خارج الأدب
إنَّ للنَّظَرِ في الآثارِ الأدبيةِ وجوهًا لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ولَكِنَّ النظرَ في الأدبِ نفسِه، بما هو أدبٌ له قواعدُ وأُسُسٌ، لا يكونُ إلا على وجهينِ اثنينِ: إمّا أن يُقبلَ عليه المرءُ من داخلِهِ، فيَقبَلَ القواعدَ المُتَبَعَةَ في هذا اللعبِ، ويؤديَ دَورَ الناقدِ الأدبيِّ كما يقتضي النظامُ، فيُجِيدَ الأداءَ، وإمّا أن يخرجَ منه خروجًا تامًّا، فيَتَأَمَّلَهُ من بعيدٍ، ويسعى لكشفِ قواعدِهِ وتفصيلِها، ويُجادلَ في جوهرِ اللعبِ، فيأبى أن يَكونَ لاعبًا فيه، ويَقارنَهُ بألعابٍ أُخرى، ليُبَيِّنَ حدودَهُ وضَعفَهُ واعتباطيَّتهُ. وَلا بُدَّ للمرءِ من أن يَسلكَ الطريقينِ معًا: فمن جهةٍ، عليه أن يَدخلَ في لعبةِ الأدبِ، ويَمتثلَ لقواعدها، ويَقرأَ الأعمالَ كما صُمِّمَتْ لتُقرأَ؛ ومن جهةٍ أُخرى، عليه أن يُراقبَ اللعبَ من الخارج، فيكونَ في داخلِ الميدانِ وخارجَهُ على التّوالي. ولكنّ الإشكالَ أنّنا لا نستطيعُ أن نَحكُمَ على مُلاءمةِ القواعدِ للنّصوصِ المقروءةِ إلا من خارجِ الميدانِ: ألا يحدثُ لنا أحيانًا أن نَطبِّقَ قواعدَ حديثةِ الابتكارِ على نُصوصٍ قديمةٍ لا تُناسبها؟ فلا بُدَّ لنا أن نَكونَ خارِجَ الميدانِ أحيانًا لنَعرِفَ كيفَ نَلعبُ حين نَعودُ إليه.
إنّ ميدانَ الأدبِ نفسَهُ ذو هندسةٍ مُتغيّرةٍ، لا يَثبُتُ على حالٍ، يَتَشكَّلُ ويَتَبَدَّلُ حَسبَ الأزمانِ والأماكنِ والأحوالِ.
إنّ التأمُّلَ في الأدبِ من خارجِ الميدانِ هو نُوعٌ من النظرِ إلى تاريخٍ مُتَغيِّرٍ على الدوامِ، حيثُ إنَّ مفهومَ الأدبِ ووظيفتَهُ لم يَكُفَّ عن التغيّرِ والتّحوّلِ عبرَ القرونِ. ولهذا السببِ، أسعى إلى بناءِ تاريخٍ مُتَمايزٍ لمفهومِ الأدبِ، يُثيرُ لدى القارئِ إحساسًا بالغُربةِ إزاءَ ذاتِه، ويُزعزعُ عاداتهِ الرّاسخةَ، ويُعيدُ النظرَ في أنظمةِ قِيَمِه ورؤيتهِ للعالَمِ. إنّ من أبلغِ الوسائلِ لِبَيانِ خصائصِ الأدبِ الحاليّةِ هو مُقابلتُهُ بأشكالٍ أدبيةٍ إمّا مُغايرةٌ تمامًا، أو بائدةٌ لا حياةَ لها، ممّا يُحدِثُ أثرَ التغريبِ المَنشودِ. وكلَّما كانت نقاطُ المُقارنةِ أبعدَ مَدى، كانَت المُقارنةُ أَوفَرَ غنًى وأكثرَ نفعًا. وكما كانَ أرخميدسُ يَبحثُ عن نُقطةِ ارتكازٍ لِيَرْفَعَ العالَمَ، كانَت حاجتي إلى نُقطةِ مُقارنةٍ، أَقصى ما تكونُ في القِدَمِ، لأُبَيِّنَ تَحوُّلاتِ الأدبِ الذي نُسمّيهِ اليومَ أدبًا. ومن هنا انطلقَت هذهِ الفكرةِ: فإذا كانَ الغرضُ أن نُبَيِّنَ التّغيّرَ في مفهومِ الأدبِ، فأيُّ بَونٍ أعظمُ من أن نُقارِنَ بينَ طرفَي تاريخِ الأدبِ: بينَ اليومِ وأبعدِ ما يكونُ في الماضي؟ وليس هناكَ من أقدمَ وأَظهرَ من المأساةِ، سوى المَلحمةِ والشِّعرِ الغنائيِّ. والمأساةُ هي الآلةُ المثاليةُ لِنيلِ أشدِّ بُعدٍ عن تصوُّرِنا الحاليِّ للأدبِ.
لكنَّ الإشكالَ، ويا للمفارقةِ، أنّ المأساةَ نفسَها، بعد هذه الرحلةِ الطويلةِ، قد وَصَلَتْ إلينا مُثقلةً بالشروحِ والتأويلاتِ وإعادةِ التفسيرِ، حتّى باتَتْ قريبةً منا بأقصى ما يمكنُ: فمنذُ أن أَعادَ الإنسانيونَ في عصرِ النَّهضةِ اكتشافَ المآسي اليونانيّةِ، أَصبحتِ المأساةُ جزءًا لا يتجزّأُ من تاريخِنا الأدبيِّ والثقافيِّ، وقد تركَتْ أثراً بليغًا عليهِ. ولهذا، وجبَ عليّ أن أنطلقَ في مَسعى مُزدوجٍ للتغريبِ: إذ لم يكن بوسعي أن أُغربَ أدبَنا دون أن أُغربَ المأساةَ أوّلًا؛ فكانَ عليّ أن أبدأَ بكسرِ القشرةِ التفسيريةِ التي تُحيطُ بالمأساةِ اليونانيّةِ وتمنعُنا من رؤيتِها بذاتِها، في فرادتها الأصيلةِ. إنّ ما يفصلُنا عن المأساةِ، في المقامِ الأولِ، هو الأدبُ نفسُه، أي طريقتُنا في قراءةِ النُّصوصِ كُلّها بوصفِها نصوصًا أدبيةً، وفقَ المعنى السائدِ لهذا المصطلحِ منذُ قرنينِ: فَالقِراءةُ الأدبيةُ تجعلُ من كلِّ شيءٍ معنًى، وتُجرِّدُ النّصَّ من سياقِهِ بقدرِ المُستطاعِ، وتَعتبرُ كلَّ نصٍّ كائنًا مستقلاً، وتمنحُ القارئَ سُلطانًا تأويليًا مطلقًا. ولكنَّنا غالبًا لا نَشعرُ بهذهِ الطريقةِ المُغايرةِ في القراءةِ، إذ باتَتْ عندنا طبيعةً ثانيةً. وهذا التأثير الأدبيُّ كانَ لا بدَّ من إظهارِه بوضوحٍ من جديدٍ، لأنّ الإقرارَ بأدبِنا كآخرَ هو ما يَشترطُ وَعْيَنا بغيريَّةِ المأساةِ بذاتِها، والعكسُ صحيحٌ.
وهكذا، خرجَ مشروعُ البحثِ في تحوُّلاتِ مفهومنا الحاليِّ للأدبِ عن المأساةِ اليونانيّةِ، وكانت الفرضيةُ أنّ تحريرَ المأساةِ من كُلِّ الأحكامِ المسبقةِ التي نُثقِلها بها، يُتيحُ لنا أن نُعيدَ اكتشافَ المأساةِ، ليس في حقيقتِها الأولى (فإني أخشى أنّ هذا محالٌ)، ولكن على الأقل في وَعْيِ ما يفصلنا عنها، وهذا بحدّ ذاته ليس بالنتيجةِ الهَيّنةِ. فهنا أعرضُ ما يمكنُ تسميتُه بعمليةِ «التثليث»: فهناك المأساةُ اليونانيّةُ من جانبٍ، و«الأدبُ» من جانبٍ آخرَ (بالمعنى الحديثِ للكلمةِ)، وهناك المُراقبُ النّاقدُ، الفيلولوجيُّ والمؤرّخُ، الذي يَنتقلُ بين هذا وذاكَ، ويسعى في هذا الانتقالِ إلى بناءِ نُقطةِ نظرٍ ليست حياديةً ومُتعاليةً، وهذا ما قد يكون مستحيلًا، ولكنها على الأقل واعيةٌ بموقعها وزمانِها. فالمقصودُ أن يُلاحِظَ الأدبَ من زاويةِ المأساةِ اليونانيّةِ، وتُلاحظَ المأساةَ من زاويةِ الأدبِ.
إنَّ الأمر يتأسَّسُ على أربعةِ تمارينَ فكريةٍ، أربعِ طرائقَ لتغريبِ المأساةِ اليونانيةِ وإبعادِها عن مألوفِها، بل ولإبعادِنا نحنُ أيضًا عن أنفسِنا، لننظرَ إليها من خارجِ ذواتِنا، أُعنونها بـ «المكانِ»، «الجسدِ»، «الإلهِ»، و«الفكرةِ». سأمرُّ سريعًا على ثلاثةٍ منها، وأتوقفُ قليلًا عند الرابعِ.
أما «المكانُ»، فينطلقُ من حقيقةٍ أنَّ معظمَ المآسي اليونانيةِ ترتبطُ ارتباطًا وثيقًا بمكانٍ جغرافيٍّ معينٍ؛ فهي تُعنى، بمعنىً قويٍّ للكلمةِ، ببطلٍ يرتبطُ بأساطيرَ محليةٍ وطقوسٍ خاصةٍ كانَ يعرفُها المتفرجونَ، ولَكِنَّا نحنُ اليومَ فقدنا الإحاطةَ بها. ولإيصالِ هذا الشعورِ إلى القارئ، استخدمُ التشبيهَ بمسرحِ «النُّو» الياباني، وهو فنٌّ مسرحيٌّ نشأَ على بُعدِ نحو عشرةِ آلافِ كيلومترٍ من أثينا، وفي القرن الرابعَ عشرَ الميلادي، بعدَ ما يزيدُ عن ألفَي سنةٍ من سُقراط. ليسَ التشبيهُ دليلًا قاطعًا، لكنهُ على الأقلِّ يجعلُنا ندركُ المسافةَ البعيدةَ التي لا تزالُ تفصلُنا عن فهمِ فرديةِ هذه الظاهرةِ الثقافيةِ المنقضيةِ، كالمأساةِ اليونانيةِ. لا بدَّ من المرورِ بالآخرِ لنستشعرَ البُعدَ الذي يفصلُنا عن الذاتِ. وفي هذا السياقِ، يساعدُ التشبيهُ على فَهمِ أنَّ النظرَ إلى المآسي اليونانيةِ دونَ معرفةِ الأماكنِ المرتبطةِ بها يُشبهُ الإعجابَ بتمثالِ «فينوس دي ميلو» دونَ أن نُدركَ أنّهُ يفتقرُ إلى ذراعينِ. على خلافِ الكثيرِ من الأدبِ الحديثِ، لا يدَّعي النَّصُّ المأساويُّ استقلالَهُ؛ فقوتُهُ تَعتمدُ على حقيقةٍ مفقودةٍ.
في «الجسدِ»، أُبيِّنُ، في وجهِ التفسيرِ العقليِّ البحتِ الذي شاعَ في العقودِ الأخيرةِ، أنَّ النَّظرَ الدقيقَ في النصوصِ الأرسطيةِ يكشفُ أنَّ التطهيرَ المأساويَّ الذي حَدَّدهُ أرسطو في «فن الشِّعر» يعملُ في الحقيقةِ بطريقةٍ فسيولوجيةٍ، إذ يُعيدُ التوازنَ المزاجيَّ في جسدِ القارئِ أو المُشاهِدِ. فبآليةِ التطهيرِ، يُفترَضُ بالنصِّ المأساويِّ أن يَخترِقَ تركيبَ الجسدِ والعقلِ ويُحدِثَ تأثيراتٍ صحيةً. ولا شيء يُظهرُ الفجوةَ التي تفصلُ بينَ التصورِ الأدبيِّ السائدِ في عصرِ أرسطو، حيثُ كانَ للجسدِ مكانةٌ أساسيةٌ، وبينَ تصوُّرِنا الحاليِّ، حيثُ طغى الفكرُ والعقلُ على كلِّ شيءٍ.
عند «الإله»، تُحصى الفرضياتِ المختلفةَ حولَ الأصلِ الدينيِّ للمأساةِ، وتعتمدُ خصوصًا على تأملاتِ «كليمنت الإسكندري»، في القرنِ الثاني الميلادي، ليُقدِّمَ نموذجًا لفَهمِ المأساةِ بعيدًا عن المسرحِ كما نعرفُه اليومَ، كأنْ نَراها في طقوسِ القداسة، مثلًا. وهي طريقةٌ أخرى لتغريبِ تلكَ الأعمالِ القديمةِ وإيجادِ نظائرَ لها، إذ نعجزُ عن الوصولِ إليها مباشرةً؛ لأنّ الأدبَ الحديثَ قد بُنيَ إلى حدٍّ كبيرٍ ضدَّ القداسةِ: إذ تزامنَ إطلاقُ المطلقِ الأدبيِّ مع نزعِ القداسةِ عن العالمِ. وكيفَ لنا أن نفهمَ العلاقةَ الحميمةَ بينَ المأساةِ والإلهِ إذا كانَ أدبُنا نفسُهُ، بعيدًا عن استدعاءِ الآلهةِ، قد بُنيَ ضِدَّها ويسعى حتى إلى إزاحتِها؟ إنّ الأدبَ المطلقَ يمنعنا، في كثيرٍ من الأوجهِ، من الوصولِ إلى سرِّ المأساةِ.
العلاقةُ بالمكانِ، التأثيرُ على الجسدِ، استدعاءُ الإلهِ: هذه أسرارُ المأساةِ القديمةِ تُحدِّدُ في نقائِضها ماهيةَ فنِّ لغتِنا الحديثةِ، الذي لا يعرفُ مكانًا ولا جسدًا ولا إلهًا. بل إنَّ هذهِ الخصائصِ هي سببُ وجودِه: فالأدبُ، بمعناهُ الحديثِ، وُلِدَ مُنْفَصِلًا عن كلِّ الروابطِ التي كانت تربطهُ بالعالمِ المحسوسِ وما وراءَ المحسوسِ، وهو فنٌّ غيرُ مُحَدَّدِ المكانِ والعقلانيُّ بامتيازٍ.
لربما توقَّفتُ هنا وتركتُك مع هذه التساؤلاتِ، ولكن كيفَ لي أن أعيدَ تناولَ هذا الكتابِ دون أن أُشيرَ إلى ما يبدو لي أنه أحدُ أبرزِ إضافاتِهِ وأهمِّها، التي قد تُغيِّرُ بشكلٍ جذريٍّ فهمَنا للمأساةِ اليونانيةِ؟ وهذه الإضافةُ تزدادُ دهشةً إذ تعتمدُ على ملاحظاتٍ بسيطةٍ كان ينبغي أن تُدرَكَ منذ زمنٍ بعيدٍ. لكننا نعلمُ جيدًا منذ إدغار آلان بو ورسالتِهِ المسروقةِ أنَّ الأظهرَ ليس دائمًا هو الأوضح.
الحُجَّةُ تبدأُ بتساؤلٍ حولَ ملاءمةِ أو عدمِ ملاءمةِ مفهومِ المأساويةِ الذي تطوَّرَ في الفلسفةِ الألمانيةِ منذ نهايةِ القرنِ الثامنَ عشرَ، لوصفِ المأساةِ اليونانيةِ: هل مفهومُ المأساويةِ مُناسبٌ لواقعِ المآسي؟ ما يُثيرُ الاهتمامَ هو عجزُنا عن الإحاطةِ بكلِّ تنوُّعِ المآسي التي قُدِّمت في العصورِ القديمةِ اليونانيةِ. تعتمدُ معرفتُنا بالمأساةِ أساسًا على اثنتينِ وثلاثينَ مسرحيةً فقط لكلٍّ من أسخيليوس، سوفوكليس، ويوربيديس، وهو عددٌ ضئيلٌ للغايةُ بالمقارنةِ مع أعمالِ هؤلاءِ الكتَّابِ؛ إذ لا نمتلكُ من سوفوكليس مثلًا سوى سبعِ مآسٍ من أصلِ مئةٍ وثلاثٍ وعشرينَ يُقال إنه ألَّفَها، والنسبُ متقاربةٌ بالنسبةِ للآخرينَ. ولكن ذلكَ يظلُّ أقلَّ بكثيرٍ بالمقارنةِ مع المئاتِ بل الآلافِ من المآسي التي أُنتجت خلالَ تلكَ الحقبةِ. يُمكنُنا بسهولةٍ حسابُ أننا لا نملكُ سوى واحدٍ أو اثنينِ بالمائةِ من المجموعِ الكليِّ؛ فالخسارةُ هائلةٌ. والسؤالُ هنا مزدوجٌ: سؤالٌ جوهريٌّ: إلى أيِّ مدى تُمثِّلُ هذه المسرحياتُ الاثنتانِ والثلاثونَ المجموعةَ الكاملةَ؟ وسؤالٌ ثانويٌّ: هل يمكنُ الإجابةُ على هذا السؤالِ في غيابِ هذا المجموعِ المفقودِ؟
ورغمَ أنَّ المشكلةَ تبدو غيرَ قابلةٍ للحلِّ، إلا أنها لم تُزعِجْ أحدًا في الغالبِ؛ فقد كانَ من المعتادِ التصرُّفُ كأنَّ المآسي التي وصلت إلينا هي الأكثرُ جدارةً بالحفظِ، دونَ كثيرِ اكتراثٍ بهشاشةِ هذا الإيمانِ. الشيءُ الوحيدُ الذي علَّمتنا إياه الفيلولوجيا هو أنَّ معظمَ هذهِ المآسي تعودُ إلى اختيارٍ مدرسيٍّ من أواخرِ القرنِ الثاني الميلادي، والذي استمرَّ في المخطوطاتِ البيزنطيةِ كنوعٍ من الأنطولوجيا التي وصلتنا دونَ أيِّ إرشاداتٍ أو توضيحاتٍ بشأنِ معاييرِ اختيارِها. وبالنظرِ إلى الطابعِ التعسفيِّ لكلِّ أنطولوجيا، فإنَّ هناكَ ما يكفي من أسبابٍ للقلقِ بشأنِ تمثيلِ مجموعِنا الحاليِّ، لكن كيفَ نُثبِتُ تعسفيَّةَ هذا التمثيلِ دونَ وجودِ مرجعيةٍ؟ وإذ بهذهِ المرجعيةِ تظهرُ أمامَنا، لكننا حتى الآنَ لم نكن نُدركُ وجودَها. إنها تتمثَّلُ في ثمانِ مآسٍ ليوربيديس نُقلت إلينا عبرَ طريقٍ آخرَ غيرَ الاختيارِ المدرسيِّ، ويُطلَقُ عليها «المآسي الأبجدية» لأنَّ عناوينَها تتبعُ الترتيبَ الأبجديَّ في اللغةِ اليونانيةِ؛ وهذه الغرابةُ تفسَّرُ بأنَّها تُعَدُّ استنساخًا لبعضِ اللفائفِ من طبعةٍ كاملةٍ لأعمالِ يوربيديس، حيثُ كانت الأعمالُ مُصنَّفةً حسبَ الترتيبِ الأبجديِّ حسبَ العُرفِ القديمِ.
وفرضيتي هي الآتي: إنَّ حقيقةَ أنَّ هذه المآسيَ الثمانيةَ من يوربيديس لم تكن نتيجةَ اختيارٍ تعسفيٍّ كما هو الحالُ في المآسي العشرِ الأخرى، بل جاءت نتيجةَ صُدفةِ الترتيبِ الأبجديِّ، تغيِّرُ كلَّ شيءٍ؛ إذ يمكنُ اعتبارُها عيِّنةً إحصائيةً تمثلُ مآسي يوربيديس تمثيلًا دقيقًا، لأنها تكوَّنت بطريقةٍ عشوائيةٍ تمامًا. ومقارنةُ المآسي المختارةِ مدرسيًا بهذا المرجعِ ذاتُ فائدةٍ عظيمةٍ حتى إنها لا تزالُ تُدهشني. فعندما تكتشفُ، على سبيلِ المثالِ، أنَّ معظمَ المآسي الأبجديةِ تنتهي بنهاياتٍ سعيدةٍ، بينما تَختتمُ الأخرى بنهاياتٍ حزينةٍ، تُدركُ على الفورِ أنَّ الاختيارَ الذي نقلَ إلينا تلك المآسي لم يكنْ محايدًا.
بشكلٍ غيرِ متوقعٍ، تُتيحُ لنا المآسي الأبجديةُ ليوربيديس الوصولَ إلى الجزءِ الغامضِ من الجبلِ الجليدي، أي إلى جميعِ المآسي التي لم تُخترْ في اختيارِ القرنِ الثاني. ويترتبُ على ذلكَ على الأقلِّ درسانِ كبيرانِ. أولًا، لم نعدْ نستطيعُ التصرُّفَ وكأنَّ مجموعتنا تُمثِّلُ بأمانةٍ جميعَ مآسي تلك الفترةِ: فمعَ أنَّ هذا يبدو متناقضًا، يجبُ علينا الآن أن نعتادَ على احتمالِ أنَّ جزءًا كبيرًا من المآسي قد انتهى بنهاياتٍ سعيدةٍ. وهذهِ النتيجةُ هي تحقيقٌ قمتُ بهِ بنفسي اعتمادًا على الشذراتِ المأساويةِ؛ حيث تؤكدُ الفرضيةَ أنَّ نحوَ نصفِ المآسي القديمةِ انتهت بنهاياتٍ سعيدةٍ، وبالتالي لم تكنْ مأساويةً بالمعنى الحديثِ للكلمةِ. ومن هنا جاءتِ الفكرةُ، المعبر عنها، أنَّ المأساةَ القديمةَ يجبُ أن تُعتبرَ دون مفهومِ «المأساوية» الحديثِ. أما الدرسُ الثاني، فهو أنَّ مجموعتنا الحاليةَ مُتحيِّزةٌ أيديولوجيًا وجماليًا: فهي نتاجُ اختيارٍ ليس فقط جزئيًّا بل متحيزًا، ربما مستلهمًا من الرواقيةِ، التي فضلَت النهاياتِ الحزينةِ، مما هيأَ بشكلٍ خاصٍّ لكلِّ التصوراتِ الحديثةِ حولَ فكرةِ المأساوية. هذه الفكرةُ الحديثةُ عن المأساويةِ هي في جوهرها نتاجُ تَوارُثِ النصوص.
وما يصدقُ على المأساةِ اليونانيةِ يصحُّ كذلكَ على كلِّ الأدبِ القديمِ: فإنَّ مجموعتَنا الأدبيةَ، في الغالبِ الأعمِّ، هي نتاجُ انتقالٍ انتقائيٍّ لا نعرفُ في كثيرٍ من الأحيانِ معاييرهُ. وهذا الواقعُ ينبغي أن يدفعَنا إلى أقصى درجاتِ الحيطةِ قبلَ أن نقومَ بأيِّ تفسيرٍ أو تعميمٍ في هذا المجالِ، إذ يجبُ أن ندركَ أنَّ الجزءَ الأكبرَ مما نقرأُ من الأدبِ القديمِ قد قُرئَ واختيرَ وأُعدَّ لنا من قِبَلِ آخرينَ غيرنا — وهذا إدراكٌ مؤلمٌ يحرمُنا من الإيمانِ الزائفِ بإمكانيةِ الوصولِ المباشرِ إلى النصوصِ. دونَ هذا الوعيِ، سنظلُّ مجرّدَ دمى في يدِ التقليدِ المخطوطِ، وضحايا مستكينينَ لمصفاةٍ تَحُولُ بين الأعمالِ وبيننا. فلا يمكنُ لأيِّ تأمُّلٍ في الأدبِ القديمِ أن يُغفِلَ النظرَ في تاريخِ النصوصِ. ومن هنا تأتي العبرةُ بالتواضعِ المعرفيِّ: إنَّ معرفتَنا الجزئيةَ بالنصوصِ القديمةِ، التي فقدنا الجزءَ الأكبرَ منها، يجبُ أن تدفعَنا إلى تبنِّي موقفٍ معرفيٍّ احتماليٍّ ومتشائمٍ، بعيدًا عن أيِّ تأكيداتٍ قطعيةٍ. فلا بدَّ أن يكونَ للاحتِمَاليةِ نصيبٌ في الدراساتِ الأدبيةِ.
ولكنَّ ما يصحُّ على الأدبِ القديمِ يصحُّ أيضًا، وإن بدرجةٍ أقلَّ، على المجموعاتِ الأدبيةِ الأحدثِ. فالتأريخُ الأدبيُّ يعتمدُ دائمًا على تعريفِ مجموعةٍ أدبيةٍ تختلفُ في حجمِها وتوسُّعِها بحسبِ تقييمٍ ضمنيٍّ للأعمالِ المشمولةِ فيها، بحيثُ تأتي هذهِ المجموعةُ لتؤكدَ بدورها المعاييرَ غير المُصَرَّحِ بها التي استخدمت في تحديدِها. وهذه المعاييرُ ليست بالضرورةِ معاييرَنا نحنُ، لأنَّ النصوصَ التي نقرؤها برغبةٍ وتُعَدُّ مرجعًا لنا قد نُقِلَت إلينا عبرَ الأجيالِ التي سبقتنا، والتي بدورِها ورثتها عن أسلافِها، وهكذا دواليكَ. وباختصارٍ، فإنَّ أيَّ تأمُّلٍ في الأدبِ لا يمكنُه أن يُغفِلَ النقدَ المُوَجَّهَ للمعاييرِ التي نستخدمُها لتعريفِ الأدبِ، ولا نقدَ الآلياتِ التي تُشكِّلُ هذه المعاييرِ وتُحدِّدُ ما هو خارجٌ عن الأدبِ.
لابدَّ إذًا من إعادةِ الاعتبارِ لقوَّةِ الخارجِ والنفي كأداةٍ لاستكشافِ الحقيقةِ. أتريدُ أن تفهمَ ما يقولهُ نصٌّ؟ فكرْ أيضًا فيما لا يقولُهُ. أتريدُ أن تقرأَ المآسي اليونانيةَ التي حُفِظَت لنا بشكلٍ أفضلَ؟ تأمَّلْ كلَّ تلك التي فُقِدَت. أتريدُ أن تُعرِّفَ ما هو الأدبُ؟ تساءلْ عمَّا تُرِكَ خارجهُ، واسألْ نفسَكَ أيضًا عمَّا يقولُهُ خصومُهُ: هذا هو الخيطُ الذي يربطنا. ينبغي أن نكونَ قادرينَ على التفكيرِ في الأدبِ من الخارجِ لكي نلعبَ فيهِ، ونلعبَ بهِ، في نهايةِ المطافِ، بمعرفةٍ تامَّةٍ، وفي وعيٍ كاملٍ بقدراتِهِ وحدودِهِ، لنلعبَ فيهِ، إذنْ، من الداخلِ.