السّيف والصولجان

 

«لا جديد تحت الشمس  - nihil novum sub sole»، كما ينطق المثل القديم العابر للقرون، مشيرًا إلى أن لا شيء في الكون يُعدُّ حقًا جديدًا. لربما كانت هذه الكلمات مقدمةً لـ«الأمير» لنيكولو مكيافيلي، ذاك العمل الذي خطَّ بحروفه أسس السياسة ومكرها. إن تطور أعظم أفكار الحضارة يمكن تتبعه إلى جذورها الكلاسيكية، حيث تستحضر الأذهان صورة رجل الدولة في الرسم الأمامي لـ«اللفياثان» لهوبز: ملك متوّج، يقبض بيده اليسرى على سيفٍ، وباليمنى على صولجان، رمزًا مزدوجًا للقوة الحربية والسيادة الملكية. تلك الرموز، وما تحمله من معانٍ في قلب الحضارة، تتأصل في فكرة «البطل»، حيث تنبثق عبر تطور معقد، يبدأ من المحارب-البطل في «الإلياذة» وصولًا إلى الأمير-البطل في «الأمير». وبحسب مكيافيلي، فإن بطولة السياسة التي يجسدها الأمير-البطل تتصل بنموذج المحارب-البطل القديم، مشكِّلة امتدادًا لهذه الصورة البطولية عبر الزمان.

البطل، كما يعرّفه سيدني هوك، هو الفرد الذي يصنع الحدث، ذاك الذي تؤثر أفعاله تأثيرًا كبيرًا في مجرى التاريخ. فهو صاحب عقلٍ نافذ، وإرادة لا تلين، وشخصية تحمل غاياتٍ واضحة، وتستبصر نتائجها. ولعل توماس كارلايل في محاضراته عن الأبطال قد لخّص هذا حين قال إن الحكومة والنظام السياسي يهدفان إلى تمكين القادر – أي البطل – من أدوات القوة، ليقود بما لديه من موهبة تمكنه من ذلك. في هذا السياق، فإن حجر الزاوية في مفهوم رجل الدولة في الحضارة يكمن في نموذج المحارب-البطل – ذاك الذي يتقن سيفه – كما يتجلى في «الإلياذة»، لا سيما من خلال شخصية أخيل وقادة الآخيين.

تُظهر «الإلياذة» ولادة المحارب-البطل كقائدٍ للرجال بصورةٍ غير مباشرة، مجسِّدةً أولى الفضائل السياسية. وأول الفضائل هو أن يكون القائد الأفضل بين رجاله، كما يُشهد لأخيل، «ذاك الذي يقود جموع الميرميدون»، والذي يُشار إليه مرارًا بـ«أفضل الآخيين» سواء من نفسه أو من الآخرين. أما القادة الآخرون في صفوف الآخيين فيُبرزون بطولتهم عبر براعتهم القتالية: أجاممنون، الموصوف بأنه «أعظم أمراء الحرب، يقود أضخم جيش بلا منازع»، وأياس، الذي يُشار إليه بأنه «الأعظم جسدًا والأشد بأسًا في الحرب بعد أخيل»، وأوديسيوس، المعروف بأنه «الأفضل بيننا جميعًا في كل المهام القتالية».

فكرة أخرى أساسية في البطولة هي أن يكون المحارب-البطل مدرَّبًا بإتقان على فنون الحرب. وهذا يرتبط بمفهوم areté، والذي يُعرّفه هيسيودوس بأنه «أعلى مراتب الكمال الممكنة، وأسمى ما يمكن للإنسان بلوغه». هذا ما يظهر بوضوح في تعليم أخيل على يد فينيكس، الذي وصفه بأنه «شاب غير مدرب بعد على الحرب، ذاك الذي يُعدُّ السلاح الأعظم، وغير ملم بفنون الجدل حيث يبرز الرجال. فأُرسلت (…) لجعلك رجلًا بالكلام والعمل».

يتجلّى هذا المعنى في المشهد الذي يخاطب فيه هيكتور الآخيين متحديًا إياهم: «من هو الأفضل بين الآخيين» ليبارزه في نزالٍ واحد، ويتكرر هذا الوصف في تصوير أخيل بأنه «الرجل العظيم في الحرب». أما الأساس لفكرة المحارب-البطل كخطيبٍ متميّز، فيمكن تتبعه عبر مواضع عدة في «الإلياذة». وكما قال أرسطو، فإن فن البلاغة هو القدرة على إدراك وسائل الإقناع المتاحة في كل حالة، سواء أكان ذلك في فن الحرب أم في فن الحكم. وعليه، يبرز القادة الآخيون دائمًا في أدوارهم كخطباء مفوّهين، كما يتجلّى ذلك في تصوير نستور بأنه «الرجل ذو الكلمات الرابحة، المتحدث الواضح من بيلوس... حلو الكلام كالعسل، تتدفق كلماته بلا انقطاع».

ومن الصور المتكررة التي يشير إليها هوميروس بين سطور «الإلياذة»، هي تقديم المحارب-البطل كمن يزهد في عون الآلهة، معتمدًا على نفسه أكثر مما يعتمد على الغيب. يرى هذا البطل أن الآلهة ليست معنية حقًا بشؤون البشر، ولهذا يفضّل مهاراته، أو areté، على الحظ سواء أكان إلهيًا أم دنيويًا. ويتجلى هذا الموقف في مدح هوميروس المستمر لمهارات المحارب في المعركة، وسيطرته على أدوات الحرب، مقارنةً بالنبرة الساخرة التي يستخدمها عند الإشارة إلى توسلات الأبطال لتدخل الآلهة.

ومن الصور التي يمكن تبينها في أبطال «أغنية إليوم» وأعظم قادة الآخيين، أنَّ المحارب-البطل يتبع أخلاقيات المحاكاة، إذ تُستلهم أفعاله غالبًا من تصرفات الآلهة نفسها. ويتجسد هذا بوضوح في تصوير البطل الذي يُمتلك بروح إلهية، كما جاء في وصف ديوميديس الغاضب، حين منحته Pallas Athena «القوة والجرأة – لكي يتألق فوق الآخيين ويعلو شأنه في المجد العظيم. فأضرمت جسده، واشتعل درعه وخوذته بنارٍ لا تعرف الكلل».

وفي السياق ذاته، تظهر صورة المحارب-البطل كوحوش المعركة في مواضع عديدة من «الإلياذة»، خاصة حين لا يكتفي البطل بمحاكاة سلوك الوحوش بل يتحول إلى أحدها. وهذا ما يتجلى في وصف هجوم الطرواديين على سفن الآخيين، حيث يُشَبَّه هيكتور، الذي يجسّد صورة المحارب-البطل الطروادي، بخنزير بري: «قاتل كالعاصفة، صامدًا كما عهدناه – تخيَّل الكلاب والصيادين ملتفين حول أسد أو خنزير بري، عندما يدور حول نفسه، ينبض بالقوة، فيما يصطف الرجال كحصنٍ لمواجهة اندفاعه ويلقون عليه حرابهم المتتابعة، لكن شجاعته الجامحة لا تضعف، ولا يفرُّ هاربًا، حتى إن شجاعته وحدها تودي به. مرارًا وتكرارًا يدور حول نفسه، مختبرًا صفوف الصيادين، وحيثما ينقض، تتفرق الصفوف. وهكذا كان هيكتور ينقض في المعركة، يحشد الجنود، ويحثهم على عبور الخندق الفاغر».

ويُكمَّل هذا المشهد في تصوير مقاومة الآرجيف للهجوم، حيث يُشَبَّهون بـ«دبابير رشيقة ضيقة الخصر، أو نحل يبني خلاياه على صخور الطريق الوعر». أما الركائز الستة التي تشكّل أسس البطولة السياسية في نموذج المحارب-البطل كما تجلّت في «الإلياذة»، والمتمثلة خصوصًا في قادة الآخيين، فتتمثل في التالي: البطل المحارب كقائد الرجال، المتقن لفنون الحرب، الزاهد في عون الآلهة، المتبع لأخلاقيات المحاكاة، والمتجسد في صورة وحوش المعركة.

أما الطبيعة السياسية الكامنة في نموذج المحارب-البطل في «الإلياذة»، فإنها ستُصقل وتُكمَّل في «الإنيادة» لفيرجيل، لتعود وتظهر في «الأمير» لمكيافيلي. وسيعاد إحياء الركائز الستة مجددًا في نموذج الأمير-البطل في أدبيات specula principum الحديثة المبكرة، حيث تُجَسّد – بوضوح أو بين السطور – في كتاب «الأمير» لمكيافيلي.

إنَّ البطولة كفكرة سياسية «قابلة للتغير التاريخي بوجهين مترابطين يدعمان بعضهما. الأول، أن معانيها تتغير مع الزمن. والثاني، أن بعض المفاهيم تفقد مركزيتها لتفكيرنا وأفعالنا، بينما تبرز أخرى لتأخذ موقعها، قبل أن تمر هي الأخرى بالمصير ذاته». رغم هذا التغير التاريخي لفكرة البطولة كفكرة سياسية، فإن المواضيع الأكثر أهميةً يمكن تتبع جذورها في أصولها الكلاسيكية القديمة. وفي «الأمير»، لم يكن هدف مكيافيلي ابتكار نموذج جديد للبطل المحارب، بل إحياء الفضائل البطولية القديمة بصيغة حديثة، مما أفسح المجال لظهور نموذج الأمير-البطل. والفرق الجوهري في تعريف البطل هو أن البطولة أصبحت وسيلةً لتبرير موقع الفرد في السلطة.

في إطار نموذج الأمير-البطل لمكيافيلي كقائد للرجال، يُجلى هذا المعنى في إهداء كتابه «الأمير» إلى «لورنزو دي بييرو دي ميديشي المهيب»، حيث يصرح بأن عمله ينهل من «معرفة أفعال العظماء (...) المستقاة من خبرة طويلة في شؤون العصر ودراسة مستمرة للتاريخ القديم». وهكذا، يمكن اعتبار «الأمير» تعدادًا للصفات المثالية التي ينبغي أن يتحلى بها الأمير النموذجي للحفاظ على السلطة، وتوسيعها، والاستيلاء عليها. وفي هذا النموذج، يستقي مكيافيلي فكرة البطل المحارب المتقن لفنون الحرب، لكنه يعيد صياغتها بحدة وقوة أكبر، إذ يخصص فصلًا كاملًا ليؤكد أن «على الأمير ألا يضع نصب عينيه سوى الحرب وقوانينها ونظامها، ولا ينتقي لدرسه علمًا غيرها، فهي الفن الوحيد الذي يخص من يحكم، وهي من القوة بحيث لا تدعم فقط أولئك المولودين أمراء، بل تمكن أيضًا الرجال من النهوض من مواقعهم العادية إلى ذلك المقام».

أما فكرة البطل المحارب كصاحب لسان فصيح، فتحولت في نموذج الأمير-البطل إلى البلاغة التلاعبية – صورة مخادعة – تمكنه من «ارتكاب الخطأ واستخدامه أو الامتناع عنه حسب الضرورة». ويوضح مكيافيلي ذلك بقوله إن «الأمراء الذين أنجزوا عظيم الأمور (...) عرفوا كيف يحيكون مكرًا في عقول الرجال، وتغلبوا في النهاية على أولئك الذين اعتمدوا على كلمتهم». ويضيف أن «على الأمير أن يحرص ألا يفلت من شفتيه ما لا يتسم بالصفات الخمس المذكورة، ليبدو لمن يراه ويسمعه رحيمًا، وفيًّا، إنسانيًا، مستقيمًا، ومتدينًا».

أما المعنى الحقيقي لـareté، فقد كان بالكاد ملمحًا في نموذج البطل المحارب القديم، إذ يذكر حاجة البطل إلى الزهد في عون الآلهة والاعتماد على مهارته؛ ولكن في نموذج الأمير-البطل لعصر الحداثة المبكرة، يعود هذا المعنى كتصريح قاطع لمكيافيلي بأن «كل الدول، وكل القوى التي حكمت الرجال (...) تُكتسب إما (...) بالحظ أو بالكفاءة». ويؤكد أن «كون الإنسان يصبح أميرًا (...) يفترض إما الكفاءة أو الحظ، (...) ومن اعتمد على الحظ أقل، كان أكثر رسوخًا»، ليخلص إلى أن أولئك الذين ارتقوا إلى مرتبة الأمراء بقدراتهم لا بحظهم هم: موسى، وكوروش، ورومولوس، وثيسيوس. وتتجسد هذه الفكرة في وصف مكيافيلي للحظ بأنها «امرأة، [وإذا أردت أن تُخضعها] فمن الضروري أن تضربها وتسوء معاملتها؛ وقد ظهر أنها تخضع للمغامرين أكثر من أولئك الذين يعملون بحذر وبرودة».

ومن أدهش الفضائل السياسية التي صُقلت لتتناسب مع رؤية عصر الحداثة المبكرة في «مرايا الأمراء»، تلك التي تستمد جذورها من نموذج المحارب-البطل، هي تصوير الأمير-البطل على هيئة الوحوش في كتابات مكيافيلي. إذ يقول: «هذا ما علمته الكتابات القديمة للأمراء، مجازًا، حين وصفت كيف نشأ أخيل وكثير من الأمراء القدماء (...) على يد معلم يجمع بين صفات الوحش والإنسان». ويؤكد أن «على الأمير، إذن، وقد أُجبر على تبني صفات الوحوش عن دراية، أن يختار الثعلب والأسد؛ لأن الأسد لا يقدر على اتقاء الشراك، والثعلب لا يقوى على صد الذئاب. لذا، فمن الضروري أن يكون الأمير ثعلبًا لكشف المكائد، وأسدًا ليرهب الذئاب».

حتى عصر الحداثة المبكرة، عُدّ نموذج الأمير-البطل عند مكيافيلي تتويجًا لما بدأ في شخصية المحارب-البطل في «الإلياذة» لهوميروس. ورغم أن المُثل العليا قلّما تجد تحققها التام في الواقع، تأمل كيف صارت الحضارة تُقيم مؤسساتها العسكرية والسياسية وتحكم عليها وفق تلك القيم التي تجلت في قادة الإغريق وقادة طروادة – من قصائد الملاحم إلى مرايا الأمراء – حتى غدت السلطة والهيبة رمزين يتجسدان في السيف وصولجان الحكم.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق