عاشق حالم في لظى الحرب

 

ليسَ لي في الفرارِ من الجحيمِ حقّ. جورج تراكل

كما قال بيدراج ماتفييفيتش: «إن ما يحدد علاقة الشاعر بحدث معين، إلى جانب طبيعة الحدث وشدته، هو مقدار التورط الذي يغوص فيه الشخص في ذلك الحدث». فكلما ازداد هذا التورط الشخصي وازداد العمق الذي يعيشه الإنسان، اشتدت قوة الشاعر في التعبير عن تجربته. وعلى النقيض من القصائد الاحتفالية أو تلك المنخرطة في الشؤون الاجتماعية أو السياسية أو التاريخية، فإن قصيدة المناسبات وفقاً للرؤية الغوتهية التي تتناول الأحداث الخاصة أو الشخصية، العابرة أو حتى المتخيلة، تفترض قدرة أكبر على المشاركة الفردية ودرجة أعمق من التورط. وكما يرى جان ستاروبينسكي، فإن مسؤولية الشاعر هي أن يمنح الحدث التاريخي طابعًا داخليًا، وأن يعبر عنه بلغة المشاعر الوجدانية، بدلاً من لغة الحكم أو الوعظ. فكأن الشاعر مدفوع إلى الصرخة، وعليه أن يتجاوز الكلمات المعتادة ليجد في نفسه الكلمة الوليدة، تلك التي تقترب من وصف ما لا يمكن وصفه.

وفي ظل هذا الغوص العميق في الذات، نجد الشاعر النمساوي جورج تراكل وقد تورط في أهوال الحرب العالمية الأولى. فمع كون الظروف العامة للحرب شديدة القسوة، كانت تجربته الشخصية كصيدلي وممرض عسكري مليئة بالمعاناة. ولعل أكثر اللحظات مأساوية في هذه التجربة كانت بعد معركة غروديك (بولندا) عام ١٩١٤، حين قضى يومين وليلتين بلا مساعدة طبية أو مسكنات أمام الجرحى الذين توسلوا إليه لتخفيف آلامهم أو حتى إنهاء حياتهم. كانت هذه التجربة المؤلمة في وقت المسؤولية الكاملة بمثابة الشرارة التي دفعت تراكل لمحاولتي انتحاره، وقد نجحت إحداهما.

قصيدة «غروديك»، التي كتبها بعد المعركة بفترة قصيرة، هي شهادة حادة وموجزة على تلك اللحظة الفارقة. وهناك إشارات أخرى إلى الحرب في قصائده، مثل «في الشرق» و«المالنخوليا» و«المرثية»، وهذه الأخيرة كتبها في نفس الفترة التي كتب فيها «غروديك». ومن الجدير بالذكر أن تجربة الحرب الكارثية لم تكن سوى جزء من التجربة التاريخية التي عاشها تراكل في ظل تفكك الإمبراطورية النمساوية المجرية، كما يقول مودستو كاروني. فشعر تراكل لم يكن مجرد تقليد للحقيقة بل كان شهادة قوية على عصره. فالصور التي يرسمها عن الدمار والانهيار في قصائده تحمل نغمًا جنائزيًا مستمرًا، وتعبر عن الرعب واليأس اللذين غمرا الشاعر في تلك اللحظات المظلمة. لم يكن اندماج تراكل في تلك الظروف أشد عمقًا، ولا كانت الأحداث الخارجية أكثر اختلاطًا بتجربته الشخصية، حيث تقلص «الزمن التاريخي في الزمن الشخصي». ولكن لتفهم عمق تلك التجربة لدى تراكل، ينبغي أن نلتفت إلى جذوره الرومانسية. فتلك الجذور هي التي تُظهر فهمه للشر كجزء لا يتجزأ من الوجود، وهذا يتسق مع الأزمة الداخلية في الرؤية الرومانسية للعالم التي عاشها وطورها الشاعر. وبالتالي، لم تكن الحرب وتفكك الإمبراطورية سوى انعكاسات سطحية لأزمة روحية أعمق وأشمل في شِعره.

الرومانسيون، بنزعتهم إلى الحنين إلى اللانهائي والمطلق، كانوا يتوقون إلى إعادة الاتصال بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والإله، وفق الرؤية المسيحية الصوفية. وكانت «الزهرة الزرقاء» رمزًا لهذا الحنين، إذ تجسد روح الرومانسية التي تسعى إلى الوصول إلى الكمال من خلال الجمال. وفي قصة Heinrich von Ofterdingen لنوفاليس، تظهر «الزهرة الزرقاء» كبوصلة هادئة في أحلام البطل، تمثل ذروة رغبته، وتدفعه للسعي وراءها. ورغم أن الزهرة لم تُجد في يقظة النهار، إلا أن الوصول إليها كان ممكنًا في الحلم، أي في فضاء الشعر والخيال. ففي «أناشيد الليل»، يتساءل نوفاليس: «هل سيعود الفجر دائمًا؟» «هل سينتهي أبدًا سلطان الأرض؟» ويجيب قائلاً إن «النوم الأبدي» هو ما ينتظر الذين يتفانون في الليل. وهذه النظرة ترى أن الحلم الشعري يتفوق على واقع النهار النثري.

غير أن الإنسان في مطلع القرن العشرين لم يعد يشعر بتلك الرابطة المقدسة بين طموحاته والكون. أصبح الإنسان «يتيمًا من الإله»، وقد انقطعت آماله في الطبيعة والعالم. فأمام تجاربه القاسية – وأبرزها الحرب العظمى – بات عليه أن يتصالح مع وعي أقل رومانسية بذاته وبالواقع. بالنسبة له، أصبحت «الزهرة الزرقاء» مجرد رمز لرغباته، وليست وعدًا بتحقيقها حتى لو على المستوى الجمالي. وفي هذا السياق، يبرز عالم تراكل كعالم من الانهيار والنفي، حيث لم تعد هناك إمكانية لتحقيق الأحلام، ولم يبقَ سوى الحنين إلى الماضي والأمل الضائع.

فبالنسبة لتراكل، الرومانسي المتأخر، لم يبقَ سوى الحلم الذي تحطم، ولم يعد هناك أي أمل في تحقيقه. وهكذا تحولت الآمال في المستقبل التي كانت جزءًا من الرومانسية إلى رثاء على الماضي المفقود، بينما ظل التوق مستمرًا، لم يمت. وهذا ما يغلف شعره بلون يائس ومتشائم، كما في قصيدته «رونديلي» التي تتكرر فيها نغمة الحزن:

ذهَبَتْ أيامُ الذهبِ السنيَّةْ 

والأزرقُ والبُنِّيُّ في الأصيلِ بَقيَّةْ 

ولم يعدْ نايُ الراعي يُسمعُ لحنَهُ 

في الأزرقِ والبُنِّيِّ ذاكَ المساءِ خفيَّةْ 

ذهَبَتْ أيامُ الذهبِ السنيَّةْ

تتداخل صورة الراعي الحالم، الذي كان يعزف على نايه بلطف، في تناغم مع ذهبيَّة الأيام، مع صورة الأفق الكئيب المتذبذب بين اللونين البني والأزرق في وقت الأصيل. تولد هذه الثنائية تأثيرًا معزِّزًا، كأنما هذا التناوب بين الصور يبرز التناقض بين حيوية الماضي الذهبية والجو الكئيب الذي يغلف الحاضر. وكأنَّ ذكرى ذلك الماضي تسعى، بحزن، إلى العودة في اهتزاز الحاضر، في ذلك الضوء الخافت الذي يسبق الغروب. الناي لم يعد يصدح، لأنَّ لحنه كان ينسجم مع النور الذهبي اللطيف الذي ذهب. الشاعر هنا لا يستطيع أن يشعر بذلك الانسجام الروحي الذي كان يعيشه الراعي، حيث كانت نغمات الناي تتناغم مع النهار.

وفي إشارة أكثر وضوحًا إلى الرومانسية، تأتي قصيد تراكل «إلى نوفاليس» (النسخة الثانية)، وكما يشير إليها كافالكانتي، فإنها تبدو وكأنها مرثية للشاعر نفسه، وكأنَّه يرثي ذاته في ضوء هذه الرؤية الحالمة:

في أرضٍ سوداءَ يرقدُ الغريبُ المقدَّسُ 

ومن شفتيه اللطيفتينِ أخذَ الإلهُ الشكوى حينَ ذَبُلَ وهو يَزهُو 

زهرةٌ زرقاءُ 

تُتابعُ أنينَها في دارِ الليلِ والحُزنِ

نوفاليس هنا هو تراكل نفسه: الغريب الرومانسي في عالمٍ مدمَّر، الذي يستمر في السير مع لحنه، متشبثًا برغبته في «الزهرة الزرقاء». ولكن بينما كانت الزهرة الزرقاء لنوفاليس ترمز إلى الاتحاد الباطني المنشود بين الإنسان والطبيعة، والذي يمكن تحقيقه في الليل وفي الحلم، كملاذ أبدي مقابلًا لواقع النهار، فإنها بالنسبة لتراكل لا ترمز إلا إلى رغبة مخيبة، وفي نهاية المطاف حتى الليل لا يتسع لها: إن استمر لحنها في الليل، فإنما تسكن فيه كألم فقط. وكما يخلص كافالكانتي، في قصيدة تراكل، «الحلم يدمره الواقع». يمكن القول إن قصيدة تراكل إلى نوفاليس تعبّر عن حوار داخلي لروحٍ واحدة، يتوجه فيها الشاعر إلى نفسه في خضم أزمة تاريخية؛ نوفاليس يمثل الأمل، وتراكل يمثل الإحباط.

إن «الأنا» الشاعرية لدى تراكل هي غريبة عن هذا العالم إلى حدٍّ بعيد، حيث تختبر وجودها كـ«ظل بعيد في قرى مظلمة»، وقد «شربت صمت الإله من نبع الغابة» (من قصيدة «من الأعماق»، التي ستُقتبس وتُترجم لاحقًا بشكل كامل). هنا ليس الأمر مجرد عدم وجود، بل هو غياب الإله، حيث كان الأمل في وجوده يومًا. فالإله ليس غائبًا لأنه كان موجودًا يومًا، بل لأنه كان الإنسان يشعر بوجوده. في رومانسيّة تراكل الموجعة، لا يمكن أن يكون هناك إعادة اتحاد مع المطلق، ببساطة لأنه لم يكن هناك اتحاد أصلي أبدًا؛ كما يعبر بارينتو بدقة، في شعر تراكل، هناك «انفصال باطني» وليس اتحادًا.

في هذه الأجواء، تتشكل قصيدته كتوصيفٍ لمشهدٍ غروبٍ ثابتٍ تقريبًا، حيث تهتز أصداء السقوط والانحطاط واليأس والخسارة. شعور الشاعر بالعالم يتكثف في هذا المشهد الواضح والمتكرر، حيث تُرى فيه صور النقاء والجمال – «الغريب»، «المجهول»، «المنعزل»، المراهق هيليان، وأخيرًا الشاعر نفسه الذي يشهد على كل هذه الشخصيات – إما مهجورة من قِبل لامبالاة العالم، أو ملوثة بفساده. الطموح إلى النقاء، كما يشير ألدو بيلغريني، هو جوهر الشعر في تراكل، ولكنه في صراع دائم ضد النزعة السائدة للعالم، وهي الفساد. يمكن تلخيص شعر تراكل كرمز لكل الشعر، إذا كان هدف الشعر أن يحثنا على استعادة هذا العالم المثالي الذي يطمح إليه الإنسان، وإذا كان في الوقت ذاته يتضمن إدانة ورفضًا للعالم الزائف وغير الأصيل الذي يُقدَّم لنا. يشكّل الشعر طموحًا إلى النقاء، حيث يتجلى فعله في المجال الروحي ويجد نفسه في صراع دائم ضد تهديد الفساد الذي يبدأ من الروح وينتهي بتغلغله في المادة.

فكذا أبياته تصف بحزنٍ وجزعٍ مصيرَ النجس وهو يغلب الطاهرَ، وكيف الخبيث يغزو الجميلَ، والظلام يجتاح النورَ: «في الليل وجدتني في مستنقعٍ غارقٍ، مغطى بالقاذورات وبغبار النجومِ، وفي شجرة البندق، عادت أصوات الملائكة البلورية تصدحُ من جديدٍ» - من الأعماق. «ومن الغرف الرمادية خرجت ملائكةٌ، بأجنحةٍ قد لطختها الأنجاس» - الزابور. «حينما تتراءى روح هيليان في المرآة الوردية، وتنهمر من جبينها ثلوجٌ وجذامٌ بائسون» - هيليان. فأبياته، وربما لا تخلو من استثناءٍ، تغني ألمَ استحالة انتصار الطاهرِ على الفسادِ، وفيها الحزن الجليدي يشع من النقاء: «الحمائم الزرقاء تشرب ليلاً العرق المتجمد، الذي يتساقط من الجبين البلوري لإيليس» - إيليس.

الدليل الأقوى على هذا الانفصال المطلق وغلبة الشر ربما تكون الحرب، التي لا يمكن الخلاص منها: «كل الطرق تؤدي إلى تحلل أسود»، يندب الشاعر في «غروديك» (الذي سيُقتبس ويُترجم بشكل كامل لاحقًا). سنسعى فيما يلي إلى تحليل قصائد «دي بروفونديس»، المكتوبة قبل الحرب، و«مرثية» و«غروديك»، المكتوبتين بعد معركة غروديك، لاستكشاف العلاقة بين هيمنة الشر التي تملأ أشعار تراكل، والحرب كحدثٍ يؤكد ويغذي هذه الفكرة.

من الأعماق

في سهلٍ ذابلٍ تتساقط أمطارٌ سوداء، 

وشجرةٌ بنيةٌ قائمةٌ وحدها في سكونٍ، 

يدور الريح الصافر حول أكواخٍ فارغة، 

كم هو حزينٌ هذا المساء! 

 

تجتاز اليتيمة الرقيقة القرية، 

تجمع السنابل النادرة في كفِّها، 

وحدقتاها الذهبيتان تستغرقان في الغسق، 

وحضنها ينتظر العريس الإلهي. 

 

عند العودة إلى الديار، 

وجد الرعاة الجسد العذب، 

قد نخرته الشوكُ في الفناء، 

وأنا ظلٌّ بعيدٌ من قُرى معتمة. 

 

شربتُ صمت الإله 

من نبع الغابة، 

ويُزاحم جبيني معدنٌ باردٌ، 

والعناكب تبحث عن قلبي. 

 

هناك نورٌ ينطفئ في فمي، 

في الليل وجدتني في مستنقعٍ غارقٍ،

مغطى بالقاذورات وبغبار النجومِ،

وفي شجرة البندق،

عادت أصوات الملائكة البلورية تصدحُ من جديدٍ.

كما هو مألوفٌ في شعر تراكل، فإن العالم والطبيعة هنا مُحمَّلةٌ بالتوجهات العاطفية. في البيت الأول، تتشكل صور السهل الذابل، والمطر الأسود، والشجرة الوحيدة، والريح الصافرة التي تحيط بالأكواخ الفارغة، لتكوِّن مشهدًا من القفر، حيث لا أثر للإنسان – سوى تلك الأكواخ، التي تظل بلا ساكن. يوسع تتابع هذه الصور من نطاق المشهد نحو تأثير عظيم، حيث تُبتلع الذات الوحيدة للشاعر في ذلك الحزن. إنه مساءٌ حزين، وحزنه شائع، يحوم حول السهل، وينسكب كالمطر الأسود، ويعلو في الشجرة المنفردة، ويتلاعب في الريح الصافرة حول الأكواخ الخالية، وهكذا، تهيمن تلك المشاعر العظيمة على الشاعر. بمعنىٍ ما، يشترك الشاعر والعالم الخارجي في ذاتٍ واحدة، لكن ثقل العالم الخارجي يطغى على الداخل. وهذا الثقل يُقترح أيضًا من خلال بناء الجمل «بدون فاعل» في الأبيات الثلاثة الأولى: «هناك سهل ذابل... هناك شجرة بنية... هناك ريح صافر...» – إذ تبرز هذه البنية، التي يمكن تحديد تأثير رامبو فيها من خلال استخدام الشكل المتكرر «هناك»، تركيزًا يعزز من وجود العناصر المُعَدَّدة، وكأنها حالة من الثبات، كما لو كانت مشهدًا قديمًا، موجودًا منذ الأزل وإلى الأبد.

في البيت الثاني، تعزز صورة القرية الإحساس بعالم بدائي. الحضور البشري لا يجعل المشهد أقل عدائية، بل يُضيف إليه قصة حزينة. تُمثل الأكواخ والقرية لمسةً من البساطة، تُركز في صورة «اليتيمة الرقيقة» التي «تجمع السنابل النادرة»، وفي براءتها وصدق وجودها، يعكس الغسق في حدقاتها «الذهبيتان». يقترب الشاعر، بطريقةٍ ما، من اليتيمة من خلال وصفها بتعاطف. وهي، ككائن من العالم الخارجي، تندمج أيضًا في هذا العالم في ذاتيتها، حيث تعكس في عينيها الغسق. يمكن للمرء أن يعتقد هنا في الاتحاد الروحي مع الطبيعة، لو لم يكن الغسق، بالإضافة إلى كونه ذهبيًا في عيني الفتاة، أيضًا نذيرًا للانحدار، وهو ما يتجلى في البيت التالي، حيث يُكتشف «الجسد العذب» «نخرته الشوك».

إنها حركة من السقوط تتجلى في التتابع بين هذين البيتين: أولاً، صورة الطهارة، التي تكاد تلتقي روحيًا بالطبيعة – عيون ذهبية تمتص وتعكس الغسق – ولكن هذا اللقاء يتحول إلى انفصال، «انفصال روحي»، لأن الغسق ينبئ بالشر، وأخيرًا، صورة تحقق الشر الذي يدمر الطهارة. تحمل صور اليتيم و«العريس الإلهي» دلالات عميقة. إنها تساهم في تشكيل صورة الفتاة البريئة والطاهرة، لكن معناها يمتد أبعد من ذلك. يُشير «العريس الإلهي» هنا على الأرجح إلى المسيح، كما يُطلق عليه في العهد الجديد. حضن الشابة، مثل حضن العذراء مريم، ينتظر الزواج المقدس. لكن العريس الإلهي، المسيح، لا يأتي؛ بل يُكتشف الجسد في حالة تحلل على يد الرعاة – أولئك الذين يرعون. لماذا؟ ربما تُفسر يتيمتها ذلك.

يمكن أن يكون ذلك مجرد عنصر آخر يُشير إلى بساطة، تواضع، وبراءة الفتاة، لكنه قد يُشير أيضًا إلى ترك الإله: إنها يتيمة عن الإله. في هذا السياق، تمثل «اليتيمة الرقيقة» الطموح نحو الإله، والاندماج بين الإنسان الفاني والإلهي، ولكن، كونها يتيمة عن الإله، تُختصر إلى مجرد جسد، مُتروكة للموت والتحلل. يبدو أن كل شيء يتدحرج ببطء شرير يُبرز حتمية الأحداث، كما في حكاية، حيث مُحدد مصير الشخصيات منذ البداية. بين البيتين الثالث والرابع، يُمكن الشعور بفترة توقف أطول، وصمتٍ ممتد أكثر من سابقاتها، حيث تُحدث الرابعة انقطاعًا في السرد بالإشارة إلى الشاعر نفسه، ولكن، بالأخص، من خلال تأثير هاتين الجملتين اللتين تعكسان القلب النابض للقصيدة: «أنا ظلٌّ بعيدٌ من قُرى معتمة. شربت صمت الإله من نبع الغابة». هنا يتحدث صوت شهادة، حزين ومظلم، لأنه شرب في النبع من الغابة، صمت الإله الذي، بتجاهله للشر، يبدو وكأنه يوافق عليه. يعرف الشاعر هذا الصمت كمن ذاق ثمر المعرفة.

لكن «تناول الثمرة» لن يُنتج هنا التأثير الكئيب والبارد للصورة عند تراكل: فالشرب هو فعل أكثر مباشرة، إذ لا توجد وساطة بين السائل وامتصاصه؛ وهو بارد ومظلم، لأنه من نبع الغابة. هناك شعور مرعب بكونه «ظل بعيد من قُرى معتمة»، يتجول في أعماق الغابة ويعرف الظلام الذي لا يسكنه الإله. تكشف كسر هذه الاستعارة عن اتصال مباشر: فالشاهد الذي يعرف جوهر الوجود المظلم، المُتروك لصمت أو غياب الإله، هو، لذلك، أيضًا شاهد للقصة المُروية، يرى ويفهم معناها، وهو معنى قصة بدون الإله.

تكون صورة «الظل البعيد» غنية بالمعنى في هذا الأفق. بينما يكون ظلًا، يمكنه التجول في البيئة التي وُصفت في القصيدة، مما يُؤكد بشكل رجعي الإحساس، في البيت الأول، بوعي طافٍ، يرافق جو السهل، والمطر، والريح... يمكنه أن يحوم حول المشهد الذي تتطور فيه قصة اليتيمة. ولكن ماذا يعني أن تكون هذا الشاهد، وأن تكونه كظل؟ إنه شهادة عميقة الإحساس، تأتي من أعماق قُرى مظلمة، من أعماق الغابة – وعاجز تمامًا. بشربه لصمت الإله، عرف هذا الظل التخلي والعجز. فالظل ليس مجرد ظلام، بل هو أثر بلا نور لشيء مضيء ومتفوق وجوديًا. أن تكون ظلًا يعني أن تكون فقدانًا لذلك الشيء. لو كان لديه ضوء، لكان بإمكانه ربما إنقاذ الفتاة. لكن الظلال تتابع فقط، لا تُغير شيئًا: وهكذا، يتابع قصة اليتيمة من البداية إلى النهاية، وكظلٍ بحت، لا يمكنه إنقاذ من يراها بتعاطف وحنان. يتابع البيت التالي بإظهار هذه الحالة من الشاعر.

يُزاحم جبيني معدنٌ باردٌ

والعناكب تبحث عن قلبي

هناك نورٌ ينطفئ في فمي

في هذين البيتين الأولين، يحيط الشر بالإنسان ويغزو أعماقه، في حين يكون النور عاجزًا أمام هذا الشر وينطفئ في فمه، فلا يستطيع النطق بالخير. ومما يزيد من أهمية هذا المعنى أن خاتمة هذه الأبيات تعود إلى نفس هيكل البيت الأول بجملة بلا فاعل: «هناك نور ينطفئ في فمي». هناك نور، لكنه يخبو في فمي. هذا النور ليس إلا رغبة عاجزة في الضوء، تنكرها الحقيقة، فلا يمكنه النطق بها لتضيء. من شرب من صمت الإله لم يعد قادرًا على احتواء النور في داخله. الأمر هنا لا يتعلق فقط بالظلمة، بل بالظلمة كأثر لغياب الضوء، كظلٍّ داكن. ذلك الصوت الذي ينطق هو صوت هذا الظل، تروي قصة لم تستطع تجنبها. وفي وجه من الوجوه، يكشف هذا الصوت عن كونه صوت الشر ذاته، إذ إن الشاعر، وقد تغلغل الشر في أعماقه، يصبح بالضرورة وسيطًا له.

في البيت الأخير، تُستأنف السردية بشكل خطي: «في الليل...» تعني «هذه الليلة»، تلك التي تأتي بعد غروب محزن جرت فيه أحداث القصة. إن امتصاص الذات الشعرية في ذلك الغروب وما حدث فيه يتجدد هنا بتلك الكلمات التي تبدو كخاتمة: «في الليل وجدتني في مستنقعٍ غارقٍ، مغطى بالقاذورات وبغبار النجومِ». الذات التي لم تستطع إنقاذ البريئة، والتي قد اعترفت بعجزها – وهو في الوقت ذاته ذنب – يكون مصيرها المستنقع. وكما تلفظت بالشر عند «انطفاء النور من فمها»، فإن الذات الشعرية تتساوى هنا بالقاذورات التي تغطيها. وكما أشار غونتر كليفلد، فإنه بجانب الأشياء القبيحة المتنوعة في خيال تراكل، يظهر أيضًا أنا قبيح. ولكن هذا القبح ليس اختياريًا، بل هو شيء لا يمكن للذات الهروب منه، شيء يحيط بها، يغزوها ويدخل في أعماقها، كما ذلك «يُزاحم جبيني معدنٌ باردٌ» و«العناكب تبحث عن قلبي». هذا العنصر، ربما الأكثر تعبيرًا عن التعبيرية في تراكل، القبح، لا يكتسب معناه إلا بالإشارة إلى العنصر الرومانسي، ذلك العنصر الذي يتعلق بالذات التي تتوق إلى الجمال، الخير، والخلاص، ولكنها محرومة من هذا الحق.

وهكذا، بالإضافة إلى كون الذات مغطاة بالقاذورات، فهي مغطاة أيضًا بغبار النجوم، تلك الصورة السامية التي تتعايش بتوتر مع المستنقع والقاذورات. يعمل تراكل هنا على جمع عناصر النقاء والجمال مع عناصر الانحلال. في هذا الجمع، يتضح إحساس تقدم الانحلال على النقي والجمال، إلى جانب استمرار وجود شيء مقدس، وهو ما يمنح وجود الشر في تراكل قوة مؤلمة. هكذا، «وفي شجرة البندق، عادت أصوات الملائكة البلورية تصدحُ من جديدٍ». إن صورة «الملائكة البلورية» تكلل هذا القلق، لأنها توحي باللامبالاة أو حتى الموافقة من الملائكة تجاه الشر: تمامًا كما يسمح الإله بالشر بصمته، فإن الملائكة تؤكده بعودتها للظهور رغم موت اليتيمة. ولكن، بقراءة أعمق، فإن الصورة النهائية للملائكة، كشيء يُختم به ويستمر، تؤكد، إلى جانب ما هو دنيوي، استمرار ما هو مقدس (كما أشير إليه بالفعل في صورة غبار النجوم)، وهو ما لم يتخلَّ عنه تراكل أبدًا. هنا، يحقق الشاعر التوليفة والتناقض بين المقدس والدنيوي من خلال دمجهما في وحدة تامة، في صورة واحدة، ومع ذلك، في توتر لا ينفصل. التأثير مشابه لدمج عيون اليتيمة مع الغسق، ذلك الدمج الذي يدوم فقط بفضل الانفصال الصوفي. هذا الانفصال يتأسس حقًا كقطعٍ في الوحدة، التي تظل غير قابلة للتحقق.

«من الأعماق» كُتبت في أواخر عام ١٩١٢، قبل حوالي عامين من اندلاع الحرب. ولكن من أي وجهة نظر، فإن مسارها ليس أقل دمارًا من ذلك الذي في «غروديك»، آخر قصيدة لتراكل، التي كُتبت في عام ١٩١٤، والتي تصف دمار الحرب الكبرى.

غروديك

عند الغروب في غابات الخريفِ دوّت 

أسلحةٌ قاتلةٌ فوق السهول المذهّبة، 

والبحيرات الزرقاء، والشمسُ تسير 

أشدّ ظلمةً، والليلُ يغشي 

فرسانًا في آلامهم، وعويل وحشي 

من أفواههم الممزقة يرتفع. 

 

لكن في عمق المروج الساكنة تعلو 

غيومٌ حمراء يسكنها إلهٌ غاضب، 

والدمُ المسفوكُ، وبرودةُ القمرِ، 

كلّ الطرق تؤدي إلى تعفّنٍ أسود. 

 

تحت أغصانٍ ذهبيةٍ في الليل ونجومه، 

يتمايل ظل الأخت في الغابة الصامتة، 

تحيي أرواح الأبطال، والرؤوس التي تنزف، 

وتهمس في القصبات أنغامُ الخريفِ الحزينة. 

 

آه، أيها الحزنُ الفخور! أنتم، يا مذابح البرونز، 

اليومَ ألمٌ عنيفٌ يغذي نارَ الروحِ المتوهجة، 

لأحفادٍ لم يُولدوا بعد.

كما يلاحظ جيمس رولستون، يبدأ هذا القصيد كما لو أنّه «من داخل» الطبيعة؛ فالأسلحة القاتلة تصدح من الغابات. وقد استخدم تراكل الفعل tönen بصيغة متعدية غير مباشرة مع مفعول ظرفي، حيث يقول:  die Wälder tönen von tödlichen Waffen، ومعناها الحرفي «غابات الخريفِ دوّت أسلحةٌ قاتلةٌ»، مما يخلق انطباعاً بأنّ الغابات نفسها هي التي تصدح، وكأنّ تلك الأسلحة جزء منها كما الأوراق والطيور. وكما في قصيدة «من الأعماق» وفي شعر تراكل عامةً، يُظهر هذا الامتزاج بين العالم الإنساني والطبيعة معنًى سلبياً وكئيباً: الحرب تنبعث من الغابة، من أحشاء الطبيعة، بقدر ما هي بهيمية، والإنسان كائن متوحش. ومع أنّه في الأبيات التالية تظهر صور للطبيعة في سياق أكثر إيجابية، حتى بشكل رومانسي وسامي – كالسُّهول الذهبية والبحيرات الزرقاء – إلا أن هذا الجو الرومانسي يظهر فقط ليُدنّس بالهول، إذ حتى في تلك المناظر تردد الأسلحة القاتلة أصداءها.

نشعر بنبرة إسكاتولوجية عندما تأتي صورة «والشمسُ تسير أشدّ ظلمةً» – وهي صورة متكررة في شعر تراكل – «أشد ظلامًا»، مما يشير إلى حركة الغروب، هبوط المساء نحو الليل. وفي كلمات رولستون، «هذا الصعود الأخير الديونيسي يدمج الإنسان بالكون في دمار طوعي»، إنه اندماج شرير، حيث يُستولى على العالم من قِبل الشر، والشر هو الحرب ذاتها. حتى هذه النقطة في القصيدة، تم تقليص الإنسان، بصفته محارباً في الحرب، تماماً إلى هذه الحالة: «أفواههم الممزقة»، وصوتهم البشري الذي اختُزل إلى «عويل وحشي». وإذا احتضنهم الليل، فإن هذا الاحتضان لا يحمل أي رفق، بل إنه فقط يؤكد الدمار الذي كان قد أعلن وحقق في المساء (في بنية سردية مشابهة تماماً لما رأيناه في «من الأعماق»). عند بدء الجملة التالية بـ doch، «لكن.. الساكنة...»، يبرز التناقض بين ضجيج الأسلحة وعويل الجنود من جهة، ومن جهة أخرى الصمت الذي تتصاعد فيه «غيوم حمراء...» ومع ذلك، فإن هذا الهدوء لا يتناقض في الروح مع الأبيات السابقة، إذ أن الشر نفسه الذي اندلع من الغابة هو ما يتجمع هنا بصمت في شكل غيوم حمراء «في عمق المروج»، «يسكنها إلهٌ غاضب». يمكن فهم هذا الهدوء بطريقة مشابهة لـ «صمت الإله» في قصيدة «من الأعماق»، كنوع من القبول الضمني بغزو الشر من قِبَل هذا الإله الصامت. ومع ذلك، يظهر الإله هنا أكثر كرمز إيجابي للشر: فهو يسكن، غاضباً، في الغيوم الحمراء، ويبدو كشرٍ متسلل يقتحم العالم، حاضرًا في كل مكان وقويًا بلا حدود.

تُظهر الفكرة الشريرة المتمثلة في اندماج العالم الإنساني مع هذا الحضور الكوني للشر من خلال وضع «غيوم حمراء» بجانب «الدم المسفوك» كما لو أن الدم المسفوك على الأرض قد تم امتصاصه في الغيوم في السماء، حمراء لأنها مشبعة بالدم، أو كما لو أن كلاهما يعكس الآخر. أما صورة «برودة القمر»، فتأتي غامضة نوعاً ما كعبارة إضافية لـ «غيوم حمراء» و«الدم المسفوك»، إذ لا توحي بالحركة والغضب كما يفعل هذان، بل توحي بالتوقف، وفي بعض النواحي، بالسلام. ربما تشير برودة القمر إلى مجيء الليل كخاتمة للحركة الكونية المدمرة وسفك الدماء، باعتبارها الوجه المظلم والبارد للشر بعد انفجار غضبه. في كل الأحوال، يؤكد الإحساس بوجود شر منتشر في كل مكان – وبالتالي لا مفر منه – من خلال الصورة التي تبدو كخاتمة المعركة والنقطة المحورية في القصيدة: «كلّ الطرق تؤدي إلى تعفّنٍ أسود». لا مفر من الشر؛ فأينما ذهب المرء، يكون الشر هو المصير الذي يجذب جميع الطرق ويبتلعها.

في البيت التالي، تظهر صورة تبدو وكأنها تحمل معنى الخلاص والسلام: «تحت أغصانٍ ذهبيةٍ في الليل ونجومه، يتمايل ظل الأخت في الغابة الصامتة، تحيي أرواح الأبطال، والرؤوس التي تنزف». تظهر الأخت (في إشارة محتملة إلى أخت تراكل) كرمز روحاني ومرتفع، محاطة بأغصان الليل الذهبية والنجوم، وتأتي لتحيي شيئاً سامياً أيضاً: «أرواح الأبطال». ومع ذلك، فإن الإضافة إلى «الأبطال» تقطع تماماً هذه الصورة الروحانية والرومانسية والمقدسة: «الرؤوس التي تنزف». تُختزل الروح إلى جسد، ويُختزل الجسد إلى تعفن. يجدر بالذكر، مع ذلك، أنه في صورة «يتمايل ظل الأخت عبر الغابة الصامتة»، قد يبدو هناك شيء من النذير السيء، مثل شبح يتمايل في عالم الظلام. هناك شيء من العذاب في ظل يتمايل. «وتهمس في القصبات أنغامُ الخريفِ الحزينة». مجدداً، يُحيط الصمت بالمشهد كله، مما يسمح لسماع القصبات التي تصدح بخفوت. إنها تُعزف بين القصب، النباتات المستنقعية، وهي مزامير خريفية داكنة، تمثل الفصل الساقط. هذا البيت، مثل نهاية «من الأعماق»، يحمل شيئاً من القبول الكوني بقدرية الأحداث التي وقعت: يبدو أن الطبيعة هنا في الوقت نفسه تندب تلك الأحداث وتتوجها بنشيدها، كما لو أن كل شيء كان جزءًا من حركة لا مفر منها.

«آه، أيها الحزنُ الفخور! أنتم، يا مذابح البرونز، اليومَ ألمٌ عنيفٌ يغذي نارَ الروحِ المتوهجة، لأحفادٍ لم يُولدوا بعد». هذا الختام لا يترك مجالاً للشك في تصور تراكل للهيمنة المطلقة للشر. ولكن هنا، ليس مجرد الرغبة في النقاء والجمال والخير هي ما يدمره الشر بقوته الكبرى، بل، فوق ذلك كله، العظمة البشرية التي بُنيت لتبرير ما لا يمكن تبريره: الحداد الفخور، والمذابح البرونزية التي أقيمت تخليداً لذكرى الأبطال المثاليين – كل هذا، في الحقيقة، ليس سوى تعبير آخر، تأكيد آخر على الدافع الذي يدفع البشر إلى الدمار. ما يبقى في النهاية هو قوة الموت، التي تفوق بلا حدود كل هذا الكبرياء: لن يولد أحفاد المحاربين أبداً. الصورة الختامية قاطعة، لا مفر منها، لا يمكن التكفير عنها؛ في سياق أوسع، توحي بأن الحرب قتلت الحياة، إمكان استمرار البشرية ذاتها. تتكرر هذه الاستحالة في الاستمرار أيضاً في قصيدة «النداء»، وهي القصيدة قبل الأخيرة التي كتبها تراكل. ومع أن «غروديك» كانت قصيدته الأخيرة، إلا أنه في «النداء» نسمع وداعاً واضحًا.

النداء

تُحلقُ النسورُ السودُ فوق رأسي، 

تسيرُ الليلَ، والهاجسُ يُلازمني، 

صورةٌ ذهبيةٌ للإنسان، 

تبتلعها الأمواجُ الجليديةُ، 

في حضن الأزل. جسدٌ أرجوانيٌ ينفجر، 

في شُعَبٍ مُفزعةٍ، 

وصوتٌ كئيبٌ ينوحُ 

على صفحة البحر. 

أختُ المالنخوليا العاصفة، 

انظري، قاربٌ خائفٌ يغرقُ 

تحت نجومٍ، 

ووجهُ الليلِ الصامت.

السبات والموت: ذلك هو ما اختزله الكون والوجود في نظر تراكل. يكادان يُستدعَيان كحلم مؤلم، كـ«حنين إلى الموت»، ولكن بلا النبرة الرومانسية التي تراه كاتحاد مع الكل، بل كهوّة مطلقة، كقدر وحيد ممكن لوجود مُحرم عليه أي خلاص. في هذا الإطار، يصبح الحنين إلى الموت مجرد اعتراف بمصير لا مفر منه: «السبات والموت»، وهما في آن واحد استدعاء ونواح. «تُحلقُ النسورُ السودُ فوق رأسي، تسيرُ الليلَ». - وهذه الرأس تعود للشاعر، قد تكون الطيور الجارحة التي تحوم حوله لتقتطع حياته. ورغم أن النسر رمز يحمل تعقيدًا رمزيًا كبيرًا، حيث يمكن أن يشير إلى جوانب إيجابية وسلبية، إلا أن ما يهيمن في قصيدة تراكل هو «وجهه المظلم المأساوي، وفساد قوته». يمثل النسر هنا «الطائر المفترس القاسي الذي يسرق بعنف» ويأخذ ضحاياه إلى أماكن لا يمكنهم الهرب منها، أي مملكة السبات والموت.

يدعم هذا التفسير أيضًا الفعل «تحلق»، الذي يُترجم هنا إلى «تحوم»، مما يخلق إحساسًا حقيقيًا بأن الرأس تعاني من هجوم النسور ليلاً، كشيء خبيث يوشك أن يحدث. وكما يشير استخدام نقطتين بين البيت الثاني والثالث، يقدم البيت التالي التفسير النهائي لما قبله: «صورةٌ ذهبيةٌ للإنسان، تبتلعها الأمواجُ الجليديةُ، في حضن الأزل». الكلمة المستخدمة من قبل تراكل في «صورة ذهبية للإنسان» هي «صورة»، التي تحمل عادةً معنى «تمثال»، صورة صنعها الإنسان، مثل تلك التي تُصنع على العُملات. في هذا السياق، يمكن تفسير « صورةٌ ذهبيةٌ للإنسان، تبتلعها الأمواجُ الجليديةُ، في حضن الأزل». كإلغاء للصورة التي بناها الإنسان عن ذاته. ولكن، أقوى من ذلك، يبدو أن الإشارة تُعزى إلى سفر التكوين، ١: ٢٧: «وخلق الرب الإنسان على صورته». إذًا، يتعلق الأمر بتحديد يتجاوز الإنسان، سواء لأن شيئًا أعلى منه قد حدده، أو لأن هذه الصورة هي طموح الإنسان (الفاشل). تختلط الأمور: يتلاشى طموح الإنسان لأن يكون صورة لكون كامل، أو ما يتلاشى هو التحديد الذي أعطاه ذلك الكائن، بأن يكون الإنسان على صورته (يستسلم الإله للإنسان).

يعمل التفسير الثاني كاستعارة للأول. في كل الأحوال، حتى وإن كانت النية في هذه القصيدة هي منح وجود لإله، يجدر بنا أن نلاحظ أنها أيضًا محدودة وعاجزة: أكبر منها هو «الأمواج الجليدية، في حضن الأزل»، التي تبتلع «صورة ذهبية للإنسان» تمامًا كما يبتلع الإله، سواء كان هذا مجرد طموح للإنسان أو قرارًا إلهيًا. الشيء الوحيد الذي يبقى هنا هو الشر. وبينما تتلاشى «صورة ذهبية» للإنسان، و«جسده الأرجواني»، الجسدي بلا روح، «ينفجر في شُعَب مفزعة»، ترتفع حول هذه الخسارة «صوتٌ كئيبٌ ينوحُ على صفحة البحر.». - صوت قد يكون صوت ذلك الإله الذي يتلاشى مقصده، ولكن أيضًا صوت تراكل، في أنين حزنه اللانهائي.

يمكننا أيضًا أن نتذكر أن عنوان هذه القصيدة، كما هو الحال مع العديد من الأشكال المتكررة في شعر تراكل، يعود إلى لغة التقليد المسيحي: نواح، مزامير (منها ما ذُكر هنا «من الأعماق»)، ترانيم... مما يزيد من تناقض المعاناة الوجودية التي ينشدها الشاعر، حيث يستخدم أشكالًا تفترض أساسًا وعنوانًا لم يعد لهما وجود في عالم بلا إله. تبدو الأبيات التالية كصرخة متألمة من وداع. تُستدعى أخت تراكل، ربما أقرب وأحب شخص له، فيقول: أختُ المالنخوليا العاصفة، انظري، قاربٌ خائفٌ يغرقُ تحت نجومٍ، ووجهُ الليلِ الصامت». أخت المالنخوليا، أخت في المالنخوليا، كما يُقال إن أحدهم هو «أخ في الروح». هو يسأل تلك التي ربما شاركته مالنخوليته أو كآبته أكثر عمقًا، والتي تُعتبر الحالة العاطفية السائدة في روحه، أن ترى ما يحدث له: في قارب خائف، يغرق - تحت النجوم، تحت أعين ورضا الليل الصامت.

في سياق التطرق إلى شعر تراكل وعلاقته بالرومانسية، وتحليل قصائده «من الأعماق»، «غروديك»، و«مرثية»، نسعى للإشارة إلى أن الوجود الذي عاشه تراكل والعالم الذي رآه لم يتطابقا مع ما يعبّر عن حنينه الكبير: رغبة رومانسية في الجمال والنقاء والخير.** من خلال استخدامه المتكرر لنفس الأساليب التعبيرية، يبث شعر تراكل إحساسًا بعالم مفعم بنفس النغمة العاطفية دائمًا: ألم لا يُمحى بسبب أن هذا الحنين محكوم عليه بالفشل، ومرفوض بفعل الشر المتأصل في العالم.

من بين تلك الأساليب – والتي لن يكون ممكنًا استكشاف ثرائها وتكاملها في عمل موجز كهذا – نحاول هنا إبراز ما يلي: التتابع البطيء للصور الذي يخلق أجواء من القدر الشرير؛ العناصر النذيرية التي يتخيلها أو يراها الشاعر في حركات الطبيعة؛ تقدم صور الشر على صور الطهارة؛ اللامبالاة، أو ربما الرضا، من قبل الكون ذاته تجاه الشر؛ الإحساس بأن الشاعر والعالم يتشاركان في نفس الشعور الذاتي، ولكن ليس كاتحاد صوفي، بل كفصل وانقسام. كل هذه العناصر تتضافر بطريقة متآزرة لتعبر عن النغمة المفعمة بالحزن العميق التي تتخلل قصائد تراكل كأنين استحالة وجودية حقيقية.

إذن، ليس بعد الآن حنينًا مليئًا بالأمل كما في الرومانسية، بل حنينًا مليئًا بالكآبة هو النغمة العاطفية التي ترافق رؤية تراكل لعالم ينتصر فيه الشر، وهو مفروض على الإنسان كشرط دائم. يصبح شعره نشيدًا لرغبة مستحيلة، وأنينًا لما هو قائم: رغم أن الشاعر لا يزال يحمل طابعًا رومانسيًا، فإن العالم لم يعد قابلاً للرومانسية.

اختيرت قصائد «من الأعماق»، «غروديك»، و«مرثية» بغرض استكشاف العلاقة بين تجربة انتصار الشر (وحنين إلى الخير المفقود أو المستحيل) وتجربة الحرب، حيث إن القصيدتين اللتين كتبهما تراكل مباشرة بعد معركة غروديك – «غروديك» و«مرثية» – تشتركان مع قصيدة «من الأعماق»، التي كتبت قبل اندلاع الحرب، في نفس الأجواء، ونفس النغمة العاطفية الأساسية، واستخدام مشابه لتلك الأساليب التي استخدمها تراكل باستمرار. في هذا السياق، نحاول توضيح أن الطريقة التي تظهر بها الحرب في قصيدة «غروديك» تقابل الطريقة التي تتكشف بها قصة اليتيمة في «من الأعماق». كلا القصيدتين ترويان مظاهر الشر، بينما تكون نغمة تراكل الشاهدة دائمًا هي نغمة الرثاء، نغمة من يريد أن يقول النور ولكنه يُجبر على قول الظلام: في «من الأعماق»، يقول: «هناك نور ينطفئ في فمي»؛ وفي «غروديك»، يقول: «كل الطرق تؤدي إلى تعفن أسود»، مما يمكن قراءته على أنه يشمل الذات الشعرية: حتى صوته ينتهي عند تفكك الشر.

وهكذا، رغم أن الشاعر لا يتماهى أبدًا مع الشر، إلا أنه لا يمكنه في الوقت ذاته أن يهرب من مصير الإشارة إليه، وبالتالي تواجده كوسيط له. فلا يستطيع هذا الصوت إلا أن يعبر عن حزن مكلوم. كيف لا نفكر في دلالة عنوان قصيدته قبل الأخيرة، «مرثية»؟ كيف لا نتأمل أن الأبيات «صورة الذهبية للإنسان، الأمواج الجليدية، في حضن الأزل». لا تستكمل سقوط صورة الإنسان ككائن روحي، تاج الخليقة الإلهية، إذ لم يكن بإمكان تلك الصورة البقاء أمام الحرب؟ من المهم أن تكون كلمة المرثية هي عنوان قصيدة كُتبت في خضم تجربة تراكل في الحرب، وفي الوقت ذاته تشكل نهاية منطقية لعمله بأكمله، الذي كان منذ وقت طويل يسير نحو نفس النهاية. قراءة مقارنة لهذه القصائد الثلاث تُبرز ليس فقط وحدتها الشكلية، بل الهوية العميقة لفكرة واحدة، لنظرة واحدة تجاه العالم، ولحساسية واحدة، حيث تمثل الحرب، سواء كانت تأكيدًا لهذه الرؤية أو غذاءً لها، تأثيرًا داخليًا عميقًا، وليس حدثًا خارجيًا يمكن للذات أن تنفصل عنه.

بهذا المعنى، تتلاقى ملاحظة بيليغريني أن شعر تراكل «يمكنه أن يلخص المعنى المثالي لكل الشعر، إذا كان هدف كل شعر هو دفعنا إلى استعادة ذلك العالم المثالي الذي يصبو إليه الإنسان، وإذا كان في الوقت نفسه احتجاجًا ورفضًا للعالم الزائف وغير الأصيل الذي يُعرض علينا»، مع ملاحظة ستاروبينسكي حول القصائد التي تشهد بقوة على الحرب:

أمام بعض الأحداث الجليلة والمطلقة، تولد الشهادة من أعماقها، فتنطق بالغناء: الصرخة التي تجاهد من أجل الطهارة. في مواجهة القدر، يتم فعل تحرري – كلمة تعبر عن الرعب والشفقة أمام الشر، وتدين العمى العاطفي، كلمة تقود المصيبة إلى الضوء المجيد الذي لا يمكن لأي شيء أن يدنسه.

ينبغي القول إن افتراض تلك المقاومة الرومانسية عند تراكل ضد الشر باعتبارها ثنائية بسيطة سيكون ظلمًا كبيرًا للشاعر، الذي كانت رؤيته للخير والطهارة تتسم، إذا جاز القول، بمواجهتهما وجهاً لوجه في عجزهما. ولكن ليس هذا فحسب: الإنسان عند تراكل هو كائن محكوم عليه بالهلاك وبالتعاسة الحتمية، ليس فقط لأنه متروك (من قبل إله غير موجود أو لا مبالٍ) للشر، بل أيضًا، وربما أكثر من ذلك، لأنه هو ذاته مرتكب للشر. وكما يلاحظ بارينتو بوضوح، «لم يطرح تراكل أبدًا المسألة الدينية ليجد أي شكل من أشكال الخلاص، بل دائمًا، وفقط، لتأكيد الذنب».

من جهة، ينطق تراكل بالشر، معترفًا بأن الطهارة والخير غرباء لا مكان لهما في العالم وعاجزين أمام الفساد. ومن جهة أخرى، فإنه يرفض هذا الشر بالتحديد، ويؤكد على الطهارة والخير، حتى وإن كانا في حالة من العجز. ربما تكون هذه هي استحالته الوجودية، القادرة على تحقيق في الشعر ذلك المعنى الخاص الذي، وفقًا لستاروبينسكي، يمكن أن تتخذه الشهادة: «المعنى المقدس للاستشهاد». إذ لم يسمح تراكل لنفسه بأن يتهرب من الجحيم، ولكنه في الوقت ذاته لم يخضع له.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق