«أيون» لأفلاطون

 

كثيرة هي الكلمات النبيلة التي يتحدث بها الشعراء عن أفعال البشر؛ ولكن كما قلتَ أنت عن هوميروس، فإنهم لا يتحدثون عنها وفق قواعد الفن، بل هم ملهمون ليُصدِروا ما تدفعهم إليه ربة الشعر، وذلك فقط؛ فعندما يُلهَم أحدهم، يصنع أهازيج ديثيرامبية، وآخر يُنشئ أناشيد مدح، وآخر يُنشد مقاطع كورالية، وآخر يُنظِم أبياتًا ملحمية أو هجائية. والذي يُحسن نوعًا من الشعر لا يُحسن غيره، إذ ليس بالفن يغني الشاعر، بل بقوة إلهية تُسخِّره.

 أفلاطون في محاورته «أيون» يقدّم تأملاً عميقًا حول ما يدركه الشاعر أو المنشد من فنّه الشعري، ويخلص إلى الجواب: «لا شيء». إذ نرى سقراط يثبت أن أيون، المنشد، لا يستطيع أن يقدم تفسيرًا مرضيًا لما يعرفه في أشعار هوميروس التي يتلوها. وعليه، يقترح سقراط أن الشعراء والرواة، لافتقارهم إلى الفن والمعرفة، لا ينتجون أو يتلون الشعر إلا بفضل «منحة إلهية». هذا التفسير، في قراءة عادية، يبقى محصورًا في النظري والمعرفي، حيث تنصب المسألة على علم ومهارة الشعراء والرواة. لكن هنا سأقدم قراءة مغايرة، إذ تنظر إلى «أيون» كعمل أخلاقي بالدرجة الأولى لا معرفي. فالحديث ليس عن ما يعرفه الشعراء والرواة في سياق إنتاجهم أو تلاوتهم أو تفسيرهم للشعر، بل عن الآثار الأخلاقية التي تنجم عن تجاوز الإنسان حدوده المعرفية. وهنا تتجلّى شخصيتا سقراط وأيون بأهمية كبرى. إنهما يتقابلان في الحوار في تناقض صارخ، إذ نرى أيون شخصية هزلية ضاحكة، نازِلة في الأخلاق، غير مدركة لحدودها المعرفية، بينما سقراط يتسامى بحكمته، ذو خلق عالٍ، ملتزم بحدوده المعرفية، ولا يجعل نفسه موضع سخرية.

وهذا التباين يتجلى في مبدأ دلفي «اعرف نفسك»، وهو مبدأ أخلاقي عميق. فأيون، لفقدانه لهذه المعرفة الذاتية، ينزلق في مبالغات وادعاءات سخيفة، مثل زعمه بأن الرواة هم أفضل القادة العسكريين. غاية الحوار إذن ليست مجرد مقارنة معرفية، بل لبيان حالة أيون المضحكة مقابل جديّة سقراط. سقراط، باحترامه لحدوده المعرفية، لا يقع في فخ السخرية. وفي هذا السياق، لا يُقدَّم «أيون» كحوار برهاني، بل كحوار أدائي. إن سقراط لا يسعى هنا إلى إثبات أطروحته حول الشعر كإلهام إلهي، ولا يهدف إلى القول إن الشعراء والرواة يفتقرون إلى الفن أو المعرفة، بل يجسد الحوار لقاءً بين نمطين متباينين من الكينونة الأخلاقية. إنه عرض للمضحك والجدي، للدنيء والسامي، للأدنى أخلاقيًا والأرفع أخلاقيًا في محاورة مباشرة، فيُترَك للقارئ الخيار ليتفق مع سقراط بأن السمو الأخلاقي أفضل من الانحدار.

ورغم أن القراءات المعرفية للحوار مقبولة وتحظى بالاحترام، إلا أن هذه القراءة الأخلاقية قد تقدم طرقًا أفضل لفهم الروح الدرامية لهذا الحوار. وفي هذا المقال، أُظهر كيف تنسجم هذه القراءة مع مقاطع هامة من ثلاثة حوارات أخرى لأفلاطون: ١) التفضيل الممنوح للمأساة على الملهاة في «القوانين»، 2) التباين بين الشخص الهزلي والجدي في «فيليبوس»، ٣) أهمية المعرفة الذاتية والحكمة في «الدفاع». جيرالد إلس يتبع القراءة التقليدية لـ«أيون»، حيث يرى أن سقراط ينفي أي معرفة أو فن لدى الشعراء، ويقترح بديلاً أن الشعراء مستوحون من الآلهة. لكن إلس يلاحظ أن هذا «الدفاع» عن الإلهام الإلهي مملوء بالسخرية. فهو يرى أن أفلاطون هو «واعظ العقل» الذي يسعى إلى فضح الشعراء ومفسريهم ككائنات «غير عقلانية تمامًا، لا تعلم شيئًا مما تفعل». ووفقًا لإلس، فرضية الإلهام الإلهي ما هي إلا طريقة ساخرة غير مباشرة للسخرية من الشعراء وتجهيلهم العميق. ففي نهاية الحوار، يقول أيون ببراءة إن الأفضل أن يكون المرء إلهيًا بدلاً من أن يكون فنيًا، غير مدرك أن سقراط يستخدم الألقاب الإلهية فقط للسخرية منه. ووفق قراءة إلس، فإن هذا يؤكد فقط ازدراء أفلاطون الساخر للشعراء والرواة الذين يجهلون حتى سذاجتهم الخاصة.

ومع ذلك، ينتقد إلس هذه السخرية بأنها «سابقة لأوانها». ويشير إلى ذلك، حيث يقدم سقراط دفاعًا مطولًا عن الإلهام الإلهي كمصدر لتمكن أيون من تلاوة هوميروس، ويقول: «ليس من عادة سقراط أن يخوض في حديث مطول قبل أن تبدأ المحاورة حقًا، أو أن يشرح للناس لماذا يفعلون ما يفعلون قبل أن يسألهم عن سبب فعلهم». ويضيف أن فرضية الإلهام الإلهي تُستنتج فقط «سلبًا» من فشل أيون في تفسير قدرته على تلاوة ومناقشة هوميروس. تتفق قراءتي مع إلس في أن دفاع سقراط عن الإلهام الإلهي مليء بالسخرية، ولكنني أرى أن السخرية تعمل بطريقة مختلفة ولغاية أخرى. فبينما يرى إلس أنها هجوم مفرط وشاب على الشعراء وطرقهم «اللاعقلانية»، فإنني أعتبر هذه السخرية أداة تعليمية لطيفة تبرز الفرق بين سقراط وأيون ككينونات أخلاقية. في هذا السياق، لا يهتم سقراط بصحة أي نظرية حول كيفية إنتاج الشعر بقدر ما يهتم بسلامة الروح. فالإلهام الإلهي هو فرضية مؤقتة ساخرة تتقدم الحوار وتظهر بشكل أفضل التباين بين الجدي والمضحك.

وحينما يوافق أيون بحماس مع سقراط على أنه يتلو هوميروس بوحي من الإلهام، رغم أنه كان قد وافق سابقًا بنفس الحماس على أنه يتلو هوميروس بفضل الفن، تظهر طبيعته المضحكة جلية. ووفقًا لقراءتي، فإن أفلاطون يجعل سقراط يوافق ساخرًا على الإلهام الإلهي ليفضح سخافة أيون ونقص معرفته الذاتية، لكن غاية أفلاطون هنا هي تعليم القارئ وليس تحقير المنشد. إذ يُعرض أمام القارئ صورة درامية للشخص المضحك، الذي يفتقر إلى المعرفة الذاتية ويدلي بادعاءات سخيفة بحماسة ساذجة. قد يراها البعض هجومًا على الشعراء والرواة لقصورهم المعرفي، لكن قراءتي ترى في ذلك تحذيرًا من العواقب الأخلاقية التي تنشأ من تجاهل الإنسان لمبدأ دلفي: «اعرف نفسك». المشكلة في أيون ليست مجرد فشله في تفسير كيفية تلاوته ومناقشته لهوميروس، بل تكمن في فشله في معرفة نفسه، ومن ثم تحمله لروح مضطربة مليئة بالتناقض والجهل والسخرية.

يبدأ سقراط في محاورة «فيليبوس» بالتطرق إلى المضحك، إذ يقول إن «المثير للسخرية» هو نوع من الرذيلة التي تحمل في ذاتها اسم الحالة، وهي تلك الرذيلة التي تناقض ما ذكر في نقش دلفي: «اعرف نفسك». فالمضحك هو الجهل بالنفس. ويرى سقراط أن هذا الجهل يتخذ ثلاثة أشكال: أولها جهل المرء بثروته، والثاني جهل المرء بخصائصه الجسدية؛ إذ يظن بعضهم أنهم أغنى مما هم عليه أو أجمل مما يبدو لهم. غير أن الأخطر هو الجهل الثالث، جهل الإنسان بفضائل روحه، حيث يعتقد المرء أنه يتحلى بفضائل أكثر مما يملك في الحقيقة، خصوصاً فضيلة الحكمة. وهذه الحالة، التي لا شك أنها شريرة، قد تكون في الضعفاء كما في الأقوياء. غير أن الضعيف وحده من يكون مضحكاً، لأنه حين يُسخر منه لا يملك أن ينتقم، بينما القوي يكون «مخيفاً ومكروهاً»، إذ إن الجهل في القوي يصير بغيضاً مشيناً.

فالطاغية الجاهل بنفسه يشبه عدوًا يطغى ويدمر، لأن جهله بالمعرفة الحقيقية يحوله إلى قوة تدمير خطيرة. أما الضعيف، فإن جهله يجعله مادة للسخرية والهزل، لأنه لا يملك القدرة على إحداث ضرر كبير، ولا يخشى المرء من الانتقام منه. وبذلك يكون المضحك هو من يجهل نفسه ولا يملك القوة ليرد على من يسخر منه.

ثم أقول إن من أبرز معالم معرفة النفس إدراك حدود المرء المعرفية، تلك الحدود التي إذا تجاوزها المرء صار ادعاؤه سخيفاً وغير مبرر. والسخف قد يكون مضحكاً أو خطيراً بحسب الشخص الذي يقع فيه. فكما يقول سقراط، الطاغية الجاهل «بغيض ومشين» ليس بسبب خطأه في أمر معين، بل لأن جهله يؤدي إلى ظلم فادح. وهذا ليس بمادة للضحك. أما الضعيف الجاهل بنفسه فهو مثار للسخرية، لأن جهله لا يحمل في طياته الضرر الذي يحمله جهل الطاغية.

ومن هنا يحدد سقراط الشخص المضحك: إنه الضعيف الذي يجهل حدود معرفته.

ويمتد هذا التمييز بين المضحك والجدي إلى الكتاب السابع من «القوانين»، حيث يفرق الغريب الأثيني بين الأشكال المقبولة وغير المقبولة للفنون التمثيلية في المدينة المثالية. ويقول إن الأشكال الهزلية من هذه الفنون لا مكان لها في المدينة الفاضلة. بل إنه يرى حتى أن أعمال الشعراء المأساويين قد تتعارض مع الفلسفة والسياسة الجادة. يتخيل الغريب مجموعة من الشعراء المأساويين يطلبون الإذن بالتمثيل في المدينة، ويقترح أن يجيبهم المشرعون الفلاسفة بما معناه: «نحن أنفسنا، بأقصى ما نستطيع، نحن مؤلفو مأساة فائقة الجمال والخير، إذ أن نظامنا بأسره يمثل الحياة الأجمل والأفضل، وهي المأساة الحقيقية». وهؤلاء المأساويون الذين يمثلون «الحياة الأجمل» ينظرون بشك إلى المأساويين التقليديين. فلا يُسمح لهم بالتمثيل إلا إذا كانت أعمالهم تكمّل أو تفوق في قيمتها ما يقدمه الفلاسفة.

وفي المدينة المثالية التي يقترحها الغريب، يكون النوع الوحيد المقبول من «المأساة» هو ذلك النوع الذي يعكس الحياة الفاضلة، أو يتكامل مع تمثيلها. ومن المثير أن نجد هنا أن كلمة «المأساة» قد أخذت معنى جديداً غير المعهود. يرى «ريتشارد باترسون» أن هذه «المأساة الأفلاطونية» تختلف كثيراً عن المأساة الأثينية التقليدية، لكنها تشترك معها في سمة واحدة: «المأساة هي تلك الدراما التي تعالج المسائل الهامة بأسلوب جاد ورفيع». فكما تسعى المأساة التقليدية إلى الجدية والسمو، فإن تمثيل «الحياة الأجمل» في المدينة الفاضلة يدعي الجدية والتفوق على ما يراه مضحكاً أو سطحيًا. وبهذا المعنى، يُعاب على المأساة التقليدية أنها ليست جادة بما يكفي، وأنها ليست «مأساوية» بحق.

ويستمر الغريب في اقتراح أن يختبر الشعراء المأساويون التقليديون أعمالهم بجانب أعمال الفلاسفة، فإن كانت تساويها أو تفوقها سُمح لهم بأداء، وإلا فلا.

وكما يشير «باترسون»، فإن الغريب يرى نفسه مؤلفاً لأعظم «مأساة» على الإطلاق، وهي مأساة بناء المواطنين الفاضلين، إذ أن هذه المهمة هي الأشد جدية وأهمية. وفي هذا السياق، يصبح سقراط هو الشخصية المأساوية الأعظم، لأنه «كان الرجل الأعدل والأحكم في زمانه»، أي أنه كان الرجل الأكثر جدية في عصره. ولا يعد سقراط شخصية تراجيدية بالمعنى التقليدي، بل بالمعنى الذي تقدمه «القوانين». فموته في «فايدون» ليس لحظة مأساوية تقليدية، لأن الموت عند سقراط ليس شراً، بل هو تحرر للنفس من قيود الجسد الأرضية التي تعوقها عن بلوغ الحكمة الحقيقية. فالمأساة في «فايدون» ليست في المصائب، بل في مشهد إنسان جاد يؤدي المهمة الجادة للفلسفة.

ومهما كان موقع المأساة التقليدية في «القوانين»، فإن التمييز بين الجدي والمضحك يظل مهماً للغاية. ومن الغريب أن نجد الغريب الأثيني يحدد شكلاً مقبولاً للمأساة لكنه لا يعترف بأي شكل مقبول للملهاة، بل يرفضها باعتبارها لا تليق بالشخص الفاضل. فهو يعيد تأهيل كلمة «مأساة» لكنه لا يفعل الشيء نفسه مع كلمة «ملهاة». ويرجع ذلك إلى أن الغريب يفضل الجدي على المضحك. فالمأساة التقليدية تدعي الجدية، وإن كان الغريب يراها غير كافية، لكنه على الأقل يعترف بأن هدفها شريف. أما الملهاة، فإن هدفها عرض المضحك، وهذا في حد ذاته غاية غير شريفة، فلا يمكن أن يكون لها شكل مقبول في المدينة الفاضلة.

لكن الأمر ليس بالبساطة المتخيلة. يُميز الغريب الأثيني بين تعلم المضحك وبين ممارسة ما تم تعلمه. إنّ المقطع المعني يستحق أن يُقتبس بالكامل:

فليس من الممكن أن يتعلم الجادّ دون الهزلي، أو أيّ واحد من طرفي النقيضين دون الآخر، إذا أراد أن يكون حكيماً؛ ولكن من المستحيل أيضاً ممارسة كليهما، إن أراد أن يشارك في شيء من الفضيلة؛ في الحقيقة، إنما يجب أن يتعلمهما للابتعاد عن فعل أو قول أي شيء يُضحك، بسبب الجهل، حين ينبغي ألا يفعل.

لذا، ليكون المرء حكيماً، يجب أن يكون جاداً، ولكن لكي يكون جاداً، عليه أن يعرف ما الذي يُشكل الشخص الجادّ، ولا يمكن معرفته إلا بالتزامن مع معرفة نقيضه، الهزلي. ومن ثم، ليكون حكيماً، يجب أن يعرف المضحك، دون أن يكون ضاحكاً. ذلك الشخص يُدرك الهزلي ويعرف كيف لا يأخذه على محمل الجد.

لكن الأمور تزداد تعقيداً، فالمكانة الجادة والرفيعة مُعطاة بالأفضلية على الهزلي والمضحك، غير أن الأخير ليس محجوباً بالكامل ولا يُدفع بعيداً عن المدينة. يقول الغريب إن «العبيد وأُجراء الأجانب» يمكنهم أن يؤدوا الملاهي، ولكن لا ينبغي للمواطنين الشرفاء أن يفعلوا ذلك أبداً. وعلاوة على ذلك، يجب أن يكون هناك دائماً «عنصر جديد في عروضهم المحاكية». بمعنى آخر، ينبغي ألا تُؤدَّى نفس العروض الملهاتية مراراً، فقد تُخدر المتفرجين وتسبب لهم نسيان مدى هزلية هذه العروض. يجب أن يُتعلم الضحك بطريقة تُعزز جدية النفس. ورغم كل ذلك، تُعطى الملهاة مكاناً في مدينة الغريب، حتى وإن كانت مكانة ثانوية، مُنظَّمة بشكل صارم. ويبدو أن موقعها أقل تهديداً من ذلك الذي يُعطى للمأساة التقليدية. كما تم مناقشته أعلاه، يجب على «المأساويين غير الأفلاطونيين» أن يُرضوا قضاة المدينة بأن درامتهم جادة ورفيعة مثل تلك التي تبني «أجمل وأفضل حياة». إذا لم تكن درامتهم مكمِّلة أو أعلى من هذه «المأساة الأفلاطونية»، فلن يُسمح لهم بدخول المدينة. أما الأمر مختلف بالنسبة لـ«التمثيل الملهاتي». يُمنع المواطنون الأحرار من مثل هذا التمثيل، ويجب عليهم تجنب رؤية العروض المتكررة، ولكن بخلاف ذلك، لا يحتاج الكوميديون لتبرير أنفسهم أمام القضاة. وهكذا، يبدو أن الغريب يعتقد أن الملهاة التقليدية المُنظمة بشكل صحيح أقل ضرراً على المدينة من المأساة التقليدية.

في قراءتي لـ«أيون»، أُظهر أن سقراط يُقدَّم كـ«الرجل الحكيم» الذي يعرف الهزلي دون أن يكون هو نفسه كذلك. إذا كان الغريب محقاً في أن المرء لا يمكنه معرفة عضو واحد من زوج من الأضداد دون معرفة نقيضه، فإن سقراط يجب أن يعرف الهزلي، إذ يُظهر سقراط نفسه جاداً، ومعرفة الجادّ بجانب نقيضه ضرورية لتكون شخصاً جاداً ورفيعاً. بينما تُصوَّر شخصية أيون على أنه مُضحك تماماً، لأنه يفتقر إلى معرفة الجادّ. وبحسب منطق الغريب، فإنه يفتقر أيضاً إلى معرفة الهزلي، ويبدو أن الحوار يُظهر هذا. إذ يفتقر أيون إلى معرفة سواء الجادّ أو الهزلي، ويقدم كل نوع من التعليقات السخيفة والعبثية، مما يكشف عن نفسه كشخص مُضحك بعمق. ونظراً لأن هذا الجهل بالجادّ والهزلي يتعلق بشخصيته الخاصة، فإن مسألة معرفة الذات تكتسب أهمية كبرى. كما تم مناقشته سابقاً، فإن سقراط في «فيليبوس» يقول إن الهزلي ينشأ من نقص المعرفة الذاتية الدلفي. من خلال فشله في إرضاء المبدأ المنقوش في دلفي، يبقى أيون جاهلاً تماماً بنفسه. ووفقاً لـ «فيليبوس»، فإن هذا هو ما يجعله مُضحكاً، أي عدم وعيه بحدوده المعرفية وعدم قدرته على التعرف على سخافته الخاصة. بينما يُعتبر سقراط، من ناحية أخرى، عكس أيون تماماً. فهو جاد بفضل احترامه للكتابة الدلفية، لأن هذه المعرفة الذاتية تتيح له التعرف على حدوده المعرفية ومن ثم الاعتراف بالمدى الحقيقي لجهله. فهو واعٍ أن تجاوز هذه الحدود هو شيء مُضحك. يمتنع عن الإدلاء بمزاعم سخيفة، كما لا يشارك في مدح نفسه بشكل مُضحك. بمعرفته بما سيكون عليه الشخص المُضحك في ذاته لو كان موجوداً، يجب أن يعرف أيضاً ما سيكون عليه نقيضه، الشخص الجاد، في ذاته. باقترابه من الحدود المعرفية التي تحددها معرفته الذاتية، يتمكن سقراط من أن يكون جاداً، على الأقل بقدر ما يمتنع عن مزاعم عبثية، فذلك هو عمل جاد ورفيع.

أنتقل الآن إلى فحص أدق لـ«أيون». خلال هذه القراءة، أبقي في ذهني السؤال التالي: بأي معنى يُعتبر «أيون» حواراً ملهاة؟ يزعم إلس أن «عبقرية أفلاطون كانت ملهاتية أكثر من كونها مأساوية»، ويشير إلى «أيون» كأحد «روائعه الملهاتية».

إذا كانت قراءتي لـ«أيون» مناسبة، فإنها ملهاتية فقط بقدر ما تمثل شخصية مُضحكة تتعرض للسخرية من شخصية جادة تماماً، تعرف الهزلي أيضاً. وفقاً لرؤية الغريب في القوانين، لا يمكن أن يكون سقراط مُضحكاً، وإلا فلن يكون جاداً ورفيعاً. ومع ذلك، يمكنه معرفة الهزلي، بل يجب عليه ذلك إذا كان يعرف الجادّ، وهذه المعرفة تُمكنه من اكتشاف الهزلي في أيون وإخضاعه لنقد ساخر. ومن ثم، فإن سقراط لديه إحساس عميق بالملهاة، لكن أزعم أنه ليس هو نفسه ملهاتيًا.

لا بد من الاتفاق مع إلس على أن السخرية في «أيون» كثيفة، حتى وإن لم يرَ المرء أنها تعمل بنفس الطريقة التي يرها هو بها. يبدأ الحوار دون تردد في تأسيس توجه سقراط الساخر نحو الغرور الساذج لأيون. يفتتح الحوار بسقراط الذي يُرحب بأيون ويستمع إلى كيف أن المنشد قد فاز بجائزة أولى في مسابقة، حيث يقول سقراط: "«لقد كنت دائماً أُغبطكم، أيها المنشدون، يا أيون، لفنكم». يُفسر سقراط «غيرته». ليس فقط أن المنشد يجب أن يكون مزيناً وجميلاً، بل يجب أن يكون قادراً على فهم معاني عدد من الشعراء الجيدين، وإلا فلن يتمكن من تفسير هؤلاء الشعراء لجمهوره. يغبط سقراط هذا الفهم للشعر، الذي يعلن بشكل ساخر أنه لا يقل أهمية عن المظهر الجسدي للمنشد. أيون، الغافل تماماً عن لعبة سقراط منذ البداية، يُوافق على أن «فنه» في فهم الشعراء العظماء هو أمر يستحق الغبطة، ويُعلن بصورة ساذجة أنه أفضل مُفسِّر لهوميروس عاش على الإطلاق. يُظهر سقراط فرحاً مُتظاهراً حيال ذلك، حيث ينبغي لأيون أن يكون قادراً على تقديم «عرض» أو استعراض لهذا التفسير. يعرض أيون أن يؤدي تلاوة لهوميروس، لكن سقراط يُوضح أن العرض الذي يهمه ليس أداءً إنشاديًا، بل هو حساب مفهومي لفن الإنشاد. يسأل سقراط عما إذا كان أيون «مُتخصصاً» في هوميروس فقط أم في شعراء آخرين أيضاً. يزعم المنشد أنه مُتمكن في هوميروس فقط، ويبدأ الجدل السقراطي - elenchus بجدية.

في جولة سريعة من الحوار الديالكتيكي، يبين سقراط أن أيون يجب أن يكون ماهرًا في جميع الشعراء، لأنهم جميعًا يتناولون نفس الموضوع، وبالتالي فإن فنًا يفهم واحدًا ينبغي أن يفهم الآخرين. ولما استنار الذهن، سأل المنشد الساذج: لماذا، إذا كان الأمر كذلك، لا يستطيع أن يستمع لمناقشات حول شعراء غير هوميروس، ولا يقدم أي تعليق ذي قيمة عليهم؟ بل يكاد أن يغفو عندما لا يكون الحديث عن هوميروس. فاقترح سقراط أن هذا يعود إلى أن أيون يفتقر إلى «الفن والمعرفة» بالنسبة للشعراء. وبعد قليل، يضيف سقراط أن أيون يتحدث عن هوميروس وفق «قوة إلهية»، والتي يسميها أيضًا «توزيع إلهي». يشرح سقراط ذلك بمقارنة المغناطيس، الذي يجذب الحلقات الحديدية ويمغنطها، فيصيرها قادرة على جذب حلقات أخرى، وبالتالي تشكيل سلسلة طويلة. على نفس النحو، تلهم الملهمة هوميروس، الذي بدوره يلهم أيون. إذًا، يفتقر أيون إلى أي معرفة أو فن بخصوص هوميروس - فهو مجرد قناة لقوة إلهية. وعلى الرغم من أن هذا الرأي يتناقض مع موافقة أيون السابقة مع سقراط بأن المنشد يمتلك فنًا ومعرفة، إلا أنه يوافق عليه بشغف، مُعلنًا أن سقراط قد لمس روحه بكلماته.

بينما يكاد يكون عدم وضوح سقراط في التعبير عن حسده للمنشد واضحًا، فإن سخرية أيون ليست أقل وضوحًا. بعد أن تباهى بفوزه بالمركز الأول، مُعلنًا نفسه أفضل مفسر لهوميروس، يُقاد بسهولة إلى رأيين متناقضين حول مهنته. أولاً، يوافق سقراط على أن المنشد يمتلك فنًا. وبعد قليل، يوافق بشدة أن المنشد يعمل عبر توزيع إلهي. المهم ليس أن أيون يحمل آراء متناقضة، بل إن افتقاره الشديد للذكاء في الانتقال السريع من واحدة إلى أخرى هو ما يجعله يبدو كالأحمق، لا كمن يدرك حدود معرفته. عندما يسأل سقراط أيون إن كان يحتاج إلى تفسير حول سبب وجود نفس «مبدأ الاستفسار» في جميع الفنون، يجيب أنه يحتاج، «لأنني أستمتع بالاستماع إلىكم أيها الحكماء». بالطبع، يفوت ذلك تمامًا مغزى سقراط. فهو لا يسأل أيون إن كان يستمتع بالاستماع لكلمات قد يجدها ممتعة، بل يسأله إن كان يحتاج إلى مزيد من الإيضاح لفهم النقطة المطروحة. لكن أيون لا يفهم الحجة. هو ببساطة يمنح موافقته لسقراط، دون سبب سوى استمتاعه بلمسة روحه.

التباين بين أيون وسقراط عظيم، لكنه يزداد وضوحًا عند هذه النقطة. يمتنع سقراط عن تصوير نفسه كحكيم، محتفظًا بذلك اللقب للمنشدين والشعراء فقط. ويقول إنه «يتحدث فقط بالحق الصريح، كما قد يتحدث رجل بسيط». إن إصرار سقراط على أن الشعراء والمنشدون حكماء هو سخرية، لكن رفضه لقب «حكيم» لنفسه وادعاؤه بالتحدث فقط بالحق الصريح ليست سخرية. أقرأ هذا الالتزام بالحق الصريح كنتاج للمعرفة الذاتية الدلفية. يعرف سقراط نفسه، ولذلك يدرك حدود معرفته. استنادًا إلى فيليبوس، فإن معرفة الذات تعني الجدية، والجهل بالنفس يعني السخرية. لذا، يقدم أيون تباينًا بين الجدي والمضحك في شخصيتي سقراط وأيون على التوالي، لأن الأول يمتلك معرفة الذات والثاني يفتقر إليها. لكن بينما يقدم فيليبوس فقط تعليقًا سريعًا على الاختلافات بين الجدي والمضحك، يقدم أيون توضيحًا معقدًا لها، حيث يُظهرهما جنبًا إلى جنب، مما يجعل من ذلك حجة أداء غير برهانية لصالح الجدية. لهذا السبب، فإن رفض إلس لأيون كـ«جهد شبابي، ليس مُصممًا بعناية، وليس مُنفذًا بشكل متماسك» سريع للغاية. قد تكون سخرية الحوار «مبكرة» بطرق معينة، لكنها أكثر بكثير من مجرد محاولة غير منظمة لتشويه الشعر. أدافع أدناه عن التفسير الذي يقول إن سقراط يستخدم فرضية التوزيع الإلهي بشكل ساخر فقط. بعيدًا عن التزامه بالرأي القائل إن الشعراء والمنشدون مُلهمون إلهيًا، يقترح سقراط بحبكة التوزيع الإلهي ليجذب أيون إلى الكشف عن نفسه ككائن مضحك. من خلال التقاط الطُعم بشغف غبي، يُبرز أيون الفرق بينه وبين سقراط، ويمكن للقارئ أن يرى بنفسها أي من الشخصيتين هو الأكثر أخلاقية.

تنتقد سوزان ستيرن-غيلت أولئك الذين يأخذون على محمل الجد ادعاء سقراط بأن المنشدون والشعراء يعملون وفق توزيع إلهي. وفقًا لها، فإن الحوار «يظهر سقراط في مزاجه الساخر المعتاد، ومع ذلك، غالبًا ما تظل السخرية غير ملحوظة». تقترح أنه ينبغي أخذ تأييد سقراط للتوزيع الإلهي «[بنصف جدية فقط]». ومع ذلك، فإن ستيرن-غيلت تدرك أن سقراط يسخر من أيون عندما يقترح أن المنشد مُلهم إلهيًا: «بمجرد أن يُدرك أن تكتيكات سقراط تتكون من انتزاع المديح بيد واحدة بينما يقدمها بالأخرى، تصبح السخرية واضحة».

يقول سقراط بوضوح إن أيون لا يعرف شيئًا عن الشعر ولا يستحق الثناء على أدائه، لأن الآلهة هم المسؤولون في النهاية عن إلهامه. أيون بسيط جدًا لدرجة أنه لا يدرك أن هذا ليس مديحًا، فيعبر بحماس عن تأييده لكل ما يقوله سقراط. في الواقع، ينتهي الحوار بسؤال سقراط عما إذا كان أيون يرغب في أن يُطلق عليه «غير أمين أو إلهي». إذا كان أيون يتلو ويشرح هوميروس وفق فن، فهو غير أمين، لأن هذا الفنان يجب أن يعرف المهارة التي يعمل بها، ومع ذلك يدعي أيون أنه غير قادر على شرح فنه لسقراط. أما إذا كان أيون يعمل وفق توزيع إلهي، فإن عدم قدرته على شرح تلاوته وشرحه لهوميروس يُتوقع، لأنه سيكون ببساطة شخصًا جاهلاً وبلا موهبة حدث أن كان قناة للآلهة. لذا، فإن اللقب «إلهي» ليس مديحًا، ومع ذلك يرحب به أيون، لأنه «أكثر نبلاً أن يُطلق عليه إلهي» من كونه غير أمين. يطمئن سقراط المنشد أنه يستحق هذا اللقب «الأكثر نبلاً»، لأنه «إلهي فقط» وليس «فني». هذه الإشارة المحملة بالسخرية إلى الإلهية تشير إلى جهل، وارتباك، وغباء، وسذاجة من جانب أيون.

يصل عبث أيون إلى ذروته حين يزعم أنه أفضل قائد في اليونان، لكن لنسجل أن هذا الزعم ليس إلا ثمرة مناورة حوارية من سقراط، الذي يسخر بذكاء من أيون ويدفعه إلى هذا الادعاء المبالغ فيه، مما يكشف بوضوح عن افتقاره لوعي الذات. يبدأ الأمر حين يدّعي أيون أن فن الإنشاد يتمثل في معرفته ما ينبغي لكل فرد أن يقول، لكنه سرعان ما يلين أمام تساؤلات سقراط حول ما إذا كان يعرف ما ينبغي للطبيب أو القائد أن يقوله، معترفًا بأنه يعرف ما يجب على القائد أن يتحدث به. هنا يصرّ أيون بعناد على أن فنون القيادة والإنشاد واحدة لا تتجزأ. ومع ذلك، يدرك تناقضه حين يعترف بأن المنشد الجيد هو قائد جيد، لكن العكس ليس صحيحًا. دون أن ينتبه إلى هذا التناقض، يتبجح أيون بأنه أفضل منشد في اليونان، وعندما يسأله سقراط إن كان هو أيضًا أفضل قائد، يعلو صوته بفخر، مؤكدًا: «كن متأكدًا من ذلك، يا سقراط، وأني أدين بذلك لدراستي لهوميروس». وهكذا يُكمل مسيرته نحو العبث بلمسة أخيرة من السخرية.

تظهر هذه الحادثة بوضوح جهله الذاتي، فهو لا يدرك أن المنطق نفسه الذي يسري على القائد يسري أيضًا على الطبيب والمنشدد. فهو لا يجد سببًا ليعارض سقراط حين يقول إن القائد يتحدث أفضل في مسائل الحرب من الإنشاد، بالرغم من أنه يوافق سقراط في حالة الطبيب والمنشد. لا يعترف أيضًا بتناقضه حين يقبل أن القادة ليسوا أفضل منشدين، رغم أنه كان قد أكد أن فن الإنشاد والقيادة واحد. أخيرًا، إن زعمه بأنه أفضل منشد وقائد يُظهر أنه لم يستفد شيئًا من الحوار، الذي كان يجب أن يبين له أنه غير مبرر في أي من تلك الادعاءات. هذا المنشد يعاني من جهل فادح بحدود معرفته، متغافلًا عن أن كل تصريح له بلا مبرر، مُلتزمًا بلا منطق برؤية عن نفسه لا تدعمها أي أسباب وجيهة.

إن الوعي بحدود المعرفة لا يشكل كل جوانب معرفة الذات الدلفية، ولكنه عنصر أساسي. في «الدفاع»، يشير سقراط إلى حكمته بوضوح: «ما لا أعلمه لا أظن أنني أعلمه أيضًا». بعد أن أعلن له النبأ أنه أسمى من جميع الناس في دلفي، كان سقراط مضطربًا في البداية، لأنه كان واعيًا بجهله في كثير من الأمور التي يدعي الآخرون معرفتها. لكن، بعد أن حقق في هذه الادعاءات، اكتشف خداعهم، واستنتج أن حكمته تتلخص في وعيه بجهله واحترامه لحدود معرفته. لتكون حكيمًا، يجب عليك الامتناع عن الإدلاء بادعاءات بلا مبرر، وهذا مستحيل دون معرفة ذاتك وحدود معرفتك. مثل "يون، فإن الشعراء في «الدفاع» لا يستطيعون تقديم حساب دقيق للأشياء الجميلة التي يقولونها في شعرهم، لكنهم مع ذلك يعتبرون أنفسهم «أحكم الناس في غير ذلك، بينما هم ليسوا كذلك». وهذا يقود سقراط إلى الاقتراح بأن الشعراء ينظمون أشعارهم حسب الإلهام، وليس المعرفة، وهم يظلون جهلاء بأعمالهم.

إن التقدير للمعرفة الذاتية الذي يُشاد به في «الدفاع» ليس مجرد مسألة إبستيمولوجية، بل له دلالته الأخلاقية أيضًا. يدافع سقراط عن وعي المرء بحدود معرفته واحترامها لأنه ذو أهمية أخلاقية، وليس فقط لأنه شخص دقيق في الصواب والخطأ. وهذا، بالطبع، هو السبب وراء تصريحه بأن «الحياة غير المدروسة لا تستحق العيش». بما أن الشخص الجاد والشخص المضحك مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بمعرفة الذات وجهل الذات على التوالي، فإن الشخص الجاد يُعتبر متقدمًا أخلاقيًا، بينما الشخص المضحك يُعد متخلفًا أخلاقيًا، لذا فإن موقف أيون يُعد مزعجًا بشكل عميق. بهذا الشكل، يقدّم أيون حجة غير برهانية، لكن أدائية تدعم الجدي والرفيع على الهزلي والمضحك. من خلال تقديم شخصيتين تجسدان المضحك والجاد، ووضعهما في حوار، يجعل الحوار نداءً قويًا للقارئ. بمشاهدة التباين الحاد بين الجاد والمضحك، ورؤية طبيعة كل منهما، وفهم الإشكالية الأخلاقية التي يطرحها الشخص المضحك، لا يمكن للقارئ إلا أن يفضل أن يكون جادًا بدلاً من أن يكون مضحكًا. فبموجب نصيحة الغريب الأثيني، يساعد أيون القارئ في أن يكون جادًا، لأنه يعين على معرفة كل من المضحك والجاد، وهذا المعرفة لكليهما ضرورية للعيش بأسلوب الأخير.

مخلصًا للحق، يُعلن سقراط أنه ليس من الحكماء. أما أيون، فهو جاهل بنفسه، ولا يستطيع التعرف على حدوده المعرفية، لذا فإن جهله الفادح، وسذاجته، وسخافته. النقطة من أيون ليست الدفاع عن الإلهام كأفضل تفسير للشعر والإنشاد، بل لتوضيح أن حياة معرفة الذات الدلفية أفضل أخلاقيًا من حياة الجهل الساذج. إن مناقشة الفن والإلهام ليست سوى مناسبة لظهور هذه القضية الأكثر أهمية. يجب أن نذهب إلى «فيليبوس» و«القوانين» للحصول على مناقشة صريحة حول المفاهيم المناسبة، لأن أيون يقدم أكثر مما يشرح المضحك والجاد. يُعرض سقراط الجاد كقدوة للحياة الجادة، بينما يخدم أيون المضحك لتعزيز ذلك بالتباين. إن سقراط يلبي أيضًا متطلبات الغريب الأثيني التي تقول إنه يجب على الشخص الجاد أن يعرف المضحك دون أن يكون كذلك. فهو قادر على فضح سخافة أيون لأنه يعرف المضحك كعكس الجاد، وتضمن جديته هذه المعرفة. واعيًا بسخافة أيون، يُظهر سقراط حسًا حادًا بالفكاهة، لكنه لا يصبح مضحكًا أبدًا. بالمثل، يمكن القول إن مؤلف أيون كان على دراية بكل من الجاد والمضحك، حيث إنه استطاع تمثيلهما بطريقة تجعل الأول يُفضل ويُوصى به على الثاني كخيار أخلاقي أفضل.

أختتم بالتفكير فيما إذا كان أيون حوارًا ملهاتيًا. يسأل ويليام ديزموند سؤالًا مثيرًا للاهتمام ويقدم إجابة مشوقة: «هل يستطيع الفلاسفة أن يضحكوا على أنفسهم؟ الجواب: سقراط؟ كثيرًا». على الرغم من أن هذا الادعاء يستحق الاستكشاف، إلا أنه لا يبدو صحيحًا بالنسبة لسقراط في «أيون». لكي نضحك على شخص ما، يجب أن يكون ذلك الشخص مضحكًا، ولا شك أن سقراط ليس كذلك. يُقدم سقراط كشخصية جادة تمامًا، عارفة بالمضحك لكنها مختلفة تمامًا عن المنشد المضحك. لديه إحساس بالفكاهة بقدر ما يستخدم أساليب ساخرة وهزلية لكشف سخافة أيون. قد تكون هذه السخرية الهزلية وطبيعة المنشد المضحك أسبابًا كافية للنظر في «أيون» كعمل كوميدي. لكن إعادة النظر في «القوانين» تقترح تصنيفًا أكثر إثارة وموحيًا للحوار. يتناول الغريب الأثيني الملهاة كشيء لا يعدو كونه «ملهاة مضحكة» ينبغي مراقبتها عن كثب. إذا تم التحدث عن الملهاة بهذه الطريقة، فإن «أيون» ليس حوارًا ملهاتيًا رئيسيًا، لأنه يتجاوز التسلية البسيطة. على العكس، فإن غايته الأساسية هي التعليم الأخلاقي في أخطر الأمور، وهي الحكمة. وبناءً عليه، يبدو أن «أيون» أقرب إلى «أعظم مأساة»، التي يعرفها الغريب بأنها «تمثيل الحياة الأجمل والأفضل». بما أن الحوار يستخدم أيون المضحك ليس من أجل الترفيه ولكن من أجل التعليم الأخلاقي، ونظرًا لأن هذا التعليم الأخلاقي يتعلق بالمهمة الجادة في تنمية الحكمة، فإنه يبدو أكثر ملاءمة لرؤية الحوار كمأساة بدلاً من ملهاة. يُصرّح سقراط في «فيليبوس» أنه لا يمكن معرفة الجاد والرفيع دون معرفة المضحك والهزلي، لذا فإن أيون يلعب دورًا مهمًا بتجسيد الزوجين الأخيرين. ولكن أداء سقراط الجاد هو المحور، والغرض من الحوار هو توضيح أن الشخص الجاد يتفوق أخلاقيًا على الشخص المضحك. من هذا المنظور، فإن «أيون» هو بالتأكيد حوار مأساوي، «تمثيل الحياة الأجمل والأفضل».

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق