كيف تقتل

لقد كان كتاب الحرب الأشد شأناً في القرن العشرين، كتاب إريك ماريا ريمارك «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية»، مدار جدل عظيم بين النُقّاد في ميدان الكتابة عن الحرب. فمنذ بزوغ نجمه، انقسمت الآراء حوله؛ فبينما أثنى عليه قومٌ لنقله الحقائق عن الحرب كما هي، نعته آخرون بدعاية سلمية واشتراكية، زاعمين أنه قد قصّر في بيان حقائق الحرب. حتى أن سجل ريمارك في ميادين القتال لم يسلم من التحري، ليتخذوه مقياساً يزنون به صدق روايته، واستُفتي زملاؤه ممن عاشوا معه تلك الوقائع ليؤكدوا أو ينفوا صدق ما ورد في صفحات الكتاب. بذلك، كان ريمارك بين طرفين؛ أحدهما يذمه بخياله، وآخر يرفعه لواقعيته. ومع ذلك، قلّ أن يُنظر إلى «كل شيء هادئ» كعمل أدبي بحت، كفنٍّ ترفعه مخيلة الإنسان وتؤطره تقنيات الحداثة، عملٌ له وحدة موضوعية وأسلوبية دون أن يُقيَّد بزمن أو مكان محدد. وإن كانت شهرته قد ارتكزت على دعوى الصدق، فإن ما يجعله مميزاً بين سيل الكتب التي ولدت من رحم الحرب في أواخر العشرينيات هو قيمته الجمالية التي تسمو به عن غيره.

أما النزاع حول رواية ريمارك وسمعته، فيعود إلى تغيّر الفهم لأدب الحرب، لا سيما في ميدان الشعر، بين عامي ١٩١٤ و١٩١٨. الحرب العالمية الأولى، بتجنيدها لجموع المتعلمين الذين لم تكن مهنتهم الأصلية الحرب، شهدت بروز ظاهرة جديدة، وهي ظاهرة «الشاعر الجندي». لأول مرة، بات يُنظر إلى شعر الحرب على أنه يعتمد في جودته على معرفة الشاعر المباشرة بأهوال القتال. في هذا التعريف الضيق، بات شعر الحرب كتابةً تجريبية تهدف إلى تعليم الجمهور حقائق الحرب، والمقصود بها، بلا شك، أهوالها. أما شعراء الحرب، فقد كانوا أولئك الجنود الشعراء الذين قذفتهم خنادق الحرب العالمية الأولى إلى الشهرة، بعضهم بعد استشهاده، فكانوا في إظهارهم للرعب وتنديدهم بخمول المدنيين قد وضعوا المعيار الذي به يُحكم على الشعر الحربي اللاحق. ومن هنا، جاء الاعتقاد بأن أدب الحرب هو في الغالب أدب ضد الحرب، وجاء أيضاً إحساس سيماس هيني الذي يشعر به كثيرون، بأن قصائد ويلفريد أوين «تحمل قوة الآثار المقدسة، حتى ليبدو أي تدخل جمالي وكأنه نوع من التجديف».

وكما رأى روبرت غريفز في الحرب العالمية الثانية، فإن شعراء الحرب الأولى أدّوا وظيفة صحفية في غياب وسائل إعلام كافية، وهو نقص تغيّر كثيراً بتطور السينما والإذاعة، وظهور مراسلي الحرب في الخطوط الأمامية خلال الحرب العالمية الثانية. وقد عرّف غريفز شعر الحرب، كما كان يُفهم من الحرب العالمية الأولى، على أنه نوع من الصحافة الرفيعة. غير أن هذه الآراء قد تكون قاصرة، إذ إن شعر الحرب لا يتميز فقط بقدرته على تقديم تقرير دقيق ورسالة أخلاقية، بل بصراعه الجمالي والأخلاقي في آن واحد. أوين، ساسون، وغيرهم من شعراء الحربين العالميتين، قد آمنوا بأن من خبر أهوال الحرب وحده يملك الحق في الحديث عن بعض القضايا، لكنهم أيضاً أدركوا صعوبة احتواء الحرب داخل إطار الفن، دون الانزلاق إلى العاطفية التي طبعت سونيتات روبرت بروك عن الحرب. وإذ يُخفي ذلك الربط بين الشاعر والجندي ثروة من التناقض وأزمة هوية، فقد كتب ساسون في يومياته زمن الحرب: «لا يمكن للمرء أن يكون جندياً جيداً وشاعراً جيداً في آن واحد». أما أوين، فقد وصف نفسه بأنه معارض ضميري مع ضمير محروق. وبينما كان يكتب قصائد تهدف إلى إيقاظ المدنيين على رعب الحرب لمنع تكرارها، كان في رسائله يعبر عن شعور بالاعتزاز بالمعركة، دون أي رعب من رؤية الجثث المثخنة بالجراح. هذه التناقضات تشكل جوهر الصراع في شعر الحرب الذي يكتبه المقاتلون؛ إنه مستوحى مما يناقض قيمه، فيضع العلاقة بين العنف والإبداع في تداخل متبادل، حتى وهو يستخدم أحدهما لمواجهة الآخر؛ يجبر الكاتب على تقمص دورين متناقضين، دور الخالق ودور القاتل. وتنعكس هذه الأزمة الهوية أيضاً في طبيعة الحرب ذاتها: قد تُخاض الحرب دفاعاً عن الثقافة أو الحضارة أو الديمقراطية، لكن ما يحدث في مسرحها الحقيقي من رقابة واستبداد عسكري و«القتل الضروري» كما وصفه أودن يجعل الحرب العدو الطبيعي لما تدافع عنه.

إذا كان أعظم شعراء الحربين العالميتين ينقلون الحقيقة عن الحرب، فليست هي تلك الحقائق المألوفة وحدها – كأوصاف المعارك أو كشف أوين لخدعة الزمن البالية – بل إنها حقيقة متغلغلة في المبادئ الجمالية، تلك التي تقبل ضمنياً مقولة ساسون: «إن الجواب الفعلي الذي يمكن للشاعر أن يقدمه ضد الهمجية هو الشعر، لأن الجواب الوحيد للموت هو حياة الروح». أوين، ومن بعده كيث دوغلاس في الحرب العالمية الثانية، لم يسعيا إلى حل التناقضات التي عاشاها، ولم يعتذرا عن الحياة داخل العمل الفني. بل بالعكس، فتحا أبواب القصائد على تلك الصراعات، سواء كانت فعلية أو ميتافيزيقية، التي زعزعت توقعات الشعر التقليدية والمطمئنة، صراعات تجسدها مفارقة أوين الشهيرة: «أنا العدو الذي قتلتَه يا صديقي». اللقاء الغريب هو مع العدو زمن الحرب ومع النفس الأخرى، ذلك الذي كان يمكن أن يكون. القصيدة تواجه عدواً خارجياً وداخلياً في آن واحد. ومع أنها ترثي فقدان الإلهام الذي حرمته الحرب، إلا أن وجودها ذاته، بما تحققه من تعبير، يجسد إلهاماً جديداً على شروط مغايرة.

أما دوغلاس في قصائد صحرائه، التي تعلم فيها من سابقيه في الحرب العالمية الأولى، فإنه يواجه موقفاً يتداخل فيه القاتل والعاشق. في قصيدة «كيف تقتل»، يتشابك فعل القتل مع فعل السحر، فكلاهما جزء لا يتجزأ من عملية الكتابة. هذان الشاعران نسجا الصراع في قصائدهما، وفي ذات الوقت، أكدا على أن الشعر نفسه هو وسيلة لمقاومة الصراع. كيث دوغلاس أعلن بفخر المبدأ الجمالي المتناقض في رسالة عام ١٩٤٣: «الاعتراف بأي أمل في عالم أفضل هو سذاجة إجرامية، مثلما هو ساذج أن تتوقف عن العمل لأجله. قد يبدو قول 'اعمل بلا أمل' سخيفاً، لكنه ممكن؛ إنها مجرد وسيلة حماية، لا تعني العمل بلا رجاء».

إن النداء الذي رُفع في بداية الحرب العالمية الثانية، متسائلاً «أين شعراء الحرب؟»، كان في جانب منه اعترافاً غير مباشر بأدبية الحرب العالمية الأولى الاستثنائية. لكن، كان أيضاً دعوة إلى تأكيد وطني بسيط، وإلهام شعبي يعيد إلى الأذهان صورة أسطورية وبطولية مثل صورة روبرت بروك، الذي أعيد طبع قصائده مراراً بين عامي ١٩١٥ و١٩١٦. هذه التوقعات نفسها تفسر إهمال النقاد لقصائد كيث دوغلاس بعد وفاته عام ١٩٤٤، إذ لم تتماشى مع تلك الصورة المأمولة.

أما نشر كميات من القصائد الحربية الجديدة وغير المثيرة في أوائل الأربعينيات، وجمعها في مختارات مثل «قصائد من القوات»، فقد كان مؤشراً على رغبة في تلخيص الحرب العالمية الثانية ضمن إطار أصغر وأكثر ألفة، على شاكلة الحرب العالمية الأولى. لكن الفظائع غير المسبوقة ومعدلات الضحايا العالمية التي تجاوزت ٧٨ مليوناً (معظمهم من المدنيين) جعلت من المستحيل تقديم منظور يمكن التحكم فيه حول الحرب. كما يرى بول فوسل، أن الحرب العالمية الثانية أظهرت مدى حضارية الحرب العالمية الأولى. ولهذا، ليس من المفاجئ أن تبرز أسماء قليلة فقط من شعراء الحرب بين عامي ١٩٣٩-١٩٤٥ لتحظى بالتقدير النقدي حتى اليوم.

كيث دوغلاس، الواعي نقدياً أكثر من غيره، شعر أنه لا جديد يمكن قوله عن الخدمة العسكرية – إذ لا يمكن إطلاق العنان للجحيم مرتين – حتى لو لم يتغير المفهوم الشعبي لشعر الحرب كأغنية خنادق. وكما قال روبرت غريفز: «في الحرب العالمية الثانية، لا يستطيع الجندي أن يشعر حتى أن موعده مع الموت أكثر يقينًا من موعد عمّته فاني، تلك التي تراقب الحرائق». عندما تكون جبهة الوطن أيضاً ساحة المعركة، تصبح التجربة متاحة للجميع. وإن كانت التجربة وحدها لا تكتب القصائد.

ومع ذلك، فإن الرغبة المستمرة في «شعراء الحرب» في كل المواقف، كما يظهر مثلاً في قصائد توني هاريسون التي كتبها لجريدة الغارديان في ١٩٩٥ من البوسنة، أو في نشر المختارات المثيرة للجدل «ارتداء الأسود» في ١٩٧٤ التي تضمنت قصائد «المشاكل» من أيرلندا الشمالية، تشير إلى أن التوقعات الشعرية التي ولدتها الحرب العالمية الأولى لم تتلاشَ تماماً، رغم تغير الظروف التي قد تجعلها تبدو قديمة. تلك التوقعات قد تكون مضللة أو مبسطة، تربط التجربة بالعنف مباشرة بالصدق الشعري المفترض. وقد تكشف أيضاً عن نزعة الاستطلاع في مواجهة معاناة الآخرين؛ وقد تسهم في إنتاج أدبي غير كافٍ أو مهين. ولكن الحاجة للشعر تبقى.

قد يكون هناك اعتقاد ضمني، يعود إلى الحرب العالمية الأولى، بأن الشاعر هو الصحفي الحقيقي وليس المراسل الرسمي الذي قد تُحجب حقائقه. وبشكل أبسط، حتى عندما يكون موضوع الشعر هو البربرية، يؤكد الشعر أن العالم المتحضر لم يفلت تماماً من أيدينا.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق