تجلي المحسوس

 

لدى صدور «الموت بالتقسيط» عام ١٩٣٦، كتب الناقد بيير لانجير بنبرة نبوءةٍ قاطعة: «هنالك (أو إن لم يكن هناك الآن، فسيكون غداً) قضية سيلين (لويس-فرديناند)... فالناس إما معه بشدة أو ضده بشدة، ولا مكان للوسط. لويس-فرديناند سيلين لا يفعل الأشياء بنصف قلب: إما أن يمسك بك أو يقذف بك بعيداً. لم يبدأ الناس بالقتال لأجله بعد (أعني لأجل أعماله)، ولكن اطمئنوا، فسيتقاتلون قريباً». وبالفعل، دار القتال طويلاً وبحق. فلا حاجة إذاً لتذكيرنا بمكانة سيلين المتميزة في تاريخ الأدب الفرنسي، ووضعه كـ«كلاسيكي» جنباً إلى جنب مع فلوبير أو بروست، الذي لا يزال موضع جدل. إذ لا يزال يلتقي كاتب «رحلة إلى نهاية الليل» الاعتراف بالعبقرية الأدبية مع صورة الشيطان، والخائن، والطفل المريض في عالم الأدب. ولكن، أليست هذه القدرة على إثارة الكراهية والإعجاب معاً، وإشعال الأضداد على طرفي مشاعر القارئ، هي ما يجعل «العبقرية» الفنية تتجاوز التقدير الإجماعي؟ الإجابة تبقى معلقة.

إن دراسة هذه «الحالة» تعني مواجهة تحديها، وغالباً ما تؤدي إلى مزج العمل الفني مع الإنسان، وإلى استكشاف الرابط الحميم، والشخصي، والعميق بين الكاتب وإبداعه، خاصةً عندما تتداخل القصة الشخصية في زوايا مظلمة من التاريخ الكبير. ولسنا هنا بصدد إصدار حكم على هذا الرابط، ولا برفضه أو دعمه، بل ولا حتى بنفي الإشكالية في علاقة لويس-فرديناند ديستوش بلويس-فرديناند سيلين. إن الغاية هي استكشاف ما أطلق عليه الكاتب «اختراعه الصغير»، الذي، وفقاً له، كان أكثر أهمية من أي سمة أخرى، سلبية أو إيجابية، قد يكون النقاد قد اكتشفوها في أعماله. وهذا الاختراع نعرفه جيداً: إنها «الموسيقى الصغيرة»، ذلك «الأسلوب العاطفي»، الذي تجلى في «مقابلات مع الأستاذ ي»، تلك المقابلة الخيالية التي أجراها سيلين مع نفسه، حيث أصبحت الموسيقى الصغيرة أداةً لتبرير ذاته.

في هذا الاستكشاف، ليس الهدف التمييز بين سيلين الكاتب النظري وسيلين الروائي، كما فعل فينسنت ديسكومب في كتابه الشهير عن بروست. فـ«الصراخ» السيليني يرفض كل محاولة للتنظير، وكل محاولة لجعل الأدب مركباً لأي فكرة أو مفهوم. سيلين لم يرَ في فنه، على الأقل فيما يتعلق بالرواية، وسيلة لصياغة الأفكار الفلسفية أو الجمالية أو مشاركتها حول مكانة الفن، أو وضع الإنسان في المجتمع، أو تجربة العالم. بهذا، سيلين ليس بروست، ورفضه بلغ حد كراهية عميقة تجاه إدخال العقل في الأدب:

الأفكار، ما من شيء أشد ابتذالاً منها. فالموسوعات طافحة بها، أربعون مجلداً ضخماً، مفعمة بالأفكار. أفكار جيدة، بل رائعة، أدت دورها في زمانها. ولكن، هذه ليست هي المسألة، فهذا ليس ميداني، ولا مجال رسائلي. لست أنا برجلٍ يحمل رسالة، ولا رجلٍ يؤمن بالأفكار. إنما أنا رجلٌ ذو أسلوب.

فإذا كان يعرف نفسه كالنقيض للروائي النظري، فما هي الشرعية وما هي الملاءمة التي يمكن أن يتمتع بها عمل فلسفي يتخذه موضوعاً للبحث؟ ربما لأن سيلين، بطريقة ما، هو «فيلسوف غير مقصود». أو بالأحرى، سيلين لا يستطيع أن يهرب من الفلسفة، رغم ادعاءاته، فالفلسفة تظهر وتتكشف في أعماله، ليست ناتجة عن إرادة مقصودة بل كشيء يظهر دون طلبٍ بإعلانه. بعبارة أخرى، كان بإمكان سيلين أن يكره نفسه كما كره «لاعبي الأفكار». وهنا، لا نستخدم مصطلح «فيلسوف» بمعنى أن سيلين قد وضع، عن غير قصد، أو أسس كوناً مفاهيمياً يسمح له بأخذ مكان في تاريخ الأفكار، فليس هناك من ذلك شيء. إذا كانت هناك فلسفة خفية، فذلك لأن العمل السيليني هو فلسفي شكلاً، يحمل في بنيته الخاصة، في هيكله الداخلي، بعداً يتيح له أن يُفهم ويُحلل ويُناقش باستخدام الأدوات النظرية والمفاهيمية التي تقدمها الفلسفة. وليس غريباً، كما كتب بيير ماشيري، أن «الأدب والفلسفة ممزوجان بشكل لا ينفصم»: فقد مكّن فن الكتابة الفلسفة من اكتشاف مفاهيم جديدة، أو اكتشاف أساليب تعبيرية جديدة تتناسب مع بعض بياناتها الخاصة، كما كانت الفلسفة مجالاً خصباً للإبداع الأدبي والشعري.

وهكذا، مهما صرخ سيلين معلناً رفضه لكل ادعاء نظري، سنجعله يكذب، أو على الأقل نُظهر أن رفضه كان يحمل في طياته دلالةً كافية لجذب الفلاسفة للاهتمام به. فحتى هذا الادعاء المناهض للفكر ترافقه عنده حجته في دحض نفسه، وتلك مفارقة سيلينية، واحدة من مفارقاته العديدة. فمن كلماته هو: «الأدب، يُفكر. الأهم، كما ترون، في الأدب، هو طرح سؤال. مكبث، أليس كذلك، يطرح سؤالاً؟ دوستويفسكي، يطرح سؤالاً...».

غير أن الموضوع «الفلسفي» الذي يكمن في روايات سيلين هو اللغة، والكلام، وتلك «الموسيقى الصغيرة». ومع ذلك، ينبغي أن ندقق في الأمر أكثر. فليس المقصود هنا أن نعرف كيف تميز أسلوب سيلين عن من سبقوه، ولا أن نصف كيف يمكن لهذا الأسلوب أن ينشئ تفكراً حول الفن، ولا حتى أن نكشف عن التأثيرات النظرية التي قد تكون وجهت سيلين في صياغة فنه في الكتابة. ما يهم هو فعالية هذه اللغة، تأثيرها الحي. بهذا المعنى، فإن الكتابة السيلينية، عبر عملٍ دقيق على اللغة، تتيح كشفاً وإظهاراً وتكويناً لما أطلق عليه هوسرل «التجربة الخالصة»، أي المعايشة الداخلية التي تنجم عن التماس الحسي مع العالم. بكلمات أخرى، «الأسلوب العاطفي»، وهو اختراع سيلين، يمكن اعتباره تعبيراً عن ما سعى هوسرل لتقديمه نظرياً، ولم ينجح في ذلك، والذي صاغه ميرلو-بونتي بشكل أوسع: إنها «اللغة الظاهراتية». وأكثر من ذلك، فإن سيلين يعطينا الرؤية في أقصى دقتها حول ثراء «كتابة» ظاهراتية، تعبيرٍ مكتوب عن مثل هذه اللغة.

ولكن، ما هي الكتابة الظاهراتية؟ وما هي، بنفس الوقت، اللغة الظاهراتية؟ إذا أخذنا تعريف ناتالي ديبرا، فإنها تشير إلى «الكتابة التي تسعى لأن تحل في زوايا وخفايا تجربة الأشياء نفسها». إنها كتابة تسعى لأن تبرز لنا، في الرمز، تجربة الأشياء، وظهورها، بحيث تكون هي نفسها متجسدة في معنى ذلك الظهور. وهكذا، فإن التفكير في هذا الشكل الفريد من الكتابة يرتبط بتساؤل حول إمكانية وجود لغة ظاهراتية. هذه اللغة، في واقع الحال، ليست أمراً بديهياً، فقد كانت دائماً عقبةً هائلة في السعي نحو «الشيء ذاته». فإذا كانت حقيقة تجربة العالم يجب أن تُبحث في البداية في ذلك الاتصال الحسي بين الذات والأشياء التي تشكل العالم الذي يجد المرء نفسه «ملقى» فيه، فإن وسائل التعبير اللغوي تبدو غير كافية لصياغة تلك التجربة الحقيقية التي هي من طبيعة جسدية ودافعية. اللغة، الملوثة بالمفاهيم والمجردات، تعجز عن التعبير عن تجربة أصيلة، محكومةً عليها بأن تظل صامتة ضمن ذاتية خالصة.

ومع ذلك، كما أوضح ميرلو-بونتي بشكل لافت، فإن اللغة والتجربة لا يتعارضان، إذ هما وجهان لعملة واحدة، وهي «الكينونة»: حقيقة كل ظاهرة، والتي تتجلى تحديداً في قلب التجربة السابقة على التصورات للعالم، وتنعكس في آن واحد في التجربة الإدراكية والتعبير. يقول في كتابه «العلامات»: «اللغة، أكثر بكثير من مجرد وسيلة، هي شيء يشبه الكينونة». فاللغة، بوصفها ليست مجرد ناقل للفكر، بل هي التي تتيح للفكر أن ينمو ويتجلى في العالم، تشكل تجربة حسية يمكن أن تكشف فيها الحقيقة. ولهذا، رأى ميرلو-بونتي في الأدب، وخاصة أدب كلود سيمون، التعبير الأكمل عن فلسفته. وفي رسالته إلى كاتب «طريق الفلاندر»، كتب له: «كان صحيحاً أنني ترددت في تفسيركم، لأنني وجدت في كتبكم الكثير مما يتماشى مع عملي الخاص...».

ونجد في سطور سيمون تجسيداً مكتوباً لتلك التجربة «اللحمية» عند ميرلو-بونتي، تلك الأولوية للإدراك الحسي للأشياء كما تظهر في حقيقتها. وهذا، بالضبط، ما تفعله الكتابة السيلينية. إنها تشكل، باستخدام أسلوب مميز، نمطاً فريداً من الكتابة الظاهراتية، التي تسمح بنقل التجربة الداخلية للسارد – نسيج العواطف والمشاعر والإحساسات والذكريات والإدراكات. هذا ما أشار إليه سيلين نفسه بتلك القدرة العاطفية لأسلوبه، بتلك القدرة على «الإحساس»، وهي بالتحديد ما نتحدث عنه هنا. فعندما يدخلنا في بناياته الخيالية، ويرينا باريس عشرينيات القرن الماضي من خلال عينَي فرديناند، فإنه يدخلنا، في الوقت ذاته، في تجربة شخصيته، وبالتالي في تجربته الخاصة.

لكن، ألا يضع حد للغة الظاهراتية وصفُ مثل هذه التجربة؟ ألا يجعلها فقداناً لرؤيتها الأصلية حين يُنسب لها طابع «استفزازي»؟ أضف إلى ذلك، هل هذا الوصف هو حقاً وصف لتجربة حقيقية، أم هو بالأحرى استنساخ لشيء يشبه التجربة، أي لخيالٍ محض؟ فالروايات السيلينية، رغم التشابهات، ليست سيراً ذاتية. لكن في الوقت نفسه، يظل لويس-فرديناند حاضراً في كل العمل الخيالي، يلونها بتجاربه الخاصة، يمنحها رائحتها ولونها... يشكل سردها العام وجوّها الخاص. لذلك، إذا كنا نستطيع فعلاً الحديث عن كتابة تتعلق بإعطائنا التجربة بكل ماديتها وأصالتها، فهذا لأن تلك التجربة، حتى وإن كانت تتشكل ضمن الخيال، تحمل ما يكفي من الروابط مع الواقع لتستطيع أن تحركنا، كما قال سيلين. فهذه الفكرة عن «التجربة الخام» تتميز فوراً عن أي «واقعية»، فليس المهم هنا دقة ما يُوصف، أو كمية التفاصيل التاريخية، أو الجغرافية، أو البيوغرافية التي يمكن التحقق منها بلا نهاية، بل كيف تُمنح تلك الأشياء من خلال تجربة الشخصية أو السارد، ومن ثم للقارئ. وما يقدمه «الموت بالتقسيط» تحت خطوطه من خيال لا يهم كثيراً، لأن، كما قال هوسرل نفسه، الوصف الخالص للتجربة المبني على الحدس يمكن أن ينطبق على تجربة الأشياء الخيالية، كما يشرح ميرلو-بونتي بعمق، بأن الفن هو أحد الأماكن المميزة للتجربة الأصلية.

أن تكون هذه التجربة تجربة سيلين ونسخته الأخرى لا يعني، بعكس بروست، أن الكتابة تضع «أسطورة الداخل»، أي أن الوعي السيليني لا يمنحنا سوى محتوى معروف للذات الواعية وحدها (أي الشخصية). لأن، بينما يبني بروست، وفقاً لفنسنت ديسكومب، راويًا يسعى لجعل تعبيراته تتوافق تمامًا مع تجاربه الداخلية، لا يفعل الراوي السيليني شيئاً من ذلك: لا توجد رغبة في صياغة مجموعة من الإدراكات الغامضة، أو جعل تلك المجموعة واضحة ثم التعبير عنها بالشكل الأدبي. عند سيلين، التعبير هو منذ البداية هذه التجربة المقدمة في كل ذاتيتها، في حقيقتها الخالصة، كما يشعر بها من يراها. نجد هنا، بتناسبٍ محفوظ، نفس التشكك الذي كان لدى هوسرل تجاه ما يسميه «علم النفس الوصفي»، والذي لا ينبغي أن يُخلط بأي حال من الأحوال مع الظاهراتية. وهنا أيضاً، تُرفض أي محاولة لتفسير سيكولوجي في العمل السيليني، لأنه ليس القصد أن نفهم مجريات الوعي، أو أن ننفذ إلى شبكة مفهومة تسعى لشرح رد فعل الذات أمام العالم. العالم يظهر كما هو، والكتابة تقذفنا به، كما قد يقول البعض، تُلقي بنا في هذا الأخير كما يُعاش. ومن خلال ذلك، تُحافظ التجربة نفسها، ومن ثم تُمنح لتجربة القارئ الخاصة. تجربة خالصة، خالية من أي عقلنة، تجربة لإحساس العالم والأجساد، تثير تلك العاطفة التي يسميها البعض «السوداء»، لكنها أيضاً عاطفة تجاه العالم الذي يُعاد تقديمه ونقله في كل تفرده، هكذا تكون فعالية «الموسيقى الصغيرة» عند سيلين. «قطار» سيلين يأخذنا مباشرةً إلى قلب العاطفة، إلى «لب الكينونة»، دون أن يتوقف عند المحطات أو يأخذ منعطفات، أو يتوقف لاستراحة، رافضاً تلك الاستغراقات البروستية أو التحليلات النفسية الزولاتية (نسبةً لزولا):

أحمل كل من حولي في القطار، عذرًا!… وأمضي معهم قدمًا؛ آخذ الجميع، سواء أكان ذلك برضاهم أم بغيره!… القطار العاطفي، قطاري أنا! دون أية عوائق، دون تزاحم! في حلم!… دون توقف في أي محطة! لا! نحو الغاية! نحو الغاية مباشرة! في العاطفة… من خلال العاطفة! ليس سوى الغاية: في قلب العاطفة… من البداية إلى النهاية!

وبهذا، يقدم لنا سيلين إجابة على ما أطلق عليه ورثة فيتغنشتاين «إشكالية اللغة الخاصة»، تلك اللغة التي «تُمكّن الشخص من تدوين تجاربه الداخلية – مشاعره، عواطفه، وما إلى ذلك – لأجل استخدامه الشخصي». رفض فيتغنشتاين إمكانية وجود مثل هذه اللغة، لأنه، وفقًا له، لا توجد «لعبة لغوية» تستطيع التعبير عما هو ذاتي بحت. بل إنه لا معنى لذلك، إذ أن اللغة قبل كل شيء هي حقيقة تتجذر في دائرة من التفاعلات الاجتماعية، وليس لها أي سبب للوجود خارج هذه الدائرة: فاللغة الخاصة ستكون لغة لا تستخدم الكلمات اليومية، تلك الكلمات التي لا تستطيع أن تلتقط كل خصوصية الأحداث الداخلية، بل ينبغي أن تستخدم إشارات جديدة تمامًا، فريدة من نوعها، وهو ما يجعلها غامضة، غير قابلة للفهم حتى بالنسبة للشخص نفسه، لأن هذا الأخير، وهو موجود في سياق اجتماعي، يطور مهاراته ويكتسب معارفه بفضل لغة تمكنه من التفاعل مع الآخرين ومع عالمه. لذا، فإن اللغة الخاصة إما تؤدي إلى الانغلاق المطلق الذي لا يمكّن حتى الفرد من فهم كامل لمعنى تعابيره، أو إلى تواصل خالٍ من كل خصوصية، مما يفقده الهدف الذي كان يسعى للتعبير عنه.

ومع ذلك، فإن «الموسيقى الصغيرة» لسيلين تطرح بديلاً جديدًا، حيث لا تتصادم صياغة التفرد المطلق مع عدم القدرة على التواصل. على العكس من ذلك، سيلين هو وارثٌ بارعٌ لفيتغنشتاين، حيث يدعو للعودة إلى لغة «الجميع»، تلك اللغة البسيطة التي نسيها الفلاسفة والمفكرون لوقت طويل. ومع ذلك، فإن كتابة سيلين ليست «لغة عادية»، لأنها، كما قال بيرنانوس، «يخلق من جديد» لغة «مولودة من العامية والشعبية» لكن «لا يمكن لأي بائس أن ينطق بها»: باستعارة مفرداتها، وصياغتها، من اللغة المحكية، يُبدع سيلين أسلوبه ببناء لغة أخرى تمامًا، حيث تتعايش اللغة الجديدة - Neologism ، والمفردات المهينة وغير الرسمية، مع نغمات أكثر «أدبية»، ومع استخدام أشكال روائية أكثر تقليدية وجهدٍ بلاغيٍّ متقن.

ومع ذلك، فإن التأثير هو هذا بالضبط: هذه اللغة، يبدو أن كل فردٍ قد يتحدث بها، وتظهر كتعبيرٍ مثالي عن لغتنا الحميمة التي نستخدمها يوميًا. كل جهد اللغة هو أن يجعلنا ننغمس في هذه التجربة من خلال صياغة تبدو وكأنها تنتمي إلينا، حتى وإن لم نكن قادرين على صياغتها أبداً. وهكذا، يمكّن سيلين من الكشف عن حقيقة داخلية بواسطة استخدام خداع اللغة. يقول بيير ماشييري في هذا السياق: «من خلال مزج الاستخدامات الحقيقية للغة، ينتهي الأدب، من خلال هذه المواجهة المستمرة، بكشف الحقيقة». ولا شيء أكثر صدقًا في حالة سيلين، حيث إن العمل على اللغة يسمح بالكشف عن حقيقة «اللغة العامة» وحقيقة اللغة الشعرية، وكلاهما يؤدي إلى حقيقة ذات بعد فلسفي ونظري، وهي حقيقة اللغة الفينومينولوجية (الظاهرتية).

تبدو الإشكالية الأولى التي طرحتها نظرية اللغة الخاصة تتلاشى، لأن هذه الكتابة من «الأحشاء» هي، بشكل متناقض، انفتاح كامل على الآخر، إنها تمكن الذاتية الأولى من أن تتجسد في ذاتية أخرى، أن تتقاطع، بل أن تلتقي. وما يشكل كل ما يخص كتابة سيلين، هو بالتالي، بالضبط، ما يتيح لنا وصف كتابة فينومينولوجية نقية: النقل الذاتي للاتصال الحسي مع الأشياء، هذا الرفض للحديث بالنيابة عن الآخر، مع تجسيد في الكتابة لهذه الإمكانية من المشاركة، وهذا الاهتمام الممنوح لظهور الأشياء في كل تفردها داخل الحسي. إلى جانب ذلك، وكاستفهامٍ أخير، تبقى مسألة معنى هذا التعبير عن التجربة. فقد كان ميرلو-بونتي يعتقد أن المعنى لا يسبق إطلاقًا التعبير عنه، بل يولد من نشأة الحسي سواء في التعبير أو في الإدراك. هل يمكننا إذن رؤية في صرخة سيلين معنى ينشأ عند التماس مع العالم ويتشكل في صياغته بالكلمات؟ بمعنى آخر، المعنى عند سيلين لا ينبغي أن يُرى في ما تقوله الكلمات، بل في الكلمات نفسها، في جوهرها الخاص.

المعنى يسكن الكلمات بوصف الكلمة نفسها كائنًا قائمًا بذاته، وعند سيلين، كل جملة تشكل في حد ذاتها كيانًا متميزًا، منفصلًا عن الجمل الأخرى (وخاصة من خلال استخدامه للعلامات الثلاث «...»، التي سنعود إليها لاحقاً)، إنها، لتكرار المصطلح الذي استخدمه ميرلو-بونتي، حركة تكتسب معناها في حد ذاتها ومن خلالها، أي تجلٍ لجسد محاط بعالم يحتضنه ويسمح له بأن يُدرَك قبل، وبشكل مفارق، كل الكلام. للبحث في هذا الموضوع، ينبغي علينا تحليل الجملة السيلينية بمزيد من التفصيل لكشف كل ثرائها، ولإظهار كيف أن هذه الجملة المميزة، بكونها ذات وجود خاص، بمعنى كونها موضوع تجربة محددة، تمكن من نقل تجربة هي في الوقت نفسه انعكاس لها ومنتجة لها.

إن اعتبار لويس-فرديناند سيلين فينومينولوجيًا قد يثير الضحك، وهذا حق. الفكرة هنا تأتي من طابعها التأويلي. إنها تتبع انطباعًا، تجربة قراءة قد تسمح بقول شيء جديد عن عمل تمت مناقشته بالفعل. إن الابتعاد عن هذا العمل أمرٌ ضروري هنا، وهو أخذ مسافة تتخذ شكل رجوع نظري، على حساب الانغماس المفرط في المحتوى.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق