مذكرة لقعر الجحيم

منذ الأزل والبشر مفتونون بالجنون، إذ تغلغلت صوره في أساطير الإغريق ومآسيهم القديمة، وامتلأت بها صفحات الفلاسفة والحكماء. في زمن القدماء، تفرّعت أشكال الجنون، بعضها أشرق كالنبوءة والوحي الشعري، واعتُبر نعمةً إلهية، بينما كان بعضها الآخر قاتماً كالمالنخوليا القاتلة. ولعل كلمة «مانيا - mania» في الإغريقية، التي تجمع بين الجنون والغضب، ترتبط بقرينتها «مانتيس - mantis» التي تعني العرّاف أو النبي. فكان للإلهام الشعري ولحالات النشوة الماجنة، كجنون ديونيسوس، مكانة متميزة كأشكال سامية من الجنون.

وقد ميّز أفلاطون بين أربع صورٍ لهذا الجنون المثمر: جنون النبوءة، وجنون الغيب، وجنون الشعر، وجنون العشق. وأطلق عليه «الجنون الإلهي» الذي إذا ما أُحسن توظيفه قاد إلى المعرفة الحقة، واعتُبر فضيلةً تفوق العقل الرتيب. لكن في الوجه الآخر لهذا العالم، ظهرت المالنخوليا المرضية التي أشار إليها أرسطو وشيشرون، وقد أثارت موجة من التقدير في عصور الإنسانية اللاحقة. فقد رأى أرسطو أن المالنخوليين ذوو مزاجٍ متقلّب وطبيعةٍ غريبة، لكنهم في الوقت ذاته يحملون في جوفهم شرارة الإبداع. وقال: «كل العظماء في الفلسفة والسياسة والفنون طالتهم يد المالنخوليا، وبعضهم غرق في أعماقها حتى ذاق الويل».

أما الـ«مانيا»، الجنون المندفع، فتميزت بشراستها وغضبها العارم. ولنا في هرقل، بطل الأساطير الإغريقية، مثالٌ ساطع على ذلك. فقد كان رمز القوة الجبارة، يجمع بين الطيبة والوفاء، لكنه لم يسلم من نوبات الغضب الهوجاء التي دفعت به إلى إيذاء أحبّ الناس إليه. فقد أرادت الآلهة هيرا أن تذيقه الجنون عقاباً، لكنه خرج من تلك المحنة أشدّ حكمةً، وأصبح مرآةً لمعاناة البشر وسيرتهم نحو المعرفة. وفي «آياس»، ذاك البطل الإغريقي الذي اشتعل جنونه بعد خسارته أمام أوديسيوس في سباقٍ على أسلحة أخيل، يتجلى صراع النفس مع الهزيمة. لم يحتمل آياس عار الخسارة، فانغمس في هلوساته، وهاجم قطيعاً من الغنم ظاناً أنها أعداؤه، وحين أفاق من جنونه، طعن نفسه بخنجره هرباً من العار. وقد أعاد سوفوكليس صياغة هذه المأساة، حيث كان للآلهة يدٌ في دفع آياس إلى الجنون كعقابٍ على كبريائه. أما أسخيليوس، فقد جسّد الجنون كعقوبة للذنوب في ثلاثيته «أورستيا». فقد طاردت الأرينياس أورستيس بجنونٍ لا يرحم، حين سفك دماء أمّه كليتمنسترا، وجعلت منه أسير ضميره الممزق. وكان هذا الجنون رمزاً للانتقال من عدالة الانتقام الفردي إلى عدالة القضاء الجمعي. هكذا، في عصور الإغريق، كان الجنون مرآةً يعكس تناقضات الإنسان بين الحكمة والطيش، بين الإبداع والدمار، وبين العقاب والفداء.

تأتي إلهات الانتقام، لتزرع الجنون والموت في قلب من تلطخت يداه بدماء أهله. فرغم أن قتل أورستيس لأمه كان ثأراً لما اقترفته من جرم، إلا أنه تجاوز بذلك الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها بنيان الحضارة. وكان لا بد لهذا الذنب أن يُكفّر عنه من خلال معاناة عميقة واعترافٍ صادق بالذنب. وهكذا، استطاعت إلهات الانتقام أن تُروّض عبر القضاء، حيث أعلنت الإلهة أثينا العفو بعد تصويتٍ متعادل، واضعةً بذلك حداً للعنة الأسرة. وحينها، تخلّت الأرينياس عن حقدها، وتحولت في نهاية المسرحية إلى «الإيومنيديس» الخيرّات، اللواتي مجّدن الإلهة أثينا.

يلفت هورست وإنغريد دامريتش النظر إلى تصورين مختلفين للجنون في العصور القديمة، وهو ما انعكس في التفكير النظري حول الظاهرة. الأول يراه عقاباً للذنوب والخطايا، وقد ساد هذا التصور من العصور القديمة حتى القرن التاسع عشر. أما الثاني، فيصوّر المجنون كحكيمٍ يرى ما لا يراه الآخرون، ويغوص في أعماق المعاناة الإنسانية. في هذا السياق، يقترب الجنون من مفهوم «الحكيم المجنون»، الذي يفهم بحدسه أسرار الوجود. ويشير الباحثان إلى أن تصوير الجنون أدبياً في العصور القديمة يتأرجح بين العقل والجنون، بين الرؤية الثاقبة والمسّ الشيطاني. فالنشوة العشقية، والوحشية الجامحة، وسُكر ديونيسوس الفوضوي، تقف في تناقضٍ صارخ مع الوضوح الأبولوني والسعي نحو الكمال الأخلاقي. وقد قدّم يوربيديس في مسرحيته «الباخوسيات» مثالاً مبهراً على هذا التناقض.

فالنساء الباخوسيات، هن عابدات الإله ديونيسيوس، ذلك الإله ذو الوجهين. في مظهره الخارجي، يبدو إله الخمر والبهجة، بينما يخبئ في أعماقه قدسيةً جادة وجانباً مهيباً يناقض إله الجحيم. في مسرحيته، يصور يوربيديس عودة ديونيسيوس إلى طيبة متنكراً في هيئة إنسان، لينتقم من أهلها الذين أنكروا ألوهيته. يثير الجنون في نساء المدينة ويأخذهن إلى جبل كيثايرون، وبينهن أغاو، أم الحاكم بنتيوس. ومن خلال الرسل، نعلم أن النساء يعشن مع الوحوش، يستخرجن الخمر بضرب الصخور بعصيهن، ويقتلن الحيوانات البرية ويمزقنها بأسنانهن. وعندما تُستفز، تُحدث تلك النساء دماراً لا يُقاوَم بقوةٍ تفوق البشر. أما بنتيوس، الحاكم الذي تجاهل نصيحة العرّاف تيريسياس وجده كادموس، فقد قرر مواجهة ديونيسيوس والنساء بالسلاح، فكان مصيره أن يُمزق أشلاءً بيد الباخوسيات، لتكون أمه أول من يضربه، ظانةً أنه أسدٌ قتيل. تعود أغاو إلى طيبة حاملةً رأس ابنها، معتقدةً أنه رأس أسد، ولا تدرك جريمتها إلا حين يساعدها والدها كادموس على رؤية الحقيقة. حينها يظهر ديونيسيوس، لأول مرة كإلهٍ في كامل هيبته، ليعلن المصير المحتوم لأهل طيبة. هكذا، قدّم يوربيدس في «الباخوسيات» صورةً متكاملة عن طقوس ديونيسيوس الجامحة، بوصفها حالةً قصوى من النشوة الأسطورية، لتظل المسرحية اليوم وثيقةً أساسية لفهم عبادة هذا الإله.

يتجلى الجنون في العصور القديمة أيضاً كجنون العشق، وهو ما عبّر عنه أفلاطون بما سمّاه «الجنون الإيروتيكي». وفي مسرحية «ميديا»، يمزج يوربيديس الجنون بالمطالبة المطلقة بالحب، حيث تتمحور المأساة حول امرأة يقودها الحب إلى الجنون فتقتل ابنيها انتقاماً من زوجها جايسون الذي خانها. وترى إليزابيث فرينزل أن يوربيدس هو أول من ربط بين ميديا وجريمة قتل الأطفال. فهذه الجريمة كانت النتيجة الحتمية لعشقها العميق لزوجها الخائن. وفي القرن الأول الميلادي، كتب الفيلسوف والكاتب الروماني سينيكا مسرحيته «ميديا»، حيث سعى إلى إظهار العواقب الوخيمة التي تنجم عن الأفعال الطائشة تحت وطأة العواطف الجياشة. عنده، اللاعقلانية تعني اللاإنسانية، كما لاحظت فرينزل، إذ أدخل سينيكا هذا النمط إلى العصور الحديثة حيث أُعيدت صياغته مراراً.

وكما في التصور القديم، تعاملت العصور الوسطى مع الجنون بصفته عقاباً مقدساً، لكنه كان في أحيانٍ أخرى وسيلة للتعبير عن النشوة أو الرؤى الإلهية. لذلك، كان جنون القديسين يحمل دلالة إيجابية. وكما يشير هورست وإنغريد دامريتش، فإن الجنون في الكتابات الدينية للعصور الوسطى لعب دوراً مشابهاً لدوره في المآسي القديمة، حيث جسّد العقاب على الانحراف الأخلاقي وفساد الروح. بلغ الاهتمام بالجنون ذروته في عصر النهضة، مع تصويره كشكلٍ خاص من وجود الإنسان الفردي، خصوصاً في أعمال كتّاب العصر الإليزابيثي. وكان وليام شكسبير من أعظم من استثمروا الجنون كوسيلة إبداعية. ففي مآسيه الكبرى مثل «هاملت»، «عطيل»، «الملك لير»، و«مكبث»، يصنع شخصيات خالدة وحكايات مثالية، مانحاً مواضيعه أبعاداً كونية وبصمةً فلسفية. تعكس هذه المآسي صراع الشر في العالم، وتضع النزاع داخل النفس البشرية، كاشفةً عن جرائم سياسية نابعة من الغطرسة والعمى، وعن سوء نقل السلطة وصراعات الأجيال، والانتقام الشخصي، وحبكات المكائد، ووهم العشاق. في «هاملت»، يتغلغل شكسبير في أعماق الروح البشرية إلى حافة الجنون. وكما يذكر معجم «الأدب والطب»، نجد في الأدب الحديث المبكر صوراً من الجنون الحقيقي، وجنون الوهم، والهوس، وحتى المحاكاة. يتظاهر هاملت بالجنون ليكشف الحقيقة وينتقم من عمه. أما الشخصيات الأخرى، فلكلٍ منها تفسيرها الخاص لهذا الجنون. يرى بولونيوس أنه نتيجة حبٍ لم يُقابل تجاه ابنته أوفيليا، بينما تلقي الملكة الأم باللوم على الحزن بسبب وفاة والده وزواجها السريع من كلوديوس. وغالباً ما وُصف هاملت، بناءً على طبعه المتأني، بأنه نموذج للسوداوية. أما الشخصية الوحيدة التي تعاني الجنون الحقيقي فهي أوفيليا. بعد أن يقتل هاملت والدها بطريق الخطأ ظاناً أنه الملك، تفقد عقلها. تغني أغاني تعكس الصراع الداخلي الذي تعانيه وتلمّح إلى السبب الذي أشعل جنونها، وهو الحزن. وفي النهاية، تنهي حياتها غرقاً في البحر، لتترك خلفها قصةً من الجنون والعشق والخذلان.

بحسب أوفيديو دريمبا، تُعد مسرحية «عطيل» درة المسرح الشكسبيري، وأوضح أعماله بناءً وأكثرها تجانساً وإحكاماً. يمثل عطيل أسمى شخصيات شكسبير، فهو البطل الذي زوده الكاتب بأعلى الفضائل الأخلاقية. رجل شجاع متزن، كريم وشهم، قائد عظيم ذو طبيعة متواضعة وروح عادلة. لكنه يقع ضحية لثقته المفرطة بالبشر، وخاصةً ثقته في أياغو. بحيلة خبيثة، يُدخل أياغو سم الشك في أمانة ديدمونة، فتتجسد مأساة المسرحية في معاناة عطيل، وخيبة أمله، وعذاب روحه. إنها مأساة الثقة المغدورة، ومأساة فقدان الإيمان بالناس وبالعدل والصدق. وفي انهياره أمام خيبة الأمل العارمة وعمى الغيرة، يقتل ديدمونة معتقداً أنه يثأر للصدق والعدالة اللذين خانهما. ثم، عندما يكتشف خداع أياغو وبراءة ديدمونة، يقدم على الانتحار. 

أما في «حكاية الشتاء»، فإن الخوف نفسه من خيانة الزوجة يدفع بطل المسرحية إلى الجنون. وفي «الملك لير»، يصبح البطل ضحية وضعه المأساوي المحتوم. عمى بصيرته تجاه ما يجري حوله، والأفعال الشريرة التي يحيكها خصومه، تقوده إلى الجنون. بعد أن قسّم مملكته بين ابنتيه وطرد الثالثة، كورديليا، يُحرم لير من مملكته ويُنفى بدوره. ومن هنا تبدأ كارثته الأخلاقية بالانهيار. يصدمه جحود ابنتيه، لكنه يعاني أكثر من إدراكه المريع لحقيقة أن الإنسان، في مواجهة قسوة العالم المادي والأناني، يصبح بلا قوة أو مكانة، مجرد كائن فقير وضعيف ومهجور. يدرك لير الآن كم كان مخدوعاً في رأيه عن نفسه وعن السلطة، ومدى ظلمه للأمانة والحق والمشاعر الإنسانية النقية. تأخذ مأساته أبعاداً كونية، فتتحد الطبيعة كلها مع عذاب روحه. ويرى دريمبا أن مناجاة لير في مشهد العاصفة هو من أروع وأعمق وأشد الصفحات تأثيراً في المسرح العالمي بأسره.

أما مأساة «ماكبث»، فتبرز أن الشر ينشأ من القوانين غير العادلة في العالم، وأيضاً من الإنسان نفسه. نبيل اسكتلندي، تلتهمه نار الغرور والطمع في الحكم، بتحريض من زوجته الليدي ماكبث، يقدم على قتل الملك. يظهر شكسبير أن قوة الشر لا حدود لها، فبمجرد أن يسلم الإنسان نفسه للشر، يستعبده تماماً. يصبح ماكبث أداة عمياء في يد الشر، وتكمن مأساة المسرحية كلها في هذا المصير البائس الذي يحاصر روحه. ورغم كونه قاتلاً، إلا أن المشاهد لا يكرهه، بل يشعر بالشفقة عليه، لأنه يرى فيه ضحيةً معذبة للندم والعجز عن العودة إلى طريق الخير. ولهذا، في النهاية، يرحب بالموت كخلاص من العبء الثقيل الذي وضعه على نفسه. 

تكشف مأساة «ماكبث» أن الإنسان، المتمتع بضمير أخلاقي، يدين نفسه لعذابٍ شديد بارتكاب الشر. وبينما يغرق ماكبث ببطء في الجنون، ويلاحقه الهوس، تظل مفاهيم الأخلاق الفردية حاضرة. فالعبء الذي تحمله أفعالهما يطغى بطرق مختلفة على ماكبث وزوجته. الليدي ماكبث، التي كانت امرأة قوية لا تعرف الرحمة، لا تجد السكينة بسبب تواطئها في جريمته، فتسير أثناء نومها في أروقة القصر حتى تنهي حياتها بيدها. أما ماكبث، فيعيش في وهم، ويصبح طاغية غضوباً، يهجره من حوله واحداً تلو الآخر، حتى يلقى حتفه في موت عنيف. وكما في مسرحياته، يصف شكسبير في أشعاره الدسائس التي تقود إلى الجنون بكل تفاصيلها وظلالها. يكشف عن الوجهين السعيد والمظلم للحب: الحب الجسدي المبتذل، والخداع، والمرض، والشغف.

في الأدب الحديث، نجد أيضًا العديد من النصوص التي يظهر فيها موضوع الجنون. يصف ويليام فوكنر برقة في روايته الصوت والغضب، التي تُعتبر الآن من الأعمال الهامة في بداية الحداثة ومن أعظم روايات الأدب الأمريكي بشكل عام، مشاعر وأفكار ولغة بينجي كومبسن، الرجل ذو الإعاقة العقلية. لتصوير انحدار عائلة كومبسن، تعتمد الرواية على أربعة وجهات نظر مختلفة. الثلاثة الأولى هي وجهات نظر لأفراد العائلة، بينما الرابعة هي رؤية الراوي المجهول. في الجزء الأول من الرواية، يُصوَّر يوم عادي في حياة عائلة كومبسن من منظور بينجي العقلي، الذي أصبح بالغًا ويتواصل مع أسرته بالتأوهات والأنين والصراخ الحاد. جميع إدراكاته لا تعدو أن تكون مجرد ذكريات عابرة؛ الناس والأشياء تظهر في مجال رؤيته من مكان ما وتختفي بنفس الطريقة الغامضة. 

أما الكاتب النمساوي آرثر شنيتسلر، فيصف في آخر أعماله، الرواية القصيرة الفرار إلى الظلام، فقدان الاتصال التدريجي مع الواقع لشخصيته الرئيسية المهووسة بفكرة أن شقيقه قد أقدم على الانتحار. كُتبت الرواية بين عامي ١٩١٢ و١٩١٧ وكان عنوانها الأصلي الجنون (Wahn). قد يُنسب تأخر نشر النص إلى تصوير شنيتسلر لعلاقته المتوترة مع شقيقه يوليوس. لكن الفقر والجوع يمكنهما أيضًا أن يدفعا الناس إلى الجنون، كما يظهر في رواية الكاتب الأمريكي جون ستاينبك عناقيد الغضب وروايته الفئران والرجال. 

وفي مسرح العبث، يُميز الجنون التصور نفسه للعالم الذي يبدو أنه لا يحمل معنى عقلاني. بالنسبة للأبطال، قد يعني هذا أيضًا إدراك عبثية محاولاتهم لإضفاء معنى على وجودهم. في هذا السياق، يُعد مسرح الكاتب الفرنسي جان جينيه «الرقص» مثالاً على ذلك. كما يخدم الجنون أيضًا كأداة نقد اجتماعي. أصبح الشاعر الأمريكي وآخر ممثل بارز لجيل البيت، ألين غينسبرغ، مشهورًا بقصيدته «عواء» وغيرها من القصائد، التي يعبر فيها عن احتجاجه ضد المجتمع الميكانيكي الجماهيري بلغة مجازية. قصيدة «عواء» مخصصة لكارل سولومون الذي التقى به غينسبرغ في مستشفى الأمراض النفسية. جاء عنوان القصيدة من حقيقة أنه عند تلاوتها، تعطي الجزء الأول منها انطباعًا عن عواء أو صراخ ممتد. إنها نقد لاذع للمجتمع الأمريكي، الذي يرى غينسبرغ أنه يسبب الجنون، خاصة من خلال تأثيرات المدينة، والمال، ونتائج النظام الرأسمالي. 

كما يلاحظ قاموس الأدب والطب (Literatur und Medizin)، أنه في السبعينيات من القرن الماضي، تم الوصول إلى أقرب ارتباط بين التمثيلات الأدبية للذهان الفصامي والنظريات الطبية التي كانت تمر بأزمة، وذلك في الثقافة الألمانية. وتُعد الوظيفة الأدبية للتمثيل النفسي كحالة نقدية للحالة الطبيعية، المفترضة صحياً، متماشية مع النظريات الطبية السائدة في تلك الفترة. إذا كانت الظواهر الذهانية في بداية القرن العشرين تمثل تجارب للموضوع الحديث ذاته، فقد أصبح الجنون الآن تجربة حدودية مفيدة، مضادة للعالم الطبيعي، وترتبط بعالم مجازي في مجال قصص السفر والمغامرات. في مجال العلوم، انتشرت النظريات النفسية-الاستجابية والاجتماعية حول ظهور الأمراض الفصامية في علاقة مع العوامل البيئية (أحداث الحياة). يمكن أيضًا العثور على صورة لمرضى الفصام، الذين تفقد فيها الواقع معالمه تدريجيًا، في نص «كوتيلوف» (Kotilow oder Salto mortale nach innen) للكاتب والفنان الألماني كورت سيغل. بطل روايته متمركز تمامًا حول ذاته، سجين دوافعه الذاتية، ويختبر العالم فقط كاحتمال خيالي. أما الكتاب الأول للكاتبة النمساوية بريجيته شفايغر «كيف يدخل الملح إلى البحر»، فقد أصبح من أكثر الكتب مبيعًا. من منظور الراوي بضمير المتكلم الذي يحمل إشارات سيرة ذاتية، تروي القصة فشل زواج برجوازي، مما يثير مشاكل نفسية للبطل كرد فعل على قيود المجتمع ومتطلباته. في كتابها «سقوط»، تروي الكاتبة تجربتها الشخصية في الطب النفسي.

في سن الأربعين، قرر الطبيب السويسري والكاتب والتر فوغت دراسة الطب النفسي من أجل علاج نفسه. في روايته «الطائر على الطاولة»، يركز على الحياة الداخلية لبطل روايته، يوهانس ليبس، مساعد بائع الكتب الذي يعاني من القلق والوسواس. في ثمانينيات القرن العشرين، يمكن ملاحظة أسلوبية وتجميلية لموضوع الجنون في الأدب الألماني. في هذا السياق، يعكف الكاتب النمساوي توماس بيرنهارد، الذي كان يعاني هو نفسه من الاكتئاب، على تحليل تجليات الفنان المصاب بالفصام في روايته الأولى «الثلج». وفي روايته «الارتباك»، وكذلك في مسرحياته «حفلة مع بوريس» و«الجاهل والمجنون»، يقدم وصفًا مفصلاً لأعراض الجنون المختلفة. في قصته القصيرة «المتعثرون»، نجد أن بطل القصة المريض عقليًا هو عبقري. يُنظر إلى مرض الشخصية المركزية كنوع مميز من الغرابة، وهو ما يفسر الازدراء الذي يكنه للبشر الأصحاء.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق