من العبث، حبٌ
في عام ١٩٤٤، نادى كامو بثورةٍ عجيبة، ثورة ليست ككل الثورات، إذ دعا إلى أن تُطوى السياسة، وتُستبدل بسلطان الأخلاق. وبعد ثلاثة عشر عامًا، وضّح أن في أزمنة الكوارث، لا تكون الأخلاق الثائرة هي تلك «المبادئ الجوفاء»، أخلاق كانط التي رأى فيها نيتشه وهجًا من رومانسية العقل المتعصبة، والتي تُسيء للحياة إذ تخفض من قيمة الإنسان والعالم، وترسم للجمال والحق صورةً في عالمٍ بعيد. وسط هذا «الحق في العار» الذي تبارى الثوار على مرّ الأزمان في طلبه، يرى كامو، كما يرى نيتشه، درسًا مبطنًا، رسالة تعليمية تسعى لإعادة صياغة العالم باسم مبدأٍ مجرّد أو سامٍ، يرتكز على أحكام أخلاقية تُهوّن من الواقع وتزدريه، لتلقي بكل جمالٍ ونظامٍ في خيالٍ سرمدي لا يُطال.
أما النظرة السارترية التي وضعت مؤلّف «الغريب» و«أسطورة سيزيف» في صفّ «أخلاقيّي فرنسا الكبار» الذين وصفهم أندلر بحقٍّ كروّاد نيتشه، من لاروشفوكو إلى باسكال، ومن مونتاني إلى ستاندال، فقد أسهمت في إغفال الأبعاد الأخلاقية لمشروع كامو الثوري الذي عبّر عنه في «كومبا» بعد تحرير باريس. لكن كامو، بعيدًا عن هذا السياق، كان في طليعة النزعة النيتشوية الفرنسية التي واجهت أزمة العقلانية. وهنا، سأكشف كيف ورث كامو مشروع نيتشه في «تحويل» النظام الأخلاقي والاجتماعي والسياسي لعصره، وكيف نهض بهذا المشروع عبر ظلال الفينومينولوجيا التي قدّمها ماكس شيلر حول الحياة العاطفية.
لقد غابت الفينومينولوجيا التي طرحها شيلر عن السير الذاتية الفكرية لكامو، غيابًا غريبًا، رغم أن كامو نفسه أشار إلى أهميتها في سنوات دراسته الجامعية بين ١٩٣٠ و١٩٣٦. وفيما يلي، سأُضيء على أثر حدسية شيلر العاطفية وسوسيولوجيا المعرفة التي طرحها، في تشكيل مفهوم كامو عن «الثورة». وسأستقصي كيف لعب عمل شيلر دورًا في صقل رؤية كامو الفلسفية، ورسم معالم مشروعه لإعادة بناء الأخلاق على أنقاض حضارةٍ أوروبية أنهكها العدم.
رأى كامو في العدمية موقفًا عاطفيًا مسمومًا، مكوّنًا من الحقد والحسد والتقليل من الشأن، ومن النقد الهدّام والخبث. وقد سجّل شيلر هذه الحالات في كتابه «إنسان الحقد»، الصادر بفرنسا عام ١٩٣٣، حيث وصفها بأنها «تسممٌ نفسي ذاتي»، و«اجترار طويل للكراهية»، قادر على تشويه القيم والحكم الأخلاقي. ومن خلال تطوير نيتشه في «جينيالوجيا الأخلاق»، عرف شيلر أن الحقد ليس مجرّد عاطفة، بل حركة تؤسس للوجود الملموس، «قالب تجربة» يصوغ عناصره المتنوعة ليبرز الجوانب السلبية في البشر والأشياء. أشار كامو إلى كتاب «إنسان الحقد» في «ملاحظات عن التمرد»، التي كتبها بين ١٩٤٣ و١٩٤٤، ونُشرت عام ١٩٤٥ ضمن مجلد «الوجود»، قبل أن تُعاد صياغة بعض أجزائها في «الإنسان المتمرد». تساءل موريس ويمبرغ: لماذا اختار كامو أن يعلّق على شيلر، رغم إدراكه بأن نظرية الحقد أصلها نيتشه؟ لماذا انتقد رؤية شيلر للتمرد عبره؟ قد تكون الإجابة أن كامو لم ينشغل بالحقد الذي رأى فيه مع نيتشه نذير نهاية العالم، بل كان منشغلًا بـ«بعث» الحضارة. أتاح شيلر لكامو أن يربط بين نظرية الحرية السياسية، التي تقوم عليها فكرة الثورة، وبين المسألة الأخلاقية التي سماها «زيادة معنى الإنسان في الإنسان»، أي تحويلًا يتجاوز العدمية.
ما الثورة؟ هي كما وصفها كامو منذ ملاحظاته الأولى، حركة تعيد الدائرة إلى أصلها، تعبر بالحكم من يدٍ إلى أخرى بعد دورةٍ مكتملة، هي انتقال الفكرة إلى الوجود التاريخي. لكن هنا، لا تُختزل «الفكرة» بمعناها التقليدي كالنظرية، تلك الرؤية التي تحمل «أخلاقياتها» وتشكل الفعل الثوري، بل تشير إلى تلك الجوهرة في الإنسان التي ترفض الانحناء، وتبقى خارج الزمن. تبدأ الثورة من «رهانٍ صارخ» لصالح فكرةٍ واضحة، يتجلّى وضوحها في فعلٍ من الحدس العاطفي، في إحساسٍ يُدرك كنه الأشياء. وهنا، يُطلق كامو على هذا الحدس اسم «التمرد»، ذاك الوعي الحدسي بالفكرة الإنسانية التي يكشف فيها القيمة الإيجابية للحياة. يقول كامو:
[التمرد] يكشف في الإنسان ما يجب الدفاع عنه، وبالتالي ما هو لكل البشر. ففي عالم التجربة الإنسانية، للتمرد نفس المعنى الذي يحمله الكوجيتو في عالم الفكر. إنه الحقيقة الأولى، وهو الذي يخلق القيمة الأولى.
لكن هذا الخَلق الذي يتحدث عنه كامو ليس نتاج فعلٍ إرادي أو إنتاجٍ صناعي؛ فالقيمة لا تُصنع، بل تُكشف، تُسبر أغوارها عبر التمرد. وهذا ما يجعل فكر كامو الأخلاقي والسياسي يقف بعيدًا عن الوجودية أو تصورات الأفعال الثورية «التراجيدية» في القرن العشرين. على عتبة تفكيره في التمرد، يقيم كامو حارسين منهجيين: «الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي» لنيتشه، و«إنسان الحقد» لماكس شيلر. هذان العملان يفككان الربط بين الخَلق كصناعة وبين النظريات الثورية للقرن العشرين.
في «الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي» لنيتشه، الذي تناول فلاسفة ما قبل أفلاطون، يميّز الفيلسوف بين شكلين من الخلق: الأول مرتبط بالعقل الصناعي عند أنكساغوراس وأرسطو، والثاني مرتبط باللوغوس عند هيراقليطس. يُترجم نيتشه العقل الصناعي إلى «ذكاءٍ حرفي»، يعكس تفكيرًا أشبه بصانعٍ يخضع المادة الخام لإرادة غايته. أما الشكل الثاني، فيعارضه بمفهومٍ جمالي، معرفة حدسية خارجة عن العقلانية، عقلٌ متأملٌ متحررٌ من الغايات والإرادات. من هذا المنظور، فإن الفيلسوف الهيراقليطي، الذي ينظر إلى العالم بعين الفنان، يؤسس لذكاءٍ ينبع من رؤية عاشقة للوجود، تتجاوز العقل «الرومانسي» وتُعرّف بـ«الهبة المقدسة لقول نعم».
الثورة، كما يصفها كامو، هي محاولة لتشكيل الفعل وفقًا لفكرة، لصياغة العالم ضمن إطارٍ نظري. لكن النسبية النيتشوية تهدم هيمنة العقلانية الغربية وتكشف «الكراهية التي تخلق المثال»، والتي كانت أصل المنطق الذي يستعبد الإنسان والعالم لمتطلبات النفعية والكفاءة، ويقود إلى جنون العدمية في عصرنا. أما شيلر، فقد أكمل اكتشاف نيتشه العظيم لجذور المعرفة والأحكام القيمية في العواطف. فالكراهية، كما كشفها شيلر ونيتشه، ليست فقط شعورًا سلبيًا تجاه نواة القيم في الأشياء، بل هي شكلٌ من اضطراب القلب، يضعف من قيمة الوجود عبر الحقد. لكنها ليست موقفًا أصليًا؛ بل نتيجة لانحراف الحب، تلك الحركة العاطفية التي تُمكّن الإنسان من رؤية القيمة العليا في الأشياء عبر قيمها المُعطاة.
الحب عند شيلر، فعلُ إدراكٍ أخلاقي لقيمة الحياة الإيجابية، لا يثبت عند حدٍّ، بل يمضي متسلقًا نحو قيمٍ أعلى فأعلى، كما أشار أفلاطون، فهو ليس تأملًا جامدًا، بل حركةٌ صاعدة تُبدع وجودًا جديدًا، لا لكونه جديدًا في جوهره، بل جديدٌ بالنسبة لإدراكنا، واختياراتنا، وأفعالنا المشروطة بما نفضل. يربط شيلر بين مفهوم الخلق ومفهوم نيتشه عن السامية، حيث يُعرّفه كمعرفة عاطفية ترفع من قيمة الموجود وتُعيد ترتيبه في سلم الحب. فكما كتب جورج غورفيتش، شيلر، كأوغسطين وباسكال، رفض أن تكون العاطفة شيئًا أدنى من العقل، كما ظن كانط في عصره، أو أن تختصر في ظلالٍ من المعرفة الغامضة التي تنقشع في نور الفكر، كما فعل ديكارت وسبينوزا. شيلر يميّز بين الحالات العاطفية العابرة وبين أفعال العاطفة ذات الغرض، كالإحساس بجمال التماثيل، وبهذا يعيد بناء الأخلاق على ما أسماه «منطق القلب»، فكرة باسكال العتيقة والجليلة، التي تفوق حدود العقل، لكنها لا تتناقض معه، بل تسير مستقلةً عنه.
في سنوات ما بين الحربين، انشغل الفكر الفرنسي بفلسفة شيلر أكثر من هوسرل وهايدغر. وكان عمله الأول الذي تُرجم للفرنسية، هو كتابه عن «طبيعة وأشكال التعاطف»، الذي صدر في عام ١٩٢٨، يتبعه «إنسان الحقد» في ١٩٣٣ و«معنى الألم» في ١٩٣٦. حضر شيلر إلى فرنسا في عام ١٩٢٤ مشاركًا في «عقدة بونتيجني» عن «الإلهام والنعمة»، حيث أطلق النقاش الفلسفي والأدبي الذي أسهم في نشر ظلال الفينومينولوجيا الألمانية، لا سيما تلك القائمة على الحدس العاطفي. لعبت «عقدات بونتيجني»، بقيادة بول ديجاردان، دورًا حيويًا في ربط عقول أوروبا، فجمعت فلاسفة وكتّابًا ونشطاء، من أندريه جيد إلى برونشفيج، ومن برنارد غروتويسن إلى جان غرينير. وكانت هذه العقدات ملاذًا لأصدقاء شيلر ومريديه، أمثال برديائف ولاندسبرغ وغروتويسن، الذين أسهموا بجهودٍ كبيرة في نشر فكره في مجلات مثل Esprit وNRF.
في الجزائر، كان كامو يدرس على يد ثلاثة من أنصار بونتيجني، مثل جان غرينير، الذي أشرف على رسالة كامو العليا عن الأصول النفسية والاجتماعية للحضارة المسيحية. في هذه الرسالة، يتردد صدى فينومينولوجيا شيلر للحياة العاطفية، التي غذّت نقاشات مدرسة Esprit عن «ثورة الحب» المسيحية كنموذج إبداعي يتجاوز سياسات القوة. كان كامو مهتمًا بمصادر الحضارات الجديدة، لا سيما العواطف التي تُعيد صياغة اللغة والمعاني الفلسفية القديمة. لكنه اعتبر المسيحية، وفق قراءة نيتشوية، حالة من كراهية العالم، تتسلل تحت عباءة منطق أفلاطون وأرسطو، وتُجسّد «كاثوليكيتها» مع أوغسطين. لم يتبع كامو شيلر في تصوير «ثورة الحب» المسيحية، لكنه استفاد من حدسها العاطفي لصياغة قراءة فريدة لفكر أفلوطين. هذا الأخير، الذي قاوم نظرة العالم المسيحي الغنوصي، رأى في المعرفة فعل عبادةٍ عقلية. فالعقل عنده كان قلبًا يتأمل في صمت، لا يبني بل يكشف، ومن هنا، كان أشبه برؤية باسكال القلبية. العقل الأفلوطيني، كما عند هيراقليطس، فنّ حدسي، معرفة جمالية تُبدع بالكشف. وفلسفته كانت «منظور فنان»، حيث يصبُّ في أشكال المنطق حبًا للحياة والموجودات. كامو، أثناء دراسته، كان يقرأ NRF، وربما تأثر بمراجعات غروتويسن عن «إنسان الحقد»، التي أبرزت العلاقة بين الرؤية الفنية والمعرفة الفينومينولوجية.
الفنان، كالفينومينولوجي، يتحرر من قلق المستقبل، ويعيد الأشياء إلى ذاتها، متجاوزًا الأوهام والأحكام المسبقة، شاهدًا على أمانة تولد من حب العالم. الحب عند شيلر، فعلُ حدسٍ عاطفي، حركةُ انخراط في الموجودات، تُحررها من قيود العقلانية النظرية، لتُعيد تشكيل العالم، ليس فقط كطريقة، بل كحكمة تُغيّر وجه الوجود نفسه.
إن حدس شيلر العاطفي مفتاح لفهم «العقلانية العبثية» التي صاغها كامو في «أسطورة سيزيف». ذلك النص الفلسفي، المكتوب بين ١٩٣٨ و١٩٤١، يبحث في «حساسية عبثية متناثرة في هذا العصر». وكما في أطروحته العليا، يتبع كامو هنا منهجًا ظاهراتيًا، مستعينًا بتمييز شيلر بين الحس والشعور والحدس الجوهري من جهة، وبين الفكرة العقلية والفلسفة من جهة أخرى، ليبني وصفًا خالصًا لما أسماه «مرض الروح». كان شيلر، من بين «تلك الأسرة من العقول المصممة على إغلاق الطريق المعبد للعقلانية والعودة إلى السبل الحقيقية للحقيقة»، يُعلّم «موقفًا روحيًا» متواضعًا، يستند إلى «الفطرة السليمة والتعاطف»، ليغوص خارج نماذج «الجدلية الكلاسيكية»، في أعماق ما اعتبره كامو «المشكلة الفلسفية الوحيدة الجديرة بالاهتمام»: الانتحار.
حكم أن الحياة تستحق العيش أو لا تستحقه، هو الإجابة على السؤال الجوهري للفلسفة.
كامو يطبق منهج شيلر الظاهراتي على مسألة الانتحار، بل وعلى كل سلوك بشري ينطوي على موت. فالانتحار، كما يراه، هو «اعتراف، على غرار المسرحيات الميلودرامية، بأن الأمر لا يستحق العناء». إنه تنفيذٌ لحكم قيمي يزدرئ الحياة، وهو، كالحقد الذي تحدث عنه نيتشه وشيلر، من أعراض «مرض الروح»، الذي يرافق «الرومانسية» و«المثالية». تلك المعضلات، التي تفرزها الأخلاق التقليدية للعقلانية الغربية، كما وصفها شيلر، تدفع دائمًا إلى «تسلق القمم»، حيث تعبد «أصنام العقل»، لكنها في ذات الوقت «تهين» الموجودات وتقلل من قيمتها. كامو يرى في الحقد وفي تلك «الرومانسية» آفة العصر الحديث، التي تثمر انتحارات جماعية وتسوغ القتل. فكيف يمكن إعادة تأسيس الأخلاق، بعيدًا عن العدمية، العقلانية، والمسيحية؟
في منظور الحدس العاطفي، يكون «الشعور بالعبث» نقطة انطلاق. هذا «الإحساس الذي لا يمكن قياسه» هو «الانفصال» بين الإنسان وبين حياته، تلك الحياة التي لم تكن سوى بناء اجتماعي، مشهد زائف صنعته العقلانية الغائية والحسابية. تلك «البداية» العاطفية تستدعي ما يشبه التوقف الظاهراتي، أو «التطهير» من التمثلات العقلانية، للوصول إلى حدس قيم الأشياء. يفسر كامو التفكير العبثي على أنه فعل اهتمام، بالمعنى الظاهراتي، يكشف العالم: «التفكير هو إعادة التعلم للرؤية، توجيه الوعي، جعل كل صورة مكانًا مميزًا». وكما في التوقف الظاهراتي، فإن جهد التفكير العبثي، الواضح والمتبصر، يكمن في «طرد جميع الأحكام القيمية لصالح الأحكام الواقعية»، بمعنى عزل البنى الميتافيزيقية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تستعبد البشر. ذلك هو «خط البداية» نحو تحرير وتحول جذري للمعرفة والفعل، حيث يقود التمرد في الإنسان الواعي ضد كل ما يذله وينفي وجوده إلى نبع عاطفي وقاعدة لأخلاق عظيمة. حتى فيما وراء الخير والشر، هناك أفعال تبدو جيدة أو سيئة، وهناك مناظر تظهر لنا جميلة أو قبيحة. ضد الأخلاق الكانطية، التي تنكر كل الأفعال الناتجة عن الشعور، يرى كامو في الحب مبدأ السامية. ففي نهاية تمرد الإنسان العبثي، يكون الحب هو ما يجعل الرؤية نافذة. تمامًا مثل أوديب، الذي أصابه العمى، وسيزيف في أعماق الجحيم، إذ يحكمان بأن «كل شيء حسن»، فإن التأمل المحب يخرس أصنام العقل، ويعيد تقييم الوجود بحكم قيمي جديد، يرفض الحقد ويعارض الانتحار والقتل.
لا يمكننا تصور سيزيف سعيدًا إلا من خلال عدسة الظاهراتية؛ هذا البطل التراجيدي يشهد على السعادة وعلى تلك «الفرحة الغريبة» التي تنبع من التمرد، حيث يكون الحب مصدرها العميق، حين تكون الكراهية هي ينبوع اليأس والألم. فالتمرد، بوصفه «مبدأ النشاط الفياض والطاقة الزائدة»، هو «الحركة ذاتها للحب»، ذلك الذي يعيد صياغة مفهوم القوة، مستبدلًا السيطرة بالعطاء. لكنَّ هذا «الحب الغريب» الذي يحمله المتمرد لا يزال ينتظر ثورته: فالمسيحية، والثورات «الميتافيزيقية السياسية الحديثة»، من النازية إلى الشيوعية، وصولًا إلى «الثورة النيتشوية»، كلها تمثل استسلامًا للرؤية الواضحة للحب.
ضد الوجودية الحديثة، وريثة التاريخية الرومانسية، ومن وراء العقلانية الفكرية واللاعقلانية الإلهية، يتيح لنا الحدس العاطفي إعادة تأسيس الأخلاق عبر فعلٍ إبداعي، بمعناه الظاهراتي. رجال ونساء المقاومة هم التجسيد الحي لهذه المراجعة الكبرى، التي تؤسس للتضامن و«التواطؤ الفاعل»، وتشير إلى «الفجر القديم والجديد» الذي يبشر بنهضة الحضارة:
يسود العبث، لكن الحب ينقذه.