ليس لي دون ذاتي هوية
في سنة ١٧١١، أخرج أنتوني آشلي كوبر، إيرل شافتسبري الثالث، مؤلفًا جليلًا عُرف بعنوان «خصائص الرجال والطبائع والآراء والزمن». وكان لهذا الكتاب أثر بالغ في طرح مفاهيم جديدة، من أبرزها مصطلح «الأنانية» (egōismos). تناول فيه صاحبه فكرة تقول: «لا شك أن هناك شيئًا يفكر»، لكنه أقرَّ بعدم معرفته لحقيقة ذلك الشيء. وفي موضع آخر من الكتاب، يقول: «إن تأملات الفلاسفة تفيد بأن الهوية لا تثبت إلا من خلال الوعي، ومع ذلك، قد يكون هذا الوعي صادقًا أو زائفًا فيما يتعلق بالماضي». ومن هذا المنطلق، سرتُ في التحليل، مستلهمًا رؤى مفكرين آخرين ونظريات تقدمت بخطوات تجاوزت شافتسبري، فلم تكتفِ بالتشكيك في ثبات الذات، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث ادَّعت أن الذات غير موجودة من الأساس. وبناءً على هذا الرأي، لم يعد يُنظر إلى مفهوم الذات بوصفه مسألة غموض أو شك في هويتها وحدودها، بل صار الحديث عن إلغائها كليًا. هؤلاء المفكرون يُنسبون إلى طائفة تُعرف بـ«الإلغائية»، التي تأخذ بمبدأ «نصل أوكام» إلى أقصى حدوده، فترى أن كل ما يبدو وكأنه «أنا» ليس إلا مجموعة من الحقائق التي يمكن تفسيرها من منظور خارجي، سواء كان منظورًا ثالثًا أو فوق شخصي. فالإشارة إلى «أنا»، بحسبهم، لا تحمل أي قيمة تفسيرية.
أما أولئك الذين يتبنون نسخًا أكثر اعتدالًا من هذا الرأي، والمعروفة بـ«النظريات الاختزالية»، فهم لا ينكرون وجود الذات، ولكنهم يحاولون تقليصها إلى صفات أو طبقات أبسط أو أشمل. ومع ذلك، يُطلق على هذا الموقف في الأدبيات الحديثة مصطلح «رؤية اللا ذات» (No Self View)، مع تسميات أخرى مثل «لا موضوع» (No-Subject) أو «اللا مالك» (No-Owner)، وكلها تشير إلى غياب ملكية الذات. بعض هؤلاء المفكرين يذهبون إلى حد اعتبار أن الحديث عن الذات لا معنى له وفقًا لمعايير المفاهيم الدقيقة، وأن الإشارة إليها لا تضيف تفسيرًا جوهريًا. ويقولون إن العبء يقع على أولئك الذين يُصرون على وجود الذات لإثبات فرضياتها. ويشبّهون البحث عن ذات أساسية، كأنها نقطة انطلاق للأحداث العقلية، بالسعي للعثور على كائن خفي يقف خلف عبارة مثل «البرق يضرب» أو «المطر يهطل». فالذات، عندهم، ليست مرجعية حقيقية، ولا يمكن العثور عليها في أي موضع.
وفي اتجاه آخر، هناك من يسعى إلى نفي الذات ككيان فعلي، لكنه يعكف على تفكيك أصلها الوهمي، معتبرًا إياها فكرة تطورت عبر الزمن، كخداع أوجدته معالجة المعلومات، أو دور اجتماعي تقليدي، أو تكوين مستمد من أوهام الذاكرة. لذا، عند الحديث عن الذات وإنكارها، ينبغي الحذر في تحديد المستوى الذي نتعامل معه: هل هو مستوى أساسي؟ أم مستوى مستنبط يمكن التساهل فيه قليلًا؟
أما الاستراتيجيات التي يعتمدها معارضو المفهوم التقليدي للذات، فهي تنطلق من تفكيك ما يبدو وكأنه منظور ذاتي، لتعيد صياغته بوصف حيادي لا يعتمد على الكائن الفردي. فعندما نتحدث عن حالة عاطفية، يمكن ترجمتها إلى إشارات عصبية في الدماغ، أو إلى وظائف اجتماعية ضمن الهياكل المجتمعية، أو إلى نظام عقلي يراقب نفسه كوكيل مستقل. والمهم هنا هو تجاوز الافتراض القائل بأن السؤال عن «كيف»؟ يجب أن يبدأ بالسؤال عن «من»؟ والابتعاد عن تفسير مشكلة الذات انطلاقًا من الذات ذاتها. ومن بين استراتيجيات أخرى، هناك من يلجأ إلى تضخيم فكرة تعددية الذات حتى تبدو عبثية وتتفكك بشكل نهائي. في هذا السياق، يلعب الطب النفسي دورًا مهمًا، إذ يبرز أن ما نظنه ذاتًا موحدة هو في الواقع تداخل متزامن لعوامل عقلية غير متحدة. أو قد يُثبت أن الذات لا تملك أي وجود يمكن اعتباره أساسًا لاستمرارية وعي زمني. الحديث هنا لا يكون إلا عن سلاسل سببية تتتابع، والبحث عن الذات ككيان مستقل ضمن هذه السلاسل يشبه التساؤل عن النار في الشمعة الأولى وهل هي ذاتها التي تنتقل إلى الشمعة المئة. فببساطة، لا وجود لذات مستمرة أو معرفية ثابتة. بحسب أحد المواقف المعتدلة، يمكن الحديث عن تعدد الذوات، سواء كانت متزامنة أو ممتدة عبر الزمن، مع التأكيد على تباينها. أما الموقف الأكثر تشددًا، فيقضي بالتخلي عن فكرة الذات تمامًا. وقد عبّر ويليام شامبو في القرنين الحادي عشر والثاني عشر عن هذا الرأي حين قال: «يجب أن نتحدث عن سقراط مختلف مع كل حادثة؛ فسقراط الذي يستحم في البحر غير سقراط الذي يركض في الغابة». وفي هذا الفكر نرى تطورًا حديثًا لرؤية تقول إنه لا وجود إلا لتغيرات الحوادث، ولا حامل لها ولا أساس ثابت يجمعها.
استراتيجية أخرى تُظهر أن لا وجود لوحدة يمكن تحليل أجزائها للوصول إلى «الذات». هذه الاستراتيجية تُعدّ من أعظم استراتيجيات «اللا ذاتية» في التقليد البوذي الذي يرفع من شأن مفهوم anatman (اللا-ذات) منذ أكثر من ألفين وخمسمئة عام بصيغها المتعددة. المنهج هنا بسيط للغاية: ينبغي علينا أن نفحص أجزاء الفرد، جزءًا تلو الآخر، لنكتشف أن كل جزء منها لا يمكن أن يُنسب إلى ما ندعوه «الذات». فهذه اليد اليسرى ليست «أنا»، وهذه الكلية ليست «أنا»، وهكذا. وفي المنظور المعاصر، يُطلق على هذا المنهج اسم «التقليص الميرولوجي» أو «نظرية الحزم»، التي تُنكر وجود كائن فوق الأجزاء والتجمعات السببية يمكن أن يُعتبر «الذات». ومع ذلك، من الضروري أن نُدرك أن التقليد «اللا ذاتي» ليس حكرًا على الشرق، بل له أصول راسخة في الغرب أيضًا. فقد تبنّى العديد من المفكرين موقف «لا ذات»، أو على الأقل طرحوا احتمالية هذا الموقف بشكل عميق. ومن أبرزهم الفيلسوف ديفيد هيوم، الذي مال إلى القول بأن ما يوجد في الحقيقة هو مجرد مجموعة من الإدراكات بلا «ذات»، وأن «الذات» ما هي إلا خيال (رغم أن هناك تفسيرات متباينة لهذا الرأي). وبالمثل، يُعتبر ليشتنبرغ أحد رموز هذا الاتجاه، إذ أعاد النظر في الإرث الديكارتي قائلًا ببساطة: «يمكننا القول فقط إن هناك شيئًا يفكر» (es denkt)، دون أن نستدعي الذات ككائن يفكر.
وقد أشار موريتز شليك في عمله «المعنى والتحقق» إلى ليشتنبرغ، مؤكدًا أنه لا يوجد أساس منطقي للتفريق بين «ملكي» و«ملكك»، فالخبرة في النهاية ليست لها مالك. هذا الطرح امتد ليؤثر في أفكار فيتغنشتاين، الذي دعا في فترةٍ ما إلى وصف التجربة المباشرة دون استخدام الضمائر الشخصية، لما تحمله من إيحاءات بالملكية. ومن المثير أن نرى ديريك بارفيت، أحد أبرز مفكري «اللا ذاتية» في القرن العشرين، يُشير أيضًا إلى ليشتنبرغ. بارفيت ذهب إلى أبعد من ذلك، معتبرًا أن سؤال الهوية الشخصية سؤال غير ذي صلة، وأن التحرر من الهوية الشخصية يُعدّ تحريرًا أخلاقيًا. ففي رأيه، لا وجود لـ«الذات» كحقيقة مستقلة، وأن هوية الشخص ليست سوى فرضية لا ضرورة لها لتفسير استمرارية الحياة والعلاقات. أما في التقليد «اللا ذاتي»، فإن الفينومينولوجيا تستحق اهتمامًا خاصًا. ففي «التحقيقات المنطقية»، ميَل إدموند هوسرل إلى اعتبار «الذات» نتاجًا عكسيًا. وتحدث جان بول سارتر في «تجاوز الأنا» عن «الأنا» ككائن مُنشأ ومُتجاوز، يظهر من التجربة لكنه ليس نقطة انطلاق. كذلك، فإن مشروعًا فينومينولوجيًا «لا ذاتيًا» أطلقه أرون غورويتش يُساهم في تعميق هذا المفهوم.
يمكننا أن نستحضر أسماء عديدة ساهمت في تعزيز التقليد «اللا ذاتي» في الغرب أو أثرت فيه بطرق مختلفة: فريدريك نيتشه، ويليام جيمس، برتراند راسل، آي. جي. آير، جي. إي. إم. أنسكومب، دانيال دينيت، وبي. إف. ستراوسون، وغيرهم. رغم صعوبة تقديم لمحة شاملة عن النقاشات المعاصرة، يبقى هناك توتر أساسي يعصف بالتحديات المطروحة في هذا المجال. من بين هذه التحديات، الأسئلة المتعلقة بالموقف «اللا ذاتي»: هل يمكن أن يبدأ تدفق تجريبي بـ«أنا» لكنه ينتهي كتجربة لشخص آخر؟ وما الذي يضمن استمرارية الوعي لمن يملك ذكريات عن طفولته في أفريقيا؟ إذا وُجد نوع من الإحساس بالذات (sense of self)، فهل يمكن وصفه كمجموعة من الأحداث العقلية المنفصلة؟
كل هذه الأسئلة تُشير إلى أهمية الاعتراف بنوعٍ من الذات الدنيا، هيكل ثابت في تجربة الذات، يُمنح لنا بشكل مباشر وغير استنتاجي. من خلاله نستطيع أن نختبر شيئًا ما كـ«لي»، حيث يبقى هذا البعد الظاهري الأصلي غير متاح للآخرين. ببساطة، لا يمكن أن أكون إلا هذه الذات الدنيا، ولا أستطيع إدارة ظهري لهذه البداية الأولية التي تمنح التجربة معناها. هذه الاستراتيجية لا تفترض وجود «أنا» ككيان مستقل ذي هوية ثابتة، لكنها تحتفظ بفكرة «الملكية» بشكلها الأدنى. بمعنى آخر، الذات ليست منفصلة عن التجربة، بل جزء عضوي من تدفقها. ومع ذلك، يرى بعض النقاد أن هذا الموقف يُمثل استعادة غير مبررة للذات أو قفزة غير ضرورية نحو الذاتية. بحسب التقليد «اللا ذاتي»، ليس كل حدث من أحداث الوعي ينتمي إلى «ذات» معينة، بل توجد طبقات من الخبرة حيث لا يُقسَّم الوعي إلى ذات وموضوع. على سبيل المثال، يرى توماس ميتزينجر في عمله «أن تكون لا أحد» أن نظرية الذات الدنيا ما زالت رهينة للتشييء الظاهراتي، إذ تجعل الذات شيئًا مفصولًا. بينما ينبغي أن نتحدث عن أنظمة معقدة تتنظم ذاتيًا، حيث يكون الإحساس بالذات جزءًا من توازن بيئي يساعد على استقرار النظام الداخلي، دون أن يكون نقطة انطلاق بحد ذاته.
أما فيما يتعلق بالرجوع إلى الذات في الحلقات المرجعية الذاتية، فلا حاجة هنا إلى تحديد «من هو» هذا الشخص حتى في أبعاده الأدنى، ولا حاجة لافتراض أي حقيقة إضافية عن الملكية. كما قال شومايكر في مكان ما: «المرجعية الذاتية بدون هوية». إن الوهم ينبع من حقيقة أن النظام الرجعي للتغذية الراجعة في التجربة الحية، حيث تدمج التطورات الجديدة في العمليات، يعزز الانطباع بوجود حامل أولي كـ«ذات»، يتجاوز استراتيجيات النمذجة الذاتية المعقدة. لكن، إذا دققنا النظر في النقاشات، فسنجد أن الفروق بين المواقف تبدو أحيانًا ضئيلة. على سبيل المثال، يشير دان زاهافي، أحد أبرز المدافعين عن نظرية الذات الدنيا، إلى أن الذات فارغة. بينما يتحدث ماثيو ماكنزي، الملتزم بشكل حاسم بالموقف غير الذاتي، عن الذات كنظام فارغ من التطورات، ولكنها مع ذلك حقيقية كإحساس بالذات وطريقة تمثيل النظام لذاته. وأيضًا، يتحدث فرانسيسكو فاريلّا، الذي كان مصدر إلهام لتفسير الذات من خلال نظرية الأنظمة المعقدة، عن هوية افتراضية لا يمكن تحديد مكانها، ليست جوهرية، بل موزعة، ومع ذلك فإنها تؤدي دورًا مهمًا في الحفاظ على الإغلاق التشغيلي للنظام. وقد يتبادر إلى أذهاننا أن الفروق بين الآراء تختلف في الغالب بسبب الاختلافات المصطلحية أو السطحية. وربما يمكن أن تسهم النقاشات المستقبلية بشكل كبير إذا تم توضيح الطبقات المختلفة للذات التي نناقشها، سواء كانت أساسية أم مشتقة.
يجب أن أذكر رؤية متكررة في نقاشات لا-الذات، حيث لا يتعلق الأمر بالهوية فقط، بل بالهوية والتعريف معًا. ليس السؤال فقط من نحن، بل أيضًا ما الذي نصبح عليه، نحن الذين نسعى للتعريف بأنفسنا في لحظات الغضب، والطمع، والانغماس في الأوهام، حيث قد لا يوجد في الواقع من يمكننا أن نرتبط به. بهذه الطريقة، نفتح أفقًا جديدًا تمامًا للأسئلة حول غياب الذات، مع أبعاد أخلاقية، بل وربما سوتيريولوجية، لمن يبحث عن التحرر من الذات، أو على الأقل عن تحرير بعض لحظاتها؟