ذلّ البقاء لمن عاش بعد اندحار

بصيفٍ عام ١٩٤٨، كان الجوّ عاديًا، حارًا وملبدًا بالأمطار. مياه قناة تاما حملت على طول ولاية ميتاكا أوراق الأشجار المتراكمة لأيام، وجذوع الأشجار المكسّرة، وأوساخ الضواحي، وبقايا الحيوانات، وجثتي عاشقين مرتبطين بحبلٍ أحمر. لم يُدهش أحدٌ، فقد كانت الموت غايةً لأحدهما، لا تقلّ شغفًا عن الأدب.

في عام ١٩٢٩، حالما تخرّج، حاول شابٌّ يُدعى تسوجيما شوجي أن يسلك درب مثله الأعلى؛ ففي عام ١٩٢٧، انتحر أكوتاغاوا بجرعة زائدة من دواء البربيتال، فجرّب المعجب أن يتسمّم بالبروموسيفال. لكن النجاة لم تُبقِ له خيارًا سوى متابعة طموحاته الأدبية، فالتحق بقسم الأدب الفرنسي بجامعة طوكيو. واعتبر شوجي تلك الأيام عديمة الجدوى، بينما كانت لعائلته مصدرًا دائمًا للعار والخزي. بين انضمامه إلى الجماعات الشيوعية، وموت أخيه بالسلّ، وتركه للدراسة، أُبعِد عن عائلته.

في تلك اللحظة، كُشِف له أحد أسرار الثقافة اليابانية الأكثر غموضًا: «الشينجو» أو الموت المزدوج، وهو ميثاق عشّاق الموت. وبعد عام من محاولة انتحاره الأولى، يعرض شوجي على غيشا التقى بها في حانة أن يقفزا معًا من جرف عالٍ. توافق على الفور، لكن المياه تنقذ شوجي مرة أخرى، ليعيش ويتزوج، ويتعرف إلى ماسوجي إيبوسي، وينشر أول قصة له تحت اسم مستعار «أوسامو دازاي». عند إكماله مجموعته القصصية الأولى، يحتفل بوضع عنقه في حبل المشنقة. باءت المحاولة بالفشل، لكنها رافقها ترشيحٌ لجائزة أكوتاغاوا، وخصامٌ مع كاواباتا.

في العام التالي، يُرشّح ثانيةً، لكن الجائزة تُترك بلا فائز. وفي الجولة التالية، يظهر اسمه بين المتأهلين للنهائيات، لكنه يُستبعد بسبب كثرة الترشيحات. تخونه زوجته مع أعزّ أصدقائه، فيحاول «شينجو» جديدًا في مياهٍ حارّة. ينجوان ليعيشا الطلاق. بعدها، يعيش دازاي عقدًا آخر من الزمن، وأكثر فترات مسيرته الأدبية ازدهارًا، يتزوج مرة أخرى، وينجب أبناءً، ويكتب قصصًا خيالية تُدرّس الآن في مدارس اليابان، ويؤلف عملين يُعتبران تحفتين أدبيتين بجدارة. وهو في قمة شهرته، يبدأ علاقة مع مصففة شعر، أرملة حرب، ليقررا أخيرًا تنفيذ «الشينجو» النهائي. هذه المرة لم ترحمه المياه، وتهبه رحمة الموت.

كتب عنه كاواباتا: «شخصيًا، أعتقد أن الغيوم الكئيبة التي تظلّل حياته الخاصة تمنعه من التعبير الكامل عن عبقريته». كانت كلمات كاواباتا قاسية على دازاي، فعدا عن التشهير العلني بحياته، تلمّح إلى أن الشرف الأعلى الذي يمكن أن يطمح إليه الكتاب الشباب في اليابان مشروط بحياة مثالية. بينما كان دازاي بالكاد يتعافى من عملية استئصال الزائدة، ومن دون جوائز، وسمعة على الحضيض، قرّر مواجهة المتحدث باسم لجنة الجائزة.

كتب في رسالةٍ علنية: «هل رعاية الطيور الغريبة وحضور الرقصات يُعدّان أسلوب حياة مثاليًا يا سيد كاواباتا؟ فكرت بجدية في طعنك! هذا الرجل خنزيرٌ حقيقي، فكرت». يأخذ دازاي نفسًا، وفي السطر ذاته، يبرئ كاواباتا من التهم؛ غير أن فرضيته التي عرضها لاحقًا أثارت استياء اللجنة أكثر، إذ اتهمه بأنه رجل ذو ذوق رفيع، محبٌّ للفن، لكنه ضعيف أمام الرشاوى. وأُسكتت غضبته بتدفق شعري: «فجأة شعرت بمحبّةٍ مرضية، ملتهبة وعاطفية، كحبّ نيلي في رواية «مذلون والمهانون» لدستويفسكي، حبها الطاغي، فوق برودة القسوة الاصطناعية، ذلك الحب الضال والعنيف، حبٌّ جعل دمي يغلي حتى الحمى».

يجادل دازاي أن رجلًا بحساسية كاواباتا، الذي يعشق الفن الحقيقي، مثل فنّ دازاي، لا يمكن أن يرفض الأدب الجيد لولا ما يتلقاه من أموال قذرة من لجنة الجائزة.

مُهانًا ومخذولًا، سيضطر دازاي للعيش على الهامش ككاتبٍ منحط، يعيش من الأموال التي يستلمها من عائلته، ينفقها على الخمر الرخيص، والعاهرات، والمسكنات، ولفترة وجيزة، على دعم خلية شيوعية. وستكون حياته أشبه بالكفارة، مليئة بالأمراض الجسدية والمعاناة النفسية، وخيبات الأمل إما من حالة الفن أو من خيانات النساء اللاتي أحبّهن. الأدب وحده سيبقيه واقفًا بينما يتفادى الموت عنه. في ذروة مجده الأدبي، وعندما تكون أعماله في أوج بريقها، تندلع الحرب العالمية الثانية. تقصف الغارات المنزل الذي يشاركه مع زوجته وأطفاله. يبدأ في كتابة رائعته الأولى «شمس غاربة»، التي تُنشر على حلقات في جريدة شينشو. وفي العام التالي، عندما تضع اليابان سلاحها، وقد أصبح معروفًا ككاتب قدير، يدخل في خصام مع أحد الوافدين الجدد في الأدب الياباني. تبادلت الأدوار، وصار دازاي الآن يمتلك قدرًا من الاحترام، ولو لم يكن كافيًا ليصبح جزءًا من المؤسسة الأدبية، إلا أنه يستطيع أن ينظر للشباب الواعدين بنفس النظرة التي استقبله بها من تجاهلوه في العقد الماضي.

في مشهدٍ يعبق بأصوات النخب الثقافية، يتجه الانتباه نحو دازاي، هدف الأنظار، فيجمع حوله جموع المفكرين. وبينهم، يخطو ميشيما الذي لم ينشر بعد سوى بضع قصص، ليقترب من دازاي البائس، ويواجهه قائلاً بصوتٍ لا يعرف الخجل: «يا سيد دازاي، اعلم أنني أكره عملك الأدبي». يلتقط دازاي أنفاسه، ويقف في لحظةٍ من الذهول، يرمش ببطء وقد أسره التحدي. بعدها، ينظف حلقه ويحوّل رأسه نحو أصدقائه دون أن ينظر إلى ميشيما، ويقول لهم بثقة: «أعلم أنه يحبني، وإلا لما كان هنا».

ضحكة ساخرة تختم غضب الطامح ميشيما، الذي سيعترف بعد سنوات بأن اشمئزازه من أدب دازاي كان يعكس إحساسًا بالخزي؛ إذ إن تلك الكتب التي كتبها دازاي، وامتلأت بشخصيات ضعيفة بائسة، كانت تكشف عن أمرٍ لطالما اجتهد ميشيما في إخفائه. بمعنى آخر، كان دازاي يجاهر بما يخفيه ميشيما. وليس بغريبٍ أنه، بعد أن نضج أدبيًّا، سيصرّح ميشيما، متوافقًا مع رؤية دازاي، بأن «الرجل الأديب يجب أن ينتزع مجده من بين أكوام العفن الذي يحمله بداخله». وعلى طريقته الخاصة، سيضع قلمه في خدمة تصوير شخصيات تعري ضعفها أمام القارئ، لتبرر وجودها أمام نفسها وتجاه تاريخها.

يقول دازاي إنّ قمّة الانتهازية تكمن في مهنة الكتابة؛ فرغم كل الظروف المؤلمة التي أحاطت به، سواء كانت إخفاقات في حياته المهنية والعائلية، أو إدمانًا، أو محاولات انتحار، أو استهتارًا، أو صدمات الحرب، كان جاهزًا لتحويل هذه المحن إلى أدبٍ يتغذى على مآسيه. قبيل موته، سيكون قد طور أسلوبًا قائمًا على البؤس والإذلال، إذ تُختبر الإرادات الفردية في أشد اللحظات ضعفًا. ليس التزام دازاي مع العالم، ولا مع الإنسانية بعمقها، وإنما مع نفسه فقط، مع رجلٍ ضئيل نشأ في محافظة تسوغارو تحت اسم تسوجيما شوجي. ورغم ابتذال أسلوبه، نجحت استراتيجيته. في عالمٍ يُمجّد التواضع، حتى لو كان مصطنعًا، كان للعظمة التي تذلّ نفسها قيمة تفوق الإقرار بتألقٍ نابعٍ من الفضل الإلهي.

وغالبًا ما يستخدم الكوميديون حيلةً مشابهة؛ ففي إعلانهم عن نقاط ضعفهم، يقصّرون المسافة بينهم وبين جمهورهم، ويعودون إلى الوحل الذي خرجوا منه، مما يجعلهم أقرب إلى مشاعر الناس. ذلك أن الضحك على الساذج والبسيط أيسر من الضحك على المتكبّر. من هنا، نجد أن السخرية من المهنة هي موضوع دائم في أعمال دازاي؛ إذ يظهر الكتّاب في أعماله دومًا في هيئة شخصيات هزيلة، جبانة، بلا ضمير، وأحيانًا مرعبة، تُستعرض من زاويةٍ كوميدية. ودون أن يشعر، يرحل دازاي من الدنيا واحدًا من أعظم الفكاهيين في الأدب الياباني. مع ذلك، لو أدرك ذلك، لما غيّر من مصيره شيئًا. يصل دازاي في سنوات ما بعد الحرب إلى نقطة يفقد فيها إيمانه بالأدب، ويبقى له كتابٌ أخير يكتبه، إرثه الفكري، سيرته الذاتية الزائفة، حكايته ونهايته.

هنا، لدينا العناصر الكافية لرسم لوحة، قد تبدو للوهلة الأولى مألوفة ومكررة؛ لوحة فنان بائس، آخر من جيل ضائع كرّس بؤس أيامه لصنع مشروع جمالي يمزج بين السخرية والفكاهة ليتحدى ويعري مجتمعًا متصلبًا، منافقًا وحربيًّا. حكاية تقترب من البطولة، تنهار فور أن تتفتح زهور الحلم، فتكشف عن رائحة خبيثة تنبعث من جوهرها. لم يكن دازاي يسعى إلى حياة نموذجية، بل كان سينبذها. فمراجعة لحياته، أعماله وزمانه، ترسم خريطة بملامح متعرجة، تصور غرق فرد قد يكون هو ضياع كل رجال جيله.

إن كتب وأيام دازاي تختزن مفارقة تصلح لكل الأزمنة، لكنها تكتسب أهمية خاصة في الحاضر: مأزق الهروب وحتمية البقاء. فإن بدا ذلك ضروريًا اليوم أكثر من أي وقت مضى، فذلك لأن المجتمع المعاصر كما قالت حنه آرندت، يشهد تلاشي المجال العام ويصاحب ذلك تدمير للمجال الخاص. بمعنى آخر، الإنسان الحديث يجد صعوبة متزايدة في الانعزال؛ ليس لأن البنية الاجتماعية تمنعه، بل لأن الاستغراق في العزلة يورثه شعورًا مؤلمًا بالغربة. أصبح السفر إلى الداخل كاشفًا للوجه الحقيقي للعزلة، وجه الإدانة.

إن تحفيز الحداثة للفردانية وتسهيل الغرق في الوحدة، لا ينفي أن العالم ما زال يتطلب من أفراده ويثير فيهم الشوق إلى المجموعة. البشر، بجانب كونهم آلات بقاء، هم كائنات تتوق للتقدير. هذه الحاجة هي التي أسست للتواصل اللفظي؛ فاللغة لم تنشأ لتزيين الفراغ، والكلمات لا تُكتب لتمجيد العدم. اخترت أن أتحدث عن الكتاب والشخصيات الخيالية لأن ضياعهم، رغم بُعده، هو على نحو ما ملموس. إن الإنسان المحاصر، الوجه المجهول الذي يسعى هذا النص لاكتشافه من خلال ظلال أخرى، يظهر أولًا كفكرة مجردة، ثم كفرضية، وبعدها كحقيقة واقعية. عبر الهروب، ومحاولات الانتحار، والنجاة بأثمان باهظة، يمكن العثور على الأدوات التي تكشف ما يختبئ على حواف الوجود.

سيرته، لو قُدّر لها أن تتحدث عن دازاي ولكن بلسان رجال آخرين، يجب أن تبرز الصراع العنيف الذي يتعرض له شخصٌ ممزق بين نداء داخلي بالهرب وصوت جلده الذي يناديه بالعودة. كانت البوهيمية، بالنسبة إلى دازاي، أكثر من مجرد ميول؛ بل نتيجة منطقية للرفض والإهانة التي تلقاها من الأوساط. نوع من الانحدار الانتهازي، إن جاز التعبير. فبينما احتفظ بعض الكتاب المؤمنين بالماركسية بمبادئهم، حتى تحت وطأة التعذيب، كان دازاي كافيًا له مجرد تهديد عائلته بقطع دعمه المالي كي يتراجع علنًا عن مشاركته في الجمعيات الشيوعية. الدافع الداخلي الذي حفّز أفعال دازاي كان الرغبة في استبعاد نفسه وتحويلها إلى منبوذ. صرخة داخلية رافقته منذ وعيه بذاته، كانت تعبر عن شخص منقسم بين رغبة متناقضة في الانتماء وإيجاد سبيل للهروب. في ظل قيود صارمة ومعايير محددة، برزت الأيديولوجية الثورية كفرصة للعيش على الأطراف.

لسوء حظ دازاي، ولأن التوترات الحادة بين رغباته المتضاربة كانت تشغله، كان الانتماء السياسي يأتي بآثاره الثقيلة التي تفوق العار العام: ضرورة الانضمام إلى المجموعة. فالصداقة لا تمنح الراحة، والتحالفات هي ترتيبات خطيرة، هكذا يرى الفرد المحاصر. حين يجد نفسه محاطًا، يجب أن يفر دازاي ويختار هامشًا جديدًا. تدمير الراحة وفرص السعادة كلما اقترب منها شكل محورًا ثابتًا في حياته.

يقال إن روايته الأخيرة «لم يعد بشريًا» هي بحق الرواية الوجودية الحديثة في الأدب الياباني. ولعلنا نجد ما يؤكد هذا، إذ إن الرواية، في سياق عالم ما بعد الحرب وإعادة ترتيب العلاقات الاجتماعية، تستكشف الانحدار والضياع لشخص يدرك أنه غير مؤهل للانتماء إلى قبيلته – البشرية. ورغم التركيز على العزلة وقلق الاغتراب، يبرز أسلوب دازاي بفضل فكاهته حيث تتلاشى أعمال أخرى تحمل نفس الهموم أمام جفاف الأسلوب. يظهر أوبا يوزو، بطل الرواية، كخداعيٍّ يلجأ إلى التهريج ليحصل على القبول في كل مكان يتطلب حضوره – العائلة، المدرسة، العمل. الهزل، على الأقل في ظاهره، يكشف ضعف الشخصية ويعزز اندماجها عبر تحويلها إلى ضحية شعائرية. فلو ظنّ قارئ الرواية أنه خلف القناع يوجد ملامح حزن على وشك الانهيار، فإن إزاحة القناع ستحبطه، بل ربما ترعبه، حين يكتشف أنه لا يوجد شيء ليُكتشف. الجانب المخفي من المسرح، مجرد لوحة بيضاء.

يفتح الكتاب، فتُكشف لنا على الفور شهادة شخص يراقب ثلاث صور فوتوغرافية تلتقط ثلاث مراحل من حياة نفس الرجل. في الأولى، يظهر طفل مرعب، يرسم على وجهه ملامح قد تبدو ابتسامة، لكنها في الواقع تعبير مروّع، فاسد؛ يضُم قبضتيه كأنه يحاول كبح شعور فاسد يشوّه ملامحه. في الثانية، يبدو شاب وسيم يرتدي زيًّا مدرسيًا، وفي تعبيره فرحة زائفة مخبأة، «لم تكن ابتسامة كائن بشري؛ خلت من الجوهر، من كل ما قد يسميه المرء 'ثقل الدم' أو ربما 'صلابة الحياة البشرية'، لم تحمل حتى ثقل طائر، بالكاد كانت تزن ريشة». الصورة الثالثة هي الأكثر وحشية؛ إذ لم تعد ابتسامته حاضرة، ما يظهر في الواقع هو رجل ليس برجل، حضور منهك، مستسلم، جردته الحياة من فرديته. حين يُشيح الشاهد بنظره، يتلاشى وجه الرجل الثالث، فلا يبقى سوى ضباب حيث ينبغي أن تكون رأسه، وجذع مكسو بملابس بالية، وأيدٍ صغيرة، وجسد متعب يتعجب المرء كيف لا يزال واقفًا. وتترك الأشياء المحيطة به انطباعًا أشد رسوخًا، وإن لم يكن ممتعًا: الجدران منهارة، الغبار يكسو الأثاث، والصدأ يأكل مدفأة قديمة. ما يراه الشاهد هو شيء غير محدد، رجل تلاشى.

ترافق هذه الصور ثلاث مذكرات، تشكل شهادة من منظور أول لشخص بلا جوهر. يبدأ أوبا يوزو سيرته الذاتية بأحد أكثر الأسطر اقتباسًا في الأدب الياباني: «حياتي مليئة بالخزي. لا أستطيع حتى أن أتخيل كيف تكون الحياة كإنسان». لا مجال لأحلام رومانسية أو صدمات تأسيسية في نثر دازاي. الكائن الذي يكتب عنه ولد ضائعًا. من الخارج، يبدو الطفل محظوظًا؛ فقد نشأ في منزل فخم، محاط بالخدم، يلعب، يتسلق الأشجار، وأفعاله الطفولية تستحق الثناء، يتلقى الدلال إلى حد الإشباع. لا يعرف الجوع حرفيًا. يتخطاه الوفرة، يجد الطعام بلا طعم، وعندما يصل معدته يستقر فيه كصخرة. قبل أن يتذوق المتعة، عرف الاشمئزاز. بعدها سيأتي القصاص؛ سيختبر الإساءة، السخرية، وسوء المعاملة. سيتعمق العذاب في مرارته، لكنه لن يكون مصدرها. لا التحليل النفسي ولا السلوكية سيتقبلان الأطروحة التي لم يصغها دازاي بشكل صريح لكن يعرضها في الرواية: فساد الإنسان ليس نتيجة للشر الذي يخضع له، ولا ينشأ نتيجة صدمة مكبوتة؛ الكائن عاجز أمام دوافعه الفطرية، وما يفعله المحيط ليس سوى كشف عما كان موجودًا داخله دائمًا. تشاؤم دازاي الأساسي يقابله محاولة يوزو المتكررة، الفاشلة دومًا، لتحدي طبيعته. ولأجل ذلك، يصبح سيدًا في مهنة الزيف. ثمن ذلك سيكون عقله.

فأين توجد، إذن، هذه الفكاهة؟ يجب أن نخطو خطوة للخلف ونتأمل العمل بالكامل. على الرغم من أن دازاي لم يكن أخلاقيًا، إلا أن مشروعه الأدبي يتبع مبدأً: التخلي عن أخذ الحياة بجدية زائدة، حتى حين تكون الحياة بذاتها عذابًا لا يُطاق يُمثل على مسرح الظلال. فلا يضيع دازاي فرصة للسخرية، حتى حين يتعلق الأمر بالانتحار. خفيفة هي مأساة الوجود، هذا ما يرسمه مشروعه الفني. لا توجد جذور كستناء تقود إلى كشف مؤلم، ولا حتى ثلج يذوب على سطح بحيرة. يختم دازاي وصيته الوجودية بتقلصات معوية. الأمل الوحيد المتبقي لدى أوبا يوزو، الذي بات عجوزًا بعمر السابعة والعشرين، هو النوم بسلام. يُرسل خادمة لشراء أقراص منومة. يتناولها. وبعد ساعات، تأتيه تقلصات رهيبة. إنه إسهال. فقد استبدلت الخادمة، التي تعرف سيدها جيدًا، الأقراص المنومة بملينات. وفي المرحاض، يختصر يوزو معنى حياته أخيرًا: «ليس لدي سعادة ولا تعاسة. كل شيء يمر. هذه هي الحقيقة الوحيدة التي تشبه الحقيقة في مجتمع الجحيم البشري الذي عشت فيه حتى الآن. كل شيء يمر».

يمثل دازاي وكواباتا مسارين مختلفين يوقعان عهدًا مع الانحدار. قد يبدو ذلك مبالغة عند النظر إلى الأدلة البيوغرافية. إذا جعل أحدهم من البحث عن الموت خبرته الشائعة، وسلم الآخر نفسه له فقط عندما لم تعد الحياة تستحق العيش، فكيف يمكن دعم فرضية مفادها أنهما رفيقا غاية؟ على عكس ما يحدث مع أشباحهما، أكوتاغاوا وميشيما، لا يجد أي منهما اهتمامًا في صياغة جمالية للانتحار. فلا نرى في تاريخ تسوجيما شوجي، ولا في تاريخ أوبا يوزو، ولا في تاريخ الكاتب أوسامو دازاي، محاولة لتبرير هلاكهم الذاتي. يقبلونه، ويستسلمون له بوصفه النتيجة الوحيدة الممكنة.

إنه التزام أخلاقي مع مأساته الخاصة، يتجلى هذا الالتزام في عمل أدبي منحاز لاستكشاف الروح البائسة والتائهة لكاتبه. أدب دازاي أدب محاصر، يتسم بعالمية تتجلى في نثر، ورغم تعبيره عن روح زمنه، لا يختزل في تعليقات اجتماعية. إذ لا يأتي انتحار دازاي كطرح ضد الحداثة، وإن قدم عن طريق الصدفة، أو ربما كقدر حتمي - فمن لا يفكر بزمنه؟ - شهادةً ثمينة على عصره. وإذا كانت هناك رسالةٌ عميقة، فهي تكمن في هذا السأم الوجودي، الذي لا يتأثر بالضرورة بالسياق التاريخي، بقدر ما يعكس حال الفرد الأبدي أمام مشروعه المحتوم، الحياة التي هي في جوهرها الموت. لحظة ارتمائه في مياه قناة تاما، كان دازاي يعتبر نفسه، على الأقل في ذهنه، أسمى متطوع، إذ قرر أن ينقذ العالم من عبء حضوره، بعد أن تقبل غربته وانعدام كرامته كإنسان. وكما كان كيريلوف في أعمال دوستويفسكي مسيحًا خائبًا في واقع لا إيمان فيه، دازاي هو بالكاد ملاك تائه في الأرض، غريب يبحث عن طريق العودة إلى بيته. كما تشير السيدة التي تراقب الصور الثلاث: «قرأت اليوميات […]. يوزو الذي كنا نعرفه كان مرحًا ولطيفًا [… ]، فتى صالحًا، ملاكًا». دازاي ويوزو، اللذان هما كائن واحد، تخليا عن الثقة بنفسيهما، لكنهما، رغم كل هذا الدمار، لا يزالان يعترفان باللطف والشفقة في البشرية.

وحيث لا يمكن فصل حياة دازاي عن أدبه، إذ إن كلًّا منهما يشير إلى الآخر لدرجة أن حياته تُعد أدبًا اعترافيًا، فمن الطبيعي أن ينطفئ الفن مع خالقه في تزامن مثالي. «لم يعد بشريًا» كانت آخر رواية أكملها دازاي، وإن لم تكن آخر ما عمل عليه. مما هو معروف عن أيامه الأخيرة، يبدو أن الكتابة أصبحت عبئًا مثلما أصبحت الحياة عبئًا مزعجًا. هنا ينكسر التيار الذي يربطه بكواباتا، ليمنحه حريةً أخيرة: أن يلقي نظرة أخيرة على هامش عالم الأحياء قبل أن يغرق في بحر الموت. ذاك الرجل الذي ربط نفسه بخيط أحمر مع عشيقته، محدقًا في الدوامات على سطح قناة تاما المضطربة، لم يكن قد تصالح مع نيران الدعوة الأدبية التي أبقته على قيد الحياة. كانت علاقته بها علاقة عداوة. على مكتبه، ترك: ملاحظة قصيرة لزوجته يعلن فيها أن الكتابة ذاتها التي دعمته طيلة سنوات ما بعد الحرب أصبحت الآن كريهة بالنسبة له؛ رسالة لماسوجي إيبوس، معلمه وراعيه ورفيقه، يتهمه فيها بالشيطنة؛ وأخيرًا، مسودة رواية غير مكتملة تحمل عنوانًا نبوئيًا: «وداعًا».

تخلّي دازاي عن اللغة - وهي حجر الأساس لوجوده - وتركه عملًا غير مكتمل، يعبر عن شعورٍ بالملل يذكرنا بأن ما يبقي البشر على قيد الحياة يمكن أن يكشف عن هشاشته وابتذاله قريبًا جدًا.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق