لحظة موتي
في عام ١٩٤٤، جلس فتى في مقتبل شبابه داخل دار عامرة بالثراء، يتأمل مخطوطة بين يديه بعمقٍ وحزن. وفي لحظة تأمله، سمع طرقاً خفيفاً على الباب. وحينما فتحه، وجد أمامه ضابطاً نازياً، ذا قامة رهيبة لم يكن لطف الطرق ليخفيه. صاح الضابط بأعلى صوته، آمراً الجميع بالخروج. وقف الفتى بجانب الباب بتواضع، يشاهد أقاربه من كبار السن يعبرون أولاً من عتبة القصر المزخرف، تلحقهم شابتان، ثم يخرج هو بعدهم، بهدوء، إلى الحديقة الغنّاء التي باتت الآن ساحة للموت.
ظهر الضابط بوجهه القاسي، وأشهر أسلحته وجنوده، وعلم الفتى في تلك اللحظة أن أجله قد اقترب. طلب طلباً أخيراً، بأن يُسمح لعائلته بالعودة إلى الداخل، ووافق الجنود. وقف الفتى، غير مبالٍ بحفيف ملابس النساء العائدات، وربما كان يتأمل في الخطأ الذي ارتكبه عندما افترض أن هؤلاء الجنود ألمان، ليكتشف أنهم من جيش التحرير الروسي. أو ربما كان يشغل ذهنه بمخطوطته، أو يفكر في الإله، أو في لا شيء، فقد شعر فقط بنوع من السلام. ليس فرحاً، وليس حتى خالياً من الخوف، بل سلام يشبه الموت الذي يسبق الحياة. لم يعلم كم مضى من الوقت وهو جثة ميتة، حتى جاء دوي انفجار من بعيد ليعيده إلى الحياة. صرفه الضابط، فقد كانت هناك أمور أكثر إلحاحاً من إعدامه؛ صراخ وضجيج يستدعي الاستجابة.
ابتعد الفتى، ودون أن يدري كيف، وجد نفسه تحت ظلال غابة كثيفة. وبعد حين، علم أن الجنود أحرقوا كل شيء، باستثناء بيته، وأن ثلاثة من أبناء المزارعين وبعض الخيول قد ماتوا. رحل إلى باريس، ولا يزال يتساءل، غير متأكد مما إذا كان حياً بالفعل.
هذه هي الحكاية التي يسردها بلانشو في «لحظة موتي». وكما هو واضح من عنوانها، فإن ما يثير القصة هو تلك العبارة التي تبدو مستحيلة، «لحظة موتي»، وتجسيدها لما يبدو أنه تجربة حقيقية مر بها بلانشو أثناء الحرب. إنها حكاية تسبر غمار ما يُعدّ هنا تحولاً جوهرياً: حين يُجلب الموت، الذي نظنّه واقفاً منتظراً على عتبات المستقبل، ليغدو في لحظة من اللحظات جزءاً من الحاضر، أو حتى جزءاً من الماضي. نتخيل أن الموت يحدث للآخرين؛ فهو ربما يأتي الآن، ولكنه ليس هنا ليأخذنا نحن. نتذكر كلمات أبيقور الشهيرة في «رسالته إلى مينوسيوس»، حيث يقول عن الموت: «أشد الشرور هولاً هو الموت، وهو لا يعني لنا شيئاً، لأننا حين نكون، لا يكون الموت قد جاء، وحين يأتي الموت، لا نكون نحن موجودين».
إذن، لحظة موتي لا تتوافق أبداً مع حياتي. هذا الفصل بين الموت والنفس، ينجح بلانشو في زعزعته في بضع صفحات فحسب.
ما الذي تكشفه لنا لحظة موتي عن لحظة موتي الحاضرة؟
ربما، بسبب طبيعة ما يُستكشف، لا تكشف عن الكثير إطلاقاً. كما يقول مايكل ديلون وبول فليتشر: «لحظة الحاضر، لحظة الموت، كلاهما حالتا وجود بين الحالتين، وبالتالي من الصعب تعريفهما أو إدراكهما». يبدو إذن، أنه لا يمكننا تعريف لحظة الموت العاجلة، ومع ذلك فإن مثل هذا الغموض الجذري قد يكون في غاية الخصوبة. هذه الفجوة في الزمن، التي تصنع الموت الحاضر، هي ما يستكشفه ديلون وفليتشر في مقالتهما. ينظران في سرد بلانشو المختصر، ويريان في هذا السرد تمثيلاً مستحيلاً للحظة خارجة عن التاريخ، حيث يمكن لتجربتنا للحاضر - تلك التي دائماً ما تنفلت من محاولات الإمساك بها - أن تكون «ليس موت الزمن، وإنما زمن الموت».
هذا المقال يجد في «لحظة موتي» إعادة تفكير جذرية في الكتابة والسرد، الحياة والسياسة، الزمن والموت. لكن هناك مشكلة تبرز على الفور، وهي كيف يمكن للمرء أن يعالج أمرًا لا يمكن تحديده أو اختصاره - أي، ذلك الآخر اللامتناهي وغير القابل للتحديد من طبيعة الموت، الذي هو، بحسب التعريف، خارج حدود التعريف؟ وهل يمكن لنا أن نتوقع إجابات لكل الأسئلة المرجوة من «لحظة موتي»؟ ورغم أن السؤال عن موت الإنسان قد لا يكون المكان الأمثل للبدء، ألا تكون الأدب في جوهرها، كما كتب بلانشو في «الأدب وحق الموت»، فقط عندما «تصبح سؤالاً»؟ فلنبدأ إذن بأسئلة بلانشو ذاتها.
من الصعب قراءة سرد بلانشو دون أن يكون هناك - ولو في الخلفية - أثرٌ لدريدا في «ديمور – Demeure»، عملٌ نقدي يقدم تحليلاً لمفاهيم السرد والموت من خلال قراءة دقيقة لهذا النص المهيب، الذي نشر أول مرة في عام ١٩٩٤. الجمع بين هذين النصين - كما فعل الناشرون لاحقاً - ليس مقيداً بالضرورة، بل ربما يكون مناسباً، بالنظر إلى الحوار العميق، الذي يدور حول مساحة الأدب، والذي يربط بين المفكرين بشكل لا ينفصم.
وفي مقالة تستعرض معالجة «ديمور» لمسألة «الحدود التي تفصل بين السرد والشهادة»، ترى جينيت ميشو أن دريدا هو الفيلسوف الذي «أعار فكر بلانشو أذناً يقظة، وتابع بدقة أبعاده السردية والنظرية». وقد التقيا لأول مرة بسبب حادث مؤسف متعلق بجان بوفريه، وأصبحا صديقين، إلى الحد الذي أصبح فيه «ديمور» نفسه «لفتة صداقة» بسبب المتاعب التي واجهها نشر «لحظة موتي». لذلك، وكما تقول ميشو، «يمكن قراءة نص دريدا بوصفه استجابة، حيث إن هذا الاسترجاع لشهادة بلانشو الأدبية (وربما السياسية) يجعل من دريدا ليس فقط المضيف، بل أيضاً الوريث». وبالتالي، قراءة بلانشو من خلال «ديمور» ليست فقط خطوة أولية نحو القصة، بل خطوة مكملة أيضاً.
في كتاب «ديمور»، يكتب دريدا: «الأدب والموت، الحقيقة والموت: هذا هو الموضوع». إذ يأخذ تحليله بين يديه أفكار بلانشو المستثارة في قصته التي تبدو (فيما يُقال) أنها سرد ذاتي، لينتقل من مقام الشاهد القائم أمام القانون ومتضمنات الشهادة والعاطفة إلى المفاهيم الأكثر تداولًا اليوم كالفردية، والعدل، وإشكالية الموت. ومع أن دريدا يقدم قراءة رمزية شاملة لرواية «لحظة موتي»، إلا أن ثمة تفصيلًا واحدًا في الرواية لم يلقَ العناية الكافية، ومن هذا الإغفال يستنير هذا النقاش لقراءة جديدة تستشفُّ معنى كامنًا في نص بلانشو نفسه. وبالتالي، فإنه من خلال دريدا - بشكل لا يمكن تجنبه - تُقاد الحجة الحالية نحو تحليل عبارتين هما الأساس في النص: «لحظة» و«موتي».
تبدو الرواية القصيرة المكونة من خمس صفحات أكثر تعقيدًا مما قد تظهر عليه. فعلى الرغم من اختصارها، إلا أنها «نص ضخم». إذ يجد القارئ أمامه منذ الوهلة الأولى تعقيدات شكلية، مثل الأسلوب التأطيري الذي يحتضن بقية السرد: «أتذكر شابًا»، يبدأ الكاتب بأسلوب سرد الذكريات. لكن ما إن يبدأ السرد، حتى يتواصل بشكل إشكالي مع ضمير الغائب المفرد «هو»، بينما يحتفظ ببعض التعليقات من الراوي الأول غير المسمى، مثل: «في مكانه، لن أحاول التحليل». وفي الجملة الأخيرة من السرد (قبل الفقرة التي قد تُعتبر خاتمة بعد زمن غير محدد)، يتلاقى ضميرا المتكلم والغائب بأسلوب لا يخلو من الإرباك، إذ يقول الراوي: «أنا حي. لا، أنت ميت».
وهكذا، يمكن للمرء أن يدرك منذ البداية تعقيد نص بلانشو رغم اقتصاده في الكلمات، حيث إنه نصٌ مشبعٌ بأفكار بلانشو حول الكتابة والزمن والموت و«المحايد»، وهو نص يتردد فيه صدى تجربة دوستويفسكي، الذي يتناوله بلانشو كثيرًا بعمق في كتاباته، ويبرز فيه الأثر الواضح لأفكار هيغل ومالرو وبولان، ويُكتب بلغة تبدو بسيطة لكن مليئة بالأسرار. هذه الجوانب سنعود إليها في سياق هذا التحليل.
لنبدأ إذن بالغياب الملحوظ في تحليل دريدا.
بداية السطر الأول تحمل تعقيدًا مذهلًا: «أتذكر شابًا – رجلًا ما زال شابًا – منعه الموت من الموت نفسه – وربما خطأ الظلم». وعلى الرغم من أن ماهية هذا الظلم ستُناقش لاحقًا، إلا أن هذه الجملة الأولى تستوقف القارئ بقوة. «يمكن للمرء أن يقضي سنينًا على هذه الجملة»، كما يعترف دريدا. إذ يبدو أن ديمور يدور بكامله حول هذه الجملة المحورية المتناقضة، مع تموضع دريدا في قراءته للإدانة بالموت – حيث يأمر الضابط جنوده بـ«تشكيل الصف وضبط الهدف» على الفتى، الذي كان الجنود «يستعدون بالفعل للتصويب عليه» – كتشبيه لتجربة الاحتضار المستحيلة.
ومن هذه الجملة الأولى نفهم أن ما يحدث له ليس الموت، بل إنه ليس الموت بالمعنى المعتاد. إنه ليس الموت، بل هو اتباع لحكمٍ هو أمرٌ بالموت: مت، أنت ميت، ستموت. إذ يأتي الأمر بالموت ليمنعه من الموت ('منعه الموت من الموت نفسه')، وستروي الشهادة في جوهرها هذا الانقسام، في مقسومه ومقسّمه. من الموت يُمنع بواسطة الموت ذاته. هذا الانقسام الفردي هو جوهر شهادة تروي في مجملها 'تجربة غير مُعاشة'.
ما هي هذه التجربة التي لا يمكن عيشها؟ يرى دريدا هنا أن إدانة الضابط للشاب هي هذا الأمر بعينه: إذ على الرغم من أن الرجل لم يُقتل جسديًا، إلا أن هناك إحساسًا بأنه مات من خلال حكم موت غير معلن. «لقد حدث الموت بالفعل، مهما كان غير مجربًا، في التسارع المطلق للزمن المضغوط بشكل لا نهائي في نقطة اللحظة»، وبمعنى آخر، «لقد حدثت لحظة بالفعل حيث وقع عليه الموت. كل شيء كان مبرمجًا سلفًا؛ كان حتميًا وقدريًا، وبالتالي فقد تحقق – الموت». وكما قال دريدا بعد سنوات: «أن تموت، في جوهره، هو أن تكون معرضًا للموت».
ومن ثم، يعيش الشاب ولكنه لم يعد حيًا. إذ إنه ميت بالفعل، إنها حياة دون حياة. وبهذا، يتيح لنا عمل بلانشو الشروع في استجواب الافتراضات المتعارف عليها حول الموت – وأنه دائمًا هو توقف النشاط الحيوي، وأنه بيولوجي بحت، وأنه لا توجد سوى طريقة واحدة للموت.
يمكن للمرء، إذن، أن يفهم سبب الإشارة إلى «لحظة موتي» ككتابة عن الموت الذاتي (autothanatography): على عكس السيرة الذاتية، فإن هذه الكتابة تدور حول الموت بدلاً من الحياة. في مقدمتها لعدد خاص عن الكتابة عن الموت الذاتي، أشارت سوزان بينبريج بسرعة إلى أن «المصطلح [...] قد يبدو متناقضًا، لأن الموت لا يمكن أن يُعرف للذات، فما بالك الكتابة عنه»، لكنها خلصت إلى أنه «عندما يحل ثاناتوس محل البيوس في السيرة الذاتية، يصبح التركيز على الموت، بدلاً من الحياة، مما يوضح حقيقة الذات الفانية. فالموت بحد ذاته، على الرغم من كونه ’غير معروف‘، لا يزال يحفز محاولات لفهم طبيعته ومعناه عبر الكتابة».
هذا المصطلح يستخدمه دريدا مرة واحدة فقط في «ديمور»، وإن كان بتحفظ، بين قوسين: ووفقًا له، فإن خيال بلانشو هو «شهادة وبدا كأنه سيرة ذاتية (وفي الحقيقة هو كتابة عن الموت الذاتي)». وعلى الرغم من أن دقة هذا المصطلح (إلى جانب هذه التعريفات الأولية) لا تزال قيد التحقق، فإن وصف دريدا يبدو ملائمًا حتى الآن: يبدو أن السرد قد كتب «من موتي، من المكان ومن حدوثه، بل الأفضل، من كونه قد حدث بالفعل، من موتي». كما تم الإشارة إليه سابقًا، ما يجعل مثل هذه الادعاءات غامضة بشكل خاص هو «منظور الحس المشترك»، الذي - يمكن للمرء أن يقول بتفهم - بموجبه «لا ينبغي لي أن أقول: لقد مت أو أنا ميت». يُفترض أن الشخص يمكنه فقط «الشهادة على اقتراب [...] الموت»، وبالتالي «لا شيء يبدو أكثر عبثية بالنسبة للحس المشترك من تجربة لم تُعاش» وتبعاتها (الكتابة عن الموت الذاتي) و(السياسة المتعلقة بالموت). ولكن دريدا يؤكد أهمية التفكير في هذا التناقض لكي نفهم بلانشو «قراءة أو استماعًا» بشكل صحيح.
من البداية، يُلاحظ أن «الموت» و«اللحظة»، مهما كانا مصطلحين إشكاليين، هما متداخلان بشكل واضح ومعقد في هذه التجربة (غير-التجربة). اللحظة التي يُتخذ فيها القرار بإعدام الرجل هي اللحظة التي يموت فيها الرجل، اللحظة التي يشعر فيها بـ«خفّة استثنائية، نوع من السعادة (لكن ليس شيئًا سعيدًا) [...] لقاء الموت مع الموت». هذه العبارة الأخيرة، يكتب دريدا، تكشف عن «الموت نفسه [...] في حافة اللحظة من القرب، عند فوهة البندقية، في اللحظة التي كان الموت فيها قادمًا». إنه لقاء يكون «في أفضل الأحوال [...] توقعًا، لقاء الموت كتوقع مع الموت نفسه، مع موت قد وصل بالفعل وفقًا للضرورة: لقاء بين ما سيصل وما قد وصل بالفعل»، ومن ثم، «الموت قد أتى للتو من اللحظة التي كان سيأتي فيها [...] لقد انتهى للتو من القدوم. الموت يلتقي بذاته».
كما يعترف دريدا، ربما يكون أوضح تجسيد لذلك هو أمنية البطل «الأخيرة» بأن تذهب عائلته إلى الداخل حتى لا يشهدوا على إعدامه. وتم منح هذه الأمنية – حيث يرمز تحقيق أمنية المرء الأخيرة إلى نهاية حتمية قد وصلت بالفعل – فتوافق عائلته في «موكب طويل وبطيء وصامت، كما لو أن كل شيء قد تم بالفعل». وعلى الرغم من أن الموت لم يصل بعد، إلا أن تجربة الموت المؤكدة قد حدثت: إنها التجربة غير المُعاشة، التي تقع ليس فقط على خطوط الفينومينولوجيا ولكن أيضًا على الخطوط الأنطولوجية. بالإضافة إلى ذلك، «لا يمكن استعادة الشخص من تجربة الموت التي لا مفر منها، حتى لو نجا منها. فلا يمكن النجاة منها إلا دون البقاء على قيد الحياة فعليًا». تشير إيبوري إلى أن العديد من الأعمال الخيالية تعترف بالفعل باستحالة البقاء والشعور بما بعد الحياة الذي لا يمكن نفيه: «في هذه السرديات، حتى لو كان الشخص مسجونًا أو تمت تبرئته، يظهر أن إحساسه بالذات وسلامة جسده يتقلص بسبب تهديد عقوبة الإعدام. تمثل هذه الحبكات قلقًا بأن الشخص المهدد بالإعدام لم يعد يعتبر كائنًا بشريًا أو مواطنًا»، وسأطور هذه النقطة هنا تباعًا. وبالتالي، ورغم خطر المبالغة في التبسيط عند تناول مثل هذه المصطلحات بوجهها الظاهر، فإن اللحظة التي يصبح فيها الموت أمرًا لا مفر منه، اللحظة التي يُحكم فيها على الإنسان بالإعدام، هي اللحظة التي يموت فيها. وهكذا، يمكن للمرء أن يبدأ في فهم الكلمات التي تُقال بين «أنا» و«هو» الغامضين تقريبًا والمتقاربين في السرد مع السطر الأخير من الخاتمة: «كل ما تبقى هو شعور الخفة الذي هو الموت ذاته، أو، لوضعه بشكل أدق، لحظة موتي المعلقة إلى الأبد».
ومع ذلك، فإن معنى هاتين العبارتين اللتين كنا نناقشهما هنا – «ممنوع من الموت بواسطة الموت نفسه» و«لقاء الموت مع الموت» – يتم تداخلهما في قراءة دريدا بشكل واسع. وكما تم مناقشته بالفعل، يقرأ دريدا كلا العبارتين على أنهما تشير إلى «انقطاع حكم الموت» عبر اللحظة نفسها التي «كانت ستحدث بالفعل»، وهذا صحيح. كلاهما، في النهاية، يتعلق بلقاء الموت مع الموت، وهو انقطاع في ثاناطوبوليتية سيف السيادة. من ناحية أخرى، وحان الوقت الآن للحديث عما لم يتناوله دريدا، يمكن للمرء أن يتساءل عما إذا كان هذا التداخل يتغافل عن تفرعات أخرى في سرد بلانشو: وهي الأهمية الحيوية لموت «ثلاثة شبان، أبناء مزارعين – غرباء تمامًا عن القتال، وكانت خطيئتهم الوحيدة هي شبابهم – [وقد تم ذبحهم]».
يقول دريدا القليل جدًا عن هؤلاء الثلاثة، بل لا يكاد يذكرهم. في تعليق موسع على سردية من خمس صفحات حول الموت، فإن إهمال هذه الوفيات يبدو غريبًا. ففي «ديمور»، يتناول دريدا موتهم بجملة واحدة موجزة ومباشرة: «المزارِع تحترق؛ والفلاحون الشباب، الذين لا علاقة لهم بالأمر برمته، قد أُعدموا»، وإشارة أخرى تذكرهم بشكل غير مباشر في سياق صدمة الحرب. من الواضح أن دريدا لا يعترف بمكانتهم في نص بلانشو كمكانة جوهرية، ويعادل موقعهم السردي بموقع «الخيول المتورمة، على الطريق، في الحقول» كشهادة على حدث العنف. وهذا على الرغم من أن هؤلاء الأبناء الثلاثة يمكن القول إنهم كانوا في نفس الموقف تمامًا كما كان الراوي – الذي لم يكن له علاقة بأي شيء أيضًا، وغريب «عن كل قتال»، وكان أيضًا شابًا مثلهم، ومات مثلهم – مع الاختلاف الوحيد وهو أن القصر الذي يرتبط به البطل، وما يمثله من مكانة اجتماعية وتاريخ، يثير «احترامًا أو اعترافًا لم تثره المزارع».
من الغريب أن يعكس دريدا عنف الجنود في افتقاره للاعتبار تجاه الأبناء الثلاثة. وفي هذا، فهو ليس وحيدًا. في كثير من الأحيان يتم قراءة «لحظة موتي» بطريقة يتم فيها فهم موت الأبناء على أنه سابق زمنيًا لمحاكمة الشاب. فهم قد ماتوا بالفعل. فعلى سبيل المثال، في مقال نقدي عن «لحظة موتي/ديمور»، تكتب ري تيرادا: «عصابة من الجنود تهاجم منطقة [البطل] من الريف الفرنسي، يحرقون المزارع ويقتلون أبناء الفلاحين. يأمر الملازم رجاله بإعدام الشاب، ثم يبتعد متشتتًا بسبب صوت انفجار». وحتى ديلون وفليتشر، اللذين ربطا الموت باللحظة في مقالهما بشكل وثيق، يتغافلان عن هذه الوفيات الأخرى. يتم فصل الانفجار في «المعركة القريبة» والوفيات الثلاثة، إذن، من قبل هؤلاء القراء ليس فقط مكانيًا ولكن زمنيًا أيضًا، أو حتى يتم تصويرهم على أنهم أحداث منفصلة تمامًا. وبالتالي، ينظر إلى الأخير – عندما يُلاحظون حتى – ببساطة على أنهم إشارة إلى اختلاف طبقي أو شهادة على فظائع الحرب، أو يتم قراءة ذكرهم كونه التجسيد الحرفي لذنب البقاء على قيد الحياة من قبل البطل، «الشعور بأنه كان يعيش فقط لأن، في عيون الروس، كان ينتمي إلى طبقة نبيلة».
ومع ذلك، وهذه هي لب الحجة المطروحة هنا، القراءة المقترحة هنا هي أن هؤلاء الأبناء الثلاثة ماتوا زمنيًا في نفس المعركة الانفجارية التي أدت إلى تأجيل إعدام البطل. في نص يعطي الأولوية للحظة إلى هذا الحد، ويزعزع فكرة «الزمنية» بطرق ذات دلالات، يمكن قراءة موت الشباب الثلاثة الآخرين كأنه حدث في الوقت ذاته مع إعدام البطل، وبذلك، يكون المغزى هو أن موتهم هو الذي أجّل موته هو. ومن ثم، يكتسب ذلك القول المتناقض الأول – «ممنوع من الموت بواسطة الموت نفسه» – معنى إضافيًا هنا من خلال كونه موت الأبناء الثلاثة هو ما حال دون موت البطل، الذي مع ذلك يموت في نهاية المطاف. وهكذا، تظل ملاحظة دريدا حول الجملة الأولى لبلانشو ذات أهمية عميقة: إذ يمكن للمرء بالفعل أن يقضي سنوات في تأملها.
هذا لا يعني أنه لم يعترف قارئ آخر بهذا الموت المتزامن. «حياة بلانشو مستحقة لموت الفلاحين الأبرياء، الذين كلفهم عدم الانتماء إلى طبقة معينة حياتهم»، تكتب جونجا كيم، على الرغم من أنه – وكما هو الحال مع حتى عنوان مقالها – يظل أبناء الفلاحين مهملين إلى الجانب (والمرء قد يميل إلى الإضافة: بجانب الطريق، مع الخيول) لصالح الناجي. وحتى «ديمور» نفسه يمكن قراءته على أنه يلمح إلى هذه الإمكانية التي لم تُقرأ، حيث، كما تم الاقتباس سابقًا، يشير دريدا إلى هؤلاء الثلاثة على أنهم قد «أُعدموا». لا يُقال المزيد عنهم، ومع ذلك، وفي طعنة أخيرة، يخفي عنوان سرد بلانشو نفسه («موتي») هذه الوفيات الأخرى وكأنها شيء سري. ومن هنا، يُعتبر من الأهمية، مثلما لا يتجاهل البطل، ألا يتجاهل المرء «شعور الشفقة على الإنسانية المعذبة».
كريستوفر فاينسك، أيضًا، يعترف بالأهمية الحيوية لهذا الشعور. في كتابه «الخطوات الأخيرة»، يرى فاينسك في «لحظة موتي» «معرفة عاطفية تتعلق بالوجود مع [و'الموت مع'] الذي يرتبط بعلاقة غامضة بالموت». على الرغم من محاولته فهم كيف أن وعي البطل بالفناء مرتبط بهذا «الشعور بالشفقة»، إلا أن «الإنسانية» لدى فاينسك تظل فعليًا غير مجسدة ومنزوعة الإنسانية. يكتب كيف أن «المعاناة [لدى الشاب] [...] أصبحت شغفًا بالخارج: هذا ما يعرفه الشاب مع من حُبسوا في وطأة الصراع المستمر، الذي يعد عامًا [في الحي] [...] وبلا حدود». ومع ذلك، وكما رأينا، يصعب الحفاظ على فكرة أن المعاناة في «لحظة موتي» هي «عامة» أو «بلا حدود». يوجد بالتأكيد جانب عالمي في إيماءات الجسد الميت الرمزية، ولكن بلانشو لا يتجاهل الخاص لصالح العام. فالأبناء الثلاثة الميتون يظهرون بوضوح، ويُعطون مكانة مميزة بوصفهم ما كانوا – أو مَن كانوا.
للأسف، لا يرى فاينسك سوى «الشباب الفلاحين من حيه» كأولئك الذين عانوا من نقص في الامتياز الاجتماعي، وبذلك يقرأ فاينسك البطل بشكل ضيق على أنه يشارك معاناته مع الجميع دفعة واحدة، وبالتالي لا يشارك مع أحد بصفة خاصة.
في هذه المرحلة، يجب التوقف والتساؤل حول التبعات المتعددة لهذه الوفيات المتزامنة في السرد. ما هي أنواع أحكام الإعدام المختلفة المتواجدة هنا، وهل تم ذبح الفلاحين، اغتيالهم، أم إعدامهم؟ هل هناك فرق بين هذه الحالات؟ ماذا عن البراءة – فبعد كل شيء، «كانت خطيئتهم الوحيدة هي شبابهم» – وخطأ الظلم؟ بأي طرق أخرى تجعل «لحظة» «موتي» إشكالية، أو حتى مستحيلة؟ كيف يمكن فهم الموت والموات على أساس الوقت، خاصة عندما يبقى الشخص المقصود على قيد الحياة ويموت شخص آخر، شخص آخر أو طرف ثالث؟ وأخيرًا، إلى أي حد يمكن اعتبار دريدا محقًا في وصف «لحظة موتي» بالسيرة الذاتية للموت الذاتي (و«في الحقيقة»، يضيف)، عندما يشير بادئة المصطلح إلى نوع من العزلة التي لا يمكن كسرها، وامتلاك الموت؟
من ناحية، يشير بلانشو إلى الشبان الثلاثة على أنهم قد «ذُبِحوا» (abattus)، ثم يشير لاحقًا إلى أنهم قد تم اغتيالهم (assassinat، assasiné): «لقد كانت هذه حربًا: حياة للبعض، وللبعض الآخر، قسوة الاغتيال». من ناحية أخرى، يشير دريدا إلى أنهم قد «تم إعدامهم» (exécuté) – وهي كلمة لم تُستخدم قط في السرد – وتفتح هذه الفروق الدقيقة المختلفة غموضًا يستدعي بعض التأمل. تعود الكلمة الأولى لدى بلانشو إلى abattre، أي «القضاء» أو «الإطاحة»، مما يذكّر القارئ بالمسلخ، حيث يتم ذبح الحيوانات؛ ويبدو، إذن، أن الأبناء لا يختلفون عن «الخيول المنتفخة»، إذ تعرضوا للضرب المميت والهزيمة، بمعنييها «الهزيمة» و«العنف الجسدي». أما الكلمة الثانية، فتمثل توقفًا للتأمل، حيث تلمح إلى غاية محددة – أو بالأحرى غائية معينة – في موتهم، إذ لا يتم اغتيال الحيوان العشوائي، بل الهدف «الإنساني» المحدد. تبدو هاتان الكلمتان كما استخدمهما بلانشو متناقضتين بشدة: الكلمة الأولى تُحط من قدر الضحايا، حيث تبرز حيوانيتهم – إذ تُوضع الحيوانات تقليديًا في مرتبة أرستوتيلية أقل من البشر – في حين أن «الاغتيال» يبرز تقديرًا إيجابيًا لمكانتهم، مما يوحي بشكل متناقض بأنهم ينتمون أيضًا إلى «الطبقة النبيلة» بطريقة ما.
في الواقع، أول استخدام أدبي مسجل لكلمة «اغتيال» يعود إلى مسرحية «ماكبث»، حيث الهدف ليس سوى الملك دنكان. يبدو أن مكانته تقع على الطرف المقابل من الطيف الاجتماعي مقارنةً بأبناء الفلاحين البسطاء، وبالتالي، يخدم استخدام كلمة «اغتيال» في سياق سرد بلانشو للإشارة إلى إعادة تقييم هذه القطبيات الاجتماعية فيما يتعلق بطرق الموت. ويمكن بالفعل إيجاد تشابهات بين تصوير الملك دنكان كأول ضحية بريئة لماكبث. ويمكن أيضًا تتبع أوجه التشابه بين قتل الملك واغتيال الشبان الثلاثة – أليس (النسخة الأدبية من) الملك دنكان غريبًا عن كل معركة إلى حد ما حيث ينتظر جنوده ليخبروه بوقائع المعركة، أو في ثقته الساذجة وغير المحدودة بمضيفيه؟ – ولن يكون من العبث أن نفحص أوجه التشابه المشتركة بين المفاهيم الموجودة في «لحظة موتي» و«ماكبث» بشكل أكبر.
لماذا سيتم نسب مثل هذه الغاية إلى موت الفلاحين الثلاثة إن لم يكن للإشارة، بطريقة ما، إلى أن موتهم لم يكن مجرد نواتج غير مهمة أو عشوائية للحرب؟ إذًا، هناك ملاءمة معينة تظهر في مفهوم الفلاح المغتال على خلفية البراءة، على الرغم من أن هذا لا ينفي الشعور بالذنب الطبقي للبطل في وجه ذبح الجنود. في ملاءمة رؤية كل من الذبح والاغتيال في قتل الشبان، يستمر التناقض الظاهر في وجهة نظر البطل حول موتهم.
يتفاقم الأمر بشكل أكبر عند إشارة دريدا إلى الشبان الثلاثة على أنهم exécuté؛ حيث يكتب أن «الإعدام هنا هو مسألة اغتيال»، متسائلاً عن إمكانية تمييز السرد بين «قواعد الحرب، وجرائم الحرب، ومن ثم القتل البسيط». ولكن ينبغي التوقف والتساؤل عما إذا كان «الإعدام» و«الاغتيال» مصطلحات قابلة للتبادل؛ تشير كيموف أيضًا إلى اختلافهما: إذ قد يتم اغتيال شخص، لكن «ليس الشخص هو من يُنفذ، بل الحكم، حكم الموت، الذي يتم تنفيذه أو إتمامه حتى النهاية». علاوة على ذلك، بينما يرتبط الاغتيال بشكل حصري تقريبًا بالمميزين، يبدو أن الإعدام يمثل المساواة العظمى، حيث يُنهي تاريخيًا حياة المواطنين العاديين والملوك على حد سواء؛ فلم يُعدم فقط أمثال ماكسيمليان روبسبيير أو ماري أنطوانيت، بل أيضًا عدد لا يُحصى من المواطنين العاديين الذين قُتلوا تحت الاتهامات الأكثر غموضًا.
وبالتالي – لنلعب بما يعنيه دريدا بـ«principe d’epargne» – لا يمكن موازنة الإعدام والاغتيال دون وجود تفاوت.
ومع ذلك، هناك عمق معين في اختيار دريدا لكلمة exécuté. رغم عدم اعترافه بتزامن هذه الوفيات، فإن إشارته إلى «الإعدام» تبدو ملائمة للغاية؛ إذ كونها «المساوي الأعظم»، فإنها لا تحتوي فقط على فكرة الاغتيال بل أيضًا فكرة الذبح، وبالتالي تحتفظ بالغموض الذي ينشأ من هذا التناقض بين المصطلحين المتعارضين تمامًا. فكرة الطبقات الاجتماعية، تلك التي تتمايز حتى من خلال طريقة قتلها، تنهار إذًا تحت وطأة «الإعدام». ورغم أن الخطوة الأولى نحو هذا تأتي باستخدام بلانشو لكلمة «اغتيال»، حيث يتم وضع الشبان إلى جانب البطل في المكانة الاجتماعية، إلا أن مفهوم الإعدام يسمح أيضًا للقارئ برؤية أن عنف الجنود تجاه البطل يمكن أن يُعتبر ذبحًا. إذًا، لا تعد عواقب «الطبقة الاجتماعية» – كتقسيم صارم – هي المسألة الأكثر إلحاحًا هنا.
في الواقع، إن أفعال الجنود تُرجِع ارتباط البطل بالـ Château إلى حياته قبل موته، وبعد ذبح حياته السابقة، لا يبقى له سوى Bois des bruyères، وكأنه ابن مزارع – أو حيوان – يرث الأرض ولا شيء غيرها. في نفس الوقت، يتم رفع أبناء المزارعين ليصبحوا هم النبلاء، من خلال «اغتيالهم» الذي يكسب احترام البطل، الذي ينظر إليهم الآن كما قد نظروا إليه. هذا ليس مجرد تبادل أدوار؛ بل، وبشكل حاسم، يكشف النص عن تجربة مشتركة للموت نفسه من قبل كلا الطرفين – النبلاء والعامة، المغتالون والمذبوحون – وبالتالي، فإن إعدام أحدهم يتضمن بالضرورة الآخر. ومع ذلك، ينتهي الأمر بأحدهم «بالعيش» بعد ذلك.
بهذه الطريقة، يتم التأكيد على موت مشترك وموت-مع الآخرين الذي يتحدث عنه هذا النقاش. أولاً، لا يزال هذا الموت «معلقًا» (toujours en instance) بينما يكون حاضرًا في الوقت ذاته – الإعدام قد حدث ولم يحدث. هنا تبرز دلالة خاصة لـ «التعليق»: فإن «التعليق» (abeyance) ليس فقط «حالة تعليق، عدم وجود مؤقت أو عدم نشاط»، بل أيضًا «وضع انتظار لوجود مدعٍ أو مالك مؤقتًا». لا يستطيع البطل إذًا أن يدعي موته – «دائمًا في حالة تعليق» – ولا كيانه ما بعد الموت، حيث أصبح الموت الآن متناقضًا بين الماضي والمستقبل، والذي بدلاً من ذلك، عانى منه الأبناء الثلاثة.
ثانيًا، في هذا الإعدام، يتم إلغاء الفارق (الاجتماعي) السابق بين الضحايا من خلال تجربة الموت المشتركة غير المُعاشة. يكاد يكون الأمر وكأن الاختلاف نفسه تحت المحو – على الرغم من أنه من الضروري الإشارة، فقط أو ربما بالضرورة، إلى الحضور السابق للاختلاف نفسه. لذلك، في حين أن الحقيقة تظل أن الشاب لم يُقتل، بل نجا، فإن تحديد ما يحدث في السرد كعمل «إعدام» يجلب إلى السطح هذا الإحساس بتجربة مشتركة للموت، موت مشترك.
قد لا يكون من السخيف أن نعلّق على ملاءمة كون الشاب، في هذا الموت المشترك، مرتبطًا بالعامة. بعد كل شيء، كما قالت الملكة غيرترود، زوجة ملك ميت، فإن الموت هو في النهاية «عام». ومرة أخرى، عند الحديث عن الملوك الموتى، يمكن للمرء أيضًا أن يشير، ولو بروح الصدفة البحتة، إلى كيف أن ملك الشرق الأدنى القديم، بينما يتم استبداله، كان يُطلق عليه ويُشار إليه على أنه «مزارع» (ikkāru)، محتفظًا بهذا اللقب (أو عدمه) حتى استعادته. في الواقع، الشخص البديل الذي يتم اختياره لتحمل موت الملك كان في الغالب رجلًا من العامة؛ كما يشير والتون، «في أقدم نص موجود يشير إلى الملك البديل، تم اختيار بستاني عادي كبديل». كان الشخص الذي يأخذ موت الملك يجب أن يكون شخصًا، كما وصفه بوتيرو، «بسيطًا، ساذجًا» أو بريئًا، و«غير مهم على المستوى الاجتماعي، ومصيره حقًا لا يهم أحدًا».
وهكذا، مسلطًا الضوء مرة أخرى على ديناميات الموت بدلاً من الموت الطبقي، لا يمثل الطقس مجرد تَجَسُد لكيفية أن الملك يصبح كائنًا عامًا و«خاضعًا» للعامة، بينما يتم إزالة العامة من موقعه ليخضع للموت من خلال الإعدام. المسألة ليست حول الهيبة الاجتماعية، بل حول (الخلود) باعتباره ينبع من الدور الاجتماعي بل ويفوقه إلى استمرارية الحياة بعد الموت، وتلاشي حدود الموت والهوية. ما يفصل البطل عن أبناء المزارعين، إذًا، هو الاختلاف، الذي يمثل الطبقة الاجتماعية مجرد جانب سطحي منه، وما يجمعهم هو الموت.
مع ذلك، لا ينبغي مطابقة طقوس الملك البديل تمامًا مع سرد بلانشو، رغم وجود أوجه شبه مع العلاقة القديمة بين السيد والعبد في الشرق الأدنى. الفرق هنا، بالطبع، هو أن موت الشبان الثلاثة لم يكن بأي حال تضحية مُعيَّنة أو مثالية؛ في الواقع، هناك شيء يعبر صراحة عن اللاتضحية في جثث الأبناء (وجثث الخيول المتورمة). وإذا كان الأبناء الثلاثة بمثابة «موصلات صاعقة» للموت، فلم يضعهم أحد في هذا الموقف. في النهاية، من هذا الموت اللااجتماعي ولكن الجماعي، يظهر الفرق الذي لا يمكن إزالته في بقاء البطل. يُثار السؤال حينها عما إذا كان هذا هو السبب في بقاء «خطأ الظلم» والسبب الذي يجعل البطل، بعد الإعدام، يواجه «عذاب الظلم».
يصبح واضحًا أن البطل لا ينجو بالفعل، إذ أن ما يعنيه هذا المصطلح، «البقاء»، هو التخلي التام عن تجربة الموت. ربما يكون من الأنسب القول إن البطل «يستمر في الحياة»، ما يعني المرور بتجربة الموت غير المعاشة. ونقتبس مرة أخرى عن دريدا: «يمكن للمرء فقط أن يبقى [بعد الإعدام] دون النجاة منه». البطل لم يعد على قيد الحياة؛ لقد مر بالموت: «الحياة لبعضهم» التي يتحدث عنها، بمقارنتها مع الإعدام، ليست استمرارية الحياة قبل الموت بل هي بداية حياة بعده، أو عودتها. بشكل مثير للقلق، تصبح الحياة بعد الموت والموت بعد الحياة مترادفين تامين.
يُفهم البقاء، إذًا، على أنه «الاستمرار في الحياة»، sur-vivre، وهنا نعود إلى مقال دريدا بعنوان «البقاء» لإلقاء الضوء على إشكالية كيفية استمرار حياة المرء مقابل موت الآخر – بطريقة خاطئة أو ظالمة – وكيفية تشويش فكرة «موتي». بعد كل شيء، كما يقترح دريدا في «ديمور» ولكن يتركها دون معالجة، يبدو بلانشو مربكًا حتى لما «يُعرف بـ Jemeinigkeit، أو ’الموت لي في كل مرة‘، وهو ما يميز [...] الكينونة نحو الموت» وفقًا لهايدغر. وهذا أمر جوهري، وسيتم العودة إلى هذا الاضطراب الوجودي لاحقًا.
في «البقاء» – حيث يقرأ دريدا (في المقام الأول) أعمال بلانشو المبكرة مثل «جنون النهار» و«حكم الموت» إلى جانب قصيدة «انتصار الحياة» لبيرسي بيش شيلي – يكتب: «البقاء والعودة، الاستمرار في الحياة والعودة من الموت: البقاء يتجاوز كل من الحياة والموت». يوضح دريدا أن البقاء هو «التقدمية التي تنتمي، دون انتماء، إلى تقدم الحياة والموت. البقاء ليس نقيضًا للحياة، كما أنه ليس مطابقًا لها». يضيف أن هذه العلاقة «غير محسومة، أو، بمعنى دقيق، ’غامضة‘». على الرغم من أن دريدا هنا يعلق على «حكم الموت»، الذي كُتب قبل أكثر من أربعة عقود من «لحظة موتي»، يمكن للمرء أن يرى استمرار فكرة «البقاء» من الأول إلى الأخير، مشيرًا إلى واحدة من القراءات الممكنة لتلك الجملة الإشكالية من بلانشو: «ميت – خالد». يموت البطل الشاب ويستمر في الحياة. إنه الشبح، الذي يعيش خارج السيادة التي حكمت بموته.
يجب أن يظل التمييز بين الحياة والاستمرار فيها غامضًا إذا أردنا عدم تعزيز حدود غير قابلة للتقسيم بين الحياة والموت، حيث لن يكون ذلك استماعًا لبلانشو. ومع ذلك، إذا كان ما يخلق هذا الوضع الغامض للاستمرار في الحياة هو «خطأ الظلم» – وبالتالي تأكيد دريدا أن «لحظة موتي» هي أيضًا تأمل في العدالة – فإن ذلك يتطلب بالضرورة تعريف حدود هذه العدالة.
من الجدير بالذكر أن ما هو ساري هنا ليس القانون المدني بل القانون العسكري، jus in bello، حيث تحمل العدالة علاقة فريدة بسياسة الموت، thanatopolitics (أو حتى nihilopolitics كما يسميها برادلي)، والتي يمكن العثور عليها في قلب سرد بلانشو. ومع ذلك، فإن محاولة تحديد ما إذا كان يمكن تصنيف القتل كـ«جرائم حرب» أو «قتل ببساطة» من خلال تحليل العدالة العسكرية سيكون بمثابة فتح نقاش (أخلاقي) جانبي يركز على أفعال الجنود: سواء كانوا مخطئين في قتل أي شخص حتى أثناء زمن الحرب، أو (كما يشير دريدا) مخطئين في عدم قتل الشاب أيضًا – قد يعود المرء حتى إلى نقاش حول عدالة أو ظلم فعل القتل في كل من الثقافة التاريخية والمعاصرة. مع ذلك، ما يبرز في السرد نفسه هو آليات حكم الموت نفسها – أي اليقين السابق بوقت الموت القادم، مع تعقيد إضافي يتمثل في كيفية أن يعيش المرء في بعض الحالات بعد حكمه وبالتالي يستمر في الحياة من خلال مصيره السياسي الخاص واستثنائيته. يركز الأمر، إذًا، ليس فقط على إدانة الجنود العفوية للبطل بل أيضًا، والأكثر أهمية، على أولئك المدانين ومعرفتهم بوقت موت مؤكد.
تُصبح إحدى المشكلات الأساسية بالتالي هي مسألة تخصيص وتعليق الموت: لمن ينتمي الموت عندما يكون المرء قد حُكم عليه بالفعل بالموت، وما هي تداعيات أن يدعي طرف ثالث هذا الموت؟ في الواقع، هل يمكن للمرء حتى أن يتحدث عن الموت باعتباره ملكًا لأحد على الإطلاق؟
هل الموت إذن يعود إلى الشاب البطل والأبناء الثلاثة، أم أنه ينتمي إلى السلطة السيادية التي تقرر الحياة والموت عبر الإعدام، والتي تتجسد هنا في الجنود الروس الذين أعلنوا أنه عدو؟ على الرغم من أن أبناء الفلاحين لا يعايشون تجربة البطل «غير المعاشة» للموت (على الأقل كما يظهر لنا)، يظل السؤال حول كيفية قول «موتي» حين يكون القاضي أو الجلاد – في زمن الحرب، حيث يقوم الجنود بدور الإثنين – هو من ينطق بالحكم ويحدد زمن ومكان الموت. قد يقودنا هذا في البداية إلى مفهوم الظلم، الذي، كما أُثبت، يتجاوز في بعض النواحي القراءة التقليدية لدريدا؛ إذ يكتب عن «اللحظة» أن «الشاب، عبر خلاصه الشخصي وإنقاذ حياته، [...] يعايش ظلماً سياسياً واجتماعياً. [...] لقد استفاد من ظلم، ولن يتوقف عن المعاناة من هذا الامتياز. ولكن، خاصةً لأن كلا الإشارتين إلى «الظلم» في السرد مرتبطتان فعلياً بأبناء الفلاحين غير المرئيين، فإن السؤال المتعلق بالموت يعود إلى مسألة ملكيته، والتذبذب بين «اللحظة» أو «الحدث» لـ«موتي» وتدخل أو اقتحام السلطة السيادية من قِبل ما يمكن تسميته بالثالث (ويأتي الثالث هنا، بشكل ملائم، في صورة ثلاثة أبناء).
لا يعني ذلك أن الموت خطأ (أو لا)، أو أنه أمر غير عادل (أو لا)، بل ما يشير إليه البطل كـ«خطأ الظلم» هو حقيقة أن أبناء الفلاحين يموتون عوضاً عن الشاب؛ فالتباس المعركة القريبة يخلق الخطأ الفادح حيث يُقتل آخرون بدلاً عنه. قد يكون هذا ما يسمح لدريدا بالكتابة بشكل غامض في «اللحظة» أن «الظلم كان سيكون خطأ، سيكون قد حدث بالخطأ؛ بكلمات أخرى، ربما كان من العدل أن يموت الشاب – ربما».
لم يُقتل الأبناء، مع ذلك، بدلاً عنه؛ لم يكن هناك إنذار أخير يقول «حياتك أو حياتهم». لولا أن البطل كان في تلك اللحظة كلاً من على وشك الموت وميت، لما كانت مشكلة قتلهم قد أثارت هذا القدر من الإشكال للقارئ؛ لما كان بالإمكان القول إنهم قُتلوا «بدلاً» عنه، بل ببساطة أنهم «قُتلوا» أو «قُتلوا أيضاً». ولكن عبر موتهم، الذي خلق شبحاً، ونؤكد مجدداً، أن هذا يحدث دون أي نية للتضحية أو الاستشهاد، يُطرح أمام القارئ ليس فقط السؤال السطحي حول من مات أو لم يمت، وما إذا كان هذا صحيحاً أم خطأً، بل السؤال الأكثر إثارة للقلق حول كيفية أن يموت شخص بدلاً عن آخر مما يضع موضع تساؤل سلطة السيادة لتحديد مكان وزمان موت المدانين: بمعنى آخر، لتحديد الاستثناء ودمجه في النظام السياسي.
يمكن، في الواقع، الرد على ملاحظة دريدا السابقة بسؤال: لماذا لم تتحقق هذه العدالة المحتملة إذن؟ ما نوع الثورة أو المقاومة التي قاطعت هذه العدالة؟ وإذا كان يمكن للعامة أن يعطلوا (الظلم) في حكم الإعدام الصادر عن السيادة، فماذا يقول هذا عن حدود السيادة؟ فبقاء البطل لم يكن نتيجة قرار سيادي أو «عفو». إن استمراره في الحياة يحافظ على نفسه في فضاء يخلو تماماً من القرار والسياسي؛ هو نتيجة لما يسميه ديلون وفليتشر «ثورة [دون فعل أو فاعلية] [والتي] هي تهديد جوهري لأنها تكمن قبل أو بعد حدود السياسة».
ما يستحق الاهتمام هنا هو دلالة قديمة لكلمة «مقاطعة»، والتي تعني تحديداً انتهاك أو تعليق قانون. قد يكون في «اللحظة»، إذن، ما يُعرف بمقاطعة (للموت) تسمح بإمكانية الفضاء غير السياسي فيما بعد السيادة، حيث يقف، كما يلمح موراي، «الذات ما بعد السيادة» خارج نطاق سيف السيادة.
المهم هنا هو تأكيد ديلون وفليتشر على أن 'لحظة موتي' تولّد كينونة خاضعة لحركة رحيل (هي بالفعل متأخرة عنها)، بدلاً من أن تكون كينونة مرتبطة بعمق بالأنا التي تؤمن نفسها زمنياً [...]. الذات السياسية للعيش بعد الحياة [...] ليست الأنا المتعالية للوعي الذاتي في الحياة، بل هي مقاطعة الموت.
ما يثير القلق بشكل شبه ساحق في «لحظة موتي» هو أنه، بينما البطل هو بالفعل ذلك الكائن الذي يعيش بعد وقته الخاص، فإن حدث «تعليق الموت» يتجسد في موت آخر، موت يحدث في الوقت ذاته وبنفس القدر؛ إنه موت أبناء الفلاحين الثلاثة، والذي يشكل «تعليق الموت» وقرار السيادة. لتكرار إحدى نقاط ديلون وفليتشر الأكثر وضوحاً، فإن هذا «الفاصل الزمني، بقايا الزمن» - أو بمعنى آخر، الموت في حالة التعليق - هو حقاً «زمن إمكانية السياسة وهي قيد التشكيل». قد تكون هذه الإمكانية موجودة في الذات ما بعد السيادة، التي ليست بعدُ ما بعد السياسية.
مع وجود العائد، ألا تكمن أيضاً إمكانية الوصول؟ في «المآزق»، يتأمل دريدا ثقل هذا المصطلح، حيث يرى أنه يدل على «من يأتي، ليكون حيث لم يكن متوقعاً، حيث كان ينتظر لكن دون انتظار أو توقع». هذا الضيف، الغريب أو الآخر، «لا يعبر فقط عتبةً معينة»، بل «يؤثر على التجربة ذاتها للعتبة»، ويمكن للمرء أن يرى بالفعل كيف أن الأبناء الثلاثة هم بالفعل قادمون جدد، كما يتضح بوضوح من المقطع التالي.
القادم المطلق […] يفاجئ المضيف – الذي لم يكن بعد مضيفاً أو سلطة داعية – إلى درجة تجعل جميع العلامات المميزة للهوية السابقة موضع شك، بدءاً من الحدود ذاتها التي كانت تحدد منزلًا شرعياً وتؤكد سلالةً. هذا القادم المطلق ليس له اسم أو هوية بعد. ولهذا أسميه ببساطة 'القادم'، وليس شخصاً أو شيئاً يصل، أو كائناً أو شخصاً أو فرداً أو كائناً حياً.
العتبة التي يؤثر عليها الرجال الثلاثة (الذين ماتوا، ولم يعودوا حتى كائنات حية) هي عتبة الموت، ما يسميه دريدا «الأقصى النهائي، بالنهائية بامتياز للتيلوس أو الإسكاتون». في النهاية، يشكلون معًا «القادم» الذي «يجعل الحدث يحدث»، وهو الحدث الذي يتمثل في تجاوز حدود موتي. وكما يعلق دريدا في «لحظة موتي»، «هذه الحدود ستحول دائماً دون التمييز بين أشكال القادم، الميت، والعائد».
إذن، هناك في «لحظة موتي» علاقة مثيرة بين الوصول والعودة. ولكن كيف يمكن تمييز القادم عن «الثالث» المرتبط بمفهوم العدالة؟ فـ«العدالة هي حضور الطرف الثالث»، كما يلاحظ ليفيناس. وفقاً لدريدا، «الثالث يأتي دون انتظار. دون انتظار، يأتي الثالث ليؤثر على تجربة الوجه في المواجهة. […] لأن الثالث لا ينتظر». ربما، إذاً، ليس من قبيل الصدفة أن يكونوا ثلاثة أبناء لفلاحين، خاصةً بالنظر إلى الصداقة الوثيقة التي جمعت بلانشو بليڤيناس. ومع ذلك، يميز دريدا بين «القادم» و«العائد» في تركيزه الوحيد على البطل، ولذلك، بالنسبة له، فإن الثالث ينتظر.
يجدر بنا هنا ملاحظة أن «القادم» يمثل أيضًا «حياد ما يأتي» وفق دريدا، وهو ادعاء يستدعي صياغة بلانشو للحياد واللامبالاة الراديكالية «للحياد»، ومن ثم أيضاً الحياد لكل من الشبان، مما يبرز لا هوياتهم. قد تكون هذه الـ«اللا فاعلية» هي واحدة من الجسور الأساسية بين أفكار بلانشو ودريدا. وما قد ظهر حتى الآن ينبغي ألا يؤخذ على أنه أكثر مما هو عليه: عمل أدبي واحد قدم للقارئ مثالاً واحداً للتفكير في الموت، وإن كان على عدة مستويات. ومع ذلك، يمكن للمرء بالفعل أن يسمع في هذه المناقشة أصداء مجموعة واسعة من الأعمال الأدبية، كل منها يفكر بطريقته الخاصة في الإنسان وعلاقته بالموت. علاوة على ذلك، إذا كان كل هذا يمثل «السياسة الثاناتولوجية قيد التشكل»، فما هو شكل السياسة الذي تقترحه هذه الأدبيات؟ هل هو ذلك الذي ما بعد السيادة؟ في النهاية، فإن هذا التفكير الأدبي في الموت وسياساته هو ما يجب مناقشته، وتثير هذه القضايا المترابطة إشكاليات حتى في مفهوم الكتابة الذاتية عن الموت، والذي يجب إعادة التفكير فيه وفقًا لشروطه الأدبية والفلسفية، بدلاً من الرؤية التقليدية لتناقضاته الظاهرة. للوصول إلى هذا، يجب أن يبدأ المرء أولاً بالتناقضات الذاتية لعقوبة الإعدام.