شخص مخطئ أم شخص إلهي؟

كواحدة من أقدم أشكال الأدب، يحمل مفهوم الشعر أبعادًا نظرية من وجهات نظر الشاعر القديم هسيود والفيلسوف أفلاطون. في زمن هسيود، كان يُعتبر الشعر (أو الأغنية أو النشيد) هبة مقدسة من ربات الفن (Muses)، وكانت إبداعية الشاعر (الإنشاد - rhapsode) تأتي من العلاقة المباشرة بين الشاعر والآلهة. من ناحية أخرى، يرى أفلاطون أن الشعر ضار وخطير لأنه يخاطب الحواس وليس العقل. لذا، يعتبر أفلاطون الشعراء ملهمين وغير عقلانيين، وبسبب هذا الإلهام يرى أفلاطون أن الشعراء منفصلون عن الإبداع، والواقع، والعبقرية. ومن هنا، وبخلاف هسيود، يدعي أفلاطون أن الشعر، الذي لا يستند إلى المعرفة، والحكمة، والعقل، لا يمكنه الوصول إلى الحقيقة المطلقة؛ فقط الفلسفة يمكنها مناقشة الواقع من خلال التفكير النقدي، والتحقيق الجدلي، والتحليل الفلسفي وليس من خلال الإلهام كهبة من ربات الفن.

حتى القرن الخامس قبل الميلاد، لم تكن هناك كلمة مثل «الشعر»، وفي زمن هسيود، كانت تُستخدم كلمة «الأغنية» أو «النشيد» للشاعر كاصطلاح للشعر في أنساب الآلهة وأعمال وأيام لهسيود. من زمن هسيود إلى أفلاطون، كان للشعر أصول إلهية كهبة مقدسة من ربات الفن، و«تنبع هذه الألوهية من العلاقة المباشرة للشاعر مع الآلهة». في القرن الخامس قبل الميلاد، أفلاطون، الذي «تقدمت آراؤه حول الشعر في الحوارات السقراطية» في أيون، اعتبر الشعراء ملهمين وغير عقلانيين، والشعر يتعامل مع الباطل.

في اليونان القديمة، كان هناك تنافس في الأداء في الأحداث العامة وكان الشعر الشفوي يُؤدى بواسطة مغنيين يُدعون المنشدين. «المنشدين كانوا يلقون الشعر أمام جمهور كبير، وأيضًا... يفسرون المقاطع التي يلقونها، حتى يجيبون على أسئلة الجمهور». كان يُعتقد أن الطبيعة الإلهية للمغنيين أو الشعراء في العصور القديمة تنبع من العلاقة المباشرة للشعراء مع الآلهة. «هذه الأصول الإلهية للشعر ولدت ونشأت في السماء ثم أُعطيت للبشر لتُحلي حياتهم القصيرة والقاسية».

كواحد من المغنيين، هسيود، في أنساب الآلهة (ثيوغونيا)، يقول إن حماة الشعر هن بنات زيوس والإلهة نموسيني (الذاكرة)، أم ربات الفنون، التي تأتي منها قوة المنشدين. يذكر أن ربات الفن هن من يلهمنه ويعطينه قوى ذاكِرية وأيضًا «يقدمن لتمكين شعره من الحقيقة».

بالإضافة إلى ذلك، في أنساب الآلهة، يزعم هسيود أن «فبفضل ربات الفنون، بفضل رامي السهام أبولو، يمكن أن يُرى على الأرض أناس يغنّون، ويعزفون على القيثار. وبفضل زيوس يمكن أن يُرى ملوك. سعيدٌ هو قن ربّات الفنون يُؤثرنه حبًا، كلمات عذبة تنساب من فمه». أبولو، كونه إله الموسيقى ورمز الشعر، يُعتبر مصدر الإلهام. يصبح هسيود «تلميذًا مخلصًا لعقيدة الإلهام الإلهي... لا يسمح لقرائه أن ينسوا أن مهنته مصدق عليها من الرعاية الإلهية وأن جميع المغنيين موجودون على الأرض بفضل ربات الفن وأبولو». بمعنى آخر، المغني ملهم إلهي ويستمد فنه من ربات الفن أو الآلهة، ويبدأ هسيود أنساب الآلهة بزعم أن، كونه شاعرًا أو منشدًا، تعلم الأغنية (الشعر) من ربات الفن اللواتي أعطينه صوتًا إلهيًا للغناء وأن «هدف شعره، كما يقول الشاعر، هو أن يُسمع من جميع الهيلينيين في كل مكان»:

لنبدأ بمديح ربات الفنون الهليكونيات، الساكنات في جبل هليكون... هؤلاء هن اللواتي علّمن، في ما مضى، هسيود نشيدًا جميلًا. كان يرعى خرافه قرب الهليكون الملهم، وهاكم الكلمات التي بادرتني بها، أنا، ربات الفنون الأولمبيات بناتُ زيوس ذي الدرع.

في حجج غريغوري ناغي، «بحلول زمن أفلاطون، يبدو أن المنشدين كانوا فقط مؤديين، في حين أن الشاعر الشفهي يؤدي وهو يؤلف، ويؤلف وهو يؤدي». ويضيف أيضًا أن «الشاعر الشفهي في مجتمع محاكاةي لا يخترع الأشياء، إذ أن وظيفته هي إعادة إبداع القيم الموروثة لأولئك الذين يؤلف لهم أو يؤدي لهم». وهكذا، يمكن القول أن الشاعر الشفهي الأمثل يجب أن يمتلك ذخائر متنوعة لتأليف الملاحم وأنساب الآلهةت مثل هسيود. إذن، قبل أفلاطون، كان الشاعر يُعتبر شخصًا شبه إلهي يؤلف الشعر ببراعة فقط عندما يكون مُلهمًا بقوة ربات الفن.

وتقول بينيلوب موراي:

لكن على الرغم من اعتماد الشاعر على ربات الفن، فإنه لا يُقترح أبدًا أنه مجرد أداة غير واعية للإلهي: الشعر يُعرض كهدية من ربات الفن وأيضًا كنتاج لاختراع الشاعر الخاص... لذا في الأدب ما قبل الأفلاطوني، يُصور الشعراء كحكماء، لديهم الوصول إلى المعرفة من خلال إلهام ربات الفن وكحرفيين مهرة.

نقطة أخرى في «أنساب الآلهة» هي أن الشعر الجيد يُميز عند هسيود بقدرته على تعليم الناس وكذلك ترفيههم. يعتبر هسيود أن المغني (الشاعر، الفنان) هو معلم ليُرشد الناس ويُثقفهم من خلال تقديم دروس أخلاقية، لذا تلعب الأخلاق في الشعر دورًا مهمًا في عصره. بعبارة أخرى، يُعتبر الشاعر مُربٍ للمجتمع، وهسيود واعٍ بمهمته كمعلم بمساعدة رعاة الشعر؛ زيوس، وربات الفن، وأبولو. يدعي أن الشعراء الذين يُعتبرون خدم ربات الفن يُقنعون الناس بالكلام العذب من أجل تعليمهم وفي نفس الوقت يُساعدونهم على نسيان الأحزان وآلام الحياة:

وإن وُجِد بين الملوك، تلاميذ زيوس من تفضّله بناتُ زيوس العظيم، عندما يشهدن ولادته، عندئدٍ يسكبن على لسانه، ندى عذبًا، فتسيل من فمه كلمات من عسل، وأعين الناس كافة ترنو إليه، عندما يعيد الحق إلى نصابه، بأحكام عادلة. وهو، حين يتكلّم من دون أن يرتكب أخطاء، يُسكت فجأة – يعرف كيف يتدبر الأمر – أشد الشجارات صخبًا. إن ما يدل على أن الملك حكيم، هو أن ينجح، في المحفل، عندما يُلحق أذى ببعض الأشخاص، في عكس الموقف، من دون عناء، قائلًا بهدوء كلمات مقنعة. عندما يأتي إلى المحفل، يكرّم كإله، باحترام ولُطف، ويتألق في وسط الحشد. تلك هي الهبة المقدسة التي أنعمت بها ربّات الفنون على البشر.

علاوة على ذلك، يعتقد هسيود أن المغنيين يُعتبرون مختارين ومؤهلين بشكل خاص من قبل ربات الفن؛ الرجل العادي لا يمكن أن يكون شاعرًا. يتحدث الشاعر كسلطة فوق جميع الشعراء الآخرين كما يتحدث زيوس كسلطة فوق جميع الآلهة الأخرى. يدعي هسيود أن الشعراء مختلفون عن الرجال العاديين لأن الشعراء فقط يحصلون على المعرفة من خلال إلهام ربات الفن ويُعتبرون أشخاصًا إلهيين. لذا، يعبر هسيود أن ربات الفن يُخبرونه بما يغنيه، ثم يقوم بذلك كإلهام إلهي قادم منهم:

هكذا تكلمت بنات زيوس العظيم، بصوتهن الواثق، وأعطيتني قضيبًا، غصنًا بديعًا مقطوعًا من زيتونة كريمة؛ ألهمتني النشيد الصوفي كيما أُنبئ بما سيكون وأُخبِر بما كان في سالف الزمان، ولكي أُمجّد سلالة الميامين الذين يحيون إلى الأبد، ولكي أمدحهن على الدوام، هنّ، في البدء وفي الختام.

ومع ذلك، يدعي هسيود أن ربات الفن يظهرون للشعراء ويعلمونهم أن يقولوا أشياء كثيرة زائفة كما لو كانت حقيقية، وكذلك الأشياء الحقيقية. في «أنساب الآلهة»، تُعلن ربات الفن لهسيود: «يا رعاة الحقول، أيتها الأشياء الوضيعة ما أنتم إلا بطون. نحن نعرف أن نقول أكاذيب تشبه الحقائق، ونعرف، عندما نريد، أن نجهّر بالحقائق». تزعم ربات الفن هسيود أنهم يستطيعون قول الكثير من الأكاذيب التي تشبه الحقيقة بينما يقولون الحقيقة عندما يريدون ذلك. وفقًا لروبرت لامبرتون، «ربات فن هسيود، بعد كل شيء، لا تقترح أبدًا أنها ستخبر هسيود بالحقيقة أو تقول الحقيقة من خلاله. ببساطة تشير إلى أنها تستطيع، إذا أرادت». برز بروس هايدن في تعليقه على وجهة نظر هسيود حول الحقيقة أن هذه الأسطر:

في أغلب الأحيان تُترجم هذه العبارات إلى 'أكاذيب تُشبه الحقيقة'. ولكن في الملحمة اليونانية كان معنى الحقيقة غير محدد؛ ويعني "معادل بالنسبة لجودة معينة"، وهذه الجودة غالبًا ما يتم تحديدها في السياق. نادرًا ما كانت المعادلة تشابهًا خادعًا. لذلك، في «أنساب الآلهة»، تعني كلمات ربات الفن 'أكاذيب تعادل الحقيقة'. بما أن طبيعة المعادلة تُترك بدون شرح، فإن السطر يشكل لغزًا محيرًا. في مخاطبة هسيود، زعمت ربات الفن بشكل غامض أنهن يقلن الحقيقة فقط، لأن حتى أكاذيبهن كانت بطريقة ما معادلة للحقيقة.

من ناحية أخرى، عندما نأتي إلى القرن الخامس قبل الميلاد، يعارض أفلاطون الآراء السابقة عن الشعر وينتقد المنشدين أو الشعراء في كتابه «أيون». يصرح ويليام غرين أن أفلاطون ينتقد الشعراء لأنهم «مفسدون للأخلاق، مجرد مقلدين وخادعين وفنهم متعلق بعالم المظاهر، وليس الحقيقة». بالنسبة لأفلاطون، لا يستطيع الشعراء قول الحقيقة التي هي ثلاث درجات بعيدًا عن واقعهم. بما أن الشعر محاكاةي و«الشعر يسبب للجمهور ضررًا نفسيًا مباشرًا ولا مفر منه بتغذية الأجزاء غير العقلانية من الروح، فإن حالته كمحاكاة تمنعه من توفير المعرفة» والحقيقة. يتفق أفلاطون مع هذا في «أيون» لأن الشعراء (المغنيين) ليس لديهم فكرة عن الحقيقة. يتهم أفلاطون الشعراء بقول أشياء كاذبة تختلف عن الحقيقة. يرفض أفلاطون أن الشعر يصور الحقيقة ويعلم الأخلاق لأنه مبني على الإلهام، وليس المعرفة. تضيف سوزان غيليت أن «أفلاطون يسعى لتقويض الوضع المحاكاةي للشعر بأن يجعل سقراط يجادل بأن الشعر بطبيعته غير عقلاني وغير معرفي».

«أيون»، أقصر حوار لأفلاطون، هو مناقشة بين سقراط ومفسر شفهي، أيون المنشد في ذلك الوقت. يخضع سقراط أيون لأسئلته الفلسفية والجدلية ويدعي أنه مؤدٍ محترف للشعر يستمد قوته من حيازته الإلهية كإلهام. أيون هو مُلقي محترف يسافر من مدينة إلى أخرى ويفسر ملاحم هوميروس في المسابقات في المهرجانات الدينية اليونانية. يقول أيون إنه جاء من إبيداوروس، من مهرجان أسكليبيوس حيث تُمنح الجوائز لمسابقة المنشدين وقد فاز بالجائزة الأولى. يبدو أن أيون منشد راضٍ عن نفسه يعرف نفسه وعمله بأنه مهم و«بعيد عن الشك الذاتي الجذري للفلسفة». يبدأ سقراط المحادثة، لكن أيون ليس مهتمًا جدًا ويعطي إجابات قصيرة، مستجيبًا بطريقة يمكن أن تنهي المحادثة. ومع ذلك، يصر سقراط على العودة ويثني عليه وعلى مهنته لجذبه من خلال جعل واضح أنه واحد من معجبيه:

أتعلم، يا أيون، كم حسدتكم كثيرًا على مهنتكم، ففي مظهركم دائمًا ما تكونون متأنقين بأجمل الثياب، وفي عملكم تلزمون بصحبة الشعراء العظام، وخاصة هوميروس، أرفعهم قدرًا وأعظمهم إلهامًا، فأنتم لا تقتصرون على حفظ أبياته، بل تتعمقون في أفكاره! وهذا لعمري مما يُغبط عليه المرء! إذ لا يمكن لأحد أن يصبح منشدًا بارعًا إن لم يدرك مقاصد الشاعر. فالمنشد عليه أن يعرض أفكار الشاعر لجمهوره، ولا يستطيع فعل ذلك ببلاغة إلا إذا فهم ما يعنيه الشاعر. حقًا، إن هذا كله يستحق الحسد والغيرة!

يعرف سقراط المنشد الجيد بأنه يجب أن يفهم ما يقصده الشاعر ومعرفة ما يفكر فيه الشاعر لكي ينقل أفكاره إلى الجمهور. وفي نفس الوقت يقدم تعليقات ويلقي محاضرات للناس حول الملاحم التي يلقيها. هذا يظهر الوظيفة المزدوجة للمنشد في المجتمع اليوناني. يقول دونالد هارجيس أن «مع إلقاء أجزاء من الملاحم الهوميرية كان المنشد يخدم كمفسر شفهي، وأيضًا كان محاضرًا يقدم تفسيرات مجازية لمعنى الشعر ويطبقها على الحياة اليومية». يريد سقراط من أيون أن يقبل تعريف المنشد الذي يتضمن كلاً من الإلقاء والقدرات التفسيرية. ينتقد أفلاطون، من خلال متحدثه سقراط، فعالية المنشد كمُلقٍ تستمد إلهامه من ربات الفن ضمن نقاش الحوار. يدعي أنه لا يوجد فن منهجي وواعي عندما يؤلف الشاعر شعره لأنه يكتب قصيدته فقط عندما يُلهم من ربات الفن. بعبارة أخرى، القصيدة ليست مبنية على معرفة واعية أو حقيقة لأن مصدر قوة الشاعر يأتي من إلهامه اللاواعي بدلاً من أي فن أو معرفة واعية.

في عالم أفلاطون، كانت الحكمة والحقيقة فوق كل شيء. وفقًا له، كان العالم المادي المعروف من خلال حواسنا مجرد «مظهر». يصف في جمهوريته أن العالم الذي يحيط بنا ليس العالم الحقيقي بل انعكاس، لأنه يعتمد على عالم الشكل النقي أو الأفكار، الذي يمكن تحقيقه فقط بالعقل وليس بالحواس. بالإضافة إلى ذلك، يجادل أفلاطون بأن الشعر أو الأدب بشكل عام هو محاكاة لهذا العالم الفعلي. تسمى هذه الفكرة أيضًا بالمحاكاة. بما أن العالم الفعلي الذي نعيش فيه هو محاكاة للعالم المثالي، فإن الفن هو محاكاة لمحاكاة ويأخذ جمهوره بعيدًا عن الواقع.

يكشف أفلاطون، من خلال طريقة سقراط في التساؤل، عن جهل أيون في مناظرة حول طبيعة معرفة المنشد بالشعر، ويدعي أن الشعر هو شكل من الجنون الملهم إلهيًا: «الشاعر كائنٌ هوائي، مجنحٌ ومقدس، لا يستطيع نظم الشعر حتى يستلهم الوحي ويخرج عن عقله، وتفارق منه الفطنة. فطالما الإنسان يمسك بعقله، سيظل دائمًا يفتقر إلى القدرة على نظم الشعر أو إنشاد النبوءة». من خلال الحيازة الإلهية، بدلاً من المعرفة، يمكن للمنشد «أن يؤلف بشكل جميل فقط لما أثارت ربات الفن». يدعي أفلاطون أن الشعر ليس مبنيًا على المعرفة بل على الإلهام والإحساس، وأن الشاعر يؤلف فنه فقط بالإلهام بدون فن منهجي. في «أيون»، يضيف سقراط أن قوة الشاعر هي «قوة إلهية... لهذا يأخذ الإله عقله منهم عندما يستخدمهم كخدام له... الإله نفسه هو الذي يتحدث، ويعطي الصوت من خلالهم لنا». يعني سقراط أن هذا الإلهام «يأتي بثمن فقدان مؤقت للعقل والقدرات المعرفية»، لذلك، لا يمكن للشعراء أن يقولوا الحقيقة المطلقة التي يمكن الاقتراب منها فقط بالعقل.

في «أيون»، يُشبه سقراط هذا الإلهام الإلهي بالمغناطيس؛ كيف أن «المغناطيس يجذب الحديد وينقل تلك الجاذبية، فيلهم الآلهة الفنان، الذي يلهم المفسر، الذي بدوره يلهم الجمهور». يشكك أفلاطون في حقيقة الشعر بهذه الاستعارة المغناطيسية ليشرح السلسلة؛ الإله أولًا يعطي الإلهام للشاعر، فيأتي من ربات الفن إلى الشاعر، ثم من الشاعر إلى المُلقي وأخيرًا من المُلقي إلى الجمهور؛ ثلاث مرات بعيدًا عن الواقع. يعتبر أفلاطون كل فن محاكاةا للطبيعة والشعر «مجرد نسخة من نسخة». في «أيون»، يدعي سقراط أن قدرة أيون كراعٍ ليست تعتمد على العقل بل على قوة إلهية مستوحاة من ربات الفن. كما يقول أيضًا إن «هذه القصائد الجميلة ليست بشرية، ليست حتى من البشر، بل هي إلهية ومن الآلهة؛ وأن الشعراء ليسوا سوى ممثلين للآلهة» ويتوجه إلى أيون ويضيف أنه، كراعٍ، «يتبين أنك ممثل لممثلين». بعبارة أخرى، يرى أفلاطون أن الشعر هو محاكاة لمحاكاة للواقع.

في «أيون»، يتحدث أفلاطون عن الشاعر الجيد بأنه مستوحى وممسوس ولكنه ليس في عقله. يدعي أن الشعراء قد ينطقون بأشياء حقيقية ولكنهم لا يملكون المعرفة التي ينالها الفيلسوف وحده. يدعي أفلاطون أن الشعر يستدعي العاطفة. يعتبر العاطفة أدنى شكل من التعبير البشري، لذا يرى الشعر كأدنى شكل من التجربة. يعبّر أيون عن العواطف القوية التي يشعر بها أثناء عملية الإلقاء بقوله: «اسمع عندما أروي قصة حزينة، تمتلئ عيناي بالدموع؛ وعندما أروي قصة مرعبة أو فظيعة، يقف شعري من الخوف ويقفز قلبي». ثم يسأل سقراط إذا كان أيون يعلم أن له نفس التأثير على معظم جمهوره أيضًا. يجيب أيون: «أعلم جيدًا أننا نفعل ذلك. أنظر إليهم في كل مرة من على المنصة، وهم يبكون ويبدون مرعوبين، ومع سرد القصص يمتلئون بالدهشة». يدّعي أفلاطون أن الشعر يثير تأثيرًا عاطفيًا في الناس، لذا فإن الشاعر يستدعي الحواس وليس العقل. يدعي هسيود أن الشاعر لا يقتصر فقط على الترفيه أو إثارة العواطف، بل يُعلم الناس أيضًا من خلال تقديم الدروس الأخلاقية. ومع ذلك، بالنسبة لأفلاطون، لا يمكن للشعر أن يعلم الناس ولا يمكنه تقديم دروس أخلاقية لأنه يتحدث بالكذب. كما يقول أفلاطون أن الفلسفة وحدها يمكنها تعليم الناس بمساعدة التفكير الجدلي، لذا لا يمكن للشعر أن يقول الحقيقة أو يعطي المعرفة.

فيما يتعلق بالإلهام الشعري، يركز أفلاطون على سلبية الشاعر والطبيعة غير العقلانية للعملية الشعرية. يختلف مفهومه عن الشعر عن تلك التي لدى هسيود وأسلافه لأن الإلهام الشعري لا يتكون من المعرفة والشاعر ليس سيدًا على معرفته. وفقًا لهارجيس، «كما هو الحال مع الإلهام الملهم، يبدو أن أفلاطون يطور هذه العقيدة كخطوة نحو فرضية أخرى ذات صلة، أنه بنفس الطريقة، تنبع التعليقات المجازية للمنشد من الإلهام وحده وليس من أساس نظام نقدي علمي وعملي». بالنسبة لأفلاطون، لا يتكون الشعر من التفكير الجدلي وليس مبنيًا على الحقيقة الفلسفية. يحاول أفلاطون فصل الشعر عن المعرفة والحقيقة. يبحث عن الحقيقة في المفهوم الفلسفي ويرى الفلسفة، التي تعتمد على العقل، أسمى من الشعر، الذي يعتمد على الإلهام والعواطف والحواس. بعبارة أخرى، اعتراضه على الفن هو أن الفن يخاطب مشاعرنا بدلاً من عقلنا. بما أن العقل مهم جدًا للوصول إلى الحقيقة المطلقة والحالة الذهنية المثالية، يجادل أفلاطون بأن الفن يشتت الناس ويمنعهم من الوصول إلى الحقيقة المطلقة.

ومع ذلك، لا يعترف أيون بأنه مستوحى وخارج عقله. يحاول سقراط إقناعه بأن نجاح أيون كراعٍ يعتمد على قوته المستوحاة. ومع ذلك، لا يقبل أيون وجهة نظره ويقول: «أنت متحدث جيد، يا سقراط. ومع ذلك، سأكون مندهشًا إذا كنت تستطيع التحدث بشكل جيد بما يكفي لإقناعي بأنني ممسوس أو مجنون عندما أمتدح هوميروس. لا أعتقد أنك ستعتقد ذلك إذا سمعتني أتحدث عن هوميروس». يصر على أنه يعرف ويتحدث عن كل موضوع لهوميروس، وأن هوميروس (كشاعر) هو سيد كل المعرفة الحقيقية. يهاجم سقراط أن أيون لا يمكنه التحدث ومعرفة كل المواضيع المتعلقة بهوميروس مثل قيادة العربات، والطب، والصيد لأن الإنشاد ليس مهارة أو علم «مبني على مبادئ يمكن تعلمها» وعلى عكس العالم (أو الفيلسوف)، لا يمكن للشاعر أن يطلب المعرفة في مختلف المجالات، ولا يمكنه جمع البيانات المختلفة من أجل فهم علاقاتها والمبادئ العامة. ثم يشرح سقراط:

أجد أن المعرفة في حالة تتعلق بمواضيع مختلفة عن المعرفة في حالة أخرى... أعني إذا كانت هناك معرفة بنفس المواضيع، فلماذا نقول أن هناك مهنتين مختلفتين؟ - خاصة عندما تتيح لنا كل واحدة منهما معرفة نفس المواضيع! خذ هذه الأصابع على سبيل المثال: أعلم أن هناك خمسة منها، وأنت تعلم نفس الشيء عنها كما أعلم. الآن، لنفترض أنني سألتك هل هي نفس المهنة - الحساب - التي تعلمك وتعلمني نفس الأشياء، أم أنها مهنتان مختلفتان؟ بالطبع ستقول إنها نفس المهنة.

يدعي أفلاطون أن العلم، الذي يقوم على المبادئ والعقل، يُعلم الناس نفس الأشياء، بينما يثير الشعر مشاعر مختلفة في الناس؛ ولذلك، يخاطب الشعر العواطف وليس العقل. بالإضافة إلى ذلك، يجادل بأن الشعراء يكتبون عن الحروب في أعمالهم، رغم أنهم لا يعرفون شيئًا عنها. كما أنهم يُنشئون أو يهدمون البلدان، ويتحدثون باسم الآلهة، وهو ما لا ينبغي عليهم فعله، وأحيانًا يظهرون الآلهة كمخلوقات سيئة بفضائح وأخطاء. بمعنى آخر، لا يستطيع الشاعر أن يعبر عن مشاعر الجندي لأنه ليس جنديًا؛ ولا يستطيع أن يتحدث عن النصر لأنه لم يهزم جيشًا. ومن ثم، يصرح أفلاطون بأن الشاعر لا يمكن أن يكون سيدًا على كل شيء ولا يمكنه أن يقول الحقيقة. لإثبات ذلك، يسأل سقراط العديد من الأسئلة مثل «ماذا يجب أن يقول القائد عندما يكون في البحر وتضرب سفينته عاصفة - هل تعني أن المنشد سيعرف أفضل من الملاح؟» و«عندما يكون مسؤولًا عن مريض، ماذا يجب أن يقول القائد - هل سيعرف المنشد أفضل من الطبيب؟» يصرح سقراط «لكن، أنت يا أيون، تظلمني، إذا كان ما تقوله صحيحًا أن ما يمكّنك من تمجيد هوميروس هو المعرفة أو إتقان مهنة».

أخيرًا، يقنع سقراط أيون بطرح السؤال:

إذا كنت حقًا سيدًا في مجالك، وإذا كنت كما قلت سابقًا، تخدعني بالعروض التي وعدت بها عن هوميروس، فأنت ترتكب ظلمًا في حقي. لكنك لست سيدًا في مجالك، إذا كنت مسحورًا بموهبة إلهية من هوميروس، بحيث تصنع الكثير من الخطب الجميلة عن الشاعر دون أن تعرف شيئًا - كما قلت عنك - فإنك لا تظلمني. إذن اختر، كيف تريدنا أن نفكر فيك - كرجل يظلم، أم كشخص إلهي؟

في النهاية، يعترف أيون أن الشعر يعتمد فقط على الإلهام بدلاً من العقل والحقيقة: «هناك فرق كبير، يا سقراط. إنه أجمل بكثير أن يُعتبر إلهيًا». يقنع سقراط أيون بأن المنشد لا يمكنه معرفة كل شيء عن الشاعر الذي يلقيه. يدعي أفلاطون أن القصائد ذاتية؛ لا يمكنها أن تقدم كل المعرفة الحقيقية لأنها تعتمد على العواطف، والشعر خادع وضار لأنه لا يكشف الحقيقة، لذا الشعراء ليسوا سادة الحقيقة. كما يقول موت جرين، يتقدم سقراط «من خلال التحقيق الجدلي في المعنى، ومن خلال التحطيم النقدي للتظاهر بالمعرفة... وقام بالبحث عن وسيلة للوصول إلى الحقيقة المطلقة». لذلك، لاحقًا في الجمهورية، يدعي أفلاطون أن «الشعراء يكذبون ويجب نفنيهم من الجمهورية المثالية» لأن فنهم «ذاتي ويخاطب العواطف بدلاً من العقل».

في الختام، قبل زمن أفلاطون، كان يُعتبر الشعر كأغنية في شكل أناشيد وملاحم والرواة الذين كانوا يتنقلون من مهرجان إلى آخر يقدمون عروضهم من خلال إلقاء قصائد الشعراء العظماء. في «أيون» لأفلاطون، نتعلم أن المنشدين تخصصوا في إلقاء أعمال الشعراء مثل هوميروس وهسيود، ونتيجة لذلك يتم تكريمهم لأفضل أداء. كان هسيود، أيضًا كمنشد، بين هؤلاء الشعراء العظماء الذين اعتبروا أن قوته الإلهية جاءت من ربات الفن كهدية. لذلك، يجادل أفلاطون في «أيون» بأن الشعراء ليسوا مسؤولين عن أعمالهم لأنهم مستوحون من مصادر إلهية، وهي ربات الفن. نظرًا لأن هذا الإلهام يأتي من ربات الفن، فإن الشاعر بعيد عن أن يكون فنانًا مبدعًا وبعيدًا عن أن يكون عبقريًا؛ وبالتالي يعتبر أفلاطون أن الشعراء لا يكشفون الحقيقة. علاوة على ذلك، يصرح بأن الفلسفة وحدها يمكنها الوصول إلى الحقيقة المطلقة التي تقوم على المعرفة والعقل وأن محاكاة الواقع يمكن اكتشافه فقط من خلال العقل. فقط الفلاسفة، باستخدام الحكمة والعقل، يمكنهم تبرير وجهات نظرهم بالحجة العقلانية. ومن ثم، على عكس هسيود، يصرح أفلاطون أن المرء لا يمكنه الوصول إلى الحقيقة إلا من خلال التفكير النقدي، والتحقيق الجدلي، والتحليل الفلسفي وليس من خلال الإلهام كهدية من ربات الفن.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق