إنجاز الأمور بالكلمات
إني ملزمٌ بأن أقول إن القصيدة تفعل شيئاً. هي تفعل شيئاً في اللغة، وتفعل شيئاً في الشعر. هي تفعل شيئاً في النفس. في نفس من ينظمها، وفي نفس من يقرأها. – هنري ميشونيك.
بالرغم من محاولته لتحليل خصوصيات كل فن بشكل منهجي، يبدو أن علم الجمال المعاصر قد ترك الشعر بشكل مفاجئ جانبًا. فبعد أن كان الشعر مثالًا يُحتذى في الفنون خلال الفلسفة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر – كما يظهر عند «بومغارتن» و«كانط» و«هيغل» – فقد الشعر في العالم المعاصر معظم، إن لم يكن كل، قوته الفلسفية. حتى أفلاطون، الذي يُشتهر بعدائه للشعر، يعترف بقوة فريدة يمتلكها الشعر، وهي القوة التي يخشاها، إذ يكشف عداؤه خوفه من الشعر أكثر مما يكشف عن عدم اكتراث به. وفي علم الجمال المعاصر، كما يشير جون غيبسون، «يمكن للمرء أن يقول حتى وقت قريب إن الشعر هو آخر الحدود الكبرى غير المستكشفة في علم الجمال التحليلي المعاصر، وهو فن قديم ومركزي تغافلنا عنه تمامًا أو إلى حد كبير». رغم أن البعض قد يجادل بأن الوضع قد تغيّر منذ ذلك الحين، وأن غيبسون يتجاهل بعض التقاليد الفلسفية في تعامله مع الشعر، إلا أن الشعر قد نال مؤخرًا اهتمامًا أقل من السينما أو الرواية، على سبيل المثال. كيف يمكن تفسير هذا التغير في الموقف تجاه الشعر؟
أحد الأسباب الرئيسية لهذا التحول يمكن العثور عليه في أحد أصول الفلسفة التحليلية: «الانعطافة اللغوية». إذا كانت الفلسفة، بناءً على هذه الانعطافة، مسألة لغة، وأصبحت حل المشكلات الفلسفية مسألة حل مشكلات لغوية، فإن الشعر يبدو عديم الفائدة على الإطلاق، بل قد يكون عائقًا أمام فلسفة اللغة سواء كـ «فلسفة اللغة المثالية» أو كـ «فلسفة اللغة العادية»، وهما نوعا فلسفة اللغة اللذان أشار إليهما «رورتي» في تحريره لـ «الانعطافة اللغوية». إذا كان الشعر يمثل مشكلة بالنسبة للأولى، حيث إنه يقدم شكلًا من اللغة لا يمكن ترجمته إلى منطق رسمي ولا يمكن منحه أي قيمة للحقيقة، فإن الأخيرة أيضًا تُظهر عدم اهتمام بالشعر، كما يوحي «أوستن» بأن العبارات الإنشائية في الشعر «بطريقة غريبة فارغة أو باطلة». هذا الفشل في فلسفة اللغة لتقديم حساب جوهري عن لغة الشعر قد أدى إلى تلويث مجال الجماليات، مما دفع الفلاسفة إلى النظر في أشكال فنية أخرى، أكثر سهولة في التناول باستخدام هذه الأدوات الفلسفية الجديدة. يمكن اعتبار الاهتمام الكبير بالأدب (المفهوم هنا على أنه الرواية) ومشكلة الحقيقة في الخيال نتيجة مباشرة لـ «الانعطافة اللغوية». فقد بدأ الفلاسفة في البحث عن مشاكل جمالية يمكن أن تكون لفلسفة اللغة فائدة فيها، بدلًا من تلك الأشكال الفنية التي تمثل مشكلة لفلسفة اللغة. وكما يحرم «أوستن» الشعر من أي قوة إنشائية، فإن الجماليات المعاصرة تسلب الشعر قوته الفلسفية.
إذا قدم هذا العرض صورة مبسطة لمكانة الشعر في الجماليات التحليلية، فقد يظن المرء أن الشعر في حال أفضل على الجانب الآخر مما يُسمى «الفصل بين الفلسفة التحليلية والقارية». للوهلة الأولى، يبدو أن الفلاسفة القاريين يواصلون الإشادة بالشعر كما في القرن التاسع عشر. على سبيل المثال، يعتبر «هايدغر» الشعر على قدم المساواة مع الفلسفة، بل ويعتبره الفن الأكثر فلسفية من بين الفنون. لكن إذا نظرنا بعمق أكبر، نجد تحولًا مشابهًا لما حدث في الجماليات التحليلية. رغم أن الأمر لا يُعد علامة على عدم الاكتراث بالشعر، فإن نظرية «سارتر» حول الأدب تبدو وكأنها تُحدث تحولًا مشابهًا من الشعر إلى الأدب (ونفهم هنا، كما في الفلسفة التحليلية، «الرواية»). في الواقع، يُعرّف «سارتر» الأدب بمصطلحات الالتزام السياسي وينكر على الشعر أي التزام.
بشكل عام: إذا كانت قوة الأدب تتناسب طرديًا مع التزامه السياسي، فإن الشعر لا يمتلك أي قوة لأنه يُحرم من هذا الالتزام. لا يعني ذلك أن «سارتر» ينكر عظمة الشعر، لكنه يُنسب إليه عظمة من نوع آخر، ليست ذات نفع لأي اهتمام في العالم الواقعي. إذا كانت للشعر قوة في الجماليات القارية، فهي ليست قوة سياسية أو قوة تأثير في العالم اليومي، بل هي قوة تُبعده وتعزله عن الأمور الشائعة. أحد الأسباب المحتملة لهذا التحول هو قلب القيمة بين الأدب والشعر. ففي حين كان الشعر هو الأدب (أو الشكل الأدبي الأعلى) بالنسبة للفلاسفة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (وفي هذا السياق، يرث «هايدغر» هذه الخلفية ويواصل تقليدًا رومانسيًا)، يشهد القرن العشرون صعود الرواية إلى قلب الاهتمامات الفلسفية. عندما يفكر المرء في الأدب اليوم، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن غالبًا ما يكون رواية وليس قصيدة. بهذا المعنى، فإن فلسفة الشعر قد تعتبر فرعًا من فلسفة الأدب، وليس العكس.
ومع ذلك، حتى لو كان هناك مثل هذا التحول، فإنه لا يفسر ازدراء الشعر ولماذا جرده الفلاسفة من قوته. أهدف هنا إلى إعادة إحياء قوة الشعر من خلال إظهار أن له قوة لغوية، وفلسفية، وحتى سياسية (وهذا بقدر ما للرواية)، لأنني سأجادل بأن للشعر بُعدًا ثوريًا. وبخلاف الفكرة القائلة بأن الأدب (كرواية) يمكن أن يعلمنا حقائق عن العالم، سأجادل بأن الأدب (كشعر) يعلّمنا طريقة مختلفة لرؤية العالم، وأن قوته تكمن في قدرته على أن يجبرنا (وربما يلزمنا) على رؤية الأمور بوجهة نظر جديدة. وكما يقول «فيتغنشتاين»: «يجبرنا العمل الفني على رؤيته من المنظور الصحيح. أكثر من مجرد رؤية العمل الفني بحد ذاته من المنظور الصحيح، يجبرنا على رؤية العالم في ضوء جديد، في منظور يمنح الأشياء معناها.
الشعر ثوري بمعنى أنه يُظهر لنا اللغة والعالم بوجهة نظر جديدة. فهو لا يقوم بشيء باستخدام اللغة فحسب، بل يقوم بفعل شيء للغة نفسها. وإذا أعدنا صياغة عنوان «أوستن» الشهير، وبذلك نعكس تقييمه للشعر، فقد لا يُظهر لنا الشعر «كيف نفعل أشياء بالكلمات»، بل يُظهر لنا كيف نفعل أشياء بالكلمات نفسها. قوة الشعر ليست سياسية في المقام الأول، لكنها تصبح سياسية بقدر ما تعدّل اللغة، ومن خلال هذا التعديل في اللغة، تغيّر طرق وجودنا في العالم.
أتناول هنا طريقتين يتم من خلالهما اعتبار الشعر بلا قوة، سواء من الناحية اللغوية أو السياسية. كما تم توضيحه في المقدمة، يرى «أوستن» أن العبارات الشعرية تفتقر إلى القوة الأدائية، ويرى «سارتر» أن القصائد تفتقر إلى الالتزام السياسي. وعلى الرغم من أن الكاتبين يبدوان بعيدين عن بعضهما البعض، فإن هاتين النقطتين ليستا منفصلتين تمامًا، إذ يعتمد «سارتر» في حجته ضد القوة السياسية للشعر على حرمان الشعر من أي قوة لغوية. في كتابه «كيف ننجز أشياء بالكلمات»، يُميز «أوستن» بين الجمل التصريحية، وهي عبارات تفيد حقائق، والجمل الأدائية التي «من خلالها، بقول شيء أو عند قول شيء، نقوم بعمل ما». بعبارة أخرى، ووفقًا لمثال «أوستن»، فإن قول «أعدك» ليس بيانًا عن حقيقة، بل هو أداء لفعل الوعد، كما أن قول «نعم» في مراسم الزواج هو أداء لفعل الزواج. «هنا ينبغي أن نقول إن قول هذه الكلمات هو فعل شيء، أي الزواج، وليس تقرير شيء، وهو أننا نتزوج». هناك فرق بين الأفعال الكلامية التي تصف أو تُبلغ عن حقيقة والأفعال الكلامية التي تُنجز عملاً، على الرغم من أن كلا النوعين من الجمل قد يبدو متشابهًا. الجمل الأدائية قد تبدو نحويًا كالجمل التصريحية، لكنها تختلف عنها في أنها لا يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة؛ فهي لا تحمل قيمة الحقيقة، ولكنها تحمل قوة معينة.
للوهلة الأولى، قد يبدو أن استبدال مفهوم قيمة الحقيقة بمفهوم القوة قد يفتح المجال لاستيعاب استخدامات اللغة التي تهرب من لعبة الحقيقة، مثل الاستخدامات الشعرية والأدبية. بالفعل، في إطار التصورات عن اللغة القائمة على قيمة الحقيقة، تُعتبر الاستخدامات الشعرية والأدبية إشكالية، لأنها يجب أن تُعتبر خاطئة. وعلى الرغم من كونها خاطئة، قد لا تكون بلا قوة، ويمكن لمفهوم القوة أن يخدم هنا في إعادة هذه الاستخدامات إلى النظرية والفلسفة اللغوية. لكن «أوستن» لا يقوم بهذه الخطوة، بل يتبع التقليد في استبعاد هذه الاستخدامات من اعتباره. في استبدال مفهوم قيمة الحقيقة، يستخدم «أوستن» مصطلح السعادة أو الفلاحية. ومع ذلك، عند وصف الجمل الأدائية الفلاحية وغير الفلاحية، يوضح أن بعض الجمل لا تشارك في هذه اللعبة من الفلاحية. وهذه الجمل هي الاستخدامات غير الجدية للغة:
ثانيًا، كعبارات كلامية، فإن جملنا الأدائية عرضة أيضًا لأنواع أخرى من العلل التي تصيب جميع العبارات. ومرة أخرى، قد يتم تضمينها في إطار أعم، لكننا نستبعدها عمدًا في الوقت الحاضر. أعني، على سبيل المثال، التالي: الجملة الأدائية ستكون بطريقة خاصة جوفاء أو باطلة إذا قالها ممثل على خشبة المسرح، أو إذا تم إدخالها في قصيدة، أو إذا قيلت في مناجاة. وينطبق هذا بنفس الطريقة على أي وكل جملة – تحول بحري في الظروف الخاصة. اللغة في مثل هذه الظروف تُستخدم بطرق خاصة – وبفهم – بطرق غير جدية، ولكن بطرق طفيلية على استخدامها العادي – طرق تندرج تحت نظرية ذبول اللغة. كل هذا نستبعده من الاعتبار. الجمل الأدائية لدينا، سواء كانت فلاحية أم لا، يجب أن تُفهم على أنها صادرة في ظروف عادية.
من البداية، يعتبر «أوستن» أن العبارات الشعرية «جوفاء أو باطلة». هذه النظرة ليست جديدة في فلسفة اللغة، وتعكس الرفض التقليدي للاستخدامات الشعرية باعتبارها انحرافات عن الاستخدامات العادية. من الشائع في تنظير اللغة التمييز بين الاستخدامات العادية والاستخدامات الشعرية، حيث تُعتبر الأخيرة انحرافات عن الأولى. ومع ذلك، تفشل هذه النظرة في الاعتراف بأن الاستخدامات «المنحرفة» قد تصبح عادية. الاستعارات التي تسمى «ميتة» هي مثال على كيفية إدخال الاستخدامات غير العادية في اللغة العادية. بشكل أوسع، اللغة اليومية مليئة بالاستخدامات الإبداعية التي تتجاوز ما يسمى بالاستخدامات العادية. باستبعاده للعبارات الشعرية من تصوره عن اللغة، يُقيّد «أوستن» نطاقها ويقوم بتحرك ميتافيزيقي.
في كتابه «كيف ننجز الأمور بالكلمات»، يضع «أوستن» تمييزًا ثانيًا بين «الفعل اللغوي والذي يشمل الفعل الصوتي والفعل الفعلي والفعل الخطابي، وهو ما يحمل معنى؛ والفعل الإنجازي الذي يحمل قوة معينة في قول شيء؛ والفعل الاستتباعي الذي يُحقق تأثيرات معينة بقول شيء». وكما يذكر «أوستن»، فإن التمييز بين الأفعال الإنجازية والأفعال الاستتباعية «يبدو الأكثر إشكالية». وللتفريق بينهما، يُظهر «أوستن» أن القوة الإنجازية ليست نتيجة للفعل اللغوي (بالمعنى الفيزيائي للنتيجة)، بل هي اتفاقية. قد يكون للفعل الإنجازي تأثير، ولكن هذا التأثير يعود إلى الأعراف التي تحكم استخدام اللغة. وعلى النقيض، فإن الفعل الاستتباعي ليس تقليديًا، حيث يهدف استخدام اللغة إلى تحقيق تأثيرات معينة دون أن تكون تلك التأثيرات مُسجلة في اتفاقية.
في هذا السياق، تُعتبر العبارات الشعرية «جوفاء أو باطلة» من أي قوة إنجازية، بقدر ما تكون هذه العبارات غير تقليدية. وكما يجادل «جو فريجييري»، هناك «تعليق للقوة الإنجازية» في العبارات الشعرية. ومع ذلك، تنشأ مشكلتان من هذا التصور: أولاً، هل هذا التعليق دائمًا واضح ومفهوم؟ إن معظم سوء الفهم في الحديث العادي قد ينجم عن تفسير خاطئ لحالة الفعل الكلامي. ثانيًا، هل من الممكن دائمًا التمييز بين الاستخدام العادي والاستخدام غير العادي للغة؟ دون الدخول في تفاصيل مناقشة «دريدا» لـ «أوستن»، فإن اشتراط «أوستن» لوجود «سياق كامل» للتمييز بين الاستخدامات العادية وغير العادية هو أمر يعتبره «دريدا» مستحيلًا. في الحقيقة، يرى «أوستن» أن العبارات الإنجازية، على عكس الجمل التصريحية، لا يمكن فهمها إلا باستدعاء «الوضع الكامل الذي تُنطق فيه العبارة». هل يمكن تحديد هذا الوضع بشكل كامل؟ يجادل «دريدا» ضد «أوستن» بالقول إن السياق لا يمكن تحديده بالكامل أبدًا، وأن اشتراط «أوستن» بذلك هو أمر مستحيل التحقق. فإذا لم يكن من الممكن تحديد السياق بشكل كامل باعتباره عاديًا، فإن من المستحيل التمييز بين الاستخدامات العادية والاستخدامات الطفيلية.
في أعماله المتنوعة، يحاول «ستانلي كافيل» أن يأخذ الشعر بجدية لإنقاذ «أوستن» من انتقادات «دريدا». في كتابه «طبقة من الفلسفة»، يُظهر أن الجدل بين «دريدا» و«سيرل» هو نتاج سوء فهم متبادل تسبب في إحداث مشاكل أكثر للفلسفة مما كان يجب. في الحقيقة، يفشل نقد «سيرل» لـ«دريدا» في إدراك أن «دريدا» يرى شيئًا ذا قيمة في «أوستن»، بينما يُركز «دريدا» بشكل مفرط على رفض «أوستن» للغة الشعرية، وهو ما لا ينبغي، وفقًا لـ«كافيل»، أن يُفسر على أنه رفض كامل. يرى «كافيل» أن ما يعتبره «أوستن» عاديًا هو معارضة لما هو ميتافيزيقي ورسمي، وليس للشعري أو الأدبي. وكما يجادل: «إن اعتقاد الدراسات الأدبية بأن لغة 'أوستن' العادية تتعارض مع اللغة الأدبية يعني لي أن 'أوستن' لم يتم استقباله بشكل صحيح هناك». إحدى الطرق لاستقبال «أوستن» في الدراسات الأدبية ستكون بالتالي هي وضع التمييز بين العادي والأدبي جانبًا. يقترح «ستانلي فيش» مثل هذه القراءة للغة العادية: «ما تخبرنا به الدلالات الفلسفية وفلسفة الأفعال الكلامية هو أن اللغة العادية استثنائية لأن جوهرها يكمن تحديدًا في ذلك المجال من القيم والنوايا والأغراض الذي يُفترض غالبًا أنه ملك للأدب فقط». واتباعًا لنهج «كافيل» و«فيش»، جعلت الفلسفة الحديثة للغة العادية من الأدب جزءًا مهمًا من تحقيقها للغة. إلى هذا الحد، قد يكون مشروع «أوستن» أقرب إلى «دريدا» مما يعتقده المرء في البداية. وفقًا لـ«كافيل»، فإن «دريدا» مخطئ في اعتباره أن «أوستن» يرفض اللغة الشعرية، إذ يرى أن نظرية «أوستن» يمكن أن تكون مفيدة للدراسات الأدبية. وبمعنى ما، يمكن اعتبار فلسفة "كافيل" كلها محاولة لأخذ الأدب على محمل الجد من داخل إطار فلسفة اللغة العادية.
لقد رأينا أنه من خلال حرمان الشعر من أي قوة أدائية أو إنجازية، يقوم «أوستن» بتجريد اللغة الشعرية من أي تأثير على العالم العادي. بوضعه لهذه الاستخدامات على مسرح بعيد عن الاستخدامات العادية، يعزل الشعر عن اللغة العادية. وفي هذا التصور، ستكون قيمة الشعر فقط في لعبة مجردة وعقيمة على اللغة ومعها: مجردة لأنها غير مرتبطة بأي واقع اجتماعي وعملي، وعقيمة لأنها غير قادرة على التأثير في العالم الاجتماعي والسياسي. يؤدي فقدان القوة في الشعر داخل اللغة إلى فقدان القوة في العالم اليومي. «أوستن» ليس الفيلسوف الوحيد الذي يضع الشعر في مكان بعيد، حيث يقترح «سارتر» شيئًا مشابهًا، مستندًا إلى الاعتراف بأن اللغة الشعرية بعيدة عن العادي. يجادل «سارتر» بأنه إذا كانت العبارة الشعرية تفتقر إلى القوة، سواء كانت إنجازية أو أدائية، فلا يمكن أن يكون لها أي تأثير سياسي. يتساءل: «كيف يمكن للمرء أن يأمل في إثارة الغضب أو الحماس السياسي للقارئ عندما يكون الفعل ذاته الذي يقوم به هو أن يسحب القارئ من الحالة الإنسانية ويدعوه إلى النظر بعيني الإله إلى لغة تم قلبها من الداخل؟». بوضع اللغة الشعرية بعيدًا عن اللغة العادية، يتم وضع الشعر في مكان لا يمكنه التأثير فيه على العالم السياسي اليومي. قد يبدو هذا الانفصال مفاجئًا، إذ يُعرّف «سارتر» في كتابه «ما الكتابة؟» الأدب من حيث الالتزام السياسي، ومن حيث التأثيرات التي يمكن أن يحدثها الأدب في إطار سياسي. ومع ذلك، فإن هذا التعريف يخص الأدب (وهنا تحديدًا الرواية) وليس الشعر. في الواقع، يستخدم «سارتر» هذا التعريف لتمييز الأدب عن أشكال الفن الأخرى: «لا، نحن لا نريد أن نُلزم الرسم أو النحت أو الموسيقى أيضًا، أو على الأقل ليس بنفس الطريقة». الشعر هو شكل فني مختلف عن الأدب، وبالتالي هو شكل فني لا تتمثل ميزته الرئيسية في الالتزام السياسي. يمنع تعريف الشعر باعتباره «لغة تم قلبها من الداخل» من أن يكون للشعر أي تأثير سياسي. بالنسبة لـ«سارتر» – كما هو الحال مع «أوستن» – يستخدم الشعر لغة تخرج عن حدود اللغة العادية، أي خارج حدود لغة يمكنها التأثير في العالم العادي.
لتعريف الأدب من منظور سياسي، يرى «سارتر» أنه وسيلة للفعل، فيقول:
إن الكاتب النثري هو رجل اختار وسيلةً للفعل الثانوي، يمكن أن نسميها الفعل بالكشف. ولذا فإنه من المشروع أن نسأله السؤال الثاني: 'أي جانب من العالم تريد أن تكشفه؟ وما التغيير الذي تريد إحداثه في العالم من خلال هذا الكشف؟' فالكاتب الملتزم يعرف أن الكلمات فعل، ويعلم أن الكشف هو تغيير، وأن المرء لا يكشف إلا إذا خطط للتغيير. لقد تخلى عن الحلم المستحيل في إعطاء صورة محايدة للمجتمع والحالة الإنسانية.
فإذا كانت لغة الشعر بعيدة عن العالم اليومي، وإذا كانت، كما يقول «سارتر»، رؤية من عين إله، فإن الأدب، على النقيض، متجذر في العالم اليومي. الكاتب النثري يستخدم اللغة للتأثير في مسار العالم، ليكشف عن جانب من العالم، وبالتالي ليغيره. الكلمات فعل، والكلمات تُنجز. أما بالنسبة للشعراء، فإن اللغة شيء آخر: «الشعراء هم رجال يرفضون استخدام اللغة». لكن تعريفات «سارتر» للشاعر والكاتب النثري تبدو أنها تعتمد على تناقض. فهل الشاعر ليس أيضًا شخصًا «تخلى عن الحلم المستحيل في إعطاء صورة محايدة للمجتمع والحالة الإنسانية»؟ بالنسبة لـ«سارتر»، فإن الشاعر «يسحب القارئ من الحالة الإنسانية ويدعوه للنظر بعيني الإله إلى لغة تم قلبها من الداخل»، ولكن هل توحي مثل هذه الفكرة بأن الشعر لا تأثير له، لا على الحالة الإنسانية ولا على اللغة نفسها؟ إذا كان الشاعر هو من يغير اللغة — الذي «يقلبها من الداخل» — باستخدامه إياها (على النقيض من الحفاظ على اللغة باستخدامها)، فقد يكون هو من يؤثر على الحالة الإنسانية بطرق أكبر من الكاتب النثري.
طالما بقينا ضمن إطار «أوستن» وفلاسفة اللغة، حيث تُعتبر العبارات الشعرية عديمة القوة، فلن يكون للشاعر أي تأثير على العالم العادي. ولكن إذا قلبنا هذا التمييز ونظرنا إلى الشعر باعتباره قويًا، فإن الشاعر حينها هو من يؤثر على الحالة الإنسانية بأعظم تأثير، لأنه يؤثر على كيفية استخدام اللغة. كيف يمكننا قلب هذا التمييز؟ إن التمييز الذي يقترحه «سارتر» بين الكتاب النثريين والشعراء، وكذلك التمييز الذي يضعه «أوستن» بين الأفعال الكلامية العادية والطُفيلية، يعتمد كلاهما على تصور للغة يقوم على هذا التمييز من البداية. إنما بإعادة تقييم تصورنا للغة دون الوقوع في تحيز الازدواجية بين العادي وغير العادي، يمكننا أن نعيد للشعر قوته.
إن كان سلب القوة اللغوية من الشعر يعني انعدام القوة السياسية، فإن إعادة تلك القوة إلى لغة الشعر قد تجعله مرة أخرى ذا شأن في القضايا الاجتماعية والسياسية. فالخطوة الأولى لاستعادة الشعر لقوته هي إعادة القوة اللغوية إليه. إن آراء «نيتشه» في اللغة تقدّم رؤى مفيدة حول كيفية عمل القوة داخل اللغة، وبالتالي كيف يمكن أن تعمل القوة داخل اللغة الشعرية، إن كان هناك حتى فرق بين اللغة العادية والشعرية. قراءة «كلوديا كروفورد» لنظرية «نيتشه» عن اللغة توفر نقطة انطلاق مثالية لاستكشاف مفهوم القوة في آرائه:
في أعماله الأخيرة، يتعمق فهم 'نيتشه' للغة ويقدم مادة لدراسة محددة. فاللغة تحتفظ بفاعليتها كقوة ولعب للقوى، ولكن الآن يبدأ 'نيتشه' في إيلاء مزيد من الاهتمام للقوة التي يمارسها كل إنتاج لغوي فردي كحالة من القيم والفعل. […] تصبح اللغة حالة ديناميكية للتفسير والتقييم، ليس بالمعنى النقدي للذات التي تفسر القيم ثم تتحدث أو تكتب عن تلك التفسيرات، بل بالمعنى الإبداعي حيث يصبح التحدث أو الكتابة هو القوة الجديدة المتجسدة في القيم.
هذا التصور لفهم «نيتشه» للغة يشبه ما قاله «أوستن» من حيث أن اللغة تعادل الفعل. فإذا كانت كل حالة لغوية «حالة من القيمة والفعل»، فإن كل حالة يمكن قراءتها على أنها أداء فعلي. وعلى الرغم من أن التحديد الأولي لـ«أوستن» لفعلية اللغة اقتصر على فئة معينة من الأفعال، إلا أن توصيفه اللاحق لجميع العبارات بأنها تحمل قوة تتجه في هذا الاتجاه. من هذا المنظور، يشارك «نيتشه» فكرة «أوستن» بأن جميع الأفعال الكلامية أدائية، أي أنها تحمل قوة، ولكنه لا تقوم بتمييز جدي بين الجاد وغير الجاد. بالنسبة لـ«نيتشه»، جميع العبارات أدائية، بما في ذلك الشعرية وغيرها من غير الجادة.
وهذا الاختلاف في علاقتهما بالشعر هو نقطة الخلاف الرئيسية بين تصورات «نيتشه» و«أوستن» عن اللغة. ففي حين يشتركان في هذا الاهتمام المشترك باللغة كقوة (نقطة التماس التي اقترحها «دريدا» بالفعل)، فإن المكان الذي يُنسب إلى الشعر مختلف تمامًا. فعلى النقيض من رفض «أوستن» للشعر، يتبنى «نيتشه» العبارات الشعرية بكتابة فلسفته بطريقة شعرية بل وحتى بكتابة القصائد بشكل مباشر. آراؤه حول اللغة، كما أوضح في نصه المبكر «عن الحقيقة والكذب في المعنى غير الأخلاقي»، حيث يعتبر اللغة في المقام الأول استعارة، تبرز الجانب الإبداعي للغة، وهو ما يتعارض مع موقف «أوستن» الوصفي. هذا الجانب الإبداعي مهم لأن إنشاء اللغة، بمعنى التسمية، هو علامة على القوة بالنسبة لـ«نيتشه»، كما يقترح في «جينيالوجيا الأخلاق»: «أصل اللغة نفسه هو تجلٍ لقوة الحكام».
العلاقة بين اللغة والقوة تكمن في أن إعطاء الأسماء، أي التسمية، هو فعل من أفعال القوة، والاستحواذ. اللغة لا تعكس العالم بطريقة محايدة بل تصوغه وفقًا لإرادة الأقوياء. في «جينيالوجيا الأخلاق»، يرى «نيتشه» أن مفاتيح تشكيل العالم قد أعطيت للحكام، لكن في «العلم المرح»، يقترح أن الذين يمنحون الأسماء هم أصحاب الأصالة: «أصحاب الأصالة هم في الغالب من يمنحون الأسماء». هذه الفكرة عن الأصالة تعيدنا إلى مجال الفن والشعر. قراءة هذا القول المأثور مع «جينيالوجيا الأخلاق» في الذهن تشير إلى أن الذين يمتلكون القوة ليسوا الحكام بل الفنانون، أولئك الذين يمتلكون القوة هم من يتمتعون بالأصالة. كصنع للعالم، فإن الأصالة هي قوة شعرية بالمعنى الاشتقاقي لكلمة «poesis»، وهي فعل الخلق، الذي هو في الوقت نفسه فعل تدمير، كما يقول «نيتشه»: «لا يمكننا التدمير إلا كخالقين».
هذه العملية من التدمير والخلق هي في المقام الأول لغوية، كما يجادل «نيتشه» أكثر: "لكن دعونا لا ننسى هذا أيضًا: يكفي أن نبتكر أسماءً جديدة وتقديرات واحتمالات جديدة لنخلق على المدى الطويل 'أشياء' جديدة». فالقوة التي يمتلكها الفنانون، وخاصة الشعراء لكونهم مهتمين أساسًا باللغة، تكمن في قدرتهم على خلق كلمات جديدة وبالتالي أشياء جديدة. القوة اللغوية للأصالة هي قوة مدمرة وخلاقة في آنٍ واحد، وهي التي تغير العالم الذي نعيش فيه.
رغم أن مفهوم القوة نادرًا ما يُتصور بهذه الطريقة في الجماليات، فإنه من الشائع اعتبار الأعمال الفنية ذات قوة معينة، تأثير معين. يرى «نيتشه» أن هذه القوة إبداعية، و«كريستوف مينكه» يقدم استكشافًا شاملاً لقوة الفن في كتابه «قوة الفن». يبني مفهومه للقوة على النقيض من القدرة، حيث تكون القوة فاعلة بينما تكون القدرة سلبية:
القدرة تجعلنا ذواتًا تشارك بنجاح في الممارسات الاجتماعية، بقدر ما تعيد إنتاج شكلها العام. في لعبة القوى، نحن عوامل ما قبل الذاتية وفوق الذاتية، لسنا ذواتًا؛ فاعلون، بلا وعي ذاتي؛ مبتكرون، بلا هدف.
هذه المعارضة بين القدرة السلبية والقوة الفاعلة تذكرنا بقراءة «دولوز» لـ«نيتشه»، والتي يرى فيها أن هناك قوى فاعلة وقوى تفاعلية في فلسفة «نيتشه». يجادل «دولوز» بأن القوى الإيجابية فاعلة، أي إبداعية، في حين أن القوى التفاعلية سلبية بمعنى أنها دائمًا ما تكون خاضعة لقوة فاعلة سابقة. وبالمثل، يرى «مينكه» أن مفهوم القدرة يجعلنا ذواتًا، أي يخضعنا لممارسة اجتماعية، بينما تهدف لعبة القوى إلى تحريرنا من هذا الخضوع. في لعبة القوى، نحن «مبدعون بلا هدف» لأننا مبدعون دون أن نكون خاضعين لممارسة تقليدية. بهذا المعنى، قد لا يعمل الشعر بالفعل داخل نطاق القوى الإلزامية، حيث إنها تقليدية، ولكنه يعمل ضمن القوى الإقناعية. ومع ذلك، كما رأينا مع «أوستن»، فإن التمييز بين الأفعال الكلامية الإلزامية والإقناعية «يبدو الأكثر إشكالية». قد يعني هذا الإشكال، كما يفتح لنا «نيتشه» و«مينكه» الأبواب، أن هذا التمييز يجب أن يُهمل.
قد يكون من المستحيل أن نميز بوضوح بين القوة الإلزامية والقوة الإقناعية. بل قد تتحول القوة الإقناعية مع مرور الزمن إلى قوة إلزامية. وعلى الرغم من أن «أوستن» لم يناقش الكيفية التي تنشأ بها القوة الإلزامية (إذ يبدو من قوله أن هذه القوة إما موجودة أو غير موجودة، دون اعتبار لكيفية ظهورها أو اختفائها)، يمكننا أن نتخيل أن تأثيرًا إقناعيًا غير مقصود قد يتكرر بانتظام حتى يصبح تقليدًا، وبذلك يتحول إلى تأثير إلزامي بدلًا من أن يظل إقناعيًا. يمكن أن تسهم نظرية الاستعارة في توضيح هذه النقطة. في الواقع، من الشائع التمييز بين الاستعارات الميتة والاستعارات الإبداعية. إلا أن الاستعارة الميتة كانت في الأصل استعارة إبداعية، ولكن تكرار استخدامها جعلها تبدو وكأنها لم تعد استعارة. قارن «ماكس بلاك» الاستخدامات الاستعارية التقليدية مثل «شفاه الكرز» بمصطلح «الاستعارة الكلية» حيث يقول: «تُعد الاستعارة نوعًا من الاستعارة الكلية، والتي أُعرفها بأنها استخدام كلمة بمعنى جديد لسد فجوة في المفردات. فالاستعارة الكلية هي إدخال معانٍ جديدة في كلمات قديمة. ولكن إذا كانت هذه الاستعارة تلبي حاجة حقيقية، فإن المعنى الجديد الذي أدخل سيصبح بسرعة جزءًا من المعنى الحرفي». وبذلك، يمكن أن يصبح المعنى الاستعاري معنًى حرفيًا. ومثلما تفقد الاستعارة إبداعها عندما تصبح تقليدية، يمكن أن يتحول التأثير الإقناعي إلى تأثير إلزامي عندما يصبح تقليديًا.
لكن بما أن التقاليد دائمًا ما تكون سياقية، وكما يجادل «دريدا» بأن «السياق الكامل» للفعل الكلامي لا يمكن تحديده تمامًا، فإن هذه التقاليد ليست محددة بشكل كامل أبدًا. هناك نقص في التحديد يظهر بوضوح في استخداماتنا اللغوية (ومن هنا تأتي إمكانية سوء الفهم أو، في مصطلحات «أوستن»، الفشل في الفعل الكلامي). وبالتالي، يبدو أنه بدون هذا التحديد، يكون من الصعب التمييز بين القوة الإلزامية للفعل الكلامي وقوته الإقناعية. وبهذا المعنى، يناقض الشعر الفكرة القائلة بأن السياق والتقاليد التي تعتمد عليها القوة الإلزامية يمكن دائمًا تحديدها. بمعنى آخر، هناك عدد قليل جدًا من السياقات المحددة (إن وجدت) التي تنطبق عليها القوة الإلزامية، وبالتالي قد تنطبق على عدد قليل جدًا من العبارات. بدلاً من تعليق القوة الإلزامية، يكشف الشعر أن هذه القوة قد لا تكون الأكثر أهمية في اللغة. وبهذا المعنى، قد تكون القوة الإلزامية فئة فرعية من القوة الإقناعية، دون وجود تمييز حاد بينهما. لذا، اتباعًا لـ«نيتشه» و«مينكه»، علينا إعادة تقييم تمييز «أوستن» بين القوة الإلزامية والإقناعية، بالنظر إلى أن جميع العبارات لها قوة تعتمد بدرجات متفاوتة على التقاليد والإشارات السياقية.
لكن ما زال يجب توضيح ما تفعله الأفعال الشعرية، وما هي آثارها. يرى «مينكه» أن الفن له تأثير معين، وأنه يمثل فعلًا معينًا يقارب آراء «نيتشه»:
ما يفعله الفن ليس شيئًا معرفيًا، لأن ما يفعله الفن لا يستند إلى المعرفة. ولذلك، أطلقت الجماليات الفلسفية على هذا الفعل اسم 'غامض' (بومغارتن): فالفعل الجمالي ليس نشاطًا واعيًا بالذات، لأنه لا يوجد فعل جمالي بدون تأثير 'قوى غير واعية' (هيردر). هذا التأثير هو اللعب: الربط والفصل وإعادة الربط ثم الفصل مرة أخرى بين الصور في أفعال الخيال.
هناك لعبة قوى تربط وتفصل (في مصطلحات «نيتشه»: تخلق وتدمر) الصور. في الشعر، تكون هذه الصور كلمات، والشعراء هم الذين يربطون ويفصلون الكلمات، ليس فقط فيما بينها، كما في الجملة أو على الصفحة، بل أيضًا بين اللغة والعالم، مما يكشف كيف أن العالم مكوّن بالكلمات. تأثير الفن، وبشكل خاص الأفعال الشعرية، هو الكشف عن لعبة القوى التي نحن منغمسون فيها. هذه اللعبة قوى إبداعية، وبالتالي تخلق الفاعل أيضًا. الشاعر ليس خاضعًا للغة، فهو لا يقف موقفًا تفاعليًا تجاهها، بل إنه موجود حتى قبل هذا التحديد الأول.
في الشعرية، يلعب اللاوعي دائمًا دورًا، ليس بمعنى أن أصالة الشاعر أو عبقريته تكمن في اللاوعي التحليلي النفسي، ولكن لأن «العالم الذي يمكننا أن نصبح واعين به هو فقط»، كما يجادل «نيتشه»، «عالم السطح والعلامات، عالم مصنوع مشتركًا وأبسط». لعبة الشاعر مع اللاوعي هي إذًا توسيع لنطاق اللغة ومن ثم توسيع للعالم؛ فهي قوة فعالة للتحول والإبداع. لقد رأينا أن في لعبة القوى الخلاقة والمدمرة، الشاعر هو فاعل ما قبل الذات وفوق الذات، لا يعمل في عالم الوعي، بل في عالم ما قبل الوعي. من حيث اللغة، يكشف الشاعر عن حدود التقاليد اللغوية (القوة الإلزامية) لأنها لا يمكن أبدًا أن تُحدد بالكامل. بعبارة أخرى، يظهر الشاعر كذات بقدر ما يضع التقاليد اللغوية والاجتماعية والشعرية موضع تساؤل. مفهوم «الذات» هو في صلب تصورات «ميشونيك» و«كريستيفا» عن الشعر، وكلاهما يكشف عن أهمية القوى التحويلية للشعر: تحويل اللغة، تحويل الذات، تحويل المجتمع. وبهذا المعنى، فإن قوة الشعر هي قوة ثورية.
لقد رأينا أن آراء نيتشه حول اللغة تعيد القوة إلى اللغة الشعرية، وأن رؤية مينكه للفن تُبرز أن الفن قوة إبداعية وتحويلية. وما يزال علينا أن نستكشف كيف تعمل هذه القوة في الشعر. سأركز هنا على عملين نظريين: «احتفال الشعر» لـ«ميشونيك» و«الثورة في اللغة الشعرية» لـ«كريستيفا»، وأحلل قصيدة «علاقة نحوية بحتة» لكارولين زكري. كل من ميشونيك وكريستيفا يعتبران الشعر قوة تحولية، إذ لا يترك الشعر القارئ أو الكاتب كما هما؛ بل يخضعان لعملية تحولية نتيجة لتحول اللغة. كما يصرح ميشونيك بوضوح: «لا يوجد شعر إلا إذا تحولت صورة للحياة وصورة للغة، وإذا كانت بصورة متبادلة صورة للغة تتحول صورة للحياة». هذه التحولية المزدوجة بين صورة الحياة وصورة اللغة، وكلاهما يرتبط بالآخر ارتباطاً وثيقاً، هي بالتحديد المكان الذي تعمل فيه قوة الشعر. نتيجة لهذا التحول في صورة حياته، لا يمكن للقارئ أو الكاتب أن يحافظ على نفس الموقف تجاه العالم المحيط بها.
عندما تأخذ الشعر بجدية (على خلاف رفض أوستن للعبارات الشعرية في نطاق «غير الجدية»)، فإنه يجب أن تقبل هذا التحول في صورة حياته. ما هو محوري في آراء ميشونيك هو فكرة أن الشعر والحياة مترابطان بشكل وثيق. ضد الآراء التي تجادل بأن الشعر بعيد عن العالم اليومي المسيس، ومن ثم بعيد عن الحياة العادية، يرى ميشونيك أن الشعر والحياة مرتبطان بشكل وثيق، كما يتضح من عنوان كتابه «القافية والحياة». ينبغي إذن ألا يُفهم الشعر من منظور العمل الفني، أي بطريقة جوهرية، بل من منظور النشاط. فالشعر بوصفه عملاً فنياً هو عمل على تغيير العالم والذات من خلال تحويل اللغة. ضد فكرة أن القصائد تحمل حقائق عن العالم، يجادل ميشونيك بأن القصائد تحمل نشاطًا، تأثيرًا، قوة. مع ميشونيك، ننتقل من مفهوم أوستن للقوة الإلزامية إلى شيء أقرب إلى مفهوم مينكه للقوة: القصائد تحمل قوة تبني الذات بدلاً من إخضاع المستخدمين للتقاليد اللغوية. وبهذا المعنى، يمكن أن تكون القصائد ثورية. ضد فكرة أن الشعر، بوصفه شكلاً من أشكال الأدب، يمكن أن يعلمنا حقائق عن العالم، يعلمنا الشعر طريقة مختلفة لرؤية العالم، وتكمن قوته الثورية تحديداً في قدرته على حملنا لرؤية الأشياء بطريقة مختلفة.
إذا أخذنا على محمل الجد فكرة أن القصائد تحول صورة اللغة وصورة الحياة، فإن التفكير في الشعر لا يتعلق بتفاصيل صغيرة في حياتنا. بل على العكس، إذ يرى ميشونيك أنه «لكي نفكر في القصيدة، يجب أن نعيد التفكير في كامل اللغة، وفي العلاقة الكاملة بين اللغة والفن والأخلاق والسياسة». بقدر ما يحول الشعر صورتنا عن اللغة وصورتنا عن الحياة، فإنه له تأثير أخلاقي وسياسي. بالنسبة لميشونيك، يتطلب التفكير في الشعر إعادة التفكير في اللغة، ومن خلال هذا المفهوم الجديد للغة، إعادة التفكير في وجودنا في العالم. إذا كانت طرق وجودنا في العالم تعتمد على لغتنا، أي إذا كانت صورتنا عن الحياة تعتمد على صورتنا عن اللغة، وإذا كان المفهوم اللغوي يجب أن يشمل الشعر — لأنه من الصعب أن نجادل بأن الشعر لا يتعلق باللغة — فإنه يجب علينا تعديل مفاهيمنا عن اللغة التي تفشل في احتواء الشعر، ومن خلال تغيير هذه المفاهيم، نغير طرق وجودنا في العالم. وبهذا المعنى، يصبح الشعر موضوعًا ذا أهمية فلسفية مركزية. يبرز ميشونيك الأبعاد السياسية والأخلاقية، والأهم من ذلك، الوجودية للشعر، بقدر ما تحمل اللغة هذه الأبعاد السياسية والأخلاقية والوجودية.
الطرق التي يمكن بها للقصائد أن تؤثر على طرق وجودنا في العالم متعددة، ولكن التطورات الحديثة في الشعر تظهر أنه، ضد المثالية الرومانسية للشاعر في برجه العاجي، يجب على الشاعر المعاصر، بعد «بودلير»، الذي «انزلقت هالته من رأسه إلى الشارع الموحل»، أن يكون في العالم اليومي «الموحل» ويعمل فيه. يقوم بعض الشعراء بهذه الحركة من البرج إلى الأرض بالتركيز على الحياة اليومية والعادية كمادة شعرية. ثلاثية «التفريغ» لكينيث غولدسميث، حيث ينقل تقارير الطقس («الطقس»)، وحركة المرور («المرور»)، أو بث الرياضة («الرياضة»)، تشارك في هذه الفكرة عن «الكتابة غير الإبداعية» التي تسلط ضوءًا جديدًا على النصوص والحالات اليومية. باتباع عنوان موي، يقومون بـ«ثورة العادي» حيث يكون العادي هو الموضوع والمادة للثورة: العادي هو المادة المستخدمة للثورة وهو ما يتغير عبر العمل الشعري.
يستكشف فرانك ليبوفيتشي في عمله عن «الوثائق الشعرية» هذه القوة التحويلية للشعر من خلال الطريقة التي يعدل بها الشعر استخدام الوثائق، وبالتالي معناها. تعتمد جزء من تحليلاته على «شهادات» تشارلز رزنيكوف التي، وفقاً لليبوفيتشي، تحول محاضر المحاكم بطريقة تجعلها تفقد طابعها الوثائقي وتصبح ما يسميه ليبوفيتشي «وثائق شعرية» تتجاوز فئات الحقيقة والكذب. كما يجادل عند مناقشة «شهادات» رزنيكوف، تتغير محاضر المحاكم بقدر ما تصبح خيالية، ليس بمعنى أنها تصبح كاذبة، بل لأنها تكشف عن طبيعتها اللغوية، مما «يعلق تلقائيًا فئات الحقيقة والكذب». ما هو مركزي هنا ليس أن هذه الوثائق أصبحت شعرية، بل إدراك أن أي وثيقة لديها القدرة على أن تصبح شعرية، ومن ثم ينبغي إعادة تقييم فئات «الوثيقة» و«الشعر». يتطلب هذا التقييم الجديد للفئات، كما يقترح ميشونيك، إعادة التفكير في السياسة والأخلاق من خلال إعادة تصور اللغة والفن.
حتى إن كينيث غولدسميث يرى أن مجرد إعادة إنتاج النص قد يكون له في بعض الأحيان تأثير أكثر من الإنتاج الشعري «الإبداعي»: «أحيانًا، من خلال إعادة إنتاج النصوص دون تدخل، يمكننا إلقاء الضوء على القضايا السياسية بطريقة أعمق وأكثر إضاءة مما يمكن أن نفعله من خلال النقد التقليدي». تكشف مثل هذه «الوثائق الشعرية» أن الشعر لديه القدرة على تعديل صورة اللغة، وبالتالي صورة الحياة. ولكن أيضًا، باتباع ميشونيك، تظهر أن صورة الحياة نفسها تحول صورة اللغة. لا يخرج الشعر غير متغير من مواجهته للوثائق، بل على العكس تماماً. من المهم ملاحظة أن «الوثائق الشعرية» بحسب ليبوفيتشي ليست كيانات ثابتة، بل هي عمليات يمكنها دائمًا أن تتطور: «النتيجة، من خلال الوصف المتكرر، اكتسبت قوة تحليلية قوية: في الوقت نفسه عملية ومنتج، آلة صغيرة لإعادة الوصف وإنتاج الوصف، يمكن تطبيقها على بعض المواقف، لتعمل كوثيقة شعرية قابلة للنقل، كما لو كانت غير مادية». ضد فكرة أن العمل الفني شيء جوهري، تعتبر «الوثائق الشعرية» أعمالًا فنية تعمل على العالم من خلال العمل على اللغة.
من خلال تأثيرها على العالم اليومي، لا تعد الوثائق الشعرية مجرد أدوات مفاهيمية (كما قد يوحي به مصطلح «الشعر المفاهيمي» لوصف أعمال غولدسميث) بل يمكنها أيضًا أن تطمح إلى تحقيق تأثير تحويلي وحتى سياسي. ومثال على مثل هذه الوثيقة الشعرية ذات الطموحات السياسية هي قصيدة زكري «علاقة نحوية بحتة»، التي تجمع بين مقتطفات من «تقرير التمرين الخرائطي» الصادر عن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، الذي يحلل العنف في جمهورية الكونغو الديمقراطية بين عامي ١٩٩٣ و٢٠٠٣، ومقتطفات من استمارات تقييم فردية من «مركز الاستقبال والتوجيه للقُصّر الأجانب المعزولين في باريس»، التي توضح كيف تقيم السلطات الفرنسية المهاجرين الذين هم دون سن الثامنة عشرة في باريس. تكشف المواجهة وإعادة تشكيل هذه الوثائق عن استخدام معين للغة تهدف الوثيقة الشعرية إلى زعزعته.
تميز زكري بين المصدرين من خلال استخدام اقتباسات قصيرة منظمة على هيئة أبيات من التقرير، وجمل أطول من استمارات التقييم. يولد هذا التمييز تباينًا بين شكل من أشكال العنف العاطفي في الأبيات القصيرة وشكل من الرفض للعاطفة في الجمل الأطول. هناك شيء من التباين بين بنية أكثر شعرية من جهة وبنية أكثر سردية أو جدلية من جهة أخرى.
إليك الأسطر الأولى من قصيدة زكري:
تحت ذريعة البحث عن معادن في أعضائهنَّ
منها الألماس والذهب، النحاس والكوبالت،
والكاسيتريت والقولتان،
شقوا بطنَ حاملٍ، وبالحديد البتار
قطعوا، ومزَّقوا الأبدان،
وعرَّوها، وضربوها بالألواح المثبتة بالمسامير،
لأنها لبست البنطال، فكانت العقوبة الأليمة،
سبعة عشر بالمائة من إنتاج الألماس الخام،
وجاءت بعدها طفلتان صغيرتان،
إحداهما في السادسة والأخرى في السابعة،
ولما سُئل عن أعمار أخواته الكبار،
بدأ يعدّ بصوتٍ عالٍ مُحتار،
ولا يُصدَّق أنه يجهل الأعمار،
وقال: لا أستطيع شرح هذا، ما بي من بيانٍ أو قَدَر.
إنَّ قصيدة زكري تُظهر كيف يُحَوِّل الشعر لغةً عاديةً كاستمارات التقارير والتقييم، ليكشف عن شيء من خلال هذا التحول. فليس هناك ادعاء سياسي مباشر، ولكن دعوة لاكتشاف العلاقات التي تعمل في اللغة. في هذا السياق، يمكننا أن نتوسع في مفهوم الوثيقة ليشمل بعض أشكال الشعر التي لا تستخدم نصوصًا جاهزة. فطالما أن الشعر يستخدم اللغة، وإذا وُجدت عناية باللغة المستخدمة، فإن جميع القصائد يمكن أن تكون، إلى حد ما، وثائقية. إذا اعتبرنا أن لغة الشعر ليست متميزة عن اللغة العادية، فإن اللغة العادية تصبح الوثيقة التي تُعكِّرها وتُحَوِّلها الظاهرة الشعرية. وهكذا، فإن هناك ثورة في العادية، وفقًا لتوريل موي، أو، تبعًا لكريستيفا، ثورة في اللغة الشعرية.
يمكن فهم عنوان كريستيفا بطرق مختلفة، حسب تفسير «في». أولًا، يمكن تفسيره كثورة تحدث داخل عالم اللغة الشعرية، حيث تدرس جزء كبير من أعمالها التغيرات التي تحدث في لغة الشعر الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر. لكن هذا التفسير يبقى ضمن إطار يعتبر أن هناك شيئًا يُدعى «اللغة الشعرية»، رغم أنها تخضع للتغييرات والثورات. أما من منظور أوسع، فيمكن تفسيره كثورة تُحدثها اللغة الشعرية. فالثورة لا تحدث في اللغة الشعرية، بل تتسبب فيها. وحسب هذا التفسير الثاني، يصبح الشعر قوة ثورية. لقد رأينا مع ميشونيك أن الشعر يستقصي العلاقة بين أشكال اللغة وأشكال الحياة. ومن خلال هذا الاستقصاء، ترى كريستيفا الشعر قوة ثورية: «لكن المحاكاة واللغة الشعرية تفعلان أكثر من الانخراط في جدل داخل الأيديولوجيا؛ إنهما تسألان عن المبدأ ذاته للأيديولوجي لأنهما يكشفان عن وحدة المبدأ (الشرط المسبق للمعنى والدلالة) ويمنعان تحويله إلى ثيولوجيا». فطالما أن الحقيقة الشعرية هي مدخل لفهم العلاقة بين اللغة والعالم، وتشكيل هذه العلاقة، فإنها ليست خارج النقاشات الأيديولوجية والاجتماعية والسياسية، بل في قلبها.
اللغة الشعرية هي مساحة للتجاوز حيث تُطرح أسس القاعدة العادية موضع تساؤل جذري. تستخدم كريستيفا مصطلح «الثيولوجيا» لوصف هذه العلاقة مع ما هو ثابت لا يُطرح موضع تساؤل، وهو ما يرتبط بزعم نيتشه في «غسق الأوثان»: «أخشى أننا لم نتخلص من الإله لأننا ما زلنا نؤمن بالنحو...». مضادًا للرؤية التقليدية التي تضع اللغة الشعرية في وضع متميز عن العادية، ترى كريستيفا أنها تكمن في صميمها وتُسائل المعتقدات المترسخة في استخداماتنا للغة. كعدو داخلي، تصبح اللغة الشعرية قوة ثورية. فإن وضع اللغة الشعرية كخارجية يضعف من قوتها، مما يجعلها «آخرًا» يمكن رفضه بسهولة، أما اعتبار اللغة الشعرية في صميم العادي يمنحها قوة تغيير الأشياء من الداخل. بالنسبة لكريستيفا، يؤثر الشعر على اللغة بطرق تجعل مفاهيمنا عن العالم لا تبقى على حالها.
لتصور كيف يُحدث الشعر هذا التغيير، تضع كريستيفا مفهوم الممارسة، وكما رأينا مع ميشونيك، فإن القصيدة ليست عملًا، بل هي ممارسة، نشاط، عمل: «يحقق النص بُعده الأساسي: فهو ممارسة تُشكك في النهايات (الرمزية والاجتماعية) من خلال اقتراح آليات دلالية جديدة». عندما نُسمي النص ممارسة، يجب ألا ننسى أنها ممارسة جديدة، مختلفة جذريًا عن الممارسة الآلية لذات فارغة ترفض الاعتراف بأنها ذات للغة. وبدلًا من مثل هذه «الممارسة»، يشير النص كممارسة دلالية إلى إمكانية — وهي متعة — لذات تتحدث كينونتها موضوعةً في العملية أو على المحاكمة من خلال الفعل. بعبارة أخرى، يعيد النص إلى الممارسة «الصامتة» المتعة التي تُشكلها، ولكن التي لا يمكن أن تصبح متعة إلا من خلال اللغة. إن استبدال كريستيفا «قصيدة» بـ«نص» يُوسِّع نطاق ما هو الشعر وما يمكن أن يفعله. إن الانتقال من القصيدة إلى النص يضعف جميع التعريفات الشكلية للشعر ويتجه نحو مفهوم الممارسة.
بينما تبقى فكرة القصيدة ضمن إطار الممارسة الآلية — حيث توجد قواعد تُعرِّف ما هي القصيدة، وفي هذا المعنى، فإن الشعرية هي مجموعة من القواعد للإبداع الأدبي — ترى كريستيفا أن ممارسة النص هي ممارسة ثورية «تسأل عن النهايات (الرمزية والاجتماعية)». هناك جانب اجتماعي لممارسة النص، إذ تعمل النصوص كقوة نقدية تحاول تجاوز القواعد الاجتماعية الراسخة. ومع ذلك، كما يذهب نيتشه ومينكه، ترى كريستيفا أن النقد ليس سوى جانب من جوانب الممارسة. حقًا، إننا لا نستطيع أن نهدم إلا كخالقين، فالنقد للنهايات لا يحدث إلا من خلال اقتراح أدوات دلالية جديدة. وهكذا، يتحول النص إلى ساحة لا تُعنى فقط بالنقد للقيم الاجتماعية المترسخة، بل أيضًا إلى فضاء خصب لإبداع وسائل دلالية جديدة، تنبض بالحياة وتنفتح على آفاق جديدة.
لذا، يصبح النص ممارسة دلالية، حيث يأتي الموضوع إلى المتعة، إلى اللغة الحية بطريقة إيجابية. إن التركيز على مفهومي النص والممارسة يقود كريستيفا إلى اعتبار الشعر يجمع بين قوتين في اللغة: القوة التدميرية والقوة الإبداعية. إنما في جمع هاتين القوتين، يمكن أن يكون الشعر ثوريًا. إذا ركزت فقط على الجانب النقدي، فسيظل بلا قوة، لأن نقد اللغة باستخدام اللغة هو تناقض ذاتي. لكن التركيز على الجانب الإبداعي للغة يسمح باقتراح ممارسات دلالية جديدة تحل محل طرق التفكير القديمة، وبالتالي، تُدمر كخالقين. كل من ميشونيك وكريستيفا يسلطان الضوء على أن الشعر ثوري لأنه ممارسة تهدف إلى تعديل طرق وجودنا في العالم من خلال تعديل اللغة. ضد تجريد القصائد كأعمال فنية، تعتبر آراؤهم أنه من الضروري التعامل مع القصائد كأعمال فنية، كفعل يُحدث شيئًا في اللغة وفي الذات (كالقارئ والكاتب)، وهكذا ترتبط بفكرة ليبوفيسكي أن الوثائق الشعرية هي عمليات بدلاً من كيانات ثابتة ومستقرة.
تكمن قوة الشعر في هذا الفعل. لذا، يُعلِّمنا الشعر عن الإمكانات الإبداعية الكامنة في جميع أشكال اللغة. بينما يجعل اعتبار اللغة الشعرية كمتميزة جوهريًا عن اللغة العادية من اللغة الشعرية ضعيفة، فإن إعادتها إلى العادي تكشف عن القدرات الإبداعية للغة، والقوى التحولية والثورية التي تُحرك استخداماتنا للغة. إن فلسفة اللغة التي تتجاهل هذه القوة الإبداعية لا تستطيع أن تحصي الإمكانات الهائلة التي تكمن في صميم اللغة. فمثل هذه الفلسفة للغة ستكون، كما تجادل كريستيفا في بداية «ثورة اللغة الشعرية»، «لا تعدو كونها أفكارًا للأرشيفيين وعلماء الآثار وذوي الولع بالموتى».
إذا كانت قوة الشعر ثورية، فإنها، بالنسبة لفلسفة اللغة، تفرض على الفلسفة أن تُجري مثل هذه الثورة لكي تُحاسب على الاستخدامات الإبداعية للغة الموجودة في حياتنا اليومية. فإذا، كما يقول ميشونيك، يُحدث الشعر شيئًا في اللغة، فإنه يفعل شيئًا أيضًا في فلسفة اللغة: يكشف عن عيوب المفاهيم اللغوية وضرورة أي فلسفة جدية للغة أن تحاسب على الظواهر الشعرية. لذا، فإن قوة الشعر تدفع الفلسفة إلى إعادة التفكير في فئاتها (اللغة، الحقيقة، الخيال، العادي) بينما تعدل طرق وجودنا وتأثيرنا على العالم. من خلال فعل الأشياء بالكلمات، يؤثر الشعر على مخططنا المفهومي وأشكال حياتنا. وإذا، تبعًا لأوستن، لا يمكن أن يُعلِّمنا الشعر كيف نفعل الأشياء بالكلمات لأنه لا يمكن أخذه على محمل الجد، فإنه يكشف لنا كيف نفعل الأشياء بالكلمات، ومن خلال هذا الفعل، كيف نُحوِّل ونؤثر على العالم.