سؤال أخلاقي
من غير المبالغة القول إن كتاب «فن الشعر» لأرسطو كان له الأثر الأعظم في تاريخ علم السرد، حتى بات من الصعب تجنُّب تأثيره كما تقول فلورانس دوبون: «ليس بالأمر الهيِّن أن تكون غير أرسطوطاليس». وفي هذا السياق، نجد مثالاً معبِّراً لرفائيل باروني الذي يذكر في مقدمة كتابه «التسلسل السردي في علم السرد المعاصر»، أن الفلاسفة والشعراء، ثم علماء العلامات واللسانيات والسرد، ناقشوا بعض الخصائص الأساسية للسرد التي تم تحديدها لأول مرة في «فن الشعر». يؤكد مؤلفو هذا الكتاب، ومن بينهم متخصصون مثل بريان ريتشاردسون، ماري-لور رايان، جيرالد برينس، ومايكل تولان، على رؤيتهم المشتركة للسرد المبنية على مبادئ أرسطو. يصف النموذج الأرسطوطاليسي السرد بأنه «محاكاة» أو «تمثيل» للأفعال (mimesis praxeos)، ويثير مشاعر الخوف والأمل، ويشكل كلاً مترابطًا يتكون من بداية ووسط ونهاية. هذه الأجزاء الثلاثة مرتبطة بالزمن، حيث تتوالى الأفعال عبر الوقت، ويحفز الخوف والأمل انتباه القراء نحو حل غير مؤكد، ويتحقق تماسك السرد من خلال وظيفة البداية التمهيدية والنهاية المراجعة. وفقاً لهذا التفسير، يُعتبر السرد «كلاً» مكونًا من «تنظيم للأحداث في نظام»، يهدف من خلاله المؤلف إلى توجيه انتباه القارئ نحو نهاية غير مؤكدة، حيث تنتج حلَّة الحبكة نوعًا من الارتياح الناجم عن نهاية «التوتر السردي». هذا النموذج الأرسطوطاليسي شكل تاريخ علم السرد موجهاً إياه نحو مسار محدد، على الرغم من محاولات تقديم رؤية بديلة للسرد من قبل النظريين التفكيكيين، ما بعد الحداثيين، ما بعد الاستعماريين، وبعض الكتاب المنتمين للتيار النسوي في السرد.
ولكن، هذا النموذج لم يكن بلا آثار جانبية، حيث لم تحظَ جوانب عديدة من السرد بالاهتمام الذي تستحقه. وفي هذا العمل، نركز على واحد من هذه الجوانب: المالنخوليا. رغم أن العديد من الكتاب والفنانين اعتبروها عنصراً أساسياً في التجربة الجمالية، إلا أن المالنخوليا نادرًا ما كانت موضوعًا مميزًا لدراسة السرديين. أعتقد أن أحد أسباب عدم اعتبارها أحد «آثار» فعل القراءة يعود إلى تركيز النموذج الأرسطوطاليسي على التطهير كمركز للتجربة الجمالية. أسعى هنا، من خلال إعادة تقييم نموذج السرد الذي اقترحه فريدريك نيتشه في «مولد التراجيديا»، إلى إبراز قيمة المالنخوليا في فعل القراءة. فرضيتي تعتبر رؤية نيتشه للتجربة الجمالية أكثر «طبيعية» و«أصلية» من النموذج الأرسطوطاليسي. سنرى أن الكتاب الذين يخدمون المالنخوليا لا يسعون إلى تقديم «نسخة منقحة» من الشفقة والخوف، كما في الأعمال الأرسطوطاليسية، بل يهدفون إلى «زعزعة» القارئ، مقدِّمين رؤية بديلة للواقع الخارجي. يمتلك «العمل المالنخولي» قيمة أخلاقية وتربوية كبيرة، إذ يحفز التساؤلات الوجودية والتاريخية والاجتماعية لدى القارئ، متجاوزاً فتحه لتجربة الآخر. تحليل دور المالنخوليا في التجربة الأدبية يؤدي إلى إعادة اكتشاف قيمتها الجمالية والأخلاقية، وأيضاً إلى استعادة فهم معين للتجربة الجمالية عند بعض الكتاب مثل شارل بودلير الذي يقول: «لا أدعي أن الفرح لا يمكن أن يترافق مع الجمال، لكني أقول إن الفرح هو من الزينة الأكثر شيوعاً، في حين أن المالنخوليا هي رفيقته اللامعة، حتى أنني لا أتصور نموذجاً للجمال بدون معاناة».
قبل الشروع في تحليل العلاقة التي تربط بين المالنخوليا والتطهير، يجدر بي أولاً أن أعرض باختصار السمات الرئيسية للنموذج الأرسطوطاليسي. وأرغب في التركيز بشكل خاص على وصف ثلاثة من هذه الجوانب: المحاكاة (mimèsis)، القصة (muthos)، وأخيراً، التطهير (catharsis). في المقام الأول، خلال تاريخ علم السرد، تم تعريف كل رواية غالباً بأنها «تمثيل للأحداث». نجد هذه النظرة للسرد عند مؤلفين مختلفين مثل جيرار جينيت، جيرالد برينس، وبورتر أبوت. على الرغم من المناقشات الكثيرة التي دارت حول مفهوم المحاكاة وعلاقتها بالسرد، يبدو أن هناك اتفاقاً متزايداً بين علماء السرد على اعتبار «التمثيل» العنصر الأساسي في السرد. يستند هذا الاتفاق بشكل رئيسي على تفسير جيرار جينيت للمحاكاة في مقاله الشهير «حدود الرواية». وفقاً لجينيت، المحاكاة والسرد يمثلان طريقتين مختلفتين لتعريف السرد: «الوضع الوحيد الذي تعرفه الأدب بوصفها تمثيلاً هو الرواية، المكافئ اللفظي للأحداث غير اللفظية، وأيضاً للأحداث اللفظية، ما لم يتم محوها في هذه الحالة الأخيرة أمام اقتباس مباشر يلغي كل وظيفة تمثيلية. التمثيل الأدبي، المحاكاة القديمة، ليست هي الرواية بالإضافة إلى 'الأقوال': إنها الرواية، وفقط الرواية. كان أفلاطون يعارض المحاكاة بالسرد كتمثيل كامل لتمثيل غير كامل؛ ولكن التمثيل الكامل ليس تمثيلاً، إنه الشيء نفسه، وأخيراً التمثيل الوحيد هو التمثيل غير الكامل. المحاكاة هي السرد».
وفقاً لهذا المفهوم، يتلاشى الخط الفاصل بين المحاكاة والسرد بمجرد الاعتراف بقدرة الأدب على تقديم «مكافئ لفظي» للأحداث غير اللفظية، بمعنى آخر، بمجرد الاعتراف بقدرته على تحويل محتوى تجربة إلى شكل سردي، سواء كانت تلك التجربة حقيقية أم لا. تتزامن هذه القدرة «التمثيلية» أو «المحاكاتية» للبشر، وفقاً للتقليد الأرسطوطاليسي في علم السرد، مع القدرة على إنشاء روابط سببية أو منطقية بين الأحداث الممثلة، بهدف تشكيل «كل» منظم. تحتاج المحاكاة، لكي تُصاغ بشكل صحيح، إلى القصة، أي «تنظيم الأحداث في نظام»، كما وصفها أرسطو في الفصل السادس من «فن الشعر». هذا هو رأي سيمور تشاتمان: «منذ أرسطو، ترتبط الأحداث في الروايات ارتباطاً وثيقاً، متسلسلة ومتشابكة».
تظهر نفس الرؤية للسرد كـ«كل منظم» أيضاً عند بول ريكور وميير شتيرنبرغ، الذي يفضل التركيز على صلابة النموذج الأرسطوطاليسي: «سواء كان الأمر يتعلق بالكوميديا أو التراجيديا، سواء كان التغيير في العالم الممثل من السعادة إلى الشقاء أو العكس، فإن الكل سيشكل تسلسلاً 'ضرورياً أو محتملاً' بين أقطاب محددة بوضوح للثروة البشرية. والنتيجة هي التسلسل الزمني والمنطقي الأقوى الممكن». منذ أواخر السبعينيات، حلل السرديون الجوانب «البراغماتية» للنموذج الأرسطوطاليسي، أي قدرة الزوج المحاكاة أو القصة على تحقيق أهداف معينة، مثل القدرة على خلق «تأثيرات» لدى القارئ. وهكذا، ترافق دراسة مفهومي المحاكاة والقصة تدريجياً مع تحليل مفهوم ثالث أساسي في النموذج الأرسطوطاليسي، وهو التطهير. كما هو الحال بالنسبة للمحاكاة والقصة، يشترك السرديون في نفس الرؤية تجاه هذا المفهوم. سأذكر تعريف أرسطو الوارد دائماً في الفصل السادس من «فن الشعر»: «التراجيديا هي تمثيل لفعل نبيل، مكتمل وله امتداد معين، من خلال لغة مزينة بتوابل متنوعة، تُستخدم بشكل منفصل وفقاً لأجزاء العمل؛ التمثيل يُنفذ بواسطة شخصيات الدراما ولا يلجأ إلى السرد؛ ومن خلال تمثيل الشفقة والخوف، تحقق تطهيراً لهذه الأنواع من المشاعر».
في «فن الشعر»، يرتبط التطهير بالمتعة المحاكاتية، المستندة إلى «التعرف على الأشكال» والمرتبطة بفن «تكوين الحبكات»: «إذا كان بإمكان التراجيديا 'تطهير' المشاعر التي تثيرها عند المشاهد وبالتالي تمنحه متعة بدلاً من الألم، فهذا لأنها تقدم لعينيه أشياءً مُطهرة نفسها. التطهير التراجيدي هو نتيجة لعملية مشابهة: عند مواجهة قصة (موثوس) يتعرف على الأشكال، التي صاغها الشاعر بمهارة، والتي تحدد جوهر الشفقة والخوف، يشعر المشاهد نفسه بالشفقة والخوف، لكن تحت شكل مكثف، والمشاعر المُطهرة التي تستحوذ عليه والتي سنصفها بأنها جمالية تُرافقها متعة». تُعرف المتعة المرتبطة بالتعرف على الأشكال، أو التعرف على «ما هو معروف بالفعل» من قبل القارئ، من قبل السرديين كأساس لـ«متعة النص». يصبح السرد بذلك أفضل طريقة لنقل رسالة تتميز بقيمتها الأنثروبولوجية والاجتماعية العالية. يتيح تسلسل الأحداث في نظام نقل مجموعة من المعايير الأخلاقية التي يتعلمها القارئ من خلال التعرف على أبطال الرواية. يتم تفسير التطهير في هذا السياق كأبرز رد فعل عاطفي لعملية تبادل الأفكار التي تحدث بين المؤلف والقارئ. هذا هو رأي هانس روبرت ياوس: «يشير التطهير إلى جانب ثالث من التجربة الجمالية الأساسية: من خلال إدراك العمل الفني، يمكن للإنسان أن يتحرر من الروابط التي تربطه بمصالح الحياة العملية ويكون مستعداً من خلال التعرف الجمالي لتبني معايير السلوك الاجتماعي. تلعب المتعة التطهيرية عندها - لنقتبس فرويد - دور الطُعم ويمكن أن تحث القارئ أو المشاهد على تبني معايير السلوك بسهولة أكبر والتضامن مع البطل في إنجازاته ومعاناته».
أرادت مارثا نوسباوم التأكيد على أهمية التطهير كآلية تعزز التماسك الاجتماعي، مما يسمح لمجتمعات مختلفة جداً بإنشاء شبكة من التبادلات القائمة على التضامن والتعاطف. وفقاً للباحثة الأمريكية، يشير مصطلح التطهير إلى ذروة عملية «توضيح» الأفكار والمشاعر، الخاصة بكل «شخص صالح»: «التطهير لا يعني: 'التوضيح الفكري' بل فقط: 'التوضيح'. الشفقة والخوف هما نفسهما عناصر ذات صلة بإدراك عملي لوضعنا. يختلف أرسطو عن أفلاطون، ليس فقط فيما يتعلق بآليات التوضيح، ولكن أيضاً في ما يكونه التوضيح، في 'الشخص الصالح'».
أوضحتُ مدى تأثير النموذج الأرسطي على تاريخ السرديات، إذ استطاع أن يُرسِّخ رؤية موحدة لمعنى السردية، وهي رؤية قامت على أُسس محكمة المعاني، ثابتة الأركان. سأخوض هنا تساؤلاً عن إمكانية وضع إطار معرفي بديل لهذا النموذج، يقوم على قراءة جديدة لما جاء في «مولد التراجيديا» لفريدريك نيتشه. فما هي إذن أبرز سمات هذا النموذج النيشتشوي في السردية؟
أول ما يمكن ملاحظته هو اختلاف هذا النموذج في جوهره، إذ يقدم تصوّرًا بديلًا للنظرة السردية يرتكز إلى مبادئ مغايرة. ثم إنه أكثر شمولاً من النموذج الأرسطي، حيث يضمّه كجزء من ضمن تجلياته المتعددة. في النقطة الأولى، تختلف رؤية نيتشه عن رؤية أرسطو اختلافًا جوهريًا؛ إذ لا يرى نيتشه التراجيديا مجرد «تصوير للأحداث»، بل يراها رؤية متكاملة تشتمل على أبعاد تتجاوز المحاكاة السطحية. فالمحاكاة (mimèsis)، رغم عدم غيابها الكامل، تفقد مركزيّتها وتصبح تحت تأثير العنصر الديونيسي، الذي يصفه نيتشه بأنه «الأصل الحقيقي» لجوهر العرض المسرحي. وهكذا، تنقلب المحاكاة الأرسطية إلى محض صورة زائفة، و«التصوير» نفسه يكتسب عند نيتشه سمة التمثيل المتجاوز للظاهر. إن هذا التصوير، وفقًا لنيتشه، ينقلب بفعل سلبية كامنة في كل تعبير فني. ولتوضيح هذه الفكرة، يمكننا الاستعانة باقتراح وولفغانغ آيزر الذي يدعو إلى استبدال مصطلح المحاكاة بمصطلح ألماني آخر هو Darstellung، والذي استخدمه نيتشه في كتابه «مولد التراجيديا»، يقول آيزر: «لهذا السبب، أميل إلى استبدال مصطلح representation الإنجليزي بمصطلح gDarstellun الألماني، لأنه أكثر حيادًا ولا يحمل الدلالات الميمتيكية الكاملة للأول. إن التمثيل هنا هو في آنٍ واحد عرض وأداء، لكنه أيضًا يرفض أن يكون نسخة مكررة للواقع».
إن التقديم (Darstellung)، كما يراه نيتشه، ليس إلا طريقًا مفتوحًا أمام المُشاهد ليتذوق عمق الشعور الديونيسي خلال العرض المسرحي. أما العنصر الأبوليني، الذي يسميه نيتشه «الظاهر الجميل»، فهو وهم يخفي جوهر الديونيسي طوال فترة التراجيديا. وهكذا يقول نيتشه: «إن الوهم الأبوليني يكشف عن حقيقته؛ فهو ليس سوى حجاب يستر التأثير الديونيسي العميق». وفي هذا السياق، يكتسب كلٌّ من opsis (العرض البصري) وmelos (اللحن الموسيقي) أهمية متزايدة، بحيث يصبحان العنصرين الأساسيين في التراجيديا، على عكس منطق muthos الأرسطي، الذي يلعب دورًا ثانويًا في «مولد التراجيديا». وقد أشار نيتشه في ملاحظاته التمهيدية للكتاب، خاصة في شتاء ١٨٧٠، إلى هذه النقطة بوضوح، قائلاً: «إنني أقف ضد أرسطو، الذي لم يعتبر العرض البصري والموسيقى إلا مجرد زينة لطيفة، وأثنى على الدراما المكتوبة». إن «التأثير الحقيقي» للتراجيديا، وفقًا لنيتشه، يكمن في قدرة العرض على نقل المشاهد إلى تجربة ديونيسية صافية، حيث تختلط مشاعر الرعب الباهر بالفرح الحادّ. إن هذه التجربة تحمل طبيعة مزدوجة ومتناقضة، فهي مزيج من الخوف والبهجة معًا، حالة تجعل الإنسان في مواجهة مباشرة مع جوهر الحياة ذاته. من هنا، أقترح أن هذا التأثير الديونيسي يشبه في طبيعته تلك الحالة التي تُعرف بـ«المالنخوليا» (melancholia)، وهي التي فُسرت منذ القدم كحالة نفسية مزدوجة، تجمع بين متناقضات الشعور. وكما أشار كل من كليبانسكي وبانوفكسي وساكسل، فإن الشخص المالنخولي يسير على حافة بين هاويتين: «حتى الموهوب من الكئيبين، كان يسير على طريق ضيق بين عُمقين مظلمين؛ فإما أن يقع في اكتئاب ساحق، أو تجرّه تهوّراته إلى هلاك لا رجعة فيه».
ومن جهة أخرى، يرى فرويد أن المالنخوليا تمثل ردة فعل طبيعية بعد فقدان ما يُحب، حيث تتخذ شكل «خسارة الذات» نفسها، فيقول: «لقد سقط ظلُّ الشيء المفقود على الذات، التي باتت تُحاكم نفسها كما لو أنها الشيء المفقود نفسه». هذا التشابه بين الحالة الديونيسية كما وصفها نيتشه والمالنخوليا كما وصفها فرويد ليس محض مصادفة؛ إذ كتب نيتشه في شبابه نصوصًا عديدة عن المالنخويا، أبرزها قصيدة صغيرة بعنوان «إلى المالنخوليا»، بل حتى داخل «مولد التراجيديا» نفسه، نجد إشارات مباشرة لاقتران المالنخوليا بجوهر المبدأ الديونيسي، حيث يقول نيتشه: «في وسط هذا التدفق الجارف للحياة، تقف التراجيديا منتشية، تصغي في نشوة سامية إلى أغنية بعيدة، أغنية حزينة، تروي أسماء الأمهات البدئيات للوجود: الوهم، الإرادة، والألم». نرى أن المالنخوليا التي وصفها نيتشه ليست حالة سلبية كما قد يبدو، بل هي حالة نفسية شديدة الإيجابية، إذ إن الإحساس بـ«فقدان الذات»، المصحوب بتناوب بين الألم العميق واللذة العارمة، يفتح أفقًا لمعرفة تحترم الاختلاف والجوانب المظلمة للوجود. هذه المعرفة، التي يمكن أن نطلق عليها «المعرفة التراجيدية»، لا تهدف إلى التطهير كما في النموذج الأرسطي، بل تنبثق عندما ندرك حدود السردية الأرسطية، تلك السردية التي تسعى لاحتواء كل شيء، لكنها تُقصي السلبية التي تتخلل النص الأدبي. وهنا يقول نيتشه عن المُشاهد: «مرتعشًا من الرعب، يكتشف عند تلك الحافة كيف تلتفّ المنطقية على ذاتها لتعضّ ذيلها — وهناك تولد معرفة جديدة، هي المعرفة التراجيدية». يتبين لنا أن هذا النموذج ليس فقط مختلفًا عن النموذج الأرسطي، بل يفوقه سعة وشمولاً. كما أشار العديد من الباحثين، فإن نيتشه، في معارضته ليوريبيديس وسقراط، يوجه نقدًا مباشرًا للنموذج الأرسطي في فن الشعر. وأبرز ما ينتقده نيتشه في التراجيديا اليوريبيدية، المستلهمة من المبادئ الأرسطية، هو جانبين اثنين: أولاً، يلوم نيتشه يوريبيديس لأنه، ولأول مرة خلافًا لأسخيليوس وسوفوكليس، أدخل العلاقات المنطقية والسببية بين أحداث الدراما، مما أضفى طابعًا عقلانيًا على التراجيديا. ثانيًا، ينتقد نيتشه الطابع الاصطناعي الذي أصبحت تتسم به الدراما اليوريبيدية، حيث يرى أن يوريبيديس قد أسرف في إبراز العواطف المسرحية بشكل متكلف ومبالغ فيه. وفي سياق نقد نيتشه للطابع الاصطناعي عند يوريبيديس، يندرج نقده الشهير لمفهوم التطهير (catharsis) كما قدمه أرسطو. فقد اعتبر نيتشه هذا المفهوم، المتأثر بنظريات جاكوب برنايس، نوعًا من الاستجابة الهستيرية غير المبررة، والتي تناقض الطبيعة الديونيسية الأصلية للتراجيديا الإغريقية. ومن ثم، فإن التراجيديا اليوريبيدية، التي صيغت وفقًا للنموذج الأرسطي، ليست في نظر نيتشه سوى صورة مشتقة ومفسدة من التراجيديا الأصلية، تلك التي كانت ترتكز على تجربة ديونيسية خالصة يعيشها المُشاهد في حالة من النشوة والذهول.
بعد أن تناولنا خصائص النموذجين الرئيسيين، أصبح لدينا الآن جميع العناصر اللازمة التي تمكننا من تحليل التقارب والاختلاف بين «التأثيرين» في التراجيديا: التطهيرفي النموذج الأرسطي والمالنخولي في النموذج النيتشوي. سيستند هذا التحليل إلى تفسير التطهيرالذي قدمه ويليام ماركس في كتابه قبر أوديب. أود أن أغني النقاش الذي بدأه ماركس، محاولين تكملته وربطه بالرؤية النيتشوية للتراجيديا التي نظرنا فيها سابقًا.
من خلال مقارنة نصوص أرسطو في فن الشعر والسياسة من جهة، والمشكلة رقم ٣٠ من أرسطو المزيف من جهة أخرى، يؤكد ويليام ماركس أن التطهير ليس سوى عملية إعادة توازن للأمزجة، تتعلق بشكل خاص بتسخين وتبريد الصفراء السوداء، وهي واحدة من أربعة أمزجة في الجسم وفقًا لتصنيف أبقراط. كما هو معروف، فإن الصفراء السوداء هي الترجمة الحرفية للمالنخوليا. بناءً على هذا التفسير، فإن الشفقة التي يشعر بها المشاهد تجاه أبطال التراجيديا ستسبب تسخينًا للصفراء السوداء، بينما تطور الحبكة سيؤدي إلى شعور المشاهد بالرعب مصحوبًا بتبريد للصفراء السوداء. وبالتالي، فإن هذا التتابع بين الشفقة والرعب بهذه الطريقة ينتج إعادة توازن للأمزجة التي هي موضوع التطهير. وهكذا، يختتم ماركس قائلاً: «جميع العناصر قد اجتمعت الآن لتعريف بدقة ما هو التطهير التراجيدي بحسب فن الشعر؛ إنها، لا أكثر ولا أقل، عملية توازن في مزيج الأمزجة: الشفقة التي تثيرها التراجيديا تجمع الحرارة في مزيج الصفراء السوداء؛ والرعب، بدوره، يخفف من هذا الفائض في الحرارة». إذًا، المالنخوليا والتطهير يتم تحفيزهما من نفس الظاهرة، وهي تسخين وتبريد الصفراء السوداء، وبالتالي هما مرتبطتان بشكل عميق. فما هي الاختلافات التي تفصل بين هاتين الحالتين؟
فرضيتي، التي تستند إلى الرؤية النيتشوية للتراجيديا، هي أن التطهير يمكن تفسيرها على أنها شكل من أشكال المالنخوليا «الاصطناعية» التي يتم إنتاجها عبر «الكرونولوجيا» الخاصة بالـmuthos. المتعة التي تثيرها، وتنقية الأحاسيس، تعتمد على إرادة الكاتب والقارئ في الاستمتاع بشكل مصطنع بنظام من القيم التي يعترفان بها كنموذج مثالي. ويعمل منطق الـmuthos هنا على نقل رؤية للعالم قائمة على احترام المعايير الاجتماعية وتبرير مدونة سلوك أخلاقية يتفق عليها الكاتب والمشاهد. إذن، التطهير سيكون شكلًا من «المالنخوليا الاصطناعية»، القائمة على إرادة الكاتب والمشاهد في مشاركة رؤية متوافقة مع الواقع الاجتماعي الذي يقبعان فيه. في المقابل، المالنخوليا تمثل نوعًا من التطهير«الطبيعية»، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التنقية، تبرز فيها النية المشتركة بين القارئ والكاتب في وضع أسس مناقشة التقاليد الموروثة وموضوعيتهم الخاصة. من خلال المالنخوليا، يفتح القارئ نفسه لفهم رؤية بديلة للواقع، ويكتسب القدرة على الوصول إلى «ما لا يُقال» في التجربة الأدبية. يتعرف الكاتب والقارئ معًا على الفجوة الثقافية والاجتماعية والزمنية التي تفصل بينهما، ولكن بدلاً من محاولة إزالتها، يتعلمان قبولها باعتبارها جزءًا طبيعيًا من التجربة الجمالية. معًا، يدركان حدود منطق الـmuthos، ويصلان إلى معرفة أعمق من تلك التي اعترف بها أرسطو، وهي المعرفة التراجيدية.
أود الإشارة إلى أن التأمل في العواقب الأيديولوجية والأخلاقية لهذا التصور للتأثيرين قد يقودنا إلى نتائج تتناقض مع الرأي السائد الذي يعتبر التطهير من العناصر الأساسية للفعل الديمقراطي. سيكون من المثير للاهتمام، كما أبرزت جيزيل سابيرو، أن نخضع بعض النظريات لبحوث تجريبية، والتي تعتبر خلافًا لفرضياتنا، التطهير الناتج عن السرديات أحد المكونات الأساسية للتعايش الجماعي. في هذا السياق، قد تقدم دراسة المالنخوليا باعتبارها عنصرًا من عناصر الانقطاع، التي تساهم في تحطيم المعايير الاجتماعية، رؤية منسقة حول الديناميكيات التي تقود إلى تشكيل وتفكك ما يسميه ستانلي فيش «المجتمعات التفسيرية». من جانبي، أعتقد أن البحث عن التطهير «الاصطناعي» يعد أحد أدوات الدعاية المستخدمة من قبل الأنظمة القمعية لتهيئة الآراء والمشاعر. وفي المقابل، فإن إنتاج السرديات التي تهدف إلى إثارة المالنخوليا «الطبيعية» لدى القراء يعد أحد أشكال المقاومة الأكثر فعالية ضد الأنظمة الاجتماعية المقيدة والسلطوية. خلاصة القول، أن المالنخوليا والتطهير مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا. التطهير«الأرسطي» يمثل شكلًا من المالنخوليا الاصطناعية، بينما المالنخوليا «النيتشوية» ليست سوى شكل خاص من التطهيرالطبيعية.
في خاتمة القول، أود أن أقدم مثالاً خاصًا لاستخدام مصطلح «التطهير» وفقًا للرؤية النيتشوية للسردية، على أنه شكل من التطهير الطبيعية. وأشير إلى الخطاب الشهير الذي ألقاه إيمري كيرتس بمناسبة تسليمه جائزة نوبل للأدب، الذي نُشر بالفرنسية عام ٢٠١٠ في مجموعة المقالات المعنونة «الهولوكوست كثقافة». في هذا الخطاب، يستحضر كيرتس تطهير شامل قادر على إعادة توحيد البشر بعد أن فصلتهم كارثة الحرب العالمية الثانية. ويُستحث هذا التوحد، كما لو كان معجزة، بواسطة ما يُعرّفها الكاتب المجري بأنها «واقع لا يمكن إصلاحه»: «إذا كانت الهولوكوست قد خلق ثقافة — وهو أمر لا يمكن إنكاره — فإن هدف هذه الثقافة لا يمكن أن يكون سوى أن الواقع الذي لا يُمكن إصلاحه يولّد روحيًا الترميم، أي التطهير. هذا هو ما ألهم كل ما أنجزته طوال حياتي». يمكنني الآن أن أفسر خطاب كيرتس كدعوة لاكتشاف القوة المفيدة للمالنخوليا، بوصفها نوعًا من التطهير الطبيعية القادرة على مصالحة الإنسان مع الآخر. هذا هو الدرس الذي يمكن استخلاصه من الانغماس في سحر ديونيسيوس، من كتاب «مولد التراجيديا»: «تحت تأثير سحر ديونيسيوس، لا يعاد فقط ربط علاقة الإنسان بالإنسان، بل الطبيعة المغتربة أيضًا — تحتفل من جديد بمصالحتها مع ابنها المفقود، الإنسان [...] الآن، في هذا الإنجيل للانسجام الكوني، لا يشعر كل واحد فقط أنه متحد، مُصالح، وممزوج مع الآخر، بل يصبح واحدًا مع الجميع».