الموت الحتمي للذات؟
إن هذا القول الذي تُبنى عليه هذه المقالة، يكشف أن تفكيك ما بعد البنيوية لمركزية الذات ليس إلا محاولة لهدم الأسطورة الكبرى، تلك التي تزعم أن المعنى ينبع من ذاتٍ عقلانية، مستقرة، مستقلة، مشيدةٍ على هيكلٍ متين. لكنه، في جوهره، يفضح هذه الذات ويُظهرها كخرافة خطابية لا أكثر. وفي هذا التفكيك، تُزعزع المثالية التقليدية في السياسة والفلسفة، تلك التي لطالما وضعت الذات في مركز الإنسان، وأسست للمعرفة الحديثة على دعائم العقلانية. وهنا، تنبثق صورة جديدة للذوات؛ ذواتٌ حرة، عائمة، متغيرة كالسحب في سماء الفكر.
وفي هذه اللحظة الفاصلة من التاريخ الفكري الفرنسي، يتقدم الثلاثة العظام: رولان بارت، وميشيل فوكو، وجاك دريدا. فوجودهم في هذه الحقبة ليس محض مصادفة، بل لحظة حاسمة. ولعلنا نقول إن ما بعد البنيوية لم يكن ليُولد إلا في هذا المفترق، كحركة تسعى لدفع تجديد البنيوية في اللغة نحو تلاشي الذات وتفكك التصنيفات البنيوية العامة. - موت وعودة المؤلف، سيان بوركي.
ظهرت ما بعد البنيوية في ستينيات القرن العشرين كفلسفة ثقيلة الوزن، متوغلة في تقاليد القارة الأوروبية. ومن أول بياناتها التي تتحدث عن تعددية قراءات النصوص، أخذت تنمو حتى أصبحت فلسفة تفكك كل أشكال الفكر والرؤية التقليدية. ومن بين أعلامها، وقف ثلاثة: بارت، وفوكو، ودريدا، الذين شكلوا بأفكارهم أعمدة هذه الحركة. وربما بدأت ما بعد البنيوية فعليًا مع محاضرة دريدا «البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية» عام ١٩٦٦، حيث أقر دريدا (وكما فعل فوكو لاحقًا) بالدين الذي يدين به لفريدريك نيتشه، ومارتن هايدغر، وسيغموند فرويد، الذين أسهموا في زعزعة مركزية الذات الحديثة.
وهذا التلاشي للذات المستقلة التي كانت يومًا صلبة ومستقرة، هو حدث لا يمكن التقليل من شأنه. ومع ذلك، إن حصره فقط في سياق القرن العشرين يغفل عن رؤية أعمق، إذ أشار جوناثان دوليمور إلى أن تهميش الذات بدأ منذ ولادتها في عصر التنوير. بل وزاد ديفيد ويست على ذلك، مؤكدًا أن هذه الفكرة يمكن تتبعها إلى فلسفة كانط المثالية، حيث قال: «إن التفكيك الفكري للذات يمكن أن يُرد حتى إلى الفلسفة المتعالية لكانط».
وما تسعى هذه المقالة إلى إظهاره هو أن موت الذات يستدعي انقطاعًا جذريًا عن كل تصورات الذات السابقة. ومن خلال الإشارة إلى مفهوم «موت المؤلف»، تُرسم خارطة لتلاشي حضور الذات تدريجيًا، وما يعنيه غيابها من آثار عميقة في الفكر والوجود.
إن الإنسان الحر، صاحب الإرادة المطلقة، هو حجر الزاوية في صرح حضارتنا المعاصرة، فكل أركان مدنيتنا تقوم على افتراض مركزية هذه الذات الحرة.
لكن ها هو سلافوي جيجك، بفكاهته المعتادة، يعلن قائلاً: «شبحٌ يطارد الأكاديميات الغربية... إنه شبح الذات الديكارتية. وقد عقدت كل القوى الأكاديمية تحالفاً غير مقدس لطرد هذا الشبح». لكن تحت هذا السخرية، يكمن جدلٌ عميق: فالذات المستقلة، التي دعمت الغرب قرونًا، تواجه هجومًا شرسًا من مدارس فلسفية شتى. الماركسيون، والوجوديون، وما بعد البنيويون، جميعهم صوّبوا سهام نقدهم نحو هذا الوهم الذي نسميه الذات. فسواء اعتبرناها موروثًا من عصر التنوير، أو أداةً أيديولوجيةً للرأسمالية، أو مجرد لعبة لغوية، فإن مفهوم الذات يترنح تحت وطأة النقد. ومع ذلك، لا يزال العالم يدور في فلك هذه الخديعة؛ لغتنا، وقوانيننا، ومجتمعنا، كلها تؤكد استمرار مركزية الذات، كأننا، باقتباس نيتشه، «قتلنا الذات بأيدينا»، ولكننا نعيش وكأنها ما زالت حية.
لكن ما الذي قتلته ما بعد البنيوية حقًا؟ الضحية هنا ليست سوى الذات الديكارتية: تلك الذات التي تقبع في جوهر الكيان البشري، موحدةً، لا انفصام فيها، وعقلًا مفكرًا منفصلًا عن الجسد. قال ديكارت: «لديّ فكرة واضحة ومتميزة عن نفسي كشيء مفكر غير ممتد، وفكرة متميزة عن جسدي كشيء ممتد غير مفكر، وبناءً عليه، أنا مختلف تمامًا عن جسدي، ويمكنني أن أوجد بدونه».
لكن الوصول إلى هذا اليقين تطلب التزامًا بشك جذري يعترف بأن لا شيء موجود، وأن الحياة كما نعرفها قد تكون وهمًا. ورغم ذلك، كان ديكارت يجد السكينة بالقول: «حتى لو خدعتني الحواس، فإنني لا أشك في أنني هنا، بجانب النار، أرتدي معطفي الشتوي، وأمسك هذه الورقة بيدي». وهذا اليقين رسّخ في قلوب البشر إحساسًا بالثبات والطمأنينة، إذ كان مركز الذات منبعًا للمعنى. ولكن القرن العشرون جاء بالكارثة: النازية، المعتقلات، وقنابل هيروشيما وناغازاكي. فجأة، اهتز اليقين في كمال الإنسان. «كتابة الشعر بعد أوشفيتز عملٌ بربري»، كما قيل. فأين ذهبت وعود الحداثة؟ جلبت الحروب والفقر وخطر فناء النوع البشري، وغرقت البشرية في اغترابٍ تنبأ به ماركس. الذات، التي كانت رمزًا للعقلانية والمثالية، تحولت إلى خدعة، إلى فراغ. قال نيتشه: «الذات، أو الروح كما يُطلق عليها، ربما كانت الاعتقاد الأكثر رسوخًا في الأرض؛ لأنها كانت توفر للضعفاء والمظلومين ذلك الوهم العظيم». لكن خلف هذا البناء الخادع، كان هناك «العدم». ومن هنا وُلد كونٌ جديدٌ بلا ثوابت، عالمٌ تفتّتت فيه السرديات الكبرى. الماركسية والوجودية، رغم فائدتهما كأدوات نقدية، أصبحتا قصصًا نسردها لنفهم العالم.
أما دريدا، فهو الذي صاغ النقاش حول موت الذات، داعيًا إلى تفكيكها: «ما الذي يختلف؟ من الذي يختلف؟ ما هي الاختلافية؟... إن قبلنا هذه الأسئلة بمعانيها وتركيبها، فعلينا أن نستنتج أن الاختلافية قد ولدت لتُهيمن، على أساس ذاتٍ حاضرة كائنًا ما».
لا يرى دريدا في هذا العالم المتموج والمجرد سببًا للإحباط، بل نافذة للتحرر والانطلاق. كما احتفى بارت في «موت المؤلف» بسقوط المؤلف، معتبرًا إياه بداية عصر جديد من اللذة الفكرية. قال دريدا، كمن ينطق بكلمات لاهوتية: «إذا كانت الذات كيانًا تاريخيًا محدودًا، فمن المستحيل إذن البحث عن الحقيقة الكونية بوجودها». فقد أضحى هذا الكيان المأسور في إطار التاريخ ذاته هدفًا للقوى وميدانًا للخضوع. وحين تحررت الذات من قيود الإبستمولوجيا الحديثة، تمركزت الحاجة إلى معرفة جديدة عن هذه الذات المبعثرة، معلنًا فوكو: «الإنسان اختراع حديث العهد، وربما اقتربت نهايته... وربما سيمحى، مثل وجه مرسوم على الرمل عند شاطئ البحر».
وفي عالم يفتقر إلى مركز، كيف يمكننا العيش؟ ورغم ذلك، نجد أنفسنا مرغمين على مواجهة هذا الكون العبثي الجديد. أمامنا واقع شبيه بمسرحيات بيكيت؛ عالم بلا يقين، مليء بتفسيرات فوق تفسيرات، بلا سلطة موثوقة، وبلا حقيقة تُريح قلوبنا.
اعتاد البشر أن يروا في فعل الكتابة تعبيرًا عن جوهرهم الداخلي، عن لب كينونتهم. لكن وفق ما بعد البنيوية، يتلاشى هذا الافتراض. في مقالته عام ١٩٦٧، «موت المؤلف»، أعلن بارت نهاية المؤلف. ومن منطقه أن النص لم يعد مساحة للتعبير عن نية الكاتب، بل أصبح مجالًا مفتوحًا لتأويلات لا حصر لها، إذ يقول: «الكاتب الحديث لا يملك سوى أن يقلد إيماءة أبدية ماضية، غير أصيلة، عبر إعادة تركيب ما كُتب مسبقًا».
وهكذا، يتحول النص إلى ساحة صراع، ويختفي الكاتب، لنشهد ولادة القارئ. يقول بارت: «إن اللغة هي التي تتحدث، لا المؤلف». فالمؤلف كان انعكاسًا لمجتمع رأسمالي يمجد الملكية والفرد في علاقات القوة. ومنح النص مؤلفًا يعني فرض حدود على النص، وإغلاق الكتابة بتأويل نهائي، مما يخلق وهمًا بالواقع. بدلًا من ذلك، يدعو بارت القارئ إلى السيطرة، ليصبح شريكًا فاعلًا في «نشاط ضد لاهوتي، نشاط ثوري، إذ رفض تثبيت المعنى هو في النهاية رفض للإله ولأطيافه: العقل، العلم، القانون». وهكذا، يقول بارت: «لا بد من ولادة القارئ على حساب موت المؤلف».
إن موت المؤلف يعني خفوت صوته، وانفتاح النص على احتمالات قراءة بلا نهاية. فالكتابة هي اللحظة التي تنطفئ فيها كل الأصوات التي تشير إلى مصدر محدد للمعنى؛ إذ يموت المؤلف في اللحظة ذاتها التي يخط فيها كلماته. ورغم أن انعدام المعنى الإلهي الموحد يدفعنا إلى فضاءٍ مضطربٍ تشتبك فيه الكتابات وتتصادم، إلا أن هذا الفضاء يمنحنا الفرصة لنكون جزءًا من فعل القراءة ذاته.
نعود إلى فوكو، حيث يظهر هجومه على الذات كما هو الحال في نقده للمؤلف. يصف فوكو كيف أن الكاتب، من خلال استخدام كل الآليات التي يضعها بينه وبين ما يكتب، يلغى علامات فرديته الخاصة. «نتيجة لذلك، يصبح أثر الكاتب مجرد غياب فرديته؛ يجب عليه أن يتقمص دور الميت في لعبة الكتابة». من خلال قبول «غياب فرديته»، نتمكن من إزالة خطوط الأثر للذات من لحظة الكتابة، لنتجاوز الأيديولوجيا التي تدعي زورًا وجود الداخل المستقل للذات المستقلة. «نستطيع أن نقول إن الكتابة المعاصرة قد تحررت من فكرة التعبير. فإذ تشير إلى نفسها فقط؛ ولكن دون أن تقتصر على حدود داخلها، تُعرَف الكتابة بكونها الخارج المتفكك لها».
لقد حولت ثقافتنا هذه الفكرة من السرد، أو الكتابة، إلى شيء مصمم لدفع الموت بعيدًا. أصبحت الكتابة مرتبطة بالتضحية، بل بتضحية الحياة ذاتها: إنها الآن محو طوعي لا حاجة لتمثيله في الكتب، إذ يتم تحقيقه في وجود الكاتب نفسه.
أأمل أن أكون قد بيّنت كيف أن ما بعد البنيوية تحقق موت الفلسفي للذات من خلال منهجها الراديكالي تجاه اللغة وتأثيرها على مفاهيم الذات. دريدا، بارت، وفوكو لا يرحمون في تفكيكهم الدائم والسريري لوجود الذات. يظهرون لنا أنها ظاهرة تاريخية حديثة نسبيًا، وأن وجودها الفارغ قد استمر عبر العصور، تغذيه وتقويه «الفكرة» مثل هوس الرومانسيين بها باعتبارها منشئ العبقرية. من خلال إشارة إلى المصطلح النقدي الأدبي «موت المؤلف»، قصدت أن أظهر كيف يمكن للمرء أن يرى تأثيرات هذا التمركز. وأردت أيضًا أن أبين أن موت المؤلف هي نتيجة حتمية لموت الذات نفسها.
الكتابة تتكشف كأنها لعبة [jeu] تتجاوز دومًا قواعدها الخاصة، وتخترق حدودها. في الكتابة، الهدف ليس تجسيد أو تمجيد فعل الكتابة، ولا حصر الذات ضمن اللغة؛ بل هو في الأساس خلق فضاء يتلاشى فيه الكاتب دائمًا.