الراوي
طريقة السرد هي الوسيط الذي ينقل مكونات الرواية للقارئ عن طريق أكثر من نوع، لكن يوجد أربع أنواع متعارف عليهم أكثر من غيرهم (المتكلم، العليم، المتعدد، المراقب) هذا ترتيب من حيث الأهمية في رأيي.
الراوي العليم أو الغائب
هو صوت المؤلف في العمل، ينقل الأحداث من وجهة نظر كاتب الرواية، يرويها بضمير الغائب (تزوج البطل، ماتت البطلة) سُمي بهذا الاسم لأنه يعلم ببواطن الشخصيات. حيث ينقل للقارئ إلى جانب الوصف والأفكار والحوارات المشاعر والصراعات الداخلية لشخصيات الرواية.
من مميزاته أنه الأكثر انتشارًا، ويصلح في سرد الروايات متعددة الشخصيات، أيضًا يُمّكن المؤلف من إدخال أفكاره الشخصية دون إشكاليات الراوي المتكلم. ومن عيوبه أنه يُغري المؤلف لكتابة الكثير من المعلومات والأفكار الدخيلة التي يمكن أن تثقل العمل أو حتى تشوهه لو وزادت. وفي هذا الصّدد، يحتاج لمجهود من الكاتب لإيصال مشاعر الشخصية إلى القارئ على خلاف الراوي المتكلم.
- فقرة توضيحية للأسلوب
بشارع 9 حين تكبدت الشمس السماء، رأى أحمد ذو الملابس المتأنقة محمد بلابسة الرثة في الطريق المقابل، حاول أحمد الاقتراب منه والنظر إليه في حين احتلت ذكرياتهما معًا رأس الأخير، فابتسم بحب لِمَ كان بينهما، في حين التقط محمد نفس الأمر لكنه أشاح ببصره خجلًا، من الظهور بتلك الملابس أمام صديقه القديم.
- ملاحظات
يمكن أن يكون السرد بذلك الأسلوب عن طريق مخاطبة القارئ. بهذه الكيفية: هيا بنا نذهب الآن لشارع 9، حين تكبدت الشمس السماء رأى أحمد بملابسة المتأنقة محمد بلابسة الرثة في الطريق المقابل، ولأننا نعلم أن شخصية أحمد ودودة اجتماعية، حاول أحمد الاقتراب منه والنظر إليه لكن كما توقت سيقوم محمد بــ كذا وكذا...
يمكن أن نطلق عليه الراوي المُخاطِب. وفي رأيي هو أسلوب ضعيف في السرد يصلح مع قصص الأطفال أكثر.
لو طغت أفكار معينه مثالية أو عدائية، أو حب شيء معين كاللون الأصفر مثلًا على شخصيات الرواية كلها. هنا يتحول الراوي العليم لراوي مهيمن يفرض وجهة نظره على شخوصه. وفي رأيي سيفقد السرد توازنه، وسأوضح الأمر في منشور منفرد.
الراوي المُراقب
هو أسلوب غير شائع كثيرًا، هو عبارة عن النوع الأول دون الدخول في مكامن الشخصيات، فقط ينقل الصورة كما حدثت، ككاميرا. ومن مميزاته يُستخدم في الرواية التي تعتمد على الحوار أكثر من السرد. لكن له عيوبه، ومن بينها أنه يفقد الرواية العمق المطلوب.
- فقرة توضيحية للأسلوب
بشارع 9 حين تكبدت الشمس السماء رأى أحمد بملابسه المتأنقة محمد بملابسه الرثة في الطريق المقابل، حاول أحمد الاقتراب منه والنظر إليه في حين أشاح محمد ببصره عن صديقه القديم.
الراوي المتكلم (الأنا)
هو أصعب الأنواع، حيث تُروى الأحداث بضمير المتكلم. رأيته، قتلته، طهيته، أكلته. ويكون على لسان بطل العمل أو شخصية ثانوية، وبالتالي يتقيّد المؤلف بسرد الأحداث من وجهة نظر أحادية. يُستخدم في الروايات التي يكون البطل فيها هو محور الرواية، ويتلازم مع استخدامه إظهار الخصائص النفسية والدوافع والحاجات المطلوب تلبيتها للشخص المتكلم.
ومن أهم مميزاته، أنه يخلق حالة توحد بين بطل الرواية والقارئ. و في نظري هو الأعظم على الإطلاق في فن السرد حيث تأصيل الفن الروائي كتجربة ذاتية. أيضًا، له عيوبه وإشكالياته ومن بينها:
يحتاج لسارد ماهر حيث أن القصة كلها تُحكي من منظور البطل أو الشخصية الثانوية وبالتالي أي زيادة في طرح المعلومات أو الأفكار التي تتعارض مع حياة الراوي سيفسد الحبكة (يعني لا ينفع أن أتكلم عن نفسي في الساعة 7 صباحًا، وفي نفس الساعة أحكي عن الأحداث التي تقع في بيت صديقي في الوقت ذاته. هنا، يحصل خلل في الحبكة فتحتاج حبكة تشرح للقارئ كيف عرفت هذه المعلومات).
لو كان البطل متعصب أو يحمل أفكار سلبية أو شاذة (طائفية أو عنصرية أو هوس جنسي معين أو بذيئ اللسان)، المفترض في بناء الرواية أن تُقال هذه الأفكار على لسانه كما ما هي دون تصحيح أو تجميل (في هذا الجزء من الرواية على الأقل) لأن هذه قناعاته. لكن في المقابل المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية أو الدينية، كمؤلف تجعلني أحجب الأفكار هذه، أو أصححها في نفس الجزئية وهذا طبعًا سيعمل خلل في الحبكة. بل هناك من يذهب لأبعد من ذلك، لو كان البطل مثلًا رجل لا يقرأ أو يكتب أو ابن بلد، كيف يتكلم بلغة عربية فصحى التي تعني لغة سرد الرواية!
- فقرة توضيحية للأسلوب
حين كنت أسير بشارع (9) وقتما تكبدت الشمس السماء رأيت أحدًا يشبه صديقي محمد من بعيد، يتحرك من الناحية المقابلة، خطوة منه وخطوة مني اقتربت المسافة بيننا، تأكدت، هو صديقي محمد لكن ما هذه الملابس الرثة التي يرتديها؟! حاولت الاقتراب منه وارتسمت على وجهي بسمه تلقائية لما تذكرته من أوقتنا معًا. لكني صعقت فقد أشاح بنظره وكأنه لا يعرفني!
الراوي المتعدد أو المشارك
هو عبارة المزج بين الراوي العليم والراوي المتكلم، مثلًا فصل يحكي من وجهة نظر البطل والثاني يستكمل الأحداث من وجهة نظر المؤلف العليم أو حتى (الفصل الأول يسرد بالمتكلم من وجهة نظر البطل، والثاني يسرد بالمتكلم من وجهة نظر البطل الثاني للرواية، والثالث يروى بالعليم من وجهة نظر المؤلف). أنبهكم، لا يجب أن يكون الراوي المتعدد في نفس الفصل.
ومن مميزاته يفيد في حل إشكاليات الراوي المتكلم، ويُفيد الكاتب لو شعر أن أفكاره نضبت في الكتابة. ويُقابل هذا، العيوب حيث يلزم على كاتبه الحرص على عدم تكرار المعلومات حتى لا يمل القارئ. أيضا تقع عليه مسؤولية تقمص جميع الشخصيات التي يكتب بها المؤلف.
- فقرة توضيحية للأسلوب
بداية الفصل الأول: حين كنت أسير بشارع (9) وقتما تكبدت الشمس السماء رأيت أحدًا يشبه صديقي محمد من بعيد، يتحرك من الناحية المقابلة، حاولت الاقتراب منه وارتسمت على وجهي بسمه تلقائية لكنه أشاح بنظره وكأنه لا يعرفني!
بداية الفصل الثاني: في طريقي رأيت أحدًا من زملائي السابقين، على ما أتذكر يدعى أحمد كان متأنقًا على غير ما عرفته سابقًا، أشعر أنه ينظر باتجاهي، لن أجعله يراني بملابس عملي. اللعنة عليه وعلى كل من يبزغون في طريقنا من العدم.
- ملاحظات
كما يمكن أن يتفرع من ذلك النوع، نوع يسرد فيه المؤلف القصة عن طريق جميع أبطال روايته حيث يكمل كل منهم للآخر الأحداث من وجهة نظرة.
أخطاء شائعة في الراوي
بجانب المُلاحظات. نعلم أن الراوي مهم لقصتك، فالخروج عن قواعده قد ينتج عنه أخطاء فادحة، ومع الأسف ممكن حتى لو الكاتب متمرس في اللغة أو الحبكة. هذا الخطأ يجعله يكتشف أنه مبتدئ وروايته مضطرة للمُعاونة في تصحيح ومراجعة الكثير. الخطأ الشائع يكون عبر خلط بين أنواع الرواي وهذا يجعل السرد ليس بسلس ولا باحترافي.
معظم هذه الأخطاء التي سأذكرها تنحصر على الأنواع الشائعة، تجعل الكاتب لا يُوفق في احترام كلّ القواعد، بل يصل الأمر لمخالطة هذه الأنواع مع بعضها البعض فتجعل القارئ تائه، والقصة لن نقول عنها معقدة بل ليس بها شيء لفهمه. وبهذا، سأحاول تقديم بعض النصائح مُصاحبة ببعض الأمثلة ليستوضح الأمر أكثر.
الراوي العليم
قُلنا، أنه يكون على علم بجميع أحداث وشخصيات القصة منذ البداية للنهاية ولكن... صوته الخاصّ ليس صوت أي شخصية في الرواية: بمعنى لا ينفع أن يكون الراوي العليم يصف شخصية ما من وجهة نظر شخصية ثانية.
مثال، لو البطل ولد رأى نفسه أنه مُهمل وبارد وقلبه مات منذ وفاة والدته. ولكن في بنت معينة ستجعله يحسّ لأول مرة. فلا ينفع للراوي أن يقول:
كانت أسيل تتميز بشخصية تلقائية تشبه أشعة الشمس، فهي تجعل الجليد يذوب ويسيل كأنه لم يكن صلبًا من قبل. هذه الطاقة الهائلة تذكّره بحنان والدته المتوفاة ولكنه لم يكن يدرك ذلك بعد.
ألا تشعر أن هذه الجملة بها خطأ؟ لكن لا تستطيع تحديد أي خطأ هو؟ سأجيبك: المشكلة أن الراوي عليمٌ بحجات البطل بنفسه لا يعرفها مثل أن البطلة تُذكره بحنان والدته، ولكن في نفس الوقت، في نص الجملة الأول ستجد أن هذا ليس بصوت الراوي العليم. هذا يتكلم بصوت شخصية البطل الذي يرى نفسه بَرُود. هذا الشيء ممنوع كليًا.
يعني، هذا لا ينفع أن الراوي العليم يقول رأيه في أن أسيل ستُمحي الثلج الموجود جَوْف البطل؟ ينفع طبعًا لكن لابد أن يكون الفرق واضح بين صوت الراوي وصوت شخصية البطل!
وما أعنيه لا يُجدي للراوي أن يكون شخصيته أو صوته أو تشبيهاته حتى هي شخصية البطل. لا، طالما اخترت الراوي العليم يجعله هذا مختلف عن شخصيات الرواية، وأمامك اختيار سواء تجعل هذا الراوي العليم ليس له أي آراء أو تجعل له آراء لكن منفصلة عن أبطال القصة.
لنجعل المثال السابق جوابًا، ليستوضح الأمر. لو الراوي بدون آراء:
كانت أسيل تتميز بشخصية تلقائية، أصاب حسام القلق وهو ينظر إليها، فهو يشعر فجأة بالجليد يذوب في داخله، كأنه تعرّض لأول مرة منذ وفاة والدته إلى حرارة الشمس من جديد. ورغم أنه لم يكن يدرك كم تذكره أسيل بأمه إلا أنه كان بالتأكيد يذوب في حضرتها.
الفرق لو تلاحظون أنه لمّا وصف مشاعر حسام أو أفكاره يكون واضح أن هذه مشاعر حسام وأفكاره، لأنه يحدثنا حسام أنه أحسّ بكذا أو فكّر في كذا. لا أن الراوي رأى أن أسيل ستُذيب الثلج الموجود داخل البطل.
هنا الراوي محايد وشخصيته ليست ظاهرة، ولكن ممكن الرواي العليم يكون عنده آراؤه الشخصية! كيف؟ في الأول تخيل شخصيته كيف تبدو. مثلًا هو راوي عابِس وساخر... وبه سيكون على هذا الشكل:
كانت أسيل تتميز بشخصية تلقائية وهذا ما جعل حسام يتحول أمامها من جبلٍ جليدي إلى فتاتٍ صغير يسيل في الشمس، من المؤسف أن ترى رجلًا صلبًا كحسام يتفتت هكذا بمجرد ابتسامة أو مزحة! كان يظن أنها مميزة، ولكنه ليسَ أول رجلٍ يقع في حب امرأة ما لمجرد أنه تذكره بحنان أمه المفقود!.
أظن أن الفرق أصبح واضحًا الآن، لكن كتلخيص:-
حاليًا وصفنا الراوي العليم، وقلنا ممكن أن تجعله شخصية مميزة ثابتة خلال الأحداث أو تجعله يسرد الأحداث بشكل مباشر بدون أي رأي أو شخصية. والاثنين مقبولين.
لكن غير المقبول أنك تصرف النظر وأنت تكتب، تجعل الرواي العليم يتكلم بلسان أي شخصية، كأنه هو الشخصية. وبعدها فجأة يبقى عليم بكل حاجة حتى الشخصية ليس لها علم بها! فتبقى مُنشغلًا تتنقل بين أنه يشبه الشخصية لكن في نفس الوقت ذو دراية بحجات الشخصية هي بذاتها لا تعرفها! هذا التلبيس غير مقبول ويبيّن أن الكاتب ليس متمرّسًا أو محترفًا في الكتابة.
الراوي محدود العلم (ليس العليم)
رغم أنني لم أتطرّق إليه في الأعلى، لكنني أدليت أن المنشور له علاقة بمقال تم نشره منذ مدة باسم "وجهة النظر". وكإعادة، هذا الراوي عكس العليم، له القدرة أن يتكلم بلسان الشخصية بضمير الغائب وبشكل مباشر. ولكن، هو محدود العلم. يعني، نعم سيتكلم بلسان الشخصية لكن لا ينفع أن تجعله عليم فجأة بحاجة الشخصية نفسها غير مدركة بها. يعني هذا الراوي مسموح له أن يقول:
كانت أسيل تشبه أشعة الشمس وهي تبتسم فتجعل الجليد بداخل قلبه يذوب ويسيل كأنه لم يكن صلبًا من قبل.
حقًا؟! فجأة تقول أنه مسموح نكتب بهذا الشكل؟ لأن هذا الراوي مختلف، هذا الراوي محدود العلم بمعنى أنه هو كأنه الشخصية بالضبط لكن يتكلم بضمير غائب. ولكن.. ممنوع وهو يتكلم بوجهة نظر الشخصية هذه يعلّق على أيّ حاجة، أيًا كانت الشخصية لا تعرفها!
وبه هذا الراوي لا ينفع أن يقول هذا المُقتطف:
هذه الطاقة الهائلة كانت تذكره بحنان والدته المتوفاة.
لأن هذه الشخصية المفروض أنها لا تعرف الشبه الذي بين البطل ووالدته المتوفاة.
لأبسّط الأمر. هذا الراوي يتكلم عن البطل بضمير الغائب لكن، كأنه يتكلم عن نفسه بالضبط. لم تفهم بعد؟ أبسط البساطة: لديك مشكلة لكن أنت لا تريد أن القول أنها مشكلتك فتقوم بتمثيلية خفيفة وأنت تسردها تقول:
- أحد أصدقائي أعرفه قابل فتاة، وعلى ما بَدَا عليه بدأ يحبها، يقول أنها قادرة أن تجعله يُحسّ، رغم أن مشاعره صلبة أحيانًا لكن هو ليس بمطمأن فآنس القلق بأنه سيقع في أي شيء لو فتح قلبه، فيحكي لي، يعني أنه بحاجة لحلّ أو يستوجب رأيي، في نظرك ماذا سأقول له؟
هنا صديقي سيبقى لَبيب أنه مُضطرب لأنه لا يريد أن يخسرها كما خسر أمه، ويبقى بأمس الحاجة، فيقول له: أيها الأبله، أنا على علم أنك تتكلم عن نفسك وأنك كذا وكذا...
يعني الراوي محدود العلم وهو يتكلم تحسّ أنه يتكلم عن نفسه، فيبقى مفضوح! نعم هذا هو الراوي محدود العلم، يتكلم عن الشخصية كأنه هو الشخصية نفسها. وأي حاجة واضحة للناس لكن ليست واضحة للشخصية يبقى لا ينفع أن الشخصية تأتي بسيرتها نهائيًا.
- فهمتم الفرق؟
الراوي محدود العلم ممكن يتكلم بلسان كذا شخصية في الرواية، ولكن لابد أن تنقل من وجهة نظر شخصية لوجهة نظر شخصية ثانية، هذا الأمر يحتاج حساب متين وتبقى عالِم كل شخصية كيف تفكر، وما هي الحاجات التي تعرفها والتي لا تعرفها. وأيضًا، لا ينفع أن تُغير في نفس المشهد.
ضمير المتكلم
الكاتب هنا سيُريح فكره ويتكلم بوجهة نظر شخصية معينة من الرواية، وهكذا تمّ الأمر. ولكن هذا الموضوع له عيوب طبعًا، مثلا أنه في أحداث كتير جدًا لن يقدر على التكلم عنها، لأنه الراويأو البطل لا يعرفها! فمثلًا أي حاجة البطلة ستقوم بها، البطل لن يقدر على معرفتها نهائيًا، ولا القدرة على أن يحكيها لنا. فبالتالي طريقة الكتابة ستكون محدودة جدًا.
وطريقة التغلّب على هذا الموضوع هو كتابة الأحداث من كذا وجهة نظر. يعني مثلًا تكتب أحداث معينة من وجهة نظر البطل وأحداث ثانية بصيغة المتكلم أيضًا لكن من وجهة نظر البطلة.
وصعوبة الموضوع هذا ستجعل طريقة كلامك على كل شخصية مميزة وواضحة.