سقطت مغشية على جثمانه

أمضي يومي كله في عباب العالم، أُسلِمُ أذني وعيني لكل ما يَطرقُهما، ولا أرى شيئًا يشبهك. فألجأُ إلى ذاتي وسط الضجيج، وأحادثك سرًا في خلوة نفسي. – جولي، جان جاك روسو.

انطلق اللورد دورشستر، بطل «تاريخ أوفيليا» لسارة فيلدينغ، صوب ساحة القتال، ساعيًا إلى تسوية خلافٍ أشعلته أوفيليا البريئة في حفلها الأول. فلما علمت أنه قد كتب وصيةً قبل انطلاقه، أدركت أن الموقف ليس هينًا، فسقطت في غياهب الإغماء مراتٍ ومرات، لا تكاد تعود إلى وعيها حتى يأخذها الغياب مجددًا. ومثل هذا المشهد يتكرر في «قصة بسيطة» لإليزابيث إنشبولد، حيث تسقط الآنسة ميلنر بلا حراك على الأرض عند سماعها أن وصيها ديريفورث قد استعد لمبارزة السير فريدريك لونلي. في كلا القصتين، كان إغماء البطلة تعبيرًا عن خوفها على حياة الرجل الذي تحبه، سواء أدركت حبها أم لم تدركه، لكن القيود الاجتماعية منعتها من الإفصاح عن شعورها. فالإغماء، رغم أنه كشف عن أعمق مشاعرهن، إلا أنه قيدهن، فلم يستطعن إيقاف الحدث أو تقديم العون حيث كان أشد ما يُحتاج إليهن، فكان غيابهن عن الوعي عقبةً تحول بينهن وبين تحقيق الرغبات التي أضاءها هذا الإغماء.

في منتصف القرن الثامن عشر، كانت لغة الحساسية العاطفية متمثلةً في الدموع، واحمرار الوجه، والإغماءات، رمزًا للجياشة الحقيقية للمشاعر، لكن هذه الرموز كثيرًا ما أحاطت بها الشكوك والريبة، وحتى السخرية. فبعد الثورة الفرنسية وحقبة الرعب، أصبحت الحساسية هدفًا متكررًا للنقد من الكتّاب الراديكاليين والمحافظين على السواء. وفي إنجلترا، تزعزعت المعتقدات حول الإحسان العاطفي، كما ظهر في هجمات مجلة «الجاكوبيني المعادي»، وهي مجلة ساخرة من التيار المحافظ في تسعينيات القرن الثامن عشر. حيث كتب جورج كانينغ عن إلهة الحساسية قائلاً:

شاهد عابديها ــ مفرطون في الحزن،

يعانون آلامًا لا شفاء لها، ويمرون بآهاتٍ تسخر من الأمل.

ينحنون بحزن رقيق على زهرة ذابلة،

ويصبّون الدموع كالمطر على حمارٍ ميت،

لكنهم لا تحركهم مذبحة لوار الدامية،

ولا عنف دماء ليون المتدفقة؛

ولا الجرائم التي لطخت هذا العصر،

جرائم شنيعة، غلفتها الحرية باسمٍ خادع…

في هذه القصيدة، نجد السخرية من إلهة الحساسية التي تذرف الدموع على طيور ميتة، وهي تحمل كتابًا لروسو، بينما تطأ قدمها رأس الملك لويس السادس عشر المقطوعة. وفي «دفاع عن حقوق المرأة» لماري وولستونكرافت، تنتقد الحساسية بوصفها ثقافة ضعف مؤسسية جُعلت شائعة لتناسب النساء، لكنها في الوقت ذاته تُكرس لضعفهن الاجتماعي. وهناك أمثلة لا تحصى على النقد المبكر لهذه المشاعر المتضاربة. ففي «شاميلا» لهنري فيلدينغ، يتحدى النص عفوية المشاعر الأنثوية الصادقة، بينما تستهدف هانا مور في قصيدتها «الحساسية» لغة الجسد المشبوهة التي يُفترض أنها تعبر عن الشعور الحقيقي. كما تشتكي قائلة: «وهذه الرموز الباهرة، أسفًا أن أقول، قد تكون زائفة».

فما الذي جعل هذه «الرموز الباهرة» موضع لبس طوال القرن الثامن عشر؟ إن التعبيرات النفسية والجسدية للمرأة العاطفية ــ من إغماءاتٍ، وصمت، وآهات، واضطرابات في القلب والعقل ــ قد أُخذت على أنها دليل ظاهر على حساسية المرأة، ولكن معانيها العميقة نادرًا ما تم استكشافها بالتفصيل. ومع ذلك، نجد العديد من الروايات العاطفية في القرن الثامن عشر تتفاعل بطرق مختلفة، لكنها واعية سياسيًا تجاه الأزمات النفسية والجسدية للمرأة التي صُوّرت في الكتابات العاطفية منذ رواية «كلاريسا» لريتشاردسون. ففي وقتٍ كان فيه التعبير الصريح عن المشاعر المتعلقة بالحب محظورًا على النساء، أصبحت لغة الحساسية قناة اجتماعية مقبولة للتعبير عن تلك المشاعر المكبوتة. ومن النادر أن تجد رواية عاطفية دون بطلةٍ تُغمى عليها أو تعاني من مرضٍ خطير أو اضطراب عقلي. فبطلة «باميلا» لريتشاردسون يُغشى عليها لتجنب علاقة غير مرغوبة، أما كلاريسا فتفقد وعيها وهي تتعرض للاعتداء من قبل لوفلاس، هاربة بذلك عقليًا من تجربة مرفوضة، كما أن جولي في «جولي» لروسو تسقط مغشيًا عليها عند قبلتها المحرمة مع سانت بيرو.

إن هذا المقال يسعى إلى الكشف عن طبيعة الأعراض العاطفية المثيرة للجدل، وذلك عبر التحقيق في تلك الاضطرابات التي تعصف بوعي المرأة، إذ طالما فُسرت هذه الاضطرابات على أنها علامات للحساسية الأنثوية. سأركز هنا على ثلاثة نصوص أدبية ظهرت في أعقاب أدب ريتشاردسون العاطفي: «تاريخ أوفيليا» لسارة فيلدينغ (١٧٦٠)، و«جولي، أو هيليويز الجديدة» لجان جاك روسو (١٧٦١)، و«قصة بسيطة» لإليزابيث إنشبولد (١٧٩١). سأقرأ في هذه الأعمال الحالات التي يظهر فيها الإغماء، وتغيرات الحالات الجسدية والعقلية، إذ يبدو أنها تتعلق بما لا يمكن، على الأقل بالنسبة للنساء في القرن الثامن عشر، الإفصاح عنه بوضوح: مشاعر، وأفكار، ورغبات لا يُفترض بالمرأة، ككائن اجتماعي، أن تحملها. فكثيرًا ما يُشار إلى الدموع والتنهدات والإغماءات على أنها «لغة الحساسية» في النقد الأدبي. وسأجادل هنا بأن هذه العلامات الجسدية تُعدُّ أعراضًا لما هو أعمق من مجرد عجز المرأة عن التعبير عن ذاتها، بل تعكس استياء الوجود الأنثوي النفسي والجسدي في القرن الثامن عشر. فالأعراض التي تشيع في أدب الحساسية تُشكل جزءًا من مرض نفسي مركب يتجاوز في كثير من الأحيان نطاق الطب المعاصر، إذ إنها تمثل مشاعر وأعراضًا وحالات لا يمكن فهمها بمجرد «الأعصاب والروحيات والألياف» في الجسد والعقل البشريين خلال ذلك العصر. لقد منحت الخطابات التي أنتجت الحساسية لغةً مبكرةً للمشاعر، والعناصر اللاواعية، والقوى المكبوتة، قبل أن يصوغ فرويد مصطلحاته. لقد جسدت روايات الحساسية بالفعل حالات من الهستيريا، ناقلةً احتجاجًا وتمردًا فرديًا موجهًا ضد الشروط الاجتماعية. فهي لا تقتصر على استباق الفهم النفسي فحسب، بل تتعدى إلى نقد الجوانب المظلمة في تفسيرات فرويد.

ومن ثم، سأتناول هذه الحالات النفسية التي تؤثر على حالات الوعي واللاوعي من خلال إطارٍ منهجي يربط بين التفسيرات الطبية في القرن الثامن عشر والأفكار التحليلية النفسية، ولا سيما أفكار السلبية. فعلى الرغم من أن الكتابات الطبية في القرن الثامن عشر تربط الإغماء أساسًا بأسباب جسدية ودستورية، فإن الانفتاح على تاريخٍ أوسع ونظرية المشاعر سيساعدنا على فهم الإغماء بوصفه ظاهرة نفسية جسدية متجذرة في شبكة معقدة من العوامل العاطفية والجنسية والاجتماعية في القرن الثامن عشر. سأقرأ حالات السقوط والإغماء في ضوء ما يسميه المحلل النفسي أندريه غرين «عمل السلبية». ويُعرف عمل غرين بإعادة صياغته لنظرية التحليل النفسي للمشاعر، وتطويره لإطار نظري يعالج الانتقالات العاطفية السلبية وردود الفعل العلاجية السلبية. في كتابه «عمل السلبية»، يستكشف غرين تأثير السلبية على مجموعة واسعة من الحالات التي تتراوح بين العادية والمرضية بشدة. فالسلبية تُشير، أولاً، إلى «الرفض المستمر لما لا يُحتمل على الأنا، وهو ما يتجسد في آلية الكبت». وثانيًا، تشمل «تدميرية دافع الموت الذي يعمل بوصفه رفضًا جذريًا للمتعة والرضا». وفقًا لغرين، فإن عمل السلبية يتضمن طيفًا واسعًا مما يسميه «النزعات السلبية»: الكبت، والإنكار، والرفض، والاستبعاد، والهلوسة الناجمة عن الذهان. ستتطرق تحليلاتي إلى الحساسية بوصفها ميدانًا للسلبية، إذ تُصبح وسيلةً للتعبير عن المشاعر المحرمة ــ وغالبًا ما تكون جنسية ــ التي يصطدم تعبيرها بالعوائق الاجتماعية واللغوية، فتسيطر عليها عمليات الكبت، وفقدان الوعي، والفراغات، والصمت.

إن المعالجات الطبية في القرن الثامن عشر لم تتناول الإغماء إلا بصورة سطحية، وغالبًا ما كانت تفسيراتها غامضة. ففي الرسائل الطبية المتعلقة بما يسمى «الأمراض العصبية»، كان يُنظر إلى الإغماء عادةً على أنه عرضٌ مصاحب لحالات أخرى مثل الهستيريا أو الصرع. وفي المصطلحات الطبية لتلك الفترة، كان يُشار إلى الإغماء بحالات من فقدان الحس أو الوعي، عبر المصطلحين التقنيين «الغشي» و«الخمود» (أو ضعف الروح). ولا تزال هذه المصطلحات مستخدمة حتى اليوم في الطب. وعلى الرغم من أن «الغشي» و«الخمود» يردان في معظم القواميس الطبية، فإن التفسيرات المتعلقة بهما كانت غالبًا موجزة وغير كافية. فعلى سبيل المثال، القارئ الفضولي لقاموس جون كوينسي في أوائل القرن الثامن عشر سيجد الوصف التالي للإغماء: «يأتي من أسباب متعددة، لكنه غالبًا ما يكون هستيريًا، ولذلك يُعالج على هذا الأساس، إلا إذا كان ناجمًا بوضوح عن سبب آخر، فعندئذٍ يتم التعامل معه وفقًا لذلك».

وربما نجد أن النقاش الأكثر تفصيلاً حول هذه الحالات يُقدمه روبرت جيمس في «القاموس الطبي». هنا، يُنظر إلى الغشي والخمود على أنهما مظهران لضعفٍ عام في البنية الجسدية، ويمثلان درجتين من تدهور أو فشل القوى الطبيعية. فالخمود، وهو الدرجة الأدنى من الضعف، يتميز بضعفٍ عام في الحركة والكلام، وفقدان في حواس الجسد يُسمى «فقدان الحس». أما الغشي فهو حالة أشد خطورة من الخمود، إذ يشمل فقدان الحركة والإحساس، كما يتضمن فقدان الوعي. فيبدو الخمود وكأنه شللٌ عام في الجسد والحواس، بينما يُحاكي الغشي الموت:

إذ يُحرم المريض من جميع قواه الجسدية والعقلية، ويسقط على الأرض بلا صوت، كأنه في نومٍ عميق، يرقد بلا حركة، دون أن تظهر عليه علامات التشنج أو الارتجاف؛ يتوقف النبض والتنفس، وتبرد أطرافه وتتقلص، ويظهر عليه وجه الموت، وتتدفق حول صدغيه قطرات من العرق البارد.

فيبدو الغشي كأنه موت قصير ومؤقت، يعود منه المريض تدريجيًا إلى الحياة حينما يُستعاد الدوران، و«تبدأ الوظائف التي توقفت تدريجيًا في استئناف عمله».

حتى في تعريفاتها في القرن الثامن عشر، ترتبط حالة الغشي بالحالة النفسية الجسدية وتلامس مجال الكلام والشعر والموسيقى. ففي عالم الشعر، على سبيل المثال، يعني الغشي اختصار كلمة بالحذف (كما في «o’er» بدل «over» أو «e’en» بدل «even»). والغشي، بمعنى التقلص أو الحذف، هو أيضًا اسم لأسلوب شعري يُستخدم لضمان تناسق الوزن في البيت أو لتتناسب السطور مع النمط الوزني للشطرة. فكما يُضحى بمقطعٍ ما في سبيل انتظام الإيقاع، كذلك الحياة تُختصر وتُعطل فجأة بفقدان الوعي. وكما في الموسيقى، يحدث تحويلٌ خفي للإيقاع حيث تصبح الحالة التي تتجاوز الوعي أكثر وضوحًا من الوعي نفسه. يُعكر إيقاع الحياة، وحتى بعد تعافي المريض، فإنه يظل يشكو من تعبٍ غير عادي وضعف في الأعضاء وفي الجسد كله. بل إن مثل هذه الحالات قد تنحدر بسهولة إلى حالات أكثر حدة. إذ قد يتدهور الحال من خمود إلى غشي، ومن غشي إلى حالة أكثر خطورة تعرف بالاختناق، حيث ينطفئ النبض والتنفس تمامًا، ويبرد الجسد، وقد يعقب ذلك الموت.

في الطبّ في القرن الثامن عشر، كانت هذه الخسائر في الحضور الجسدي والعقلي تُنسب في الغالب إلى القلب وفشله، وكان يُعتقد أنها تحدث في الأشخاص ذوي البنية الضعيفة. وحتى في الحالات التي يكون فيها الإغماء نابعًا من العقل، كان يُربط بضعف البنية الجسدية، ويُفسر ويُعالج بوصفه حالة جسدية. فالغشي، وفقًا لما ذكره روبرت جيمس، هو «توقفٌ مفاجئ للحركة في القلب». وكان هذا التوقف الناتج عن اضطراب الدورة الدموية قد يُسببه الانفعالات أو العواطف العقلية، وكذلك عوامل أخرى مثل سوء التغذية، أو درجة حرارة الهواء، أو الروائح الغريبة، أو الإفراط في الملذات الجسدية. وكان تُعتبر البنية ضعيفة إذا كانت «تُثار بسهولة إلى حركات غير منتظمة من بعض الأسباب الخارجية الطفيفة». النساء، وكذلك الأطفال أو كبار السن، كانوا يعتبرون من الفئات التي تُصنف بأنها أكثر عرضةً لهذه النوبات من الغشي والخمود، وبالتالي كانوا أيضًا أكثر استعدادًا للتعرض لعواطف عنيفة كالغضب والخوف والتخيلات المشوشة. أما المعاني السلبية المرتبطة بكلمة «faint» (أي الإغماء) فقد عُكست أيضًا في معجم إريك بارتريدج الإيتيمولوجي، حيث يتم ربط القارئ في مدخل «faint» بمدخل «feign» (أي التظاهر)، الذي يُشرح بأنه «مزيف، ومن ثم جبان» و«فاقد للروح، ومن ثم فاقد للوعي».

وفقًا لشهادات العديد من القواميس والمعالجات الطبية، كانت حالات الإغماء وأشكال أخرى من اعتلال المرأة التي تظهر في روايات الحساسية تُعتبر أيضًا أعراضًا نموذجية للهستيريا. ففي قاموس روبرت هوبر، كانت نوبات الهستيريا تسبقها أحيانًا «كآبة الروح، وقلق العقل، وتدفق الدموع، وصعوبة التنفس، والغثيان، وخفقان القلب» ـ وهذه الأعراض كانت أيضًا علامات على الحساسية. وكان الإغماء غالبًا يرافق نوبة الهستيريا، حيث «يبدو الشخص وكأنه في حالة نوم عميق، دون إحساس أو حركة». ولم تكن الحساسية والهستيريا تتشاركان في العديد من الأعراض فحسب، بل كانت الحساسية تُعدّ حالة حدودية يمكن أن تكون سببًا شائعًا أو عرضًا للهستيريا واضطرابات نفسية أخرى. كثيرًا ما تظهر الحساسية المتطرفة في الرسائل المتعلقة بالجنون كحالة على الحافة، يمكن أن تنزلق بسهولة إلى الجنون. وفي تخيل الجنون كمرض جسدي، تتحول العديد من الرسائل إلى وصف حالات تتعلق بما يسبب الجنون أو يتبعه، أي الحالات العاطفية والعقلية التي تقع على حدوده، وتشمل هذه الحالات الحساسية والعواطف، التي تظهر دومًا في النقاط العمياء لتفسيرات الطب المعاصر.

إن رواية الحساسية - Sentimental novel في القرن الثامن عشر تقدم صورة معقدة إلى حدٍ ما عن اعتلال المرأة. فهذه الروايات تتحاور مع النظريات الطبية المعاصرة المتعلقة بجسد المرأة، كما تشير إلى بعض الإجابات التي قدمها فرويد وخلفاؤه عند معالجة الاضطرابات التي تقليديًا كانت ترتبط بالنساء. فبينما تقدم هذه الروايات «ضعف البنية» الأنثوية، تعكس رواية فيلدينغ «تاريخ أوفيليا» صورة معاكسة لصورة المرأة في المخيلة الطبية لعصرها. تظهر قصة أوفيليا كيف أن الفتاة الشابة تكتسب، من خلال دخولها المجتمع، الرقة والضعف «الطبيعي» اللازمين للتفاعل العاطفي المناسب. نشرت رواية فيلدينغ في عام ١٧٦٠، قبل «جولي» أو «هيليويز الجديدة» لروسو (١٧٦١) أو «إميل» (١٧٦٢)، وقدمت موضوعًا شائعًا في أعمال روسو أيضًا، وهو موضوع المرأة التي تتعلم في العزلة والبراءة، مروجة لقيم الحياة الطبيعية المكتفية ذاتيًا مقابل فساد المجتمع. أوفيليا فتاة يتيمة نشأت تحت رعاية عمتها في كوخ بغابة على حدود ويلز، محمية من التجارب والعلاقات والمشاعر المثيرة، إلى أن جاء اليوم الذي اختطفها فيه اللورد دورشستر الفاسق. لم يعتدِ مباشرةً على فضيلتها، بل أخذها تحت حمايته الأخلاقية المشكوك فيها، وعاشت معه في ضيعته الريفية وفي لندن، محاطة بالثروات والغنى، بينما عزلها عن مصادر المعرفة التي قد تحذرها من الخطر الذي يحدق بها. وكان قصده الخفي أن يجعلها عشيقته، وأن يقنعها بصحة مبادئه المناهضة للزواج.

تجسد رواية فيلدينغ العملية التي تتشكل فيها المرأة الحساسة بجميع صفاتها من الرقة الأنثوية. فالمرض، كما تؤكد أوفيليا، هو حالة تميز ظروفها المتغيرة، ويأتي مع ابتعادها عن بيئتها الأصلية. ففي حين كانت سعيدة وصحيحة البنية في كوخها بالغابة، وتتباهى بأنها ذات بنية قوية طبيعية، فإنها بعد اختطافها كانت تسقط مرارًا في نوبات من الإغماء والحمى الشديدة، وتصبح مكتئبة و«نصف مجنونة»، وتتمنى الموت، وخلال مغامراتها في العالم كثيرًا ما تفقد القدرة على الكلام أو الشعور أو الوعي. الحمى، والانهيار الجسدي، ورغبة الموت، ترافق انتقالها المؤلم إلى مرحلة البلوغ، الذي يحدث عبر انتقالها من حياتها الطبيعية والصحية في كوخها في ويلز إلى الحالة المريضة للمجتمع الإنجليزي الحضري.

لا شكّ أنّ الإغماء في ذلك الزمان كان يُربط بتثبيت الجسد عبر الأربطة والكورسيهات التي لا شكّ أسهمت في إبراز العديد من سمات الأنوثة العاطفية. وكما تذكر فاليري ستيل في دراستها التاريخية عن الكورسيه، فإنّ الأربطة كانت تُشعر المرأة وكأنّها تتعرّض لاعتداء على جسدها، ولكنّها كانت تحمل معاني تتجاوز كونها أداة للقمع والاستغلال الجنسي للمرأة. فقد كانت تخفي وتُظهر الجسد الأنثوي في آنٍ واحد، مُمثلةً الحشمة والجاذبية، الانضباط والعرض الإيروتيكي معًا. أجساد النساء كانت تُقيّد وتُعدّل لتتماشى مع مقاييس المجتمع عبر تلك الأربطة. وفيما يتعلق بالعواقب الطبية، تشير ستيل إلى أن حتى الكورسيه المعتدل في ضيقه يُقيّد التنفّس، ويجعل المرأة تعتمد على التنفس العلوي الحجابي، مما يُحدث خفقانًا في الصدر. وتشير التجارب الطبية الحديثة التي استخدمت الكورسيهات المشدودة بالطراز الفيكتوري إلى أن الإغماء كان محتملًا حدوثه أثناء النشاطات البدنية مثل الرقص، وهو ما عزز الاعتقاد بضعف الجسد الأنثوي وعجزه.

غير أن أوفيليا في رواية فيلدينغ ترفض ارتداء الأربطة. وسأقترح هنا أن فقدانها للحسّ والإغماء يرتبط بحدود التعبير الأنثوي، ويمثل شكلًا متاحًا ومقبولًا اجتماعيًا للتعبير العاطفي. في حالة أوفيليا، فإن المرض والإغماء يعدان لغة؛ وسيلة لقول «لا» للنمط الاجتماعي الذي تُجبر عليه بفعل اختطافها العنيف. يمنحها المرض ملاذًا في اللجوء إلى الإغماء كوسيلة للاعتراض. فهي تقطع وتُقصّر حالتها الصحيحة الواعية، لتتمكن من الانسجام مع حبكتها الجديدة وتلبية متطلباتها العاطفية. يُعد الإغماء وسيلة احتجاج، ولكنه أيضًا يُعتبر استراتيجية للبقاء، حيث يمثل الشكل المقطوع والمجزأ الذي يمكن أن تصبح فيه أوفيليا بطلة الحكاية المفروضة عليها بالقوة.

ترافق الحواس المختصرة وفقدان الوعي انتقال أوفيليا إلى عالم المشاعر الجديدة التي كانت غريبة عنها في عزلتها البريئة. بعيدًا عن التأثيرات الاجتماعية، كانت المرأة في القرن الثامن عشر غالبًا ما تُتهم بالإفراط العاطفي، رغم أن حالتها الطبيعية تبدأ بخلوها من المشاعر الجارفة. وتعتبر أوفيليا عند فيلدينغ رمزًا للأنوثة الفارغة، وهي بذلك سلفٌ لصوفي عند روسو، وفيرجيني عند سان بيير، أو فيرجينيا عند إدغورث، اللواتي نشأن في عزلة تمهيدًا لخدمة أزواجهنّ المستقبليين. كانت حياة أوفيليا الريفية حالة من الرضا والبهجة؛ أما أولى مشاعرها العنيفة والمضطربة فقد ظهرت مع اختطافها. وعلى عكس خالتها، التي بذلت كل جهدها لإقناع الرجل المقنّع بإطلاق سراح ابنة أختها، كانت أوفيليا مشلولة تمامًا أمام أولى المشاعر التي اجتاحتها: الرعب والخوف والحزن. لم يكن لديها القوة لتتكلم، وأصبحت شبه فاقدة للوعي. وكما تصفها الطبّيات المعاصرة في حالة الغيبوبة، تفقد أوفيليا الحسّ والكلام، وهما نفس الأدوات التي كانت ستساعدها على الفرار. وفيما بعد، أثناء احتجازها من قبل دورشستر، تتفاقم حالتها إلى صمت أشدّ: المرض والحمّى التي توقعت أن تكون قاتلة، حتى إنها بدأت تتطلّع إلى الموت، بسبب الخوف والحزن على ما فقدته. غُمرت بأحاسيس جديدة غير معتادة، لم تتعلم بعد كيف توازن بين الرمزي والعاطفي، فأصبحت مشلولة – حتى أن مرضها جسّد حدّ اعتراضها ووسيلته. لا يمكنها أن تكون تلك التي تُصدر القول؛ ولذلك، كما هو حال مرضى هستيريا فرويد، تحوّل جسدها وعقلها إلى أداة للتعبير. وغالبًا ما كانت أعراضها معقدة كأعراض الهستيريا التي وجد فرويد خلال تحليله لدورا أنها يمكن أن تحمل معانٍ متعددة وتشكل نظامًا معقدًا من الرموز التي تقاوم التفسير.

كانت رغبة أوفيليا، المخبأة خلف الأعراض الجسدية، غير مقروءة – ومحطمة. تتأرجح بين الحنين المستمر إلى حالتها البريئة ورغبتها الناشئة في حب دورشستر. وكحال دورا عند فرويد، لم تكن تُصدق وتُساء فهمها؛ إذ يتصدى الآخرون دائمًا لرغبتها في العودة إلى منزلها، ولاحقًا يتعين عليها أن تتعلم أن الشخص الذي تحبه ذو نوايا غير نزيهة. ورغم أن رواية فيلدينغ تنتهي بزواج سعيد بين البطلين، فإن حالات فقدان أوفيليا للوعي المتكررة تُعد شهادة على وجود مسار آخر خفي تسيره القصة، وهو مسار تغذيه الرغبة في الهروب من الحبكة العاطفية نفسها. مرة تلو الأخرى، تتوق أوفيليا للعودة إلى خالتها، أو تتمنى الموت مثل نظيرتها في «هاملت» الشكسبيرية. ومن خلال تلميحات خفية إلى مصير أوفيليا في «هاملت»، تستدعي رواية فيلدينغ فعل الانتحار، النتيجة الواضحة لهذا المسار، الذي يظل غير معلن. مشاعر أوفيليا ناتجة عن العنف، ومغامراتها تحدث ضد إرادتها، وفي معظم الأوقات كانت أكبر رغباتها هي الانتهاء من كل شيء. إنّ العمل بالعنصر السلبي يظهر جليًا في بناء فيلدينغ لشخصية أوفيليا، التي تبدو أحيانًا وكأنها لا ترغب في أن تكون بطلة رواية عاطفية، ولا أن تحمل مشاعر قوية، ولا أن تكون امرأة مُرهفة الحس – رغبة لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال سمات الحساسية الأنثوية: الإغماء، المرض، ورهافة البنية. فقط عبر هذه السمات العاطفية يمكن للمرأة الخيالية الحسّاسة – وهي في جوهرها تمثل احتجاجًا أنثويًا غير واعٍ – أن تقول «لا» للحبكة المفروضة على النساء في رواية القرن الثامن عشر العاطفية.

إنّ التعبير عن الرغبة الجنسية وقول «نعم»، في المقابل، يمكن أن يكون معقدًا بنفس قدر محاولة الهروب من الحبكة العاطفية. فبينما تُعبر الحالات التي تتجاوز الوعي في «تاريخ أوفيليا» وكذلك في «كلاريسا» و«باميلا» لريتشاردسون، عن احتجاجٍ صامت (وغالبًا غير واعٍ) ضد الاغتصاب أو الاختطاف أو المشاركة في الرواية العاطفية، فإن لغة الأعراض غير اللفظية في الروايات التي تلت «جولي» لروسو تعمل غالبًا كوسيلة للتعبير عن الرغبات المكبوتة والمقموعة. رواية إنشبالد «قصة بسيطة» تُعد واحدة من هذه الأعمال. وقد كُتبت بعد رواية روسو «جولي»، وهي رواية عن القمع بقدر ما هي عن الحساسية.

في رسالة إلى إنشبالد، تسعى ماريا إدغوورث إلى اكتشاف «سر الجاذبية الخاصة» التي تتميز بها الرواية. وتجد أن «السبب يكمن في ترك الكاتبة للخيال مساحة أوسع مما يتركه معظم الكتاب، وهو ما يجعل التأثير عظيمًا على الخيال». وتوضح إدغوورث أن «بالقوة التي يتطلبها كبت الشعور، نستطيع أن نحكم على شدة هذا الشعور؛ فدائمًا ما تدبر الكاتبة لإيصال القوة اللازمة لكبته عبر علامات بسيطة لكن واضحة». وهكذا، وفقًا لإدغوورث، فإن تأثير الرواية يكمن في تصوير الشعور القوي من خلال كتمه وإخفائه. الفجوات والصمتات تدعونا لتخيل قوة العاطفة، فمقياس هذه القوة ليس في التعبير عنها، بل فيما يتجلى في إثر كبتها. على مستوى الحكاية ورواية الحكاية، يمكن القول إن «قصة بسيطة» تتسم بالتقطع؛ فهي مبنية حول الفجوات والغيابات والصمت، مما يجعل خطاب الرواية ينقل ما يمكن قوله بدلًا من العناصر العاطفية الممنوعة والمقموعة والتي لا يمكن التعبير عنها.

تُرى الآنسة ميلنر، بطلة إنشبالد، من قبل الشخصيات الأخرى على أنها مريبة، مشوشة وغير مفهومة. ويترافق هذا الغموض مع أزمة في التعبير اللغوي الأنثوي، التي تظهر بالتحديد عند ارتباطها برغبة الآنسة ميلنر الفاضحة والمتمردة تجاه دوريفورث، وصيّها الكاثوليكي الكاهن. كان يجب أن تبقى رغبتها مكبوتة، لأن دوريفورث كان بمثابة والد بديل لها، وكان أيضًا كاهنًا مقيدًا بنذر العفة، مما جعله بالنسبة لها بمثابة حاجز يحول بينها وبين تحقيق رغباتها، مثلما تفصل الأخوة عن الأخوات. يبدأ سلوك الآنسة ميلنر في التناقض بشكل صارخ عندما يطلب منها دوريفورث أن توضح مشاعرها وتحدد نواياها فيما يتعلق بالزواج. كانت ترفض الخُطّاب باستمرار وتؤكد أن قلبها غير منشغل – وهو أمر غير مفهوم لأولئك الذين حولها. وضعت تحت ضغط اجتماعي لتقرر بشأن شريك الزواج، وأظهرت اهتمامًا بحماس تجاه أحد الخُطّاب، السير فريدريك لونلي، ومع ذلك أجابت بلا قاطعة عندما سألها دوريفورث ما إذا كان هو الشخص الذي توافق عليه زوجًا. «كلماتك تقول لي شيئًا،» أجاب دوريفورث، «بينما تعلن ملامحك شيئًا آخر—فأيهما أصدق؟».

بعد أكثر من قرن، كان سيغموند فرويد مهتمًا بالمثل بتعقيدات النفي التي لاحظها خلال عمله مع مرضى الهستيريا. وجد أن النفي دائمًا يحتوي على عنصر من الإقرار؛ فهو يعني أخذ العلم بمحتوى لا واعٍ. وعلى الرغم من أن النفي لا يعني قبول المادة المكبوتة، إلا أنه يتضمن بالفعل رفعًا جزئيًا للكبت، مما يجعل من الممكن للمحتوى المكبوت أن يظهر في الوعي. قام المحلل النفسي أندريه غرين بتوسيع فهمه لهذه العملية السلبية. ففي مقالته «النفي والتناقض»، يذكر غرين حالة لمريضة في التحليل، حيث كانت ترفض تفسير المحلل بعنف دائمًا بعد أن تقوم بحركات بارزة من النفي. يكتشف غرين أن هذه الحركات المتطرفة تُكرر موقفًا من طفولتها، حينما كانت ترفض طبق الأرز بالطماطم الذي تقدمه لها أمها، ويرافق رفضها بتلك الحركات العنيفة نفسها. لم تلتحق الطفلة بالمدرسة حتى سن متأخرة بسبب الغموض الذي كان يحيط بأمها وخوفها من الفشل، وهو ما اتضح لاحقًا أنه مجرد تبرير لخوفها من الابتعاد عن والدتها. وفي نوبة غضب من رفض الطفلة للطعام، سحبتها الأم إلى المدرسة كعقاب، ليتضح لاحقًا أن الطفلة كانت تؤدي أداءً جيدًا في المدرسة. وجد غرين أن الطفلة حققت رغبتها اللاواعية في الذهاب إلى المدرسة عبر رفضها الظاهري لذلك.

في رواية إنشبالد «قصة بسيطة»، تستعين الآنسة ميلنر أيضًا بالنفي لتحقيق رغبتها السرية والمحرمة – حبها غير المعلن، ولوقت من الزمن كان غير واعٍ – تجاه وصيّها. حتى عندما تدرك الآنسة ميلنر حبها، يتعين عليها إخفاؤه والتستر عليه. ولتفادي مبارزة بين دوريفورث والسير فريدريك، توافق على الزواج من الأخير، ولكنها تتراجع عن هذا القرار بعد أن يزول الخطر المباشر – خطر فقدان دوريفورث – فتبدو أمام الناس متقلبة ومبهمة. ووظيفة هذا «لا»، بعيدًا عن رفضها للسير فريدريك كزوج، هو «نعم» مخفي لرغبتها السرية في دوريفورث. وبالإضافة إلى الغموض اللفظي والصمت، تستعمل ميلنر لغة الجسد للتعبير عن «نعم» لرغبتها و«لا» لمتطلبات الزواج البطريركي. هذا الغموض الظاهر يمكن اعتباره أحد السبل العديدة التي تعبّر بها عن ما لا يسمح لها بالإحساس به. فعندما يُخطط دوريفورث للزواج من الآنسة فنتون الخالية من المشاعر، ويخرج لتناول العشاء معها، تفقد ميلنر رغبتها في تناول الطعام. لكن عندما تعلم أن دوريفورث لم يتناول العشاء في منزل فنتون، تبدأ بتناول الطعام. مثل مريضة غرين التي لم ترغب في تناول أرز الطماطم، يحمل تناول الطعام أو الامتناع عنه معانٍ تتعلق بسرّ ميلنر. ومن ثم، تصبح هذه العلامات غير اللفظية في رواية «قصة بسيطة» بمثابة أعراض مرضية لرغبات مكبوتة.

وفي رواية إنشبالد «قصة بسيطة» ورواية روسو «جولي»، تنتمي العلامات غير اللفظية للعاطفة، بما في ذلك الحالات التي تتجاوز التجربة الواعية، إلى ديناميكية مماثلة من التأكيد السلبي. في رواية روسو، يُعَد الإغماء جزءًا من بناء شخصية المرأة العاطفية كموضوع خيال ذكوري، حيث تجعل جولي إما غائبة جسديًا أو عقليًا في جميع اللحظات المكثفة من الحميمية الجنسية. عندما تلامس أيدي العشاق بعضهم البعض ضد إرادتهم، يشعر سانت برو بالفزع والحمى، بل أشبه بالهذيان. فالملامسة لا تمنحه شعورًا بالآخر، بل تدفعه إلى مواجهة حالته العقلية المتغيرة، التي تقترب من المرض أو الجنون: «أتوقف عن رؤية أو الإحساس بأي شيء، وفي لحظة الضياع تلك، ماذا يمكنني أن أقول، أو أفعل، أو أين يمكنني الاختباء، وكيف أستطيع الرد على نفسي؟» (الرسالة ١). أما اللحظة التي تُظهر غياب جولي بقوة فهي قبلة العشاق الأولى، كما يصفها سانت برو. وبينما يشعر سانت برو باندفاع النار السماوية ويقترب من ذروة النشوة، تسقط جولي في إغماءة: «وهكذا أطفأت النار، وكانت سعادتي مجرد وميض عابر». في تلك اللحظة، لا يُهدد سانت برو براءة جولي، بل هي من تسقط في اللاوعي بقوة الفعل. وهو يشكو من شدة قبلاتها التي «كانت شديدة، شديدة الاختراق، تحرق وتصل إلى النخاع، تدفعني نحو الجنون». يتمنى سانت برو الموت بين يديها أو عند قدميها (الرسالة ١٤).

ويفسر ديفيد مارشال غيابات جولي وغيابات كلاريسا عن لقاءاتهما مع عشاقهما كأعمال مقاومة وهروب. فبينما تهرب كلاريسا من تطفلات لوفليس إلى اللاوعي والموت، تهرب جولي من وولمار عبر الموت. ومع ذلك، أود أن أقترح أن هناك عنصرًا آخر مهمًا في غيابات جولي، ليس فقط محاولة الهروب من وولمار، بل أيضًا إعادة تأكيد رغبتها الخارجة عن العادة تجاه سانت برو في رسالتها الأخيرة – تلك الرغبة التي هي في جوهر ذاتها. والعنصر الأكثر حسمًا في تقدم حبكة جولي هو ديناميكية النفي والتأكيد للعاطفة المقموعة. في مشهد القبلة، لا يُسمح لرغبة جولي الجنسية بالوصول إلى السطح الواعي. بينما يجب نفي الجنس – لاحظ ادعاء جولي الدائم بأنها ترغب في حب أفلاطوني وعفيف فقط – فإن «نعم» جولي يمكن الوصول إليها فقط في لاوعيها. في فعل الإغماء، يُتيح لاوعيها للقاء. وبهذا الشكل، يصبح الشعور بالجنس مستحيلًا: يتم التأكيد على الرغبة الخارجة عن العادة من خلال ما يسميه غرين «عمل السلبي». في تلك اللحظة، تتحول جولي إلى سطح عاكس فارغ لسانت برو. قبلتها تخترق وتحرق وتخترق، لأن سانت برو يواجه رغباته الخاصة في أعمق جذورها.

في الجزء الثاني من رواية إنشبالد «قصة بسيطة»، يظهر مشهدًا مشابهًا للإغماء العاطفي في الحلقة التي تلتقي فيها السيدة ماتيلدا بوالدها دوريفورث (الذي أصبح الآن لورد إلموود) لأول مرة. بالنسبة لماتيلدا، يمثل الإغماء في حضرة والدها شيئًا مشابهًا لغيابات جولي في لقاءاتها الجسدية مع سانت برو. الاتصال الذي طال انتظاره بين المرأة التي تغمرها الرغبة وموضوع شوقها لا يكتمل في صورة تجربة واعية:

...تأكدت مخاوفها أنه هو، فأطلقت صرخة رعب، ومدت يديها المرتعشتين لتتشبث بسياج الدرج طلبًا للدعم، ولكنها أخفقت وسقطت بلا حراك في أحضان والدها. أمسك بها، وكأنما سيلتقط أي شخص آخر سقط لعدم وجود المعونة، ولكنه حين وجدها بين ذراعيه، أبقاها هناك، وتأمل فيها مطولًا، وضمها إلى صدره مرة واحدة. وبعد أن حاول الهرب من الفخ الذي وقع فيه، كان على وشك تركها في الموضع الذي سقطت فيه، حين فتحت عينيها وهمست: 'أنقذني'. أضعفت كلمتها عزيمته، فانفجرت دموعه التي كبحها طويلًا، وعندما رآها تعود إلى إغماءتها مرة أخرى، صرخ بشغف لاسترجاعها. لكن اسمها لم يتبادر إلى ذهنه، ولا أي اسم سواها، سوى «آنسة ميلنر—عزيزتي آنسة ميلنر.

ماتيلدا، رمزٌ لما قُمع في الصدور وصُرف عنه النظر، هي الفكرة المكبوتة التي حملها لورد إلموود في أعماقه. ثلاث سنين مضت وهو في جزر الهند الغربية، وخلال غيابه، أعادت السيدة ميلنر – التي باتت الآن سيدة إلموود – وصل علاقتها بسير فريدريك. وعند عودة زوجها، فرّت هاربة، يطاردها العار والخزي، تاركةً وراءها ابنتها ماتيلدا. لم يستطع لورد إلموود أن يغفر؛ إذ قرر نفي زوجته وابنته، متعهدًا بعدم رؤيتهما مجددًا، بل حتى حرّم ذكر اسميهما في حضرته. حتى عندما سمح فيما بعد لماتيلدا بالعودة إلى بيته، كانت تلك العودة أشبه بالغياب؛ فقد بقيت منسية، مهجورة كأنما كانت طيفًا يسكن بين الجدران، لا يشعر بها أحد، فكان أسمى الحكمة أن يتجاهلها كل من حولها. هكذا صارت ماتيلدا رمزًا لشيء أراد لورد إلموود أن يمحوه من وعيه ووعي الآخرين؛ تلك الذكريات السعيدة الضائعة، وخيانة السيدة إلموود – التي انمحت تفاصيلها في فجوة زمنية قدرها سبعة عشر عامًا بين جزأي الرواية. قسوة الأب جعلت ماتيلدا غيابًا متجسدًا، إشارةً دائمًا لشيء آخر.

لها، غياب والدها الأبدي بات معنى عاطفيًا أعمق من حضوره نفسه. كأنها شبحٌ، ضحيةٌ لنظام الأبويّة، تدفع ثمن إخفاق السعادة الأسرية. فحضور والدها الحقيقي بات أمرًا مدمرًا للمشاعر: «أيقنت الآن أن رؤية أبي ستخلق في نفسي إحساسًا لا يمكنني النجاة منه». وكما كان مريض «غرين» في مشهد الأرز بالطماطم، وجب على ماتيلدا في لحظة إغمائها أن تلجأ إلى السلب لتعبيرها عن الإيجاب. وبالمثل، لورد إلموود، عبر النفي، يفتح مجالًا لظهور المقموع، إذ تسللت الـ«نعم» في صمت عبر ما يبدو «لا». وبينما ظلت ماتيلدا بلا اسم، من خلال نفيها يعترف لورد إلموود بأمها المنفية، السيدة ميلنر. رواية إنشبالد، من خلال محو شخصياتها النسائية، تكشف عن الصمت والإقصاء الذي يطال المرأة، حتى إلى حد الموت، خلف المثال الثوري الذي تمثله جولي لروسو. الرواية، التي تقرأ كردٍ متأخر على روسو، تعرض السيناريو المزعج حيث يتحول الرجل الذي كان ذات يوم يعاون في قلب النظام القمعي إلى طاغيةٍ يعيد بناء هيكل الإرهاب الأسري الذي ساعد في إسقاطه سابقًا. حتى في عام ١٧٩١، لم يُسمح للمرأة بأن تكون موجودة كمخلوقٍ يشعر، مشاعرها مقبولة فقط ما دامت تُستخدم لإعادة السلطة الأبوية. الرواية تكشف أن الحسية جزء من المرض النفسي للأسرة الأبوية، وتكشف كيف أن القمع الاجتماعي يشكل النفوس إلى أشكال مرضية في القرن الثامن عشر، وهذه الأشكال تشمل الطاغية الأسري والمرأة الحساسة التي تجسدها كل من السيدة ميلنر وماتيلدا. وعندما نُشرت الرواية، وجهت ماري ولستونكرافت نقدًا، مشيرةً إلى ضعف شخصية ماتيلدا، معبرة عن خيبة أملها في عدم تقديم نموذج أقوى للنساء:

لماذا، يا معشر الكاتبات، تسممن عقول بنات جنسكُنّ، وتقوّين تحيزًا ذكوريًا يجعل النساء ضعفًا ممنهجًا؟ لقد أشرنا إلى تلك العادة الغريبة التي انتشرت بين أيديكم، حيث تتباهى بطلة الروايات بجسدها الهزيل، وكأن في ذلك مفخرة! وما هو أشد غرابة وإفسادًا، تلك العادة المقيتة في نسج أجمل المشاهد من الحمى والإغماءات والدموع.

صحيحٌ أن الإغماء، كما تفترض النظريات الطبية في القرن الثامن عشر، علامةٌ على «الضعف»، إذ أن السقوط في الغيبوبة والعلل الجسدية يحلّ محل التعبير بالكلمات أو يعطّل اللقاءات المأمولة. وبينما كان تصوير الإغماء العاطفي كدليل على ضعف الأنوثة موضوعًا متكررًا للنقد في تلك الفترة، فإن قراءة أدب الحساسية أو العاطفة في سياق أوسع لتاريخ المشاعر يكشف عن صورة أكثر تعقيدًا. فالعديد من روايات القرن الثامن عشر والرومانسية تستكشف هموم النساء المختبئة خلف ما يُسمى «لغة الشعور»، والتي تمتد إلى ما هو أبعد من التفسيرات السائدة آنذاك لحالات النساء. كما أن الهستيريا، كذلك الرواية العاطفية، تصبح وسيلة للتفكير في مسائل الجنس والموضوع الجنسي. فتلك الروايات تقف، إلى حدٍّ ما، على مشارف فكر فرويد؛ وبحساسيتها تجاه النوع الاجتماعي، تقدم نقدًا اجتماعيًا يتقدم على إنجاز فرويد، ويشير إلى رؤى نفسية وجندرية حديثة. تستغل روايات الحساسية الإمكانات التي يتيحها «عمل السلبية»، ومن خلال عرضها للمرأة المقمعة والمقصية والمنفية، تقوم بفعلٍ من الإقرار، حيث تتعرّف على المعاناة الكامنة وراء الحمى والإغماءات والدموع النسائية. وهكذا تقدم نقدًا مستترًا — وغالبًا غير مقصود — لطبيعة القهر الاجتماعي، بإظهار الحساسية ذاتها، مجسدة في المرأة الحساسة، كعرضٍ من أعراض هذا القهر.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق