أن تكون أو أن تتمرد من أجل أن تكون

 

 ها هي الدنيا سجنٌ بظلماتها، وفجرٌ يلوح في أفق الأماني، ديناصورٌ قد قُضي عليه بالزوال، وحيوانٌ يافع يتنفس في مهد الحياة.  - ألان باديو

في «هكذا تكلم زرادشت»، ينادي نيتشه بصوت كالريح الهوجاء: «قد آن للإنسان أن يحدد هدفه بنفسه، قد آن له أن يبذر بذرة أمله الأعظم». ليست هذه الدعوة مجرد همس، بل هي صيحة ترتفع كالصاعقة، تُخبر بالضرورة الملحة، تُنذر بأن الفوات قريب، وأن اللحظة هي الآن، حيث الأرض ما زالت كريمة بالعطاء، لكنها في الغد ستصبح عقيمة جرداء، لن تنبت فيها شجرة ولن تزهر زهرة.

تحول النداء إلى صرخة تضج في أركان الروح، تطالب بفعل عاجل قبل أن ينطفئ النور، وتذبل الحياة. إنها دعوة للرؤية، للسمع، للاعتراف بالحق. هو صوت الصمت الذي يطلب لمسة يد تنقذه، هو الرجاء الأخير قبل الفناء. «ويلاه! الأيام تقترب حين لن يستطيع الإنسان أن يولد من قلبه نجومًا بعد الآن». النداء يتحول إلى نداء نجدة، تساؤل كيف يُسمح لهذه الروح أن تذبل أمام العيون. يحاول أن يوقظنا، لكن ليس لإشراق شمس، بل ليهزنا من سباتنا، لينبهنا إلى ما يجري أمام أعيننا. يحاول أن يشعرنا بأن نبض الحياة لا يزال ينبض، وأن الصراع للبقاء هو أثمن ما يملك الإنسان.

في مقدمة كتابه «الوجودية: من دوستويفسكي إلى سارتر»، يقدم والتر كوفمان حكمة تفوق الحجارة الصماء: «الوجودية ترفض المدارس الفكرية، ترفض كل عقيدة تجمعها الأنظمة. إنها ترى في النظام جمودًا، وفي الحياة حيويةً لا تطاق». هي تمردٌ على أصفاد القرن العشرين، نضالٌ لإحياء الحياة في عالم فقد عدله. الفلاسفة الوجوديون لا يعرفون التفاؤل، كما صرح كامو بوضوح. ترى فيهم ملامح «الوعي البائس» الذي تحدث عنه هيغل، لكن بؤسهم ليس في العجز عن نيل الاعتراف، بل في العجز عن العيش، في الوحدة التي تجعل الإنسان أدنى حتى من أن يكون عبدًا. إنها صرخة للاتحاد في وجه الموت، سعي لبناء جماعة تنقذ من الفناء. يدعون إلى الحرية عبر مواجهة المصير المحتوم.

إن الفيلسوف الذي عُرف بلقب «الفنان الفيلسوف»، ألبير كامو، قد كتب رواياته ومقالاته الفلسفية ضمن حدود تتحدد بمحورين رئيسيين: العبث والتمرد. فقد وظف كامو شخصيات رواياته لتجسيد هذه المحاور من خلال تجاربهم، لينتقل بعد ذلك إلى صياغة هذه الأفكار الفلسفية بصورة مباشرة. ففي روايتي «الغريب» و«السقطة»، تتجلى فكرة العبث في قلب السرد، ليعود ويُفرغ هذه الفكرة فلسفيًا في «أسطورة سيزيف». وبالمثل، تناول في «كاليغولا» و«الطاعون» فكرة التمرد، ليتوسع في مناقشتها فلسفيًا في «الإنسان المتمرد». ويمكننا أن نضع هذين المحورين تحت مظلة واحدة، وهي مفهوم الانفصام. إذ إن كامو استعمل مصطلحي «الانفصام» و«العبث» بشكل مترادف، ليعمق هذه الأفكار من خلال تجارب وجودية متنوعة، بينما حاول أن يمنح التمرد حركة ديناميكية لمواجهة هذا الانفصام في أعماله.

وفقًا لما عبر عنه كامو في «أسطورة سيزيف»، «إن العبث، في جوهره، هو انقطاع، وهو ليس في أحد العناصر المقارنة بحد ذاته، بل ينشأ من العلاقة بيني وبين العالم». وعليه، فليس العالم وحده عبثيًا، ولا أنا كذلك بمفردي؛ فالعبث ينبثق من العلاقة غير المتجانسة بيني وبين هذا العالم. إن هذه الفكرة العبثية تمثل وصفًا لحياة تتجلى فيها فقدان القيم وانعدام المعنى، حيث يمر الزمن بشكل قاتل، وينكشف الروتين القاتم.

وللتعامل مع هذا العبث، يقترح كامو ثلاث مواقف: الانتحار، الأمل، والتمرد. فالانتحار والأمل هما بمثابة طرق للهرب من مواجهة الانفصام بين الفرد والعالم من خلال القضاء على أحد الأطراف المتقابلة. أما التمرد، فهو حركة تهدف إلى تحويل هذا العبث إلى مفهوم ينتج القيم ويصبح نقطة انطلاق للفعل. غير أن التمرد، إذا ما ألغى العبث الذي يشكل أساسه، فإنه ينسى حركته الأولى ويقع في خطأ إعادة إنتاج نفس العلاقة التي كان يحتج ضدها. ولذلك، من الضروري الاعتراف بالعبث وقبوله كأساس يوفر إمكانية العيش، إذ يرى كامو أن الحرية تنبع من وعي الإنسان بحدود وجوده وفنائه. فوعي الموت يعزز الحياة، ويشجع الإنسان على العيش بصدق والتعلق بهذا الوجود. الموت يكشف غنى اللحظة الراهنة، ويحرك الرغبة في اكتشاف جوانب متعددة من الحياة. ومن هنا، يجب أن يعترف الإنسان بالباب الذي يفتحه العبث، ويمر من خلاله دون توقف للتمرد عليه.

التمرد يحافظ على حياة العبث، بمعنى أنه يواجه باستمرار جميع الحقائق الموجودة هنا والآن، مما يجعل الحياة ممكنة ويخلق معاني جديدة. فالحياة هي الاستمرار بيني وبين العالم الغريب عني، دون انفصال بينهما، بل باستمرار كل منهما. فإذا تُرك العبث على حاله أو تم تجاهله، فإن الحياة ستظل خالية من المعنى، ويصبح كل شيء مباحًا. وحين تختفي القيم جميعها، تستحوذ القوة والسلطة على الشرعية الكاملة، حتى أن القتل والجريمة قد يُبرران. وإن السبيل الوحيد لمنع القتل هو الاعتراف بوجود العبث دون تمجيده أو تحويله إلى غاية بحد ذاته. فالعبث، وإن كان مفهومًا متناقضًا، فإنه من جهة يفتح الباب للتمرد، ومن جهة أخرى يضع حدودًا تمنع التمرد من الانحدار نحو الموت والجريمة. وعليه، يُعتبر الانفصام الوجودي التجربة الأساسية التي تنطلق منها الحركة نحو التمرد.

في مدخل عمله الفلسفي «الإنسان المتمرد»، يهدف كامو إلى تبني فكرة القتل المنطقي ودراسة الأسباب التي تبرره، مستكشفًا مسوغات القتل كما لو كان مغطىً برداء البراءة. يتناول مسألة ما إذا كان القتل، كفعل، ضروريًا في الأساس. فهو يواصل فكرته التي بدأها في «أسطورة سيزيف»، حيث انتقل من مفهوم الانتحار والعبث إلى التوتر بين القتل والتمرد.

كامو يرى أن التمرد ينشأ أولاً من شكل من أشكال الجنون، حيث يكون من غير الواضح ما الذي يتم تأكيده ضمن هذا الرفض الأولي؛ هذا الطرح الأعمى يتوق إلى النظام وسط الفوضى، إلى الوحدة التي تعلو فوق ما تم محوه، ما تلاشى. هدف حركة التمرد هو التغيير، والتغيير بطبيعته يتطلب الفعل، ولكن هذا الفعل، حسب كامو، يحمل في طياته خطرًا مشروعًا للقتل. مع ذلك، يظل الإنسان المتمرد غير متأكد من صحة القتل. وهنا يتوجب على حركة التمرد أن تعيد فحص نفسها لتبرير أسبابها، لتكون متوافقة مع القوانين التي تسعى إلى تبنيها.

كامو يطرح السؤال الجوهري: هل يمكن أن يُبرر القتل كفعل مشروع انطلاقًا من الظلم الذي يشعر به الإنسان، أم هل يجب علينا تبني مبدأ الجريمة كخطيئة والاعتراف بأن القتل دائمًا جريمة وفقًا للعقل؟

في تصور كامو، الإنسان المتمرد يُعرف بأنه «الذي يقول لا». هذه اللام تعبر عن وجود مفهوم حدودي ضد العنف الذي يُمارس عليه، ويشير إلى تجاوز ما كان غير مقبول. الرفض ليس جملة شاملة، بل يحمل ضمنه ضمناً قبولاً. من خلال قول «لا»، يُظهر الإنسان المتمرد أنه أيضًا إنسان يقول «نعم» لقيمة معينة، حيث يستثار شعور الحق تجاه كل ما هو غير مبرر.

التمرد في جوهره هو رد فعل ضد الظلم الذي لا يُحتمل، ويجلب معه يقينًا حقوقيًا مبهمًا. هذه الحركة تحدد قيمة يحميها الإنسان عندما يتعرض للتعدي عليها. كامو يشير إلى أن كل تمرد ينطوي على شعور بالاشمئزاز تجاه الظلم، ويعني الارتباط الفجائي بالنفس. من خلال التمرد، يظهر شعور بتأكيد القيمة التي يحملها الإنسان، وتنبثق فكرة احترام العدالة التي يُفترض أن تُقدَّر.

التمرد ليس حقدًا يسعى إلى الاستيلاء على ما ليس للمرء، بل هو محاولة لتأكيد قيمة موجودة في الذات. بينما الحقد هو رغبة سلبية في فقدان ما يمتلكه الآخرون، فإن التمرد هو فعل إيجابي يتجسد في إبراز القيمة الذاتية. كل تمرد يخلق وعيًا لدى الآخرين، حيث يقوم المتمرد، برفضه للواقع القائم، بمحاولة إثبات وحدة أكثر عدلاً ومتساوية.

كامو يرى أن التمرد ليس فقط نتيجة للظلم، بل يمكن أن ينبع من الظلم الذي يعاني منه الآخرون أيضًا. فالمتمرد، الذي يسعى إلى الشمولية في رؤيته لذاته، يصبح موحدًا في صراعه ضد القيم الظالمة. وهكذا، يعبر التمرد عن تضامن مع المعاناة المشتركة للبشر، مما يثبت أول يقين من التمرد: «أنا أتمرد، إذن نحن موجودون».

وفقًا لكامو، يجب على الإنسان التمرد ليبقى موجودًا، ولكنه يجب أن يحترم الحدود التي ينشئها الآخرون، تلك الحدود التي تصبح أساسًا لوجودهم المشترك. ففكرة التمرد هي توتر دائم يجب الحفاظ عليه، ويقوم كامو بدراسة دقيقة لتاريخ الفلسفة والأدب والثورات الغربية لإبراز النقاط التي يكشف فيها التمرد القيم الإنسانية، موضحًا أين تتجاوز الحدود وأين يكون مبررًا.

أولاً، من الضروري أن نوضح أن الفكر الوجودي، من حيث أنه يرمز إلى الوجود (existence) بدلاً من الجوهر (essence)، لا يسير في إطار مناقشة حول تحقق جوهر إنساني مسبق التعريف. بل يحدد النقطة الأساسية في حرية القدرة على الإبداع للإنسان. بمعنى ما، يعني ذلك البحث عن الحرية في ديناميكية فعل الإنسان. يقدّم سارتر، أحد أعلام الوجودية الفرنسية، صورة عن الحرية المطلقة التي لا تتعلق بأي حتمية خارجية، والتي تُعطى كل القدرة الإبداعية لتحقيق الذات. ولكن، بالطبع، لا ينبغي أن تُفهم الحرية المطلقة على أنها إرادة عشوائية (Willkür)؛ فالتوتر بين الوعي والاحتمالية يحمل خطرًا للتحول إلى شكل من أشكال المرض النفسي.

على سبيل المثال، بالنسبة لكامو، يتم تعريف هذه الحالة من خلال أبطال مثل دون خوان، والممثلين، والفاتحين، الذين يسعون إلى زيادة تجاربهم الحياتية كمقدار ضد الموت. هؤلاء الأبطال يبحثون عن طرق بديلة لتوسيع الحياة في مواجهة العبث، ولكن ذلك لا يكفي لتجاوز العبث. مثال آخر هو رواية «الغثيان» لسارتر، حيث أن الصورة المدهشة للحرية المطلقة على أرضية الاحتمالية تتحول ضمنيًا إلى نشاط هدام للفرد.

الوجودية الفرنسية، من خلال محاولة تجاوز التوتر بين الاحتمالية والحرية باستخدام مبدأ المسؤولية، تسعى إلى معالجة العبث من خلال إدخال قيمة المسؤولية. بمعنى آخر، رفض العبث، أو حركة التمرد، تأتي مع فكرة قيمة ومسؤولية. من خلال التمرد، تتحول التجربة الذاتية إلى تجربة جماعية عبر الوعي بالمسؤولية. الانتقال من الفرد إلى الجماعة يصبح ملموسًا.

من جهة أخرى، فإن البحث عن الحرية في ديناميكية الإبداع الوجودي، وكذلك الانتقال من الذات إلى الجماعة بفضل وعي المسؤولية، هو دليل ملموس على الجوانب الأخلاقية والسياسية للفكر الوجودي الفرنسي. بناءً على ذلك، دعونا نبدأ ببحث طبيعة الفلسفة الوجودية ثم ننتقل إلى تحليل فكرة التمرد في سياق العلاقة بين القانون والشرعية من جهة، والعلاقة بين القانون والعنف من جهة أخرى.

في «الدروس الثانية» من عمله «مشكلات الفلسفة الأخلاقية»، يعبر ثيودور أدورنو عن المشكلة الأساسية للفلسفة الأخلاقية كما يلي: «المسألة هي العلاقة بين الخاص والمصالح الخاصة، وسلوك الفرد، والعلاقة بين الإنسان الفردي وما يُمثله من كلي أو عالمي». الآن، سؤال كيفية إقامة العلاقة بين الفرد والعالمي يتضمن أيضًا العلاقة بين النظري والعملي. عندما يتم تناول المسألة بين الخاص والعالمي بشكل مجرد على مستوى نظري، فإنها تواجه خطر تجاهل جوانبها العملية. بالإضافة إلى ذلك، عندما تُؤخذ الجوانب العملية في الاعتبار، فإن تحديد أي جانب يتفوق بين المصالح العالمية والمصالح الخاصة يتطلب مستوى آخر من التجريد.

لنقم بتفصيل علاقة هذه المستويات التجريدية بالفكر الوجودي. في مقاله القصير «من يفكر تجريديًا؟»، يصف هيجل الفكر التجريدي بأنه «أن يرى في الجريمة مجرد التجريد من صفة القاتل دون أن يرى جوهره الإنساني المتبقي من خلال هذه الصفة النقية». التعميمات التجريدية، أي الفكر العقلاني القائم على المعرفة، تفشل في رؤية العلاقات الجوهرية والثقافية والتاريخية في الفرد. هنا، يجدر التمييز بين الأخلاق المزاجية (Gesinnungsethik) وأخلاق المسؤولية (Verantwortungsethik) التي يطرحها أدورنو. الأخلاق المزاجية تُعرف بأنها «معايير متصلة بالإرادة الصافية»، بينما أخلاق المسؤولية تُعرف بأنها «معايير تحتوي على إمكانية موضوعية لتحقيق في الممارسة». الأخلاق المزاجية، بارتباطها بالإرادة الصافية، تحتوي على مشكلة في إقامة العلاقة بين الفرد والجماعة بطريقة تجريدية. الوجودية الفرنسية، من خلال التمرد الذي يقوم به الفرد بناءً على شعور بالعدالة، تظل في إطار هذا المستوى التجريدي.

بالإضافة إلى ذلك، يجدر بنا أن نذكر مفهوم «العفوية» الذي يصفه أدورنو بأنه رد فعل مباشر ونشيط. حسب أدورنو، الأخلاق الوجودية «تأخذ دافعها من الاحتجاج ضد العالم المُوجَّه، وتُحول العفوية، وتصبح الذات الإنسانية مطلقة». الخطأ في هذه الأخلاق هو أنها بسبب العفوية التي لا تفكر في نفسها وتنفصل عن الواقع الموضوعي، تعيد الموضوعية إلى الداخل. فكرة الفكر الوجودي في التركيز على الوجود وإيجاد حلول ملموسة للمشكلات، أدت إلى إنشاء العلاقة بين الذات والعالم بشكل مجرد.

كما يبرز هربرت ماركوز، هذه الملاحظات توضح بوضوح أن الفكر الوجودي، برغم تركيزه على الفردية والوجود، يواجه تحديات في التعامل مع الجوانب الاجتماعية والأخلاقية العملية للأخلاق والسياسة:

الوجودية، بقدر ما هي نظرية فلسفية، تظل نظرية مثالية: فهي تجسد ظروف وجود الإنسان التاريخية في خصائص أنطولوجية ومثالية. (...) تظل حرية الإنسان الجوهرية، (...) كما هي قبل وأثناء وبعد الاستعباد الشمولي؛ لأن الحرية هي البنية المطلقة للإنسان ولا يمكن تدميرها حتى في أشد الظروف سلبية: الإنسان حر حتى وهو بين يدي الجلاد. أليست هذه رسالة الحرية المسيحية المريحة التي قدمها لوثر؟

الانتقادات التي وجهها أدورنو لمفهوم «العفوية» وماركوز لمفهوم «الحرية» في الفكر الوجودي هي انتقادات محقة للغاية. بينما يسعى الفكر الوجودي لإيجاد حلول ملموسة للمشاكل الملموسة من خلال الفعل الحر ورفض العبث، فإنه دون أن يدرك، يجعل المشاكل الملموسة مجردة. هذه الميول المثالية الكامنة في الوجودية تبرز أيضًا عندما يتحول الفكر من «الأنا» إلى «نحن» بناءً على مفهوم المسؤولية.

تدعي نظرية كامو أن فعل التمرد يخلق مفهومًا معينًا للحدود، وهذه الحدود تُنتج قيمة معينة بناءً على فكرة المسؤولية والعدالة. لكن مسألة العنف الذي يكمن في أصل القانون تستحق نقاشًا خاصًا هنا. تعبر نوردان غوربيلك عن أنه «وراء القانون يوجد دائمًا عنف، ولتحويل العنف إلى قانون، يجب أن يكون هناك منتصرون». من خلال مثال راسكولنيكوف. في هذا السياق، يُعتبر العنف الذي لم يتحول إلى قانون جريمة، بينما يُعتبر العنف الذي تحول إلى قانون مشروعًا. وبالتالي، مسألة كيفية تعريف العنف هي قضية تتطلب نقاشًا أعمق من الصورة السلبية التي يتناولها الفكر الوجودي. على سبيل المثال، سؤال ما إذا كان العنف أداة أخلاقية إذا كان يخدم أهدافًا عادلة ومبررة هو السؤال الأساسي الذي يبحث فيه والتر بنيامين في عمله «نقد العنف». يعترض بنيامين على أنه لا يمكن القضاء على العنف ضمن سياق العلاقة بين الوسائل والأهداف، أو ضمن علاقة السلطة التي تحمي القانون، ويقترح أن العنف يمكن أن يكون له أساس مشروع من خلال تمييزه بين «العنف الأسطوري» و«العنف الإلهي». من جهة أخرى، ينتقد جاك دريدا في مقاله «قوة القانون، الأساس الغامض للسلطة» بنيامين بناءً على ضرورة قابلية تطبيق القانون، ويؤكد أن تطبيق القانون يتطلب نوعًا من القوة (force/Gewalt)، وأنه لا يمكن تطبيق قانون بدون استخدام القوة. هنا، القوة هي السلطة التي تبرر القانون وتطبيقه.

بناءً على كل ذلك، أين ينبغي وضع رأي كامو الذي يرى التمرد كفعل يخلق قيمة، ويجب ألا يصل إلى نقطة تبرير العنف؟ كيف ينبغي أن نقرأ إمكانية تنفيذ فكرة التمرد بشكل مستقل عن العنف؟

يمكن الادعاء أن الأخلاق التمردية في الفكر الوجودي تتطابق مع مفهوم العصيان المدني في رفض العنف. العصيان المدني يُعرَّف على أنه شكل من أشكال النشاط الذي يظهر ضد الظلم أو خطر انهيار النظام القانوني في المجتمعات التي يُفترض أنها ديمقراطية. الفكر الليبرالي يعتبر العصيان المدني شكلاً من أشكال النشاط الذي يحافظ على أمان الديمقراطية، ويقترح أنه يجب أن يكون له وضع محدد ضمن النظام القانوني. يُنظر إلى فعل التمرد في حدود معيارية من أجل رفاه المجتمع وسلامه. في هذا الصدد، يُعتبر العصيان المدني شكلًا من أشكال المعارضة التي تساهم في استمرار النظام الدستوري. في التوتر بين الشرعية والقانون، العصيان المدني له وظيفة تصحيحية تؤمن استمرار النظام القانوني. تشير أعمال العصيان المدني إلى أهمية الإصلاح في النظام القانوني القائم. من النقاط الأساسية لفكرة العصيان المدني هي أنها تكشف عن حالة مسؤولية ليس فقط ضمير الفرد، بل تجاه جميع البشر. بناءً على ذلك، يمكن التفكير في فكرة التمرد لدى كامو، التي تلعب دورًا رئيسيًا في مفهومي الحدود والقيمة، جنبًا إلى جنب مع مفهوم العصيان المدني باعتباره تعبيرًا عن الشعور بالعدالة المشترك بين جميع البشر.

مفهوم «الحدود» كجسر بين فكرة العبث والتمرد يحتل مكانًا مركزيًا في تفكير كامو. وفقًا لكامو، إذا كان سيتم تشكيل فلسفة من فكرة التمرد، فيجب أن تكون فلسفة الحدود. التمرد الذي ينسى حدوده ويملأه الانتقام يقود نحو الفناء ويقضي على الحياة. في هذه الحالة، لم يعد التمرد تمردًا ولا ثورة؛ إنه مجرد انتقام واستبداد. لذا، يصبح التمرد أكثر صلابة بقدر ما يحافظ على وعيه بالحدود. ولذلك، يوفر مفهوم الحدود إمكانية اعتماد فعل التمرد على قيمة معينة. هذه الحالة، التي تُسمى أخلاق التمرد، تستجوب الحق في القتل حتى وإن كان مبررًا. غالبًا ما تلتقي التمردات الميتافيزيقية والتاريخية بجريمة القتل، حيث تهدف إلى الحصول على المزيد من القوة وتبرير القتل، وبالتالي تبتعد عن جذورها. وفقًا لكامو، التمرد الذي يقوم على التدمير يُعتبر غير منطقي، لأن الهدف الأساسي للتمرد هو الحفاظ على فعل الإبداع، وليس التدمير.

على الرغم من أن فعل التمرد يعتمد على الدمار الذي أحدثه العصر ووجود الموت، إلا أنه يمكن أن يساعد في زيادة كمية ممارسة الحياة ضد الموت من خلال التأكيد على الأصالة. لكن، فإن الحلول التي يقدمها لمشاكل ملموسة تُظهر أن مبادئه الأساسية مجردة. في هذا السياق، فإن التركيز على الإبداع الفني، خاصةً تعريف القيمة من خلال الوجود وليس الجوهر، وعلى العدالة الفنية، رغم أنه مهم، إلا أنه يبقى غير واضح إلى أي مدى يمكن أن يتمرد هذا الإبداع المنظم ضد السلطة الشرعية المؤسسة. من هذه الزاوية، يُنظر إلى فعل التمرد الوجودي كصمام أمان ضد السلطة الشمولية من قبل المفكرين الليبراليين، مما يجعله مشروعًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعبير الفكر الوجودي عن كونه موجهًا نحو الحرية، مرتبط بالعدم وفعل التمرد، قد تجاهل قاعدة عامة للتجسيد العلني للحرية. لكن يجب أن نعلم أن وجود الحرية في الحياة العملية يتأسس ليس فقط من خلال العدم والتمرد، بل أيضًا من خلال الموافقة والرفض. الفرق بين الأنا ووجود الآخر ينطوي ضمنيًا على تمييز يُحافظ عليه ولكن لا يتم التواصل معه. ما مدى صحة الاعتراف الحقيقي في مكان حيث يتم الحفاظ على الفرق باستمرار؟ مبدأ المسؤولية في الفكر الوجودي يعتبر التمرد مبررًا بناءً على قمع الآخر؛ ومع ذلك، فإن بناء هذا الفعل على المشاعر فقط يحتوي ضمنيًا على قلق أناني «قد يحدث لي ذات يوم». في النهاية، يعتبر وجود الموت تجربة ذاتية؛ وبناء شبكة تضامن من خلال إظهار الموت يعني فهمًا سلبيا للوحدة المبنية على اليأس تجاه الموت. من الضروري تذكُّر وجود إيديولوجيا الوحدة العاطفية التي تسعى الأنظمة الفاشية للحفاظ على شرعيتها القانونية من خلال تعزيزها.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق