إلى خامل الذّكر الفتّان

 

إن أعذب الأشياء قد تتحول إلى أمرِّها بما تقترفه أفعالها،

كما أن الزنبق إذا فسد وتعفن، أضحى أشد نتانةً من الحشائش.

- ويليام شكسبير، السوناتة ٩٤، السطران ١٣-١٤ 

لقد كانت الجمالية الإنجليزية ردًّا عنيفًا على قوىً سادت في إنجلترا الصناعية في القرن التاسع عشر: المنفعة التي تسحق الجمال، العقلانية التي تخنق الخيال، الحقائق العلمية التي تطغى على الأحلام، التقدم التقني الذي يحطم الروح، الامتثال الطبقي الذي يئد الحرية، والرأسمالية التي تبتلع القيم. وكذلك، فقد تحدت الجمالية التسوية الديمقراطية، وصرامة الأخلاق الجنسية، والأهم من ذلك كله، الأخلاق القمعية التي صارت سيفًا مسلطًا على أعناق الإبداع. وفي مواجهة هذا العصر الذي عبد المادة، أعلن أوسكار وايلد قائلًا: «اليوم أكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى الفنان وإلى حب الجمال، ليكونا الدرع الذي يواجه هذا الطوفان المادي القبيح». هكذا ظهر الإيمان بالتعبير عن الذات دون قيود الأعراف أو كوابح المجتمع كأقوى سمات هذه الحركة، التي أزهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع نشر «بودلير» لكتابه «أزهار الشر» عام ١٨٥٧. 

في البداية كان بودلير، ثم جاء «الداندي»، تلك الشخصية الأسطورية التي تمثل الإنسان في أسمى صوره، يمضي في الحياة بثقة الملك، يصوغ وجوده عبر جمالية تقوم على إعادة الاختراع والأداء. كان الداندي يتيه بنفسه، بالكاد يرى شيئًا خارج ذاته، كما كان «دوريان غراي» حين وقع تحت تأثير اللورد هنري ووتون في رواية وايلد. لم يكن الداندي، ولا من سار على خطاه، يدرك أن ما يكمن في أعماقه هو ذاته ما قد يقوده إلى الهلاك. لقد كان دعاة الانحلال الجمالي يرفضون كل قيود الأخلاق، ويؤمنون أن الفن يجب أن يستثير المشاعر، وأن الجمال هو الدين الذي يوجه كل جوانب الحياة الإبداعية. وفي رؤية بودلير، كان الاصطناع جوهر الفن، حيث وجد الشاعر لذته في الأحاسيس المريضة، وفي تلك العذابات التي تجسد صراع الإنسان مع الحداثة المتوحشة. رأى الجمال في الاصطناع، واعتبر أن الفردوس الذي يبنيه الإنسان لنفسه في قلب الاصطناع هو الموضوع الذي يجب أن يتغنى به الشعر. لقد كان هذا الفردوس الاصطناعي صرخةً ضد المنفعة والواقعية، حتى قال بودلير: «أن تكون نافعًا لطالما بدا لي أمرًا بالغ القبح». وسار على نهجه ثيوفيل غوتيه، الذي أعلن أن الجمال الحقيقي لا يكون إلا فيما لا يخدم غرضًا. فقال: «ليس هناك جمالٌ حقيقي إلا فيما لا يمكن أن يُستخدم في شيء». 

في مقدمة روايته «صورة دوريان غراي»، عبَّر أوسكار وايلد عن هذا المذهب بوضوح، حين كتب: «كل فن هو في آنٍ واحد سطحٌ ورمز. غايته أن يكون محبوبًا لذاته، لا أن يخدم غرضًا عمليًا. العذر الوحيد لصنع شيءٍ عديم النفع، هو أن يعشقه الناس بشدة». وهكذا أصبح الفن غايةً بذاته، بعيدًا عن الأخلاق أو المنافع. لقد كان تأثير والتر بيتر حاضرًا في كل جوانب هذا المذهب. وصف وايلد كتابه «دراسات في تاريخ النهضة» بـ«الكتاب الذهبي»، قائلًا: «لا أسافر إلى أي مكان دون أن أحمله معي. إنه زهرة الانحلال». إن وصفه للكتاب بأنه زهرة الانحلال يشير إلى ارتباط الجمالية بالفساد، فهذه الزهرة وإن بدت متألقة، تخفي خلف بهائها بوادر التعفن. وكان بيتر يرى أن «غاية الفن ليست الفعل، بل التأمل». هذا المبدأ يتردد في رواية «صورة دوريان غراي»، حيث يقول اللورد هنري لتلميذه دوريان: «أنا سعيد لأنك لم تفعل شيئًا، لم تنحت تمثالًا، ولم ترسم لوحة. حياتك هي فنك الأعظم». وهكذا، في هذا العالم الذي خلقه الانحلال الجمالي، حلَّ الجمال محل الأخلاق، وأصبح الشكل أهم من المضمون. لكن خلف هذا التألق، يكمن فساد خفي، كما تخفي الزهرة النضرة بين بتلاتها أولى علامات التعفن. 

وفي روايات والتر بيتر أيضًا – «ماريوس المتلذذ» (١٨٨٥) و«غاستون دي لاتور» (١٨٨٨) – يتخذ الكتاب مكانةً ساميةً في تشكيل أفعال أبطالها الشباب: فأعمال «تحولات أبوليوس» كانت منارةً لماريوس، بينما أضاءت «أناشيد رونسار» الطريق لغاستون. وفي حجةٍ بليغةٍ عن التعارض بين حبكة تطوير الذات المستوحاة من بيتر – التي أعلنها اللورد هنري في مطلع «صورة دوريان غراي» – وبين حبكة التدهور القوطي التي أشعلتها اللوحة، يكشف نيلز كلاوسون عن موضوعٍ مستترٍ لكنه متين في هذه الأعمال: موضوع المثلية المكبوتة. ورغم اعترافه بأن «رواية تطوير الذات لا تتطلب بالضرورة أن يعيش بطلها حياة مزدوجة» (كما لم يفعل أبطال بيتر)، إلا أن «موضوع المثلية في رواية وايلد يتطلب أن يعيش دوريان حياةً مزدوجة». يتجلى هنا استحالة سرد «قصة تمرد وانحراف تؤدي إلى تطوير الذات والتحرر»، كما أشار كلاوسون. وكما نعلم، فإن المأساة تتكشف. 

وفي تسعينيات القرن التاسع عشر، استحضرت المجلة الأدبية الشهيرة «الكتاب الأصفر» (١٨٩٤-١٨٩٧)، ولو لفترة قصيرة، ثقل الموضة المنحلة بين الكتاب. فقد تآكلت المشهدية الأدبية بنهم الكتب التي تفترس الكتب، لتضعف الشخصيات تدريجيًا حتى تصبح ظلالًا باهتةً، ليس لما كانت عليه، بل لما كان يمكن أن تكون عليه. هذا هو الحال مع دوريان غراي، تلك الشخصية التي حملت كل مقومات بطل «رواية التكوين» (Bildungsroman)، لكنها انحرفت لتصبح صورةً زائفةً لبطل «رواية الفنان» (Künstlerroman) التي يتخيلها اللورد هنري، محاصرةً في استكشاف وايلد لمفاتن الجمالية وعيوبها. وفي روايته، يتردد درس بيتر على لسان اللورد هنري، حين يشهد لصالح «الفن من أجل الفن»، معلنًا ميلاد «فنٍ جديدٍ محررٍ من قواعد المجتمع، من المفاهيم اليومية عن الخير والشر، ومن أي انشغالات أخرى بعيدة عن الغاية المركزية للتجربة الجمالية والسعي المنفرد وراء الجمال». 

هذا الهروب من قيود المجتمع الفيكتوري المتأخر، الذي لم ولن يغفر لدوريان استراتيجياته في التزييف والكشف، كان انعكاسًا لعجز ذلك المجتمع عن التعامل مع الحياة كفن. ومع ذلك، فإن هذا السعي لتطوير الذات أثبت أنه مميتٌ لتلميذ ووتون، متدهورًا إلى انغماسٍ لا حدود له في الذات. وفي صميم هذا القلق الناجم عن تأثير بيتر على وايلد، يتجلى كتاب يويسمان «ضد الطبيعة» (À Rebours)، المنشور عام ١٨٨٤، كحجر زاويةٍ في التحليل. هذا الكاتب الفرنسي، الذي كان مدينًا لبودلير وغوتيه، رفع مفهوم البطل المنحل إلى ذروته. ففي قصته عن رجلٍ – الدوق جان دي فلوريساس دي إسينت – تتأجج روح التشاؤم الميتافيزيقي، إذ يصبح سجينًا لرؤيته الداخلية، مسافرًا وحيدًا نحو مثاليةٍ يدرك أنها مستحيلة المنال (وربما محظورة)، بينما يغلف نفسه في قلقٍ وجودي كيركغاردي الطابع. 

يعتبر هذا الكتاب المانيفستو الأوضح لروح عصر الانحلال، خطابًا يواجه تهديدات الطبيعية، حيث سعى إلى «تثبيت أدق درجات الأشياء، وجوهرها النقي؛ أن يثبتها مؤقتًا؛ أن يكون صوتًا بلا جسد، ومع ذلك صوتًا يحمل روحًا إنسانية». تكاد حبكته تكون غائبةً، إذ تنصب على أذواق بطلها الغريبة، واحتقاره لمجتمع البرجوازية، ومحاولاته خلق كونٍ صغيرٍ من الأشياء الجميلة شبه الحية، التي لا يمكنه إلا هو، المبتلع في استهلاك ذاته المتكاسل، أن يعجب بها. وعنوان الكتاب ذاته يكشف عن دعوةٍ للتأمل الوجودي والأنطولوجي: «ضد الطبيعة»، رحلةٌ في العزلة الجمالية، حيث تصبح الاصطناعية هي الحقيقة المطلقة. وبطلها، الهارب من حياة الفجور في باريس، يلتمس ملاذًا زائفًا في الريف، حيث لا يمكنه مواجهة قيم الحضارة الآفلة والمتدهورة. إنه لا يهرب من الطبيعة بمعناها المادي فقط، بل من طبيعته هو، التي شكلتها مدن الخطيئة والانحلال الروحي. وباختراعه للعطور الفاخرة، واستهلاكه للشاي النادر، وجمعه للزهور الاصطناعية التي تبدو كأنها حقيقية، يقدم جان دي إسينت نموذجًا لدوريان غراي، مجسدًا فكرة الإنسان كعمل فني يُنظر إليه ويُعجب به. وكان هدفه النهائي استبدال الواقع نفسه بحلمٍ:

كان يجد في بقائه ساكنًا تلك الإحساسات السريعة، شبه الآنية، لسفر طويل، واللذة الكامنة في التنقل، التي لا توجد إلا في الذكرى، ونادرًا في الحاضر.

جديرٌ بالذكر أن كتاب يويسمان يُعتقد أيضًا أنه الرواية السامة التي قادت دوريان إلى هلاكه. إذ إن تطوير الذات يولّد الانغماس فيها، والذي بدوره، وفي نهاية المطاف، يولّد الأفعال الشريرة: «لقد سمّم كتابٌ دوريان غراي. كانت هناك لحظاتٌ نظر فيها إلى الشر فقط كوسيلة لتحقيق تصوّره عن الجمال». وحينما يصبح الجمال والشر مترابطين جوهريًا، لا رجعة عن ذلك: إذ يتلقى دوريان التأثير الذي لا يلين لآراء اللورد هنري – الأفعى في الجنة – ويتحطم تحت وطأة التدهور الداخلي الذي ينعكس خارجيًا في فساد اللوحة. خطوته التالية، الطبيعية وغير الطبيعية، كانت قتل باسيل هالوارد، الرجل الذي تواجده يجبره على مواجهة حقيقةٍ يحاول جاهدًا تجاهلها. الصديق الذي صرخ قائلًا: «أريد دوريان غراي الذي كنت أرسمه». لم يُدن إلا نفسه ودوريان، إذ أصبح الأخير أداةً تامةً للشر، وروحًا هالكةً لا أمل في خلاصها. يصعب ألا نتفق مع كاميل باجليا حين تقول إن باسيل عوقب لأنه وقع تحت سحر جمال دوريان – وهو ما كان عليه منذ البداية – بينما عوقب دوريان لأنه وقع تحت سحر صورته، انعكاسه المرآوي، في تفاعلٍ معقد ومشحون بالشهوة بين المُشير والمشار إليه. وبعد أن انتحرت سيبيل فين وآلان كامبل، عاد دوريان مرة أخرى إلى «الكتاب الأصفر» ليجد فيه تبريرًا لفساده. وفي هذه الحالة، لا يمكن إغفال تأثير «ضد الطبيعة» كعامل خفيف، إلا إذا كان متأثرًا مباشرةً بمقولات اللورد هنري الثقيلة. ومع ذلك، حتى اللورد هنري ذاته سيضطر لمواجهة تبديد عمله الفني، صبيّه الذي تحول إلى رجل، والذي بدوره تحول إلى وحش. ببساطة، زهرة زنبق قد تفسدت.

لقد أقسمت أنك جميلة، واعتقدت أنك مضيئة،

لكنك سوداء كالجحيم، مظلمة كالليل.

- ويليام شكسبير، السوناتة ١٤٧، السطران ١٣-١٤ 

إن ثنائية الشخصيات في «صورة دوريان غراي» تتجلى بوضوح في الصفحات الأولى، عندما كان دوريان جالسًا ليرسمه باسيل، بينما يراقب اللورد هنري تطور اللوحة، متأملًا في مدى تأثير أفكاره (أو مثله غير التقليدية) على هذا الشاب الجميل. هنا، يظهر أمام القارئ مثلث فني أو عاطفي، حيث تتحرك ثنائية أساسية تنبئ بما ينتظر الشخصية الرئيسية: فمن جهة، يؤثر موضوع الفن أو العمل (دوريان) على أداة الفن أو الفنان (باسيل)، ليخلق التجسيد المثالي لروح شبابه وجماله؛ ومن جهة أخرى، يصمم «فنان» آخر (اللورد هنري) أفضل السبل لإعادة تكوين هذا الموضوع أو الشخص، كما يفعل البستاني الأكثر إخلاصًا. عملية التكوين نفسها مزدوجة منذ البداية، تتحقق تدريجيًا من خلال جلسات باسيل مع الشاب، ومن خلال المحادثات الطويلة بين الأخير واللورد هنري، الذي نصب نفسه في مهمة السيطرة على دوريان. يقول: «سيسعى للهيمنة عليه، كما كان الفتى يهيمن دون وعي على الرسام الذي أبدع اللوحة الرائعة».

أما دوريان نفسه، رغم «كل براءته […] ونقاء شبابه المندفع»، فإنه يخضع لقوة الوحي: «كان واعيًا بشكل غامض بأن تأثيرات جديدة تمامًا تعمل بداخله […] الكلمات القليلة التي قالها صديق باسيل له […] لامست وترًا سريًا لم يُلمس من قبل». كل شيء كان يبدو واعدًا. لكن، كما أن لقاء باسيل الأول مع دوريان حمل له طعمًا مريرًا للأشياء الرهيبة القادمة، كذلك ظهر في عيني دوريان «نظرة خوف […] كتلك التي تبدو في عيون الناس حين يستيقظون فجأة»، بينما كان يتأمل، من خلال أقوال اللورد هنري، إحساسه بإمكاناته الهائلة. 

تحت تأثير اللورد هنري الساحر، يغيب عن دوريان أنه، مع نمو إحساسه بالدهشة، تغلب «عيناه المظلمتان» على كل شيء، مما يدعونا إلى قراءة الرواية كعملية (تفكيك) أو تحلل للشخصية، ودراسة للشغف بـ«الإحساسات» التي تُمهد للمأساة. ما يميز دوريان عن ديس إسينت هو أن الأخير يسمو بشهواته، بينما يعيش دوريان شهواته بالكامل، «يمتص نخاع الحياة»، كما يصف ثورو ذلك. يمكن للمرء أن يفترض أيضًا، أن وايلد، مع أنه لم يكن منشغلًا بـ«أمراض التفسخ»، رفع جماليات هويسمان إلى مستوى جديد، يمكن وصفه بدقة بأنه «فساد». دوريان، ببساطة وبلا هوادة، «يحصد محصوله بينما الربيع ما زال يانعًا».

من المؤكد أن كلًا من اللورد هنري ووايلد يشتركان في عقيدة واحدة: تصور طبيعة مزدوجة في كل إنسان، كوجهي عملة يتغيران حسب أهواء دوريان. ففي حين يصرّح وايلد، في مقدمته، أن «الرذيلة والفضيلة كلاهما مواد للفن»، يُثبت اللورد هنري هذه الضرورة بقوله إن هناك «شيئًا فاتنًا في هذا الابن الذي يجمع بين الحب والموت». الثنائية، التي تحتل مركز جماليات وايلد، ليست موضوعًا جديدًا في الأدب. فقد فهمت الذات بوصفها كيانًا متعدّد الأرواح منذ تحليل أوغست شليغل للروح التي تحتوي بداخلها تعددية أرواح، مرورًا بشعر والت ويتمان الذي يقول فيه: «أنا أحتوي جموعًا!»، وصولًا إلى التصريح الجريء والشهير للشاعر آرثر رامبو، في رسالته إلى بول ديميني عام ١٨٧١: «Je est un autre». تصريح يعلن الإدراك الكامل بأن الإنسان هو ذاته مضاعف حتى وهو يعبر عن هذا الفكر. ليس المتوقع «أنا آخر»، بل «أنا هو آخر»، العبارة الأكثر غموضًا واستفزازًا. وفقًا لجون هيردمان، كانت مسرحية كريستوفر مارلو «فاوست» حجر الأساس في تطوّر موضوع الازدواجية بوصفها «أداة خيالية للتعبير عن تجربة انقسام الذات» وضمان ارتباط «مفهوم الشر الأخلاقي بما هو بدائي ووحشي وغير مروض في الروح البشرية». 

هكذا، يمكن إيجاد صلة بين أسطورة فاوست – التي يتردد صداها في الحكايات القوطية والأدب الألماني من خلال غوته – وبين التجربة المضطربة التي يمر بها دوريان، والتي تحوّل داخله إلى «شيء من الظلام»، عبدًا للشيطان. كيف لا نرى هذا الارتباط حين يتفوه دوريان بنفسه برغبته عند رؤية صورته للمرة الأولى: «لو كنت أنا من يظل شابًا للأبد، وكانت الصورة هي من تهرم! لأجل ذلك – لأجل ذلك – كنت سأعطي كل شيء. كنت لأعطي روحي لأجل ذلك». بمنحه أمنيته، ينطلق دوريان في رحلة لا تقل عن كونها تجربة جمالية (مضادة)، بل وأكثر من ذلك، إذ إن القوى المظلمة تمارس سلطتها على شبابه وجماله حرفيًا من خلال وسيط فني، هو الرسم. فمن خلال اللوحة، التي هي ظله وضميره، يستسلم دوريان لحب الذات، تلك الخطيئة التي يسقط بها من النعمة الهلنستية. رواية «دكتور جيكل والسيد هايد» لروبرت لويس ستيفنسون، التي نُشرت عام ١٨٨٦، تلقي بظلالها على رواية وايلد أيضًا. ففي قصة الرجل المحترم وقرينه، يستخدم ستيفنسون العلم لتبرير تفكك وتدمير رجل يروي مصيره بلسانه. 

في أقل من سبعين صفحة، يستخدم المؤلف عبارات مثل: «ازدواجية الحياة»، «كلا جانبي»، «ثنائية الإنسان»، «هويات منفصلة»، «شخصية ثانية»، «مضاعفي»، «ذاتي الثانية»، و«رعب ذاتي الأخرى». إن تكرار الحالة التي يجد جيكل نفسه فيها بشكل مرهق ينضم إلى الأدلة التي تُظهر وعيه بذلك، ويؤكد نهاية عنيفة لا رجعة فيها حيث لا يمكن للإنسان أن يسيطر أو يهدئ الوحشية بداخله: «[لأن الإنسان ليس حقًا واحدًا، بل حقًا اثنان]». بالنسبة لدوريان، يصبح الأداء مسرح حياته، حيث جماله الذي لم تُلطخه «نجاسات العالم» هو في الوقت نفسه «قناع خزيه» والمسرح الذي تُعرض عليه مسرحيته عن «الشباب الأبدي، والشغف اللامتناهي، والمتع الدقيقة والسرية، والفرح الوحشي والخطايا الأشد وحشية». في تقدمه اللاحق كمذنب يبرر خطاياه، وبعد موت سيبيل فين وآلان كامبل، يصبح دوريان ممثلًا ومشاهدًا لحياته، في محاولة للهروب من المعاناة: «نشاهد أنفسنا، وعجب المشهد وحده يأسرنا». تكتمل عملية الانتقال بين الإنسان والفن، وتتحقق التحولية. ومع ذلك، تكمن المشكلة في الحقيقة التي مفادها أن «هناك شيئًا قاتلًا في اللوحة». ومن المفارقة أن طبيعتها المميتة تنبع من كونها «ذات حياة مستقلة».

بعد اكتشافه للحقيقة المريرة أن اللوحة تحمل عبء أفعاله الآثمة، غرق دوريان في حياة حسّية، محسنًا مهاراته كجامع متمرس للأشياء الرقيقة مثل العطور والموسيقى والمجوهرات أو التطريزات. وهنا، نجد سلوكًا يقلّد ذلك الذي نراه في الشاب الباريسي من الكتاب الأصفر السام الذي قدمه له اللورد هنري، «ضد الطبيعة». يمكن رسم الكثير من أوجه التشابه بين وصف بعض الأشياء في كل من الروايتين وحالة التدهور التي تسري في روح كل من البطلين. رمزيًا، هناك الكثير مما يمكن قوله عن «غطاء ساتان أرجواني كبير مزخرف بالذهب، قطعة رائعة من عمل فينيسي من أواخر القرن السابع عشر». رمزية الألوان هنا أو أناقة القماش مهمة للغاية؛ ولكن الأهم من ذلك هو أنهما يرتبطان بمدينة فينيسيا، مما يثير الذكرى لمدينة كانت في يوم ما مشهورة بالروعة، جوهرة البحر الأدرياتيكي، التي سقطت منذ زمن طويل ضحيةً «لانحلال مفاجئ لجمال كان يومًا ما رائعًا». 

في تقليد هيدونيسية ديز إسينت، يتجاوز دوريان نفسه، ويشعر بشكل لا مفر منه بـ«لذة مروعة لحياة مزدوجة». يحاول ديز إسينت أن يتحكم في حياة شخص آخر ويعيد خلقها من جديد، ويعكس ازدراءه للحضارة الحديثة في عزمه. يُعرف أغسطس لانغلويس، الصبي الفقير الذي يلتقيه في الشارع، لذائذ الجسد في بيت دعارة ويعطى المال والوصول إلى سلع فاخرة سيصبح مدمنًا عليها. ومن هنا – كما يتصور ديز إسينت – تصبح الاستعدادات التي تجعل من هذا الصبي مجرمًا عنيفًا ومدمنًا على الفساد: «الحقيقة هي أنني ببساطة أعدُّ قاتلًا. […] في إحضاري له إلى هنا، وسط رفاهية لم يكن يتوقعها والتي ستظل محفورة في ذاكرته؛ في تقديمي له، كل أسبوعين، مثل هذه الفرصة، سيتعود على هذه اللذائذ التي تحرمها إمكانياته. […] بإيصال الأمور إلى أقصى حد، سيقتل […] – وعندها، سيكون هدفي قد تحقق، سأكون قد ساهمت، على قدر استطاعتي، في خلق فاسد، عدو آخر لهذا المجتمع البشع الذي ينهبنا».

أما دوريان، فيصبح كائنًا خاصًا به، هاربًا في النهاية من رقابة اللورد هنري. وفي قمة فرديته، يعرف ضميره أنه أصبح في مرمى «قوة مزعجة ومتحللة»، كما يصفها وايلد في «روح الإنسان تحت الاشتراكية». يتحول إلى مجرم عنيف ومدمن، تحت قناع شاب مهذب، يقود النساء والرجال إلى غوايتهم، وفي ذلك يتبع نهج اللورد هنري، ممارسًا مقولاته السامة الممتعة: «كما أفعل كل ما تقول». يُغري دوريان أصدقائه وغرباءه إلى موتهم، وبلا مشاعر، لا يظهر ندمًا: «[كان يعرف أنه قد لوّث نفسه، وملأ عقله بالفساد، وأعطى الرعب لخياله؛ أنه كان تأثيرًا شريرًا على الآخرين، وأنه قد اختبر فرحًا رهيبًا في أن يكون كذلك]». وعندما يقول اللورد هنري لدوريان: «أنت لست نفسك الليلة»، فهو يعلن فشل خطته الخاصة؛ فشل المثل الدنيوي للجوهر من خلال التأمل، لا الفعل. لم يتغير الشاب جسديًا على مر السنوات، لكن النتيجة لم تكن كما كان يتوقع صديقه العجوز. إن إبداع اللورد هنري محكوم عليه بالفناء من خلال الاستنزاف واليأس، لأنه بدلاً من أن يبني مهنة من خلال بناء ذاته على نحو محكم، فإنه لا يستطيع ذلك دون أن يقود إلى هلاك الآخرين. ومن المفارقات، أن من خلال كلمات اللورد هنري يمكن إعطاء النصيحة النهائية للقراء: عندما يتعلق الأمر بالإنكار الذاتي، فإن الهروب من الواقع لا بد أن يكون له تأثير تراجيدي: «[نحن نُعاقب برفضنا]». وهكذا، يسير دوريان، المغري أولاً، ثم المغري في النهاية، نحو هاوية حياته المزخرفة المضللة، حياةٌ لروحه الفاسدة لتلتهمها.

أوسكار وايلد ينجح في بناء شخصية تتماشى مع ما تعرفه كاميل باجليا من حيث المبدأ الإغوائي الدهري الذي ذكرناه سابقًا: «تحول الشخص إلى كائن فني». هذا التحول يترافق مع تعليق دوريان الأخلاقي، وتحوله المستمر من أبولو النهار (الذي ينعكس في اسمه نفسه، دوريان) إلى ديونيسيوس الليل، أثناء تجواله في أروقة المجتمع الراقي في لندن أو في الحانات المظلمة والدعارة وغرف الأفيون في المدينة الحديثة. كما تقول باجليا، في جنونه للمتعة، يمثل دوريان التدمير النهائي للمثالية الأبولونية. وهو بمثابة تذكير لكيفية أن الطبيعة، المغناطيسية والسخية، يمكن أن تنفجر مرة أخرى «إلى قصر الفن» لتسترجع ما هو من حقها، قطعة من الأدلة التي لا يمكن لمعايير الجمال المضادة التي صُممت لمعارضة مجتمع غير طبيعي (أكثر من كونه غير واقعي) أن تواجهه بوضوح. تدمير دوريان لذاته، يأتي معه تناغم جديد؛ يعيد ترتيب الطبيعة إلى توازنها الصحيح، محولًا اللوحة إلى حالتها الأصلية من الجمال، بينما يترك دوريان مسنًّا، ملتويًا، وجامدًا على أرضية العلية. وكما كتب بودلير:

لكن ما أهمية أبديّة اللعنة لمن وجدَ في لحظة لانهائية المتعة؟

- بودلير، بائع الزجاج السيئ

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق