في انتظار اللامعنى

 

يأتون إليّ، يتركونني، يتجهون نحوي، ينسلون مني، وما من شيء سوى أنا، شظية من نفسي، مستعادة، مفقودة، تائهة، فأنا كل هذه الكلمات، كل هؤلاء الغرباء، غبار الكلمات هذا، لا أرض له يستقر عليها، ولا سماء له يتبدد فيها، يتجمعون ليقولوا، ويتبددون ليكشفوا، أنني أنا هم، كلهم، أولئك الذين يلتقون، وأولئك الذين يفرقون، وأولئك الذين لا يجتمعون أبداً، ولا شيء غير ذلك، نعم، هناك شيء آخر، أنني شيء مختلف تماماً، شيء بلا كلمات في مكانٍ خالٍ، مغلقٍ جافٍ باردٍ أسود، حيث لا شيء يتحرك، لا صوت ينساب، وأنا أنصت، وأنا أبحث، كوحشٍ في قفص، وُلد من وحوشٍ في أقفاص، وُلدت من وحوشٍ في أقفاص، وُلدت من وحوشٍ في أقفاص. – اللامسمى، صمويل بيكيت.

في كتابه «تفكيك أورفيوس: نحو أدب ما بعد الحداثة» (١٩٧١)، كتب إيهاب حسن أن من أبرز ألوان الصمت التي تتسلل إلى الأدب ما بعد الحداثي هو «الصدى السلبي للغة، التدميري، الشيطاني، العدمي». وبعد عقد من الزمان، جاء فريدريك جيمسون في «ما بعد الحداثة، أو منطق الثقافة في الرأسمالية المتأخرة» (١٩٨٤) ليصنف نصوص بيكيت بأنها «كتابة سكيزوفرينية» فتحت «حقل القوة ما بعد الحداثي» حيث ضاع من الذات السردية القدرة على ترتيب ماضيها ومستقبلها ضمن تجربة متماسكة. فكانت النتيجة لغة شذرية ومتناثرة، يسميها جيمسون، متابعًا دريدا، «التنصيص» أو، «الكتابة».

أما حين يُذكر دور اللغة في نصوص صمويل بيكيت، فإن تعريفات مثل العدمية اللغوية، الانسحاب الكامل، والتدمير، هي الأطر المستخدمة، وقد أصبحت معروفة. فإن رواياته ومسرحياته تظل مثالاً لا يُضاهى في تفكيك القوة السرية للكلمات. ويقتضي موضوع مقالي أن نذكر تأثير فلسفة شوبنهاور العميق على التفكير الجمالي لبيكيت، الذي زود الكاتب بصورة «The Veil of Maya» في عالم البوذية والهندوسية، تُطرح كإشارة إلى الوهم الذي يجعل العالم كما نراه وكأنه الحقيقة المطلقة. وهذه الفكرة تجد صداها في كتابات بيكيت المبكرة عن بروفست، حيث قال «أنه لا يوجد تواصل لأن وسائل التواصل غير موجودة». وفيما بعد، طوّر بيكيت فكرة أن اللغة هي وسيلة عاجزة عن التواصل. كما عبر في رسالته إلى أكسل كاون بتاريخ ٩ يوليو ١٩٣٧:

كلما غصت في لغتي الخاصة، بدا لي أنها كستار يجب تمزيقه لنتبين ما خلفه من أشياء أو من عدم. [...] أن أُحدث ثقوبًا في هذا السد، ثقبًا بعد ثقب، حتى يبدأ ما يختبئ وراءه – سواء كان شيئًا أم لا – في التسرب إلى النور.

«من يتحدث في كتب صمويل بيكيت؟ [...] من هو 'الأنا' الذي لا يكل، الذي يبدو دائمًا وكأنه يقول ذات الشيء؟ إلى أين يأمل أن يصل؟ ماذا يأمل المؤلف، الذي لا بد أن يكون موجودًا في مكان ما، أن يحقق؟ ماذا نأمل عندما نقرأ؟ [...] ما هو الفراغ الذي يتحول إلى كلام في الألفة المفتوحة لمن يختفي فيه؟ إلى أين سقط؟». بطرح تلك الأسئلة البسيطة، يوضح موريس بلانشو كيف يكشف بيكيت اللغة على أنها شكل من أشكال الموت، مكان نلتقي فيه بحدود الذاتية، وقد فتح نقاشًا واسعًا استمر لعقود. بالنسبة لبيكيت، العلاقة التعسفية بين الدال والمدلول، وكون الكلمات يمكن استخدامها في سياقات مختلفة لتشير إلى معانٍ متعددة، تبرهن على عجز اللغة عن استحضار التجربة الحقيقية مباشرة. مشروع بيكيت في كتابة «أدب اللاكلمة» يتناغم مع رؤية بلانشو التي تضع الكاتب أو الكتابة على عتبة «il y a» (هنالك)، وهو مصطلح يُحدد طوبوغرافيًا العدم غير المكترث، الذي لا يمكن اختزاله من الوجود. هذا هو فضاء الكتابة خارج اللغة، حيث تنخفض قدرة الكلمات على الدلالة، حيث لا يوجد «أنا» ولا «آخر»، لا مكان ولا زمان – حيث يتواجد الإنسان بين الحياة والموت ولكن ليس في الحياة ولا في الموت.

الـ«il y a» اللفيناسي أو البلانشوي يجب أن يُفهم كوجود بلا كائنات – مُغيب عن عالم الحدث، والسببية، والتمثيل. يكتب سايمون كريتشلي أن فرضية بلانشو لعمل بيكيت هي أننا نقترب من تجربة، تجربة أدبية، تتحدث إلينا بصوت يمكن وصفه بأنه غير شخصي، محايد، أو غير مكترث. إنه صوت لا ينقطع، لا ينتهي، ولا يمكن تحديده، يتردد خارج كل حميمية، مُنتزعًا «الأنا» ومسلّمًا إياه إلى الخارج الذي لا يُسمى.

عمل بيكيت يجر القارئ إلى فضاء – فضاء الأدب – حيث يتلو صوتٌ غامض، محموم بكلام لا يبدأ ولا ينتهي، لا يستطيع أن يتكلم ولا يستطيع إلا أن يتكلم، يقود اللغة نحو ما يسميه بلانشو 'همهمة لا يمكن تأهيلها'، ما سأصفه لاحقًا كطنين، طنين الوجود.

فوق أي نقاش، يبقى واضحًا أن بيكيت يدمر المبادئ الأساسية للنص الكتابي حيث تُترك اللغة إلى أبعد درجات. أفكار بيكيت حول استحالة الكلمات في التعبير عن جوهر الوجود البشري تتماشى مع روح العصر. وفقًا لدريدا، فإن تاريخ الفلسفة الغربية قد هيمن عليه نظام «سماع النفس تتحدث» الذي يضمن وجود الذات لنفسها في داخلية خالصة ويساهم في ميتافيزيقا الحضور والتركيز على الصوت، وهو ما يسعى لتفكيكه.

النظام القائل بـ'سماع (فهم) النفس تتحدث' من خلال الجوهر الصوتي الذي يظهر كعلامة غير خارجية، غير دنيوية، وبالتالي غير تجريبية أو غير عرضية، قد هيمن بالضرورة على تاريخ العالم خلال حقبة كاملة، بل وأنتج فكرة العالم، فكرة أصل العالم، التي تنشأ من الفرق بين العالم والدنيوي، بين الخارج والداخل، بين المثاليات وعدم المثاليات، بين الكوني وغير الكوني، بين المتعالي والتجريبي، وما إلى ذلك.

في كتابه «اللغة إلى اللانهاية»، كتب فوكو أن اللغويات في القرن الثامن عشر اكتشفت مشكلة في منطق التمثيل القديم - أن تسمية العالم ومعرفته مرتبطان ارتباطاً لا ينفصم ولا يوجد انفصال في مكونات العلامة. في الحداثة، بين الوجود والتسمية، هناك انقطاع وفي قلب هذه الشكوك الأساسية يبدأ تفتيت اللغة وتفجرها. يمكن رؤية فن بيكيت كجزء من التجارب الراديكالية مع اللغة التي قامت بها الحركات الطليعية مثل المستقبلية، الدادية، السريالية والفلاسفة البارزين في اللغة مثل فيتغنشتاين، هايدغر، فريتز موثنر وما إلى ذلك. جميعهم كانوا يظهرون التدمير التدريجي لأسطورة لغة المطلقات، لغة كتعالي - transcendence متجهاً نحو الموت، يكتب فوكو، «اللغة تعود على نفسها؛ تلتقي بشيء مثل المرآة؛ ولإيقاف هذا الموت الذي سيتوقفه، لا تمتلك سوى قوة واحدة: تلك التي تولد صورتها الخاصة في لعبة من المرايا بلا حدود». وبيكيت وُلِدت صورته الخاصة.

بدءاً من رواية «ميرفي»، مروراً بـ «واط» ثم الثلاثية، يكشف أسلوب بيكيت البارز في استخدام اللغة عن سمة هامة: اللغة هي المدمرة والخالقة في نفس الوقت لأن الكلمات هي الحاملة والوعاء الوحيد للهوية الشخصية في رواياته. الراوي في «اللامسمى»، الذي هو مستحيل ووجودي في ذات الوقت، يتوق إلى أن يكون بين الكلمات والعوالم. الأسئلة التي يبدأ بها تكشف عن توقعاته الغائية:

أين الآن؟ من الآن؟ متى الآن؟ بلا تساؤل. أنا، قل أنا. غير مؤمن. أسئلة، افتراضات، سمها هكذا. استمر، استمر، سم ذلك استمراراً، سم ذلك أيضاً.

هذه هي النقطة التي يبدأ فيها تأويلي وسأحاول أن أفكك هذا العقد المميت من الأمل واليأس. وجهة نظري تتناقض مع النقد السائد حول دور اللغة في نصوص بيكيت. أنا مقتنع بعمق أن قصص حياة شخصياته لا «تقدم إجابة نهائية، بل تمثل حياة مستمرة - في احتجاج، في أمل، في إصرار».

مع الانتقال من رواية «واط» إلى الثلاثية ما بعد الحرب، يتتبع جيل دولوز اختراع نوع جديد من اللغة - لغة ميتا، كما يسميها دولوز. هذه اللغة الثانية، كما يطلق عليها، هي لغة صوت يتدفق دون توقف. إذا كانت المفارقة في «واط» تستغل عدم كفاية اللغة لتمثيل العالم، ففي «مولوي» تبدو اللغة قوية للغاية، مثقلة بالعلامات الغامضة، وقادرة على نقل تأثيرات ورغبات الآخرين. قصص راوي بيكيت تُظهر عدم كفاية اللغة كوسيلة للإمساك بواقع العالم والذات. ومع ذلك، في ذات الوقت، تفترض وجود عهد ميتافيزيقي مع اللغة التي تحدد وتمنح بنية للوجود، وتبني هويتهم الشخصية. أبطال بيكيت يُخلقون من خلال الحديث المستمر - تدفق الكلمات المنطوقة يخلق انعكاساتهم المتعددة والمرايا. الكائن الآخر الوحيد في عالمهم هو اللغة ويجب أن تؤسس هويتهم وعلاقتهم بالعالم والذات. الصورة الشعرية لهذه الحاجة الوجودية تلخص بطل بيكيت «واط»: «لكنه قد حول، شيئاً فشيئاً، الاضطراب إلى كلمات، وقد جعل وسادة من الكلمات القديمة، لرأسه. شيئاً فشيئاً. وليس بدون جهد».

يحقق بيكيت هذا التأثير بطرق مختلفة: معظم مخلوقاته تروي قصة - رغم أنها قد تكون بلا معنى أو ذات معنى. يقدم المؤلف أحياناً شخصيات تتحدث بلا انقطاع مثل وينني (أيام سعيدة)، تتذكر حياتها مثل «شريط كراب الأخير» أو قد يكون مجرد فم يتحدث دون جسد (لا أنا)، مجرد صوت دون جسد (اللامسمى). المثال الأقوى للذات، التي تُخلق بالكلمات هو «اللامسمى» حيث يستكشف بيكيت أصول اللغة والإبداع الأدبي، وقدرتها على إحضار الذات والعالم إلى الوجود.

الصوت ينبعث مني، يملأني، يصرخ ضد جدراني، ليس ملكي، لا أستطيع إيقافه، لا أستطيع منعه، من تمزيقي، تعذيبي، مهاجمتي.

الراوي يُخلق من خلال القصة التي يرويها. يُكشف أنه يشكَّل ويشكِّل بالكلمات وأصوات صوته. «اللامسمى»، كما يكتب كيرت ج. ويلتس، هو، بدلاً من ذلك، «كتابة في نهايتها غير المتناهية: مميزة بهجوم غير متوقف على الكلمات، على الدلالة، في حركة متقنة من العبثية المقصودة، مميزة بلعب متناقض من العلامات التي تفرغ من معناها، والتي هي دائماً في طريقها إلى العدم، ولكن دائماً عبر شيء ما، محكوم عليها أبداً بالتراجع إلى داخل دائرة تمركز اللغة - logocentrism أثناء خروجها منها». في نصوص بيكيت، تنكمش الكلمات عن العلامة، تتحول إلى خلق هوية خيالية، مبنية على الأصوات والقصص. أطلق على هذه الهوية الخيالية - الهوية الاصطناعية.

في الاستخدام الشائع، يشير مصطلح «الأطراف الصناعية - Prosthesis» إلى ما يُعين الجسد ويُسهِّل الحياة، إنه تفاعل بين الجسد والأشياء المادية، سواء كانت داخلية أو خارجية. الأطراف الاصطناعية هو جهازٌ صناعيٌّ يستبدل جزءاً مفقوداً من الجسد، قد يكون قد فُقد بسبب صدمة أو مرض أو ظروف خِلْقية. وتهدف الأطراف الاصطناعية إلى استعادة الوظائف الطبيعية للجزء المفقود. يشير الكاتب ي. تاجيري في كتابه «صمويل بيكيت والجسد الاصطناعي: الأعضاء والحواس في الحداثة» إلى انتباه دريدا لمصطلح «Parergon» الإغريقي في «نقد الحكم» لكانط، حيث يتناول مشكلة الحدود والإطار. هذا المصطلح، كالإطار، يُعتبر ملحقاً خارج العمل، ولكنه ليس ببساطة خارجه أو داخله، بل هو شيء غامض، لا يمكن اعتباره ضروريًا أو ملحقًا، ولا صائبًا ولا خاطئًا. هذا الشيء الغامض ليس إضافة للعمل فحسب، بل هو ضروري بسبب نقصٍ معينٍ بداخله.

وما أعنيه هنا بمفهوم الهوية الاصطناعية لشخصيات بيكيت، هو هويةٌ اصطناعيةٌ كإنشاءٍ خيالي، وسيطٌ فعَّال بين الذات وغير الذات، بين الذات والآخر. هذه الهوية ليست مجرد سرد؛ بل هي السرد نفسه. إنها لا تنتمي لواقعٍ معين، سواء كان ماضياً أو حاضراً في حياة الشخصيات، ولا تنبثق من تاريخٍ حياتي للشخصية؛ فلا يوجد زمانٌ ومكان محددان ولا تاريخ عائلي. هي مجرد تصور للموت المتخيل؛ صورةٌ تجمع بين الماضي الذي يزداد فوضويةً مع الحاضر الغامض والمستقبل المستحيل. وتظل هذه الهوية الاصطناعية تتلاشى شيئاً فشيئاً بيد المؤلف، وتزداد غموضاً، لكنها تظل الدليل الوحيد على وجودهم؛ هي كشبكةٍ مشمسة تعكس العالم، بعد المطر، للحظات قبل أن تتمزق.

الهوية الاصطناعية لشخصيات بيكيت هي علامة (غير) صالحة: غير صالحة بسبب تفسخ العلامة، لكنها صالحة بسبب وظائفها الدلالية. كانت حاجة واط إلى خليفةٍ دلالية كبيرةً لدرجة أنه حاول وضع أسماءٍ للأشياء. «يحوّلون الاضطرابات إلى كلمات، متلهفين لسماع صوتٍ يلفظ الأمان بالكلمات في فضاء المطبخ، يصنعون وسادةً من الكلمات القديمة لرأسه»، وينسبون قوى طرد الأرواح إلى التفسير: «كان التفسير دائمًا وسيلة لطرد الأرواح، بالنسبة لواط».

كتب الفيلسوف الألماني كاسيرير في كتابه «اللغة والأسطورة» أن اللغة تحمل لعنة الوسيطية. إن الهوية الاصطناعية لشخصيات بيكيت تقع على الحدود بين اللغة والصمت، بين المعنى واللامعنى، بين المرئي وغير المرئي، بين الواقع والخيال. دورها هو استعادة الجزء المفقود وغير الفعّال بين الذات والآخر، بين الذات والعالم. تعمل اللغة هنا من خلال نظامٍ من الترابط الذاتي الذي يمر عبر النص. وتخلق الهوية الاصطناعية شعورًا بالحياة والذات للبطل، لكنها تختلف عن الذات الحقيقية والأصيلة. تشترك في نوعٍ من الوجود الإنساني المتشظي الذي يسعى إلى استعادة حضور الذات والهوية من خلال الكلمات، حتى من خلال الوجدات الصوتية. فكما قال «اللامسمى»: «أنا كل هذه الكلمات، كل هؤلاء الغرباء، هذا الغبار من الكلمات، دون أرضٍ لترسو فيها، ودون سماء لتتبدد فيها، تجتمع لتقول، تفر من بعضها البعض لتقول، أنني أنا هم، كلهم، أولئك الذين يندمجون، وأولئك الذين يفترقون، وأولئك الذين لا يلتقون أبدًا، ولا شيء آخر».

إن «اللامسمى» هو مثال شعري على كتابات بول ريكور حول السرد كتشكيل للذات. بالنسبة لرواة بيكيت المعاقين جسديًا، المشلولين، المعزولين، المتفككين جسديًا وروحيًا، لم تكن هناك سوى الكلمات التي يمكنها خلق واقع الأحداث والعالم المادي. الرواة، وخصوصًا في الثلاثية، غير قادرين على التوقف عن الكلام. لماذا؟ لأنهم يجدون في اللغة الوسيلة الوحيدة للتحكم في فوضى الحياة، للحماية من الخطر، أو حتى للتعبير عما هو أو ما يمكن معرفته. يجب أن يقولوا الكلمات للبقاء على قيد الحياة، ويجب أن يبقوا على قيد الحياة ليقولوا الكلمات. اللغة في نصوص بيكيت أصبحت انعكاسًا ذاتيًا، وكالساحر تمتلك قوة ولادة ذاتها في لعبة المرايا التي لا حدود لها. هذه اللعبة هي ما يُعرف بتأثير«mise en abyme» قنية شكلية تضع نسخة من صورة داخل نفسها لتخلق تسلسلًا متكررًا بلا نهاية) وهي الأساس لهوية بيكيت الاصطناعية المتلاشية ولكنها لا تختفي تمامًا. بيكيت هو سيد خلق هذه الظاهرة حتى من خلال ألعاب الأصوات والإيقاع. هو نفسه وصف لغة جيمس جويس بكلمات يمكن أن تُقال أيضًا عن أسلوبه اللغوي الخاص: «المعنى يصعد دائمًا إلى سطح الشكل ويصبح الشكل نفسه. وبالتالي: عندما يرقص المعنى، ترقص الكلمات». ومع ذلك، يبرز هنا السؤال المعضل الذي نحاول الإجابة عليه: كيف يمكن لهذه الهوية الاصطناعية المتخيلة أن تكون ممكنة عندما تتراجع الشخصيات إلى أمواج لغوية (اللامسمى. ليس أنا وغيرها) ولا تمتلك جسدًا (أو أن الجسد مدمر تمامًا) وبالتالي لا تمتلك «الزمكان – chronotopos» (باختين)، و«تحول الزمن إلى مكان ولن يكون هناك زمن حتى أخرج من هنا».

كيف يمكن أن يكون هذا ممكنًا عندما تكون اللغة داخلية وخارجية في آنٍ واحد: فهي المادة الوحيدة وشرط الوجود، ولكن في الوقت نفسه، التحدث بالنسبة لشخصيات بيكيت يعني الوقوف خارج الذات والسقوط في التعددية والاغتراب؟ «نفس الهمهمة دائمًا، تتدفق دون انقطاع، مثل كلمة واحدة لا نهاية لها وبالتالي بلا معنى، لأنها النهاية التي تعطي الكلمات معناها. لكن ابدأ مع تلك المرثاة القديمة الغبية...». نعلم أن اللغة الوحيدة التي تتجاوز شروطها الأساسية يمكن أن تصبح وسيلة لتمثيل الذات الجوهرية، لتكون أساس الهوية الشخصية. في أعمال بيكيت، كما تشير روبي كوهن، العلاقة المركزية بين الشخصية واللغة هي أن العقل يعرف أنه محدود بالكلمات وعن طريقها، وأنها تشوه كل ما تقترب منه وتبحث بتحدٍ عن جوهر - سمّه الوجود، الذات، الهوية. الجوهر يتحدى التعبير اللفظي، وبيكيت يتحدى التعبير عنه.

الهوية الاصطناعية غير قادرة على التعبير عن جوهر الذات. يمكن للغة أن تتعامل بشكل معنوي فقط مع جزء خاص ومحدد من الواقع. لكن لماذا ينغمس النقاد بشغف في نقاش حول أزمة الذات في أعمال بيكيت؟ برأيي لأن بيكيت قد رسم صورة قوية عن كيفية إنشاء اللغة للهوية الاصطناعية وكيفية عملها كملاذ، ولكن في الوقت نفسه كيف أن هذه الهوية المتخيلة لا تعود إلى العالم أو الذات. وكما قال بلانشو: «هذا يعني أساسًا أن الكلمات، بعد أن اكتسبت زمام المبادرة، ليست ملزمة بتحديد أي شيء أو إعطاء صوت لأي شخص، بل أن لها غاياتها في ذاتها. من الآن فصاعدًا، هي اللغة التي تتحدث عن نفسها».

بيكيت قد خلق أكثر الصور الشعرية لجملة فيتغنشتاين الأخيرة في كتابه «رسالة منطقية فلسفية»: «إن ما لا يستطيع الإنسان أن يتحدث عنه، ينبغي له أن يصمت عنه». وضمن نصوصه جوهر نظرية اللغة: «لكي تكون متأكدًا» - قال الفيلسوف العظيم - «يمكنني أن أتخيل ما يعنيه هايدغر بالوجود والقلق. الإنسان يشعر بالحاجة للاصطدام بحدود اللغة. فكر على سبيل المثال في الدهشة من وجود أي شيء على الإطلاق. هذه الدهشة لا يمكن التعبير عنها في صيغة سؤال، ولا يوجد أيضًا أي جواب على الإطلاق. أي شيء قد نقوله محكوم عليه بأن يكون بدون معنى من الأساس. ومع ذلك، نحن نصطدم بحدود اللغة. كيركيغارد أيضًا رأى أن هناك هذا الاصطدام وأشار إليه بطريقة مشابهة (كاصطدام مع المفارقة). هذا الاصطدام بحدود اللغة هو الأخلاق».

بعد أن يُنشئ بيكيت هوية اصطناعية لشخصياته، يقوم بتدمير أساسها - اللغة - على كل مستوى ممكن، ويسدل الستار عليها. خلف مشهد الكلمات المحطمة، نرى الصورة الغامضة لكنها الحقيقية للذات الأصيلة لشخصيات بيكيت. لكن حتى ذلك الحين، «يجب أن تقول الكلمات، طالما أنها موجودة، حتى تجدني، حتى تقولني [...] ربما قد حملتني إلى عتبة قصتي، أمام الباب الذي يفتح على قصتي، والذي قد يدهشني إن فتح، لا تعرف أبدًا، في الصمت لا تعرف، يجب أن تستمر، لا أستطيع الاستمرار، سأستمر».

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق