمّا إذا كان لا يرى «كيف أن هذا الجدال يميل إلى النزاع»، ثم، بعد أن يروي ما قاله الحكماء عن خلود الروح، يلاحظ: 

لأنه بما أن الطبيعة كلها مترابطة، والروح قد تعلمت كل الأشياء، فلا شيء يمنع الشخص الذي يتذكر (ما يسميه الناس التعلم) شيئًا واحدًا فقط من اكتشاف كل الأشياء الأخرى، طالما أنه شجاع ولا يتعب من السعي. ولهذا، فإن السعي والتعلم يتكونان بالكامل من التذكر. 

ما أودّ تسليط الضوء عليه هنا ليس فقط ما سبق، ولكن ما يتبعه. يبدو أن سقراط يشير إلى النشاط المتمثل في ربط ما نعرفه بالفعل بما يبدو جديدًا. تحدثنا عن ذلك في سياق الكتب وكيف نفهم معناها من خلال مطابقة التجارب والأفكار المستمدة منها مع الكلمات المكتوبة. لكن سقراط يوسع هذا المفهوم ويبدو أنه يقول إن هذه هي الطريقة التي نتعلم بها كل شيء. 

يستمر سقراط:

لذا يجب ألا نقتنع بهذا الجدال النزاعي. لأنه يجعلنا كسالى ولا يروق إلا للجبناء سماعه، بينما الجدال الآخر يجعلنا مستعدين للعمل والسعي. بالثقة في أن هذا هو الصحيح، أنا مستعد معك للسعي إلى الفضيلة مهما كانت.

لكن ما نوع هذا الجدال؟ أسأل هنا ليس بروح تحدٍ، بل بفضول. المشكلة في «هذا الجدال النزاعي» ليست منطقية، ليست عيبًا في الحجة ذاتها. على نحو ما، يبدو أن حقيقة أن سردًا معينًا يؤدي إلى نوع معين من الحياة، في هذه الحالة حياة كسولة وضعيفة، كافية لأن نضعه جانبًا ونثق في أن السرد الذي «يجعلنا مستعدين للعمل والسعي» هو السرد الصحيح. هذا يجعلنا نتساءل مجددًا عن العلاقة بين تجربة الحياة والأفكار. في هذا النوع من الثقة الذي يتحدث عنه سقراط، يبدو أنه يدعونا إلى استشارة تجربتنا الخاصة والسماح لها بأن تكون جزءًا من توجيه أفكارنا. لماذا يطلق على هذا الثقة؟ وهل هو الشيء ذاته الذي أعنيه بالإيمان الفكري؟ 

هناك مقطع آخر في «مينو» قد يساعدنا على فهم هذا بشكل أفضل. يواصل سقراط الجدل ذاته بعد عرض العبد لمفهوم هندسي:

ولهذا أبدو متفقًا مع نفسي يا مينو. وبالنسبة إلى النقاط الأخرى، لن أؤكد بثقة كاملة صحة جدلي؛ ولكن في افتراض أنه ينبغي لنا أن نسعى إلى ما لا نعرفه، سنكون أفضل، وأكثر قدرة على الشجاعة وأقل كسلًا، مقارنة بالافتراض أنه ما لا نعرفه لا يمكننا اكتشافه ولا يجب أن نسعى إليه – بالنسبة لهذا، سأقاتل بالتأكيد، بقدر استطاعتي، بالكلمة والفعل.

يعترف سقراط بأنه لن يؤكد بثقة صحة جداله في النقاط الأخرى، ولكنه يؤكد استعداده للنضال بالكلمة والفعل للدفاع عن الفرضية التي تقول بأنه ينبغي لنا أن نسعى وراء ما لا نعرفه، لأن ذلك يجعلنا أفضل وأكثر شجاعة وأقل كسلًا. يبدو لي أنه يقول إنه، رغم وجود مشكلات في صياغة حجته (وربما حتى في فكرة خلود الروح)، فإنه في جوهره لديه إيمان بأن تجربة الحياة، والطريقة التي نعيش بها نتيجة تبنينا لأفكار معينة، تشير إلى صحة هذه الأفكار – أن هناك علاقة حقيقية بين الأفكار والحياة، وأنهما لا ينبغي أن ينفصلا. قد يسأل المنطقي هنا: «هل يمكن إثبات هذا؟» لا، لكن الفكرة كلها تبدو أن هناك حقيقة لتجربة الأشياء يجب أن تُؤخذ على محمل الجد، وأن الفلسفة ليست مجرد استعراض منطقي أو برهاني. لكي يكون للفلسفة معنى، يجب أن تشمل تجربتنا في الحياة – لا يمكنها الاكتفاء بالتناسق المنطقي أو الاتساق الذاتي. وربما أحيانًا علينا أن نقبل ما يبدو نقصًا في الدقة (إذا كنا نحاول أن نفرض دقة رياضية على الفلسفة) كي نتمكن من تضمين هذه التجارب في حساباتنا. هذا ما أعنيه أكثر بالإيمان الفكري: أنه لكي نأخذ تجاربنا على محمل الجد ونضمها إلى تفكيرنا، علينا أن نفترض أنها بالفعل تملك واقعية، حتى لو لم يكن بالإمكان شرحها بالأساليب الرياضية أو العلمية.

ولكن إذا عدنا إلى سؤالنا الأصلي حول نوع الواقع الذي تحمله الكتب والأفكار والحياة، فإننا نرى بُعدًا آخر للإيمان الفكري يظهر: الإيمان بأننا حين نتحدث، فإننا نتحدث عن أشياء. قد تكون هناك أمثلة على كلام يبدو أنه لا يتحدث عن أي شيء، مثل الشعر الذي تحدثنا عنه سابقًا، أو الاقتباسات التي أحبها دون كيخوته وأفقدته صوابه. لكننا نعتبر هذه إساءة استخدام للغة. وحتى هي لا بد أن تتحدث عن شيء، وإن كانت صياغاتها فاسدة لدرجة أن ما تعنيه يكاد يكون غير قابل للتعرّف. ولكن مجددًا، لا أرى كيف يمكننا تقديم إثبات يُرضي الشكاك بأن اللغة بالفعل مرتبطة (على الأقل) بأشياء في العالم، وليست مجرد بناء بشري غريب للاستخدام فقط، دون واقع في ذاتها. أرسطو في «الميتافيزيقا» لا يبدو حتى أنه يطرح السؤال عمّا إذا كانت دراسة ما نقوله عن الوجود طريقة صالحة للبحث عن الوجود ذاته. هل هذه حالة أخرى مثل مفارقة مينو؟ كيف ستكون حياتنا لو لم نتمكن من الاعتماد على اللغة كوسيلة صالحة للاستفسار عن الأشياء وإذا شككنا في واقعيتها ذاتها؟ هل سيجعلنا ذلك أكثر شجاعة وقدرة على السعي وراء ما لا نعرف؟

لا يبدو لي أن الأمر كذلك. يبدو أننا سنُختزل إما إلى صمتٍ مطلق أو إلى نوعٍ من الكلام المُخفَّف، أقرب إلى لعبة لغوية منه إلى شيءٍ آخر. ولا يبدو أيٌّ من الخيارين واعدًا بشكل خاص (على الرغم من وجود شيء يُقال لصالح الصمت، ولكن هذا يتجاوز نطاق حديثنا هنا). وهذا لا يعني أن المسألة ليست مثيرة للاهتمام أو أننا لن نتعلم شيئًا من طرحها في مرحلةٍ ما، لكن حتى طرحها في البداية يتطلب أن نؤمن بشكلٍ ما بأن لهذا السؤال معنى. ورغم أن هذا يستحق معالجة أكثر تفصيلًا وعمقًا مما أستطيع تقديمه في هذه اللحظة، فإننا سنعود إليه، لأن هذا السؤال حول علاقة اللغة بالحياة والأفكار يظهر بأشكالٍ مختلفة في «دون كيخوته» وفي تأملاتي الشخصية. في الواقع، الخطوة التالية في تحوّل ألونسو كيخانو تبدو وكأنها الرغبة في إكمال عالمٍ شعري خلقه مؤلف ينتهي بوعد بـ«مغامرات لا نهاية لها»: 

كان غالبًا ما يشعر بالرغبة في الإمساك بقلمه ومنح القصة النهاية التي وعد بها هناك؛ ولا شك أنه كان سيفعل ذلك، بل وينشرها، لو لم تمنعه أفكار أخرى أعظم وأكثر إلحاحًا من ذلك.

لقد لمحنا سابقًا نزعاته الشعرية في انتباهه للجوانب الشعرية في اللغة، رغم أنها حينها كانت قد استدرجته إلى الشعر غير المنطقي. لكننا هنا نرى شيئًا مثيرًا للغاية: ألونسو كيخانو لديه رغبة في الإبداع. لا يزال الأمر مجرد استكمال لعالم شخص آخر، وليس تمامًا الرغبة في خلق عالم خاص به، ولكننا نبدأ برؤية تلك الرغبة أيضًا في المقطع التالي: 

والحقيقة أنه عندما فقد عقله تمامًا، راودته أغرب فكرة يمكن أن تراود أي مجنون في العالم، وهي أن يصبح فارسًا جوالًا ويجوب العالم بسلاحه وحصانه بحثًا عن المغامرات، ويتدخل في كل ما كان الفرسان الجوالون يتدخلون فيه، وفقًا لما قرأه، من تصحيح للظلم وإنهاء للمآسي، وبذلك يحقق شهرة أبدية ومجدًا خالدًا.

وهنا نجدها. أخيرًا نرى ألونسو كيخانو يبدأ تحوله الواعي. ورغم أنه لم يصبح بعد «دون كيخوته»، فإنه قد قرر أن يُصبح شيئًا، تحديدًا فارسًا جوالًا. هذا هو الشوق الفلسفي الذي تحدثت عنه سابقًا وهو يبدأ بالتجسد: تجاوز ظروفه المعتادة، وطريقته الروتينية في الحياة، وأعراف مجتمعه في زمانه ومكانه. لكن منذ البداية، تظهر بعض التحديات – كالتركيز على الشرف، وهو أمر قد لا يكون فلسفيًا تمامًا – ولكن، في هذه اللحظة، دعونا نضع هذه التحديات جانبًا حتى نتعمق أكثر في معنى أن يصبح المرء شيئًا. من الممكن جدًا أن نعيش حياتنا في روتين، سواء كان شخصيًا أو متجذرًا في العادات التي تتحول إلى تقاليد اجتماعية، دون أن نتساءل حقًا: «هل هذه هي الحياة التي أريدها؟ لو كان عليّ اختيار حياة، هل ستكون هذه هي؟» قد تكون هناك نقاط تحول تدفعنا إلى مواجهة هذه الأسئلة، لكن من السهل أن نستمر في فعل ما كنا نفعله في اليوم السابق، أن نستيقظ في الصباح ونتصرف ببساطة، مستجيبين لمتطلبات الحياة اليومية دون تأمل.

الاستجابة للحياة بطريقة مناسبة أمر صعب بحد ذاته، وهناك الكثير من الأمور التي تتطلب العناية بحيث يمكننا بسهولة الاعتماد على ما تعلمناه من أمثلة آبائنا ومجتمعنا لتحديد ما ينبغي علينا فعله. قد لا تكون هذه الطرق خاطئة بالكامل، وكما قلنا سابقًا في نقاشنا حول الآراء والإيمان الفكري، أود أن أقول إن هذه الطرق لا يمكن أن تكون خاطئة تمامًا. لكن، وهذه «لكن» قوية جدًا، لا يمكن أن تكون كافية لتحديد ما هي الحياة الأفضل للمرء. وقد تكون هذه الطرق مخطئة تمامًا أو غير واعية بمبادئ مهمة تسمح للمرء بأن يعيش حياة واعية وحقيقية. مرة أخرى، يعود إلى ذهني مقطع من أفلاطون، هذه المرة من الكتاب العاشر من «الجمهورية». في وسط أسطورة إير، نسمع عن الأرواح التي تسافر إلى النور الممتد فوق السماء والأرض وتُطلب منها اختيار حياتها القادمة. المثير للاهتمام أن أول روح تختار مصيرها تختار مصير الطاغية الأعظم وتجد نفسها مآلًا لتأكل أطفالها. 

الفضيلة لا سيد لها؛ لكلٍ نصيب منها بقدر ما يقدرها أو يزدريها. المسؤولية تقع على من يقوم بالاختيار؛ وليس للآلهة شأن في ذلك.

رغم هذا التحذير، لا يزال هذا الاختيار الأول يُلقي باللوم على «الصدفة، أو الأرواح الحارسة» بعد أن أتيح له الوقت للتفكير بقراره.

في كل لحظة، يمكن القول إننا نختار حياتنا، وإن الطريقة التي نحمل بها أنفسنا في العالم، والأسلوب الذي نتفاعل به بشكل اعتيادي، تحدد بدرجة معينة شكل حياتنا. وأول تجلٍّ لهذا الأمر بالنسبة لي يظهر في مسألة الانتباه. هناك لحظات نكون فيها مرهقين أو منزعجين، أو غائبين بطريقة ما عن الموقف الذي نحن فيه، ثم يفاجئنا شيء ما، لكن ما ينتهي بأن يكون الأكثر إثارة للدهشة هو أن الأمر المدهش في الواقع كان موجودًا طوال الوقت، فقط انتباهنا كان موجهًا إلى مكان آخر لدرجة أننا لم نلاحظه. إذا كان أسلوب وجودنا ذاته، والطريقة التي نحمل بها أنفسنا في العالم، مغلقًا أمام إمكانية أن تكشف الأشياء عن نفسها لنا، وإذا دخلنا المواقف بتوقعات سلبية، فإن الأمر يتطلب صدمة كبيرة لنخرج من هذه الحالة الحذرة والحامية، وفي أثناء ذلك، قد نفوت جميع التفاصيل الدقيقة، والجمال، والإضاءة التي يحملها الموقف. 

يبدو أن هذا هو ما كان يقصده المتحدث في تحذيره الذي أشرنا إليه سابقًا. المسؤولية تقع على عاتقنا في تقدير الفضيلة، وكلما فعلنا ذلك، كلما امتلكناها بدرجة أكبر – فكلما منحناها اهتمامًا وجعلناها جزءًا أساسيًا من الطريقة التي نتواصل بها مع أنفسنا والعالم عمومًا، كلما أصبحت أكثر تجليًا في حياتنا. ليس كافيًا أن نتصرف بلا تفكير مدفوعين بالعادات، بل يجب أن يكون أسلوب وجودنا موجهًا برؤية الفضيلة كقوة مرشدة، كمبدأ تنبثق منه أفعالنا. إذا اكتفينا بالتصرف من خلال العادة، فحين نجد أنفسنا في موقف يفتقر إلى الدعم البيئي ونُجبر على الرد تلقائيًا، قد نجد أننا لا نعرف كيف نعيش حياة جيدة، وأننا نتخذ قرارات سيئة. 

إعادة توجيه الانتباه هذه، وتقدير الفضيلة، تتطلب تحولًا في أسلوب وجودنا إلى درجة يمكن وصفها بأنها عملية «تحول»، أو «أن نصبح شيئًا». (ومع ذلك، يبدو من المهم أن نلاحظ أن هذا التحول لا ينبغي أن يكون نحو شيء غريب عنا، بل هو تحقيق لإمكاناتنا). ولكن كيف نفعل ذلك؟ حين تتبعنا تحول ألونسو كيخانو، رأينا أنه كان متشابكًا مع انتباهه للجوانب الشعرية للغة ورغبته في استكمال العالم الشعري لمؤلف آخر، وهي الرغبة التي أزهرت في قراره أن يخلق نفسه كفارس جوال.

أول ما يفعله ألونسو كيخانو لبدء هذا التحول هو تنظيف درع جده الأكبر ليتمكن هو نفسه من ارتدائه. لماذا يكون هذا – الدرع، الملابس التي تحمل صفات الحماية – أول شيء يتم تغييره؟ هنا يبدو أن هناك منطقًا مباشرًا. أتذكر هنا قاعدة الأرجيفيين القائلة بأن: «لم يُسمح لأي رجل أرجيفي بإطالة شعره، ولا لأي امرأة أرجيفية بارتداء الذهب، حتى تستعيد أرغوس ثيريا». هناك طرق عديدة للتعامل مع المظهر الخارجي، لكن يبدو أن ألونسو كيخانو والأرجيفيين يتشاركون رغبة في جعل مظاهرهم الخارجية تعكس حالاتهم الداخلية. أحيانًا نريد لمظاهرنا أن تكون شفافة بما يكفي ليكون ما يحدث في الداخل مرئيًا للآخرين. قد نشعر أنه من غير الملائم أن يتعامل العالم معنا وكأن شيئًا لم يحدث بينما قد حدث نوع من التغيير الداخلي العظيم.

أيضًا، يبدو أن هناك إدراكًا لقوة «الأزياء». رغم أنه ليس من الضروري أن نتأثر بها إلى هذا الحد، فإن تغيير الأزياء يقدم حرية غريبة لنتقمص أدوارًا أخرى غير تلك التي نمارسها بانتظام. كثيرًا ما يتحدث الممثلون والراقصون عن التغير الذي يحدث عندما يمارسون أدوارهم أخيرًا وهم يرتدون الأزياء، وأن هناك سكنًا أكثر اكتمالًا لعالم الشخصية. هذا يمكن أن يحدث، وإن كان بدرجة أقل عمومًا، في حياتنا أيضًا؛ فنحن نرتدي ملابس معينة لأحداث معينة، مثل الأحداث الرسمية، وعندما نكون مرتدين ملابس رسمية، يكون من المتوقع أيضًا وجود طريقة تفاعل وسلوك مرافقة لذلك.

كلتا السمتين المرتبطتين بالأزياء – الرغبة في أن يعكس المظهر الحالة الداخلية، والحرية التي تمنحها الأدوار – تشير إلى شيء آخر: من خلال تغيير مظهرنا، ومن خلال تغيير العالم الخارجي بقدر ما نحن جزء منه، فإننا نمنح حالاتنا الداخلية نوعًا مختلفًا من الواقع. لم تعد عوالمنا الداخلية مجرد شيء يُشعر به في الخفاء، بل أصبحت مرئية، ملموسة، ويمكن للآخرين أن يستجيبوا لها. (كملاحظة، مع ذلك، هناك أمثلة مثيرة للاهتمام على اللعب بالمظاهر بطريقة مختلفة: في «المأدبة»، يتهم ألكيبياديس سقراط بأنه يشبه الساتير في مظهره، لكنه يقول: «لقد أمسكته ذات مرة عندما كان مفتوحًا مثل تماثيل سيليانوس، ورأيت لمحة من الشخصيات التي يخفيها: كانت إلهية جدًا – مشرقة وجميلة للغاية، مذهلة بشكل مطلق». أحيانًا قد يكون من المرغوب إبقاء العالم الداخلي بعيدًا عن المراقبين بحيث عندما يرون شيئًا، فإنه ليس مجرد مظهر بل من خلال الفهم العميق).

كما هو الحال، يبدو أن اهتمام ألونسو كيخانو ينصبّ في المرحلة التالية على مظهر الخوذة. غير راضٍ عن القطعة البسيطة التي صنعها والخالية من قناع الحماية وحاجب الرقبة، يقضي أسبوعًا في صنع نصف خوذة من الورق المقوى تُظهر مظهر خوذة كاملة. يذكر المؤلف أنه اختبرها مرتين، لكنها انهارت تمامًا مع أول ضربة. وعلى الرغم من أنه صنع أخرى ووضع شرائط حديدية داخلها لتقويتها، فإنه من المشهور أنه لم يختبرها مرة أخرى، مكتفيًا بتعيينها وقبولها كخوذة رائعة. مرة أخرى، نبدأ في رؤية بعض المشكلات المرتبطة بالطريقة التي يفكر بها ألونسو كيخانو بشأن تحوله – هنا من خلال اعتماده على مظهر الشيء كدليل على قدرته. لكنني أفضل تأجيل معالجة هذه المشكلات حتى نحصل على صورة أكثر اكتمالًا لماهية العملية التحويلية. اللافت هنا هو استخدام الأفعال «عيّن» و«قبل» في الاقتباس أعلاه، إذ إن المرحلة التالية من تحوله تتعلق بإعادة تسمية حصانه ونفسه.

ومع ذلك، تظهر مشكلة المظهر والواقع بسرعة مرة أخرى، حيث نسمع أنه على الرغم من عيوب الحصان، بل وتشقق حوافره، فإن هذا الحصان يبدو لألونسو كيخانو متفوقًا على بوسيفالوس، حصان الإسكندر. يقضي أربعة أيام في البحث عن اسم دقيق، «لأنه – كما قال لنفسه – لم يكن من اللائق أن لا يمتلك حصان فارس مشهور وحصان رائع بطبيعته اسمًا يليق به». يقرر في النهاية أن يسميه «روسينانتي»، وهو اسم «نبيل» و«رنان». وبسعادة عارمة بهذا الاختيار، يقرر بعد ذلك تسمية نفسه، حيث يقضي ثمانية أيام في ذلك. وهكذا يصبح ألونسو كيخانو دون كيخوته دي لا مانشا، وهو اسم، «كما اعتقد، يوضح نسبه وبلده بوضوح ويشرفها بجعلها جزءًا من لقبه». 

أما الحالة الأخيرة لإعادة التسمية، وفي الواقع الفقرة الأخيرة من الفصل، فهي تشبه الحالات الأخرى إلى حد ما، لكن هنا يحاول ألونسو كيخانو أيضًا تعريف مبدأ الحب الذي سيمنح حياته بأكملها اتجاهًا. «بعد أن نظّف درعه وصنع خوذة كاملة من قطعة بسيطة، وبعد أن سمّى حصانه وقرر اسمًا لنفسه، أدرك أن الشيء الوحيد المتبقي له هو أن يجد سيدة يحبها؛ لأن الفارس الجوال بدون سيدة يحبها هو شجرة بلا ثمر، جسد بلا روح».

الغريب أن هذا هو آخر ما يتبادر إلى ذهنه، ولكن بما أن اهتمامنا الحالي هو ماهية هذه العملية في التسمية، فسنتناول الحديث عنها لاحقًا. 

كان اسمها ألدونزا لورينزو، واعتقد أنه من الجيد أن يسميها «سيدة أفكاره»، وبحثًا عن اسم لا يختلف كثيرًا عن اسمه ويشير إلى كونها أميرة وسيدة عظيمة، قرر تسميتها «دولتثينيا دي توبوسو»، لأنها من توبوسو، وهو اسم، «كما رأى، موسيقي وجميل ومفعم بالدلالات، مثل كل الأسماء الأخرى التي أعطاها لنفسه ولكل ما يتعلق به». هنا نجد أوضح إشارة إلى أن كيخانو ينخرط في عملية إعادة التسمية، إذ يدرك أن هذه الفتاة الفلاحة (التي ربما كان يحبها في الماضي، كما يوحي المؤلف) لها اسم منذ البداية. ولكن ما نوع هذه العملية؟ للإجابة على هذا، دعونا نتذكر ما تحدثنا عنه سابقًا.

كنا نتابع ميل ألونسو كيخانو الشعري، من ميله إلى الجوانب الشعرية للغة، ورغبته في استكمال العالم الذي قدمه شاعر آخر، وأخيرًا خلق نفسه كفارس جوال. يبدو أن عملية إعادة التسمية هذه هي استمرار لهذا الميل الشعري، ولكن كيف ذلك؟

عندما نلتفت إلى حياتنا الخاصة ونبدأ في التفكير في الطرق التي نشارك بها في تشكيل تجاربنا، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو الطريقة التي نستخدم بها اللغة لتحديد التجارب والأفكار. يبدو أن هناك جانبًا لا مفر منه من التفسير متضمنًا في تسمية الأشياء، أو في استخدام الأسماء المتفق عليها بشكل عام، لأننا عندما نفعل ذلك، فإننا نستدعي عالماً كاملاً من الأفكار المصاحبة ونمنحها واقعًا معينًا. هذا هو الجانب من الأسماء الذي يلفت انتباهنا إليه مايكل فاراداي في مقالته «تأملات حول التوصيل الكهربائي وطبيعة المادة» (الفقرة الثالثة):

كلمة 'ذرة'، التي لا يمكن استخدامها دون استحضار الكثير مما هو افتراضي بحت، تُستخدم غالبًا للتعبير عن حقيقة بسيطة؛ لكن، على الرغم من حسن النية، لم أجد بعد عقلًا يفصل بشكل اعتيادي بين هذه الكلمة وإغراءاتها المصاحبة. لا شك أن الكلمات مثل 'النسب المحددة' و'المكافئات' و'الأوليات'، التي عبّرت وتعبر بالكامل عن جميع الحقائق التي يشملها ما يُطلق عليه عادة نظرية الذرة في الكيمياء، أُهملت لأنها لم تكن معبرة بما يكفي، ولم تقل كل ما في ذهن من يستخدم كلمة 'ذرة' بدلاً منها؛ لم تعبر عن الفرضية بقدر ما عبّرت عن الحقيقة.

عندما نستخدم كلمة «ذرة»، حتى لو كنا نتصور أن تحقيقنا علمي بحت وعملي ولا مكان واضح فيه للميتافيزيقا، فإن كلمة «ذرة» تضعنا في مشهد فكري يؤثر على تحقيقنا بالكامل. عندما نستخدمها، حتى بشكل عابر، فإننا نعتمد على فرضية معينة حول طبيعة المادة وبنية العالم ذاتها. إذا ما صادفنا صعوبات، كما فعل فاراداي عندما وجد أن اتباع النموذج الذري يتطلب أن تعمل خصائص الفراغ بين الذرات كموصلات وعوازل في الوقت ذاته، فإن من المفيد التحقيق فيما إذا كانت هذه الصعوبات نابعة في الواقع من الأفكار الكامنة وراء الكلمات التي نستخدمها.

تسمية الأشياء المصنوعة بيد الإنسان هي، في جوهرها، عملية غريبة، لأن غاياتها لا تُمنح لها من الطبيعة، بل من الإنسان ومن استخدام الإنسان لها. نرى مثالًا مثيرًا للاهتمام على ذلك عندما يعيد دون كيخوته تسمية، بل وإعادة تحديد وظيفة، طاس حلاق ليصبح خوذة «مامبرينو» الشهيرة (الفصل ٢١)، حتى لو بدا ذلك صعبًا في البداية، لأن دون كيخوته يبدو غير قادر على إضافة طبقات من الدلالات دون التضحية بالدلالة الأصلية. ومع أن الجميع (باستثناء دون كيخوته) قد يتفقون على أن الطاس الذي يملكه الحلاق ويستخدمه ليس بالضرورة مجرد طاس حلاق، فإن العادة والاتفاق الشائع يمنحانه بعض الواقع بوصفه كذلك. ولكن من الممكن أن يجد شخص آخر الطاس، يعيد استخدامه لغرض مختلف، ويجعل الآخرين يتفقون على أنه ما قرره المالك الجديد. أو ربما تم توارث الطاس من جيل إلى آخر، كما هو الحال مع وعاء التعميد الذي يطارد «هانز كاستورب» في بداية رواية «الجبل السحري» لتوماس مان (الفصل الثاني)، والذي بسبب وزنه التاريخي وإرثه العائلي، لا يمكن أن يُسمى مجرد طاس آخر، لأن فيه الكثير من الدلالات الشخصية.

ما هو كائن في الأصل قد أُغرق بالمعاني بحيث تصبح تجربتنا له أقل كونه شيئًا يُعرَّف بوظيفته فحسب، وأكثر كونه حاملًا لكل هذه الطبقات من المعاني الممنوحة. المشكلة مع خوذة «مامبرينو» تكمن في أن دون كيخوته قد نسي ما كان عليه الشيء في الأصل. من الضروري الحفاظ على المعنى الأصلي للشيء حتى عندما نستخدم اللغة ونتحدث عن أشياء مسماة، لا نبقى فقط على أرضية مشتركة من المفردات مع الآخرين، ولكن نعترف أيضًا بأن واقع الشيء ليس ببساطة محدودًا بتفاعلنا معه. ومع ذلك، يبدو أن دون كيخوته يدرك أن الواقع يمتلك انفتاحًا معينًا، ففي حين نُسمي الأشياء، قد نراها ونفكر فيها بشكل مختلف بسبب الاسم الذي منحناه لها، وهي تستجيب لمشاركتنا معها.

الآن، وبعد أن شهدنا تحول ألونسو كيخانو إلى دون كيخوته، يبرز السؤال: لماذا كان هذا التحول مستوحى من كتب الفروسية؟ ما الذي تمتلكه الشعرية بحيث توفر الإلهام لتغيير جذري كهذا؟ وبينما تحدثنا سابقًا عن قوة الكتب، نسأل الآن هذا السؤال عن الشعر بمعناه الأوسع «poésis»، ليس فقط كقراء بل كمبدعين شعريين محتملين. قلنا إن الكتب تمنحنا رؤية لعالم الآخر، لكن يبدو الآن أننا نستطيع أن نصيغ هذا بشكل أقوى. الشعر يخلق عوالم يمكننا أن نعيش فيها أوضاعًا مختلفة للوجود عن تلك اليومية، ومن خلال هذه الأوضاع يمكننا رؤية الأشياء بوضوح أكبر، ومنح عناية دقيقة للأسماء، وبالتالي إضفاء درجة أكبر من الواقع على الأشياء التي يمكن أن تُنسى أو تُهمل بسهولة في الحياة العملية. إنها استجابة للسؤال حول ماهية المعنى وكيفية العثور عليه.

إجابة الشاعر هي الخلق – سواء لأنفسنا أو في العالم. قد يقترح، وكثيرون بالفعل يفعلون، أن أي معنى في العالم هو من صنعنا وحدنا. العالم ذاته، وكذلك حياتنا، هما مادة خام للتشكيل، وشكلهما ومعناهما يعودان إلى ما نضعه فيهما. الشاعر يدرك القدرة الإنسانية الفريدة والمميزة على التأويل، وقد يقول إنه لا يوجد شيء سوى التأويل. عندما نتخيل أننا نعيش حياتنا بأكبر قدر ممكن من الموضوعية، حتى عندما نجري دراسة علمية، يذكّرنا الشاعر بأنه لكي نفهم أي شيء على الإطلاق، علينا أن نكون قد بنينا نوعًا من السرد، وشكّلنا إطارًا للتفكير حول الشيء الذي ندرسه. طريقة الفرضيات واختبارها ذاتها هي واحدة من تحديد أي الأفكار ذات معنى، وأيها يمكن أن توجه دراستنا بشكل مثمر أكثر. هذا حكم نوعي، وليس كميًا، ولا يبدو أن العلم قادر تمامًا على تفسيره بمصطلحاته الخاصة. هناك بعض الإحساس الفوري بهذا إذا تأملنا في حياتنا. بينما قد نعيش حياتنا كتدفق زمني غير مميز، لحظة تمر إلى الأخرى، فإننا نمنح بعض التجارب وزنًا أكبر من غيرها، ونعتبرها أكثر جوهرية لفهمنا لشكل حياتنا.

هذه الأحداث، عند النظر إليها كحقائق بحتة، قد تقدم إشارات معينة على أهميتها، لكن الطريقة التي نحدد بها أهميتها تبدو ذاتية بوضوح. لكن ربما الشاعر الذي يقول إن المعنى يُخلق فقط بأيدينا ليس على حق تمامًا، رغم أنه يشير إلى جانب أساسي من مشاركتنا في العالم. عندما تأملنا سابقًا في فكرة الإيمان الفكري، رأينا في حوار «مينو» أنه كان من الممكن البحث عن أشياء لم نكن نعرفها من قبل والوصول إلى معرفتها. بهذا الإيمان، نمنح العالم الواقعي مصداقية، ونفترض أن إدراكنا له دقيق جزئيًا (مع مساحة للتوضيح)، وأن هناك نظامًا في العالم يتوافق مع نظام لغتنا.  ومع ذلك، فإن هذا الإيمان لا يخبرنا كيف تكون هذه الأشياء ممكنة، بل يسمح لنا فقط بالبدء في النظر إليها. إذا طبقنا هذا على الشاعر الذي يعتقد أن كل معنى هو من خلق الإنسان، قد نطلب منه أن يمد هذا الإيمان ليشمل أن ما يخلقه هو في جزء منه استجابة للعالم، وأننا نضيف ونزرع واقعية الأشياء من خلال طبقات المعاني، كما هو الحال مع خوذة «مامبرينو».

تشبه صعوبات الشاعر تلك الصعوبات التي برزت أثناء تأملنا في تحول ألونسو كيخانو إلى دون كيخوته. لاحظنا أنه مع تحول الدرع، قد صنف خوذته المبتكرة على أنها خوذة ممتازة، رغم أنه اختار بوعي عدم اختبارها مرة أخرى. ومع حصانه، ادعى أنه حصان رائع، رغم حالته السيئة. تبدو هذه أمثلة على الالتباس بين المظهر والواقع، وربما في نفس السياق الذي جذب ألونسو كيخانو إلى الشعر الفارغ من المعنى. حتى في اللحظة التي قرر فيها أن يصبح فارسًا جوالًا، رأينا أن الرغبة كانت «في الانخراط في كل ما قرأه عن الفرسان الجوالين، تصحيح كل أنواع الأخطاء، ومن خلال اغتنام الفرص ووضع نفسه في الخطر وإنهاء هذه الأخطاء، الفوز بشهرة أبدية ومجد دائم» لم تكن الرغبة أولًا وقبل كل شيء لفعل الخير لذاته، بل لفعل ما فعله «الفرسان الجوالون»، ولتحقيق الشهرة والمجد الأبديين.

علاوة على ذلك، الحب الذي من المفترض أن يكون مبدأه التوجيهي («دولتثينيا»، كما يسميها، سيدة أفكاره) كان آخر ما وجده. قد يكون هذا نقطة مفيدة للنظر إلى الصعوبات الأخرى. كما أن الواقع مقابل المظاهر، واللغة مقابل الكلمات التي تنفصل عن معانيها وتستخدم لأجل أصواتها فقط، والأفعال مقابل المحاكاة (بدلًا من الاقتداء)، كذلك هي الحياة مقابل الحب الذي لا يسعى إلى الخير لذاته. هذه الأوجه ليست مكتملة، ولكن هذا لا يجب أن يكون حكمًا إدانة، بل اعترافًا بإمكانية درجة أعلى من الكمال. تحول دون كيخوته ليس كاملًا، وهذه الصعوبات تبدو أنها ذاتها التي تدفع الآخرين إلى وصفه بالجنون. أحيانًا تؤدي إلى أفعال ضارة ومدمرة، ويجب أن تكون هذه تحذيرات قوية. قد يكون عجز دون كيخوته عن تجاوز هذه الصعوبات هو السبب في فقدانه للإيمان والمأساة التي لحقت به في وفاته. ولكن، مع ذلك، فإن رغبته في التحول، وتحقيق إمكانياته، هي رغبة فلسفية وجميلة تستحق التقدير. لكن حتى هذا التقدير لدون كيخوته، مثل الإيمان الفكري، ليس نقطة توقف، بل حجر انطلاق أو منصة قفز. هناك العديد من الأسئلة التي بدأت للتو في الكشف عن نفسها أثناء استيطاننا عالم دون كيخوته.

قد يكون أحدها: ما هو الشكل الكامل لهذا التحول الفلسفي والشعري؟ وربما آخر: ما دور اللغة في هذا التحول، وما هي طبيعة اللغة التي تجعلها تلعب هذا الدور؟

وهنا، يا غلاوكون، يبدو أن الإنسان يواجه أعظم خطر على الإطلاق. ولهذا، يجب على كل واحد منا أن يهمل كل موضوع آخر، ويكرس نفسه للبحث عن الأشياء التي تمكنه من التمييز بين الحياة الصالحة والسيئة، وأن يختار دائمًا الخيار الأفضل الممكن في كل موقف. يجب عليه أن يتأمل في كل الأشياء التي تحدثنا عنها، وكيف تحدد هذه الأشياء مجتمعة ومنفردة طبيعة الحياة الفاضلة. ومن خلال ذلك، سيتمكن، عبر التفكير في طبيعة النفس، من الاستنتاج أي حياة أفضل وأيها أسوأ، ويختار بناءً على ذلك، مسميًا الحياة أسوأ إذا قادت النفس إلى أن تصبح أكثر ظلمًا، وأفضل إذا قادتها إلى أن تصبح أكثر عدلًا، متجاهلًا كل شيء آخر.

لقد رأينا أن هذا هو أفضل نهج للاختيار، سواء في الحياة أو في الموت. ولكن إذا اقتنعنا بي، سنؤمن أن النفس خالدة وقادرة على تحمل كل شر وكل خير، وسنظل دائمًا متمسكين بالطريق الصاعد، ممارسين العدالة بالعقل في كل طريقة. وبهذا، سنكون أصدقاء لأنفسنا وللآلهة، أثناء وجودنا هنا على الأرض وبعد ذلك – مثل المنتصرين في الألعاب الذين يجمعون جوائزهم – سنحصل على مكافآتنا. وهكذا، سواء في هذه الحياة أو في الرحلة الألفية التي وصفناها، سنحقق النجاح والسعادة.

- الجمهورية، أفلاطون

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق