الوصف
يعد الوصف أحد المكونات الأساسية في البناء الروائي، نظرًا لكونه يحيل بصورة واضحة على طرائق اشتغال اللغة في الرواية، ويؤشر في نفس الوقت على الأفق الفني الذي تعبر عنه.
للوصف أهمية كبيرة في إنجاز النصوص الروائية مع حضور عنصر المكان، فالوصف هو «مكونا هاما من مكونات الرواية والكتابة السردية لأنه يعوض الديكور في المسرحية».
ويقول حميد الحميداني عن الوصف:
بأن ضوابط المكان في الروايات متصلة عادة بلحظات الوصف، وهي لحظات متقطعة أيضا تتناوب في الظهور مع السرد أو مقاطع الحوار، ثم إن تغيير الأحداث وتطورها يفترض تعددية الأمكنة وإتساعها أو تقلصها حسب طبيعة موضوع الرواية». كما يرى ميشيل ريمون: «أن الأوصاف التي لها رؤية للفضاء (...) لا تؤخر الفعل، بل تحتويه، تكون عنه الصورة الملموسة.
أما فيليب هامون يعرفه:
أن الوصف ليس دائما وصفًا للواقع بل هو في الأساس ممارسة نصية.
وقد ميز فيليب هامون بين أربعة أنواع من الوصف:
كرونولوجيا (وصف الزمان)
ويتمثل في وصف مراحل الزمن التي مر بها البطل في حياته، والمواقف التي صادفته سواء كانت قاسية بالنسبة إليه أو العكس.
- بعض النماذج في وصف الزمان
وتذكرت أنك كنت ذات يوم من أيام عمرك جالسا في إحدى المقاهي الشعبية ترتشف قهوة، وتتأمل فوضى الحركات، وتسمع نشاز الأصوات التي تهاجمك، وتقرع أذنيك بدون استئذان.
وذات يوم من الأيام الجميلة طقسًا، وجمال الطقس يصافح جمال النفس ويعانقه. كنت أفتح البريد في مدخل العمارة، وكنت منتشيًا وأيام الإنتشاء قليلة في حياة كل منسي، وفي حياتي خاصة، ولكنها أيام مشهودة.
إنها تغيرات هذا الزمن ومغيراته، يتجاور فيها الأحياء والأموات، وتنقلب فيها كثير من المفاهيم، ويسود فيها العجز و الإنكفاء ويفقد كل شيء صورته المعتادة، ونكهته الخاصة.
من خلال المقاطع السابقة، نلاحظ أن الروائي وصف الزمن بكل تقنياته، وعلاقة البطل بالزمن خاصة الفترات التي مرت به سواء في الماضي أو الحاضر، فقد وظف الوصف الكرونولوجيا بكثرة في النصين الروائيين.
طوبوغرافيا (وصف الأمكنة والمشاهد)
يتمثل في وصف الأمكنة والمشاهد، فالروائي عندما يبدأ في تحديد عمله، يختار المكان الذي يؤطر الأحداث داخل النص الروائي.
- بعض النماذج في وصف الأمكنة والمشاهد
إنها القرية التي تجثم الآن أمامكم هادئة، على رقعة من هذه الأرض، تحيط بها الجبال من كل الجهات، وتحرسها من بعيد، وتقترب منها الهضاب الجميلة، والمرتفعات، والمنخفضات، والشعاب، والأشجار، والغابات، وألوان الطبيعة الجميلة، التي سرعان ما تستحوذ على الإنسان وتأسره.
كان المساء جميلًا مشربا بالحزن، سماء صافية، وشفق مغبش، وشمس تتهاوى غاربة مرتعشة، وطيور تمر بين حين وحين، وكأن الحزن قد شملها أيضًا.
هاهو البحر قد بدأت زرقته تميل إلى الدكنة، وتراجعت نوارسه فإملأ بصرك من منظره، و إملأ رئتيك من هوائه، ثم إنسحب مثلما إنسحب الآخرون.
فهذا الوصف الطوبغرافي له معاني ودلالات تمكننا من معرفة مصدر الرواية، من أي منطقة تنتمي أو مسار الأحداث، فالمكان له تقنياته ومرجعيته في تكوين البعد الجمالي والأيديولوجي للنص الروائي، فهو يكشف لنا الحالة الشعورية للبطل الروائي، ومدى تأقلمه معه، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا.
بروزوغرافيا (وصف المظهر الخارجي للشخصيات)
ويتمثل في الوصف الخارجي للشخصيات، سواء كانت رئيسية أم ثانوية، أو تمثيل شخصية تصف شخصية أخرى.
- بعض النماذج في وصف المظهر الخارجي للشخصيات
كانت تتحداني في طفولتنا، ومازالت تتحداني حتى الآن، تتحداني بقامتها الشجرية، وشعرها السنبلي، وبوجهها القمري، وبعينيها السماويتين، وبصوتها الدافئ أبدا، وجسدها النافر أبدًا.
جلست بكل هدوء، مغطية ركبتيها اللتين إنحسر عنهما الفستان، ثم راحت تداعب شعرها الأسود بيديها، وتسويه إلى الخلف.
رجل قوي العضلات، كثيف الشعر، طويل القامة، حاد النظرات، مخيف، ولكنه هادئ جدا وتائه في كثير من الأوقات.
إيطوبيا (وصف كائنات متخيلة مجازية)
تتمثل في وصف شخصيات خيالية أم مجازية.
- بعض النماذج في وصف كائنات متخيلة مجازية
سحبت نفسًا طويلًا، وسحبت بصري من بين الألوان إلى زرقتي الماء والسماء. جذبتني إليها جبال "سطورا" الهادئة. هناك كانت تنام إلهة الجمال بين أحضان البحر. ذهبت الإلهة، وبقي الجمال تائها يبحث عمن يحضنه ويصونه كم تعبت المسكينة وهي تزرع هناك بذور الحب والجمال. كان إسمها عشتار.
هي التماثيل آتية، وكأنها الأموات يبعثون. هي التماثيل تتحرك ترقص بعنف، وتصرخ بأعلى أصواتها. تفقد بعض أعضائها مرة، وتستعيدها مرة أخرى، تخرج أنيابها، ومخالبها الدموية، ثم تقبل.
إنه ولي صالح، وله معجزات وكرامات. فلا تتحدثوا عنه بشر، ولا تذكروا إلا بخير. إنه يتحول في الليل إلى ذئب، أو إلى كلب وفي بعضها يتحول إلى غول، له جسد مشعر يأكل الأطفال الذين يظلمونه، أو يتحدثون عنه بسوء.
وبهذا الوصف الذي قدمه الروائي لشخوصه الروائية، عبر هذه التصنيفات، استطاعت أن تجسد لوحات جمالية للمكان في الرواية، من خلال التنوع المكاني، والوصف الذي شمل الشخصيات المتواجد فيه. فقد احتل الوصف مساحة نصية كبيرة، خاصة في كل من الوصف "بروزوغرافيا" و"طوبوغرافيا"؛ ولأن الروائي ركز على علاقة الشخصية بالمكان في الرواية، ودورها الفعال في بناء الحدث، فقد قامت هذه الأنواع من الوصوف بدورها الجمالي والدلالي من خلال توظيفها في الرواية.
فتميز الوصف عن السرد لأنه ينقل الأحداث بدقة، سواء تعلق الأمر بعلاقة الشخصيات ببعضها البعض، أو بحركاتها وسكناتها، وبالأماكن التي وجدت فيها. كما نجد هناك طرق أخرى أكثر توظيفا للوصف، دون إهمال عملية السرد أهمها:
الوصف بالحوار
حيث يكون النص عبارة عن حوار بين شخصيتين أو أكثر، يتم فيه وصف المكان، من حيث الموقع، أو المناظر، وحضارته، ونستدل ببعض النماذج:
أنتبه إلى هذا الجسم القابع هناك بجانب الجدار القديم كتمثال من التماثيل القديمة، التي ترمز إلى شقاء البشرية وتعاستها، فأخاطبه بصوت خفـي منكسر وحزين:
- إنني منشغل عنك الآن بالطوفان، وبما تفعله المياه في هذه المدينة فتوزع، أو تكور كما شئت في هذه المدينة»، فهنا البطل يحاور التمثال مع وصف للمدينة وماذا يحدث فيها.
الوصف بالحدث
يتمثل في عرض نص الحدث، مع إشارات غير مباشرة للمكان من خلال الحوار. ونستدل ببعض النماذج:
كان صغيرًا، لا يتجاوز العاشرة من عمره، ولكن التعذيب كان كبيرا ولم نعرف لماذا عذبوه كل ذلك التعذيب، كانوا يلعبون بعيدا عن الديار، عندما فاجأتهم مجموعة من عساكر الجيش الألمانية، وأحاطت بهم، جمدوا في أمكنتهم، منهم من بكى، ومنهم من لم يبكِ. منهم من راح يصرخ، ومنهم من بقى صامتًا. حاصروهم، ثم أخرجوه من وسطهم. كان إسمه أنيس.
فهنا يصف الحادث الذي وقع لصديقه أنيس، من طرف المستعمر الألماني.
وصف اللغة
ولها مستويين: الوصف عن طريق السرد التقليدي، ولا يمكن الإستغناء عنه، والثاني استخدام البلاغيات في تصوير المكان، وتكون أقرب إلى الحس اللغوي الشعري. وبه نستدل ببعض النماذج:
حدثوه بلغة لا يفهمها، وحدثهم بلغة لا يفهمونها، ثم ضربوه وأعادوا ضربه إلى أن أغمي عليه. وعند ذلك تركوه وانسحبوا.
فهنا المستعمر الألماني يتحدث باللغة الألماني لا يفهمها هذا الولد، وهو يحدثهم بلغة لا يفهمونها هي اللغة العربية.
كما نلاحظ في هذا المقطع يصف لنا جاره الموسيقي، وهو يعبر عن مشاعره باللغة الموسيقية:
في آخر طابق من العمارة، يسكن شاب، يأتي مع الليل، ويذهب معه لا يكلم أحدا، ولا يكلمه أحد. إنه صائم عن الكلام طول حياته، لا يسمع الناس منه إلا صوت العود، يداعب أوتار كل ليلة. يكاد ينطقه، يبكيه ويبكي معه.
هذا الشاب الذي لا يتكلم إلا من خلال النغمات الموسيقية، التي يعزفها عبر عوده الموسيقي، فلغته التي يتكلم بها هي الموسيقية.
فمن خلال ما سبق ذكره، عن الوصف ودوره الفعال في البناء الروائي، إذ شغل حيزا مهما، داخل النص الروائي، فيخلق شيئا من الراحة عندما يوقف (الراوي) سير الأحداث فيضعنا وجها لوجه أمام مشهد ما، ويحفز على التشويق أثناء إيقاف الراوي للأحداث عند موقف حرج، ليزيد النص إمتاعا وجمالا وتألقا عبر المسار السردي.