هوة لا قعر لها

 

تصوّر المشهد الآتي: أن تصادف أذناك همسًا يتناثر من زوايا غرفة الاستراحة في ساعة الغداء، وهم زملاؤك يتبادلون حديثًا سرّيًا عن احتفال عظيم سيُقام الليلة ذاتها. حديثهم ينبئ بأن الدعوة عامة لكل من في المكتب، حيث سيمتلئ المكان بالمآكل والمشارب وألوان من الترفيه. إلا أنك، ويا للأسى، لم تُدْعَ. يبدو أنك الوحيد الذي غاب عنه نبأ هذا الحدث، فتتوه بين ظلال الحيرة والشكوك، وتبدأ تُحسّ، عن حق، بثقل الرفض وجفوة الإقصاء. كيف لا؟ وأنت الذي لم يخرج من لسانه أذًى تجاه أحد، بل طالما كنت صادقًا في قولك وودودًا في مسلكك. ورغم ذلك، تسحق مشاعر الغصة في صدرك، وتتمادى في الإصغاء إلى تلك الأحاديث الخافتة، لعلّ في الأمر لبسًا، أو لعلّ الدعوة قد تاهت عنك. وحين تعي أن الاحتفال سيُقام في منزل أحد الزملاء، تلتقط عنوان المكان، وتقرر أن تتبع حيرتك، مغالبًا عقلك الذي ينصحك بالبقاء بعيدًا. قائلًا لنفسك: «ربما نسوني»، وأنت تحاول أن تزيح ثقل الظنون.

تصل إلى الحفل متأخرًا بساعاتٍ بعد بدايته، وقد تعمدت ذلك لتوحي بأنك لست متلهفًا للحضور. لكنك تُفاجأ بوجوههم التي لا تُخفي مزيجًا من الاحتقار والتسلية السامة. كان واضحًا أنهم لم يرغبوا بوجودك، وأن غياب دعوتك لم يكن خطأً بل إقصاءً متعمدًا. تجد الغضب يمر في نفسك، ويعتصر قلبك شعورٌ متزايد بالرغبة في إثبات قيمتك أمامهم. تقترب من الإدارة محاولًا فتح حديثٍ عابر، لكنهم يصدّونك بلا مبالاة، يلوّحون بيدٍ كسولة وكأنك هواء لا يُرى. يزيدك ذلك إصرارًا على نيل الاعتراف، فتضاعف محاولاتك حتى تُجبرهم على التحدث، لكن حديثهم لا يتجاوز أوامرهم لك بالانصراف. ومع ذلك، تجد في ذلك الرفض الصريح تحديًا يثير فيك عنادًا غريبًا. وفي لحظة ضعف مشوبة بالتهور، تتوجه إلى إحدى الزميلات الجذابات، محاولةً منك لاستمالتها بكلمات مغازلة، متجاهلًا أن زوجها حاضر في المكان. وما هي إلا لحظات حتى يستغل الزوج هذه الفرصة ليظهر غضبه، فيعتدي عليك جسديًا، ويجتمع حوله بعضٌ من الإدارة لطردك شر طردة. يُخرجونك إلى الليل البارد، حيث يلفك الظلام مصحوبًا بذكريات ثقيلة من الإذلال والخذلان.

في هذا المشهد، يجد السيد ياكوف بطرونيتش غوليادكين نفسه، في البداية، في رواية دوستويفسكي التي صدرت في عام ١٨٤٦ بعنوان «المزدوج» التي تكون نقطة الانطلاق لهبوطه في الجنون. ففي لحظةٍ، تكون سببًا في سقوطه العلني، تتبدى الحقيقة حين أخبره طبيبه أن عزلته بدأت تؤثر على صحته وأنه يجب عليه أن يختلط بالناس أكثر. فيُرى غوليادكين، بعكس طبعه الخجول، يقرر أن يحضر حفلة عيد ميلاد السيدة كلارا أولسوفييفنا، رغبةً منه في أن تكون هذه خطوةً علاجية لذاته. السيدة أولسوفييفنا هي ابنة مدير المكتب في مكان عمل غوليادكين، وما يعقب ذلك من خطأ اجتماعي فادح يرتكبه غوليادكين في الحفل، يراه جميع زملائه في العمل، ليكتمل بذلك إهانته بطريقة ستكون لا محالة غير قابلة للإصلاح. وهو، في قاع الحزن، يعترف بمقدار الألم لعلمه بأنه لم يُدعَ إلى هذا الحدث في الأساس، فيأتي حديثه مع الضيوف مفككًا متقطعًا، مترنحًا، فيسعى إلى تحقيق القبول الاجتماعي فيوقع نفسه في إحراجاتٍ متوالية، فيسخط على نفسه ويغادر المكان تحت طائلة تلك الفضيحة. 

لكن تلك الإهانة تُورثه شعورًا بالعجز العميق، فتبدأ مظاهر الانزلاق المتسارع نحو الجنون، فيحدث أول انفصال عن الواقع حين كان يحاول العودة إلى منزله عبر الثلوج في ليل سانت بطرسبرغ القارس، ليخدع عقله فيظن أنه يرى نسخة منه تجري في ذلك المساء الجليدي. فيصدق هذه النسخة، ويبدأ المزدوج المزيف في التسلل إلى حياة غوليادكين الحقيقية، مُصرًا على الاستيلاء عليها. هذا النسخ المُحاكاة هو صورة طبق الأصل؛ يشبهه في المظهر، في ملابسه، في لحنه، في تصرفاته، إلا أن هذا المقلد هو رجل ناجح بكل المقاييس، في حين أن السيد غوليادكين، النسخة الأصلية، لا يعدو كونه مستشارًا منخفض المرتبة في البيروقراطية. وبينما يشهد اكتشافًا مذهلًا بأن هذا الكائن الوهمي قد بدأ يعمل في نفس المكتب، يتصاعد رعبه حين يبدأ هذا الشخص المزيف في التفوق عليه، ليصعد إلى قمم البيروقراطية بسرعة تفوق تصوره، ليغطي نجاحه ومكانته بسرعةٍ يذل بها النسخة الأصلية. هذه الزيادة الفاحشة في الرفاهية، في الثروة، في المكانة الاجتماعية، ينقض بها على غوليادكين الأصلي، متخذًا منها أداةً للتسلية والاستهزاء. وما يراه هذا الأصل، في كل مرةٍ، هو الصورة المقلوبة عنه، هو جماله الرشيق، هو ثقافته وذكائه، هو مكانته ونجاحه. حتى لو كانت تلك النسخة مجرد سراب، مجرد خداع للعقل، فإن وجودها، وحضورها في عقله فقط، كفيل بأن يدفعه إلى حافة الجنون، حيث يستمر في سعيه العميق لفهم هذا الكائن الوهمي الذي يهدده في وجوده وحقيقته. 

وفي كثير من كتاباته، يملك دوستويفسكي قدرة نادرة على التقاط هشاشة النفس البشرية والوحدة التي تصيب المرء حين يشعر أنه مختلف عن الآخرين، وأنه لا يستطيع التماهي مع الجمهور أو فهم قوى البيروقراطية والأنظمة الاجتماعية المرهقة. فهذه الصراعات الذاتية بين الفرد والعالم الخارجي، هي صراعات مأساوية في عالمه، حيث يجد الإنسان نفسه في حالة انعزال مؤلم، وحين يواجه أسوارًا من القوانين التي لا ترحم. بالنسبة لدوستويفسكي، فإن المرض العقلي ليس مجرد عرض، بل جزء من هذا العالم الذي لا بد أن نفهمه، وأن نعيشه بصدق. إن «المزدوج» حقًا لهو قراءة مروعة، حيث يستمر دوستويفسكي في تصوير رجلٍ ينهار تحت وطأة عجزه الاجتماعي، صورة لرجل تحطمت قدراته أمام تعقيدات التفاعلات الإنسانية. السيد غوليادكين يحمل قلبًا طيبًا ونوايا نقية، لكنه لم يُهَبْ بأهم المهارات التي يحتاجها في حياته: القدرة على التنقل بنجاح عبر تفاصيل العلاقات الاجتماعية المعقدة. كل حركة له هي مزيج مأساوي هزلي من سوء التوقيت، وتبادلات كلامية غير مرتبة، وأحيانًا مشاهد من الفوضى المضحكة. إنه حقًا مصير قاسٍ، وخاصة لأن دوافعه من أصفى ما يكون: رغبة في أن يُقبل، ويُقدر، ويُحب. لكن مع الأسف، فإن الطبيعة القاسية والتمثيلية وغير الطبيعية في الغالب للديناميات الاجتماعية تجعل محاولات غوليادكين المربكة للاندماج تُقابل بالسخرية والازدراء. هو لا يستطيع لعب اللعبة الاجتماعية، ويتم إدراكه على أنه مصدر خجل عظيم.

ومع تقدم الأحداث، يغرق السيد غوليادكين في حالة من الارتياب والجنون، ليجد نفسه في النهاية في قسم الصحة النفسية. «المزدوج» هي عدسة من خلالها يمكن للقراء أن يطلّوا على الديناميات المعقدة للمرض العقلي، وعلى ضرورة التعاطف والرحمة في تعاملنا مع من حولنا. لا يمكن للمرء إلا أن يشعر بالشفقة على حال غوليادكين. بينما تتكشف الدراما المؤلمة، لا يستطيع المرء إلا أن يغمر نفسه في السرد: ماذا لو كنت أنا البطل في هذه القصة؟ في أعماق العزلة الاجتماعية، كيف لي أن أتأكد من أن قبضتي على الواقع كافية كي لا أستسلم للجنون الذي يقترب مني؟ هذه الرواية القصيرة دفعتني أيضًا للتفكير في كيفية تعاملنا مع المرض العقلي في زماننا هذا. هل هو أقل وصمة عارًا؟ لست بمعالج نفسي، لكن يبدو لي أنه رغم زيادة المعرفة، والبرامج، والعلاجات، فإن من يعانون من الأمراض العقلية ما زالوا يعانون من أكثر الظروف الوجودية إعاقة - الوحدة. كمجتمع، قد نقر بالمرض العقلي كمعاناة مشروعة في حياة الفرد، لكن في الوقت نفسه، نميل إلى الشعور بعدم الراحة عندما نُجبر على مواجهته فيمن حولنا. نحن سعداء بأن نُوكِلَ المشكلة إلى الأطباء والمتخصصين، ولكن عندما يدخل أحدهم الذي يعاني من مشاكل نفسية إلى محيطنا الخاص، فإن الميل قد يكون إلى طرده خوفًا من أن يضرنا أو يسبب لنا إزعاجًا. ما لم نختبر المرض العقلي بأنفسنا، فإننا نفضل أن نفكر فيه بشكل مجرد.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق