تأملات اللّغوي الثوري

 

دعني أُحدِّثك عن رجلٍ من أعظم الرجال، مفكّرٍ يرفل في ثياب العلم والأدب، وسياج اللغة له دثار. إنه الذي شقّ الدروب في جنبات الفكر، فأينع الزهر في بساتين الحروف، وصدحت الألسنة بنغمة الإبداع. هو ذلك الذي غاص في أعماق النفوس، فاستخرج لآلئ الحكمة، ورسم بالكلمات لوحاتٍ من الجمال والفكر. تتعانق في آثاره علومٌ وأفكار، فتتبدى للعيان أسرارٌ لم يكن يدركها سوى الأذكياء. في ليالٍ مضيئة بالمعرفة، وأيامٍ مليئة بالبحث والاستقصاء، تجلّى في سماء الفكر نجمًا ساطعًا، يحمل في جعبته مفاتيح الألفاظ ومغاليق المعاني. إنه الذي يعرف كيف تسكب الكلمات في إناء الحقيقة، وكيف تشكّل الحروف صورًا تأسر القلوب والعقول. هو من فهم أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل بحرٌ لا حدود له، تُبحر فيه السفن نحو شواطئ الخيال والإبداع.

إنه نعوم تشومسكي، شخصية بارزة في مجالات اللسانيات، العلوم المعرفية، والنظرية السياسية، قد ساهم بشكل كبير في فهم وتقدير الأدب. رغم أن تشومسكي يُعرف بشكل رئيسي بأعماله الرائدة في اللسانيات، وخاصة نظريته في القواعد التوليدية، فإن رؤاه حول الأدب ودوره في المجتمع البشري سحيقة بنفس القدر. وكما جاء في العنوان سنظهر بعض آراءه حول الأدب. أحد الادعاءات المركزية لتشومسكي حول الأدب هو قدرته الفريدة على الغوص في تعقيدات التجربة البشرية. يقول: «ليس من المستبعد أن الأدب سيظل دائمًا يمنح نظرة أعمق بكثير إلى ما يُسمى أحيانًا ‘الشخص البشري الكامل’ مما قد تأمل أي طرق بحث علمية في فعله». هذه النظرة تضع الأدب كأداة أساسية لاستكشاف أعماق المشاعر والأفكار والدوافع البشرية، وهي المجالات التي غالبًا ما تقصر الأساليب العلمية في تناولها.

ما برح نعوم تشومسكي، عالِم اللغات الأشهر والأعظم في التاريخ، ينير السبيل لدراسة اللغة عبر ستة عقود ونيف من البحث المستمر. يجسّد نهجه العلمي نظرية «النحو العالمي»، التي تفترض وجود بنية نحوية مشتركة في جميع لغات البشر. ولقد اجتاز هذا النهج مراحل عديدة، منها «النحو التحويلي» و«نظرية الحكومة والربط»، مما أثار جدلاً فلسفياً بينه وبين فريغه حول العلاقة بين اللغة والمنطق. إذ ترى نظريته اللغة كظاهرة عقلية تعكس البنية العميقة للفكر البشري، وليس مجرد وسيلة تواصل خارجية.

يؤكد تشومسكي أن العلم قد يكشف عن آليات العالم، لكن الأدب هو الذي يمكننا من فهم الفروق الدقيقة في الحياة البشرية. هذه النظرة تتماشى مع التقاليد الإنسانية التي تقدر الفنون لقدرتها على عكس وإضاءة الحالة البشرية. الأدب، من خلال أشكاله السردية والتعبيرية، يقدم عدسة فريدة يمكننا من خلالها فحص وفهم الشبكة المعقدة للتجارب الإنسانية. تعكس تأملات تشومسكي أيضًا الأدوار المتميزة للأدب والعلم في الفهم البشري. يقول: «يمكن للأدب أن يعزز خيالك وبصيرتك وفهمك، لكنه بالتأكيد لا يوفر الأدلة التي تحتاجها لاستخلاص الاستنتاجات وتدعيمها». هذا التمييز يعترف بأنه بينما يغني الأدب خيالنا ويعمق فهمنا للتجربة البشرية، فإنه لا يمكن أن يحل محل الصرامة التجريبية المطلوبة للتحقق العلمي. هذا التمييز جوهري لتقدير الطبيعة التكاملية للأدب والعلم. بينما يعتمد العلم على الأدلة التجريبية وقابلية التكرار لاستخلاص الاستنتاجات حول العالم المادي، يستخدم الأدب السرد والاستعارة لاستكشاف التجارب الذاتية والحقائق الأخلاقية. تذكرنا رؤى تشومسكي بأن كلا المجالين ضروريان لفهم شامل للعالم ومكاننا فيه.

جانب مهم من إسهامات تشومسكي في الأدب هو فهمه للغة. قال تشومسكي: «اللغة هي عملية خلق حر؛ قوانينها ومبادئها ثابتة، لكن الطريقة التي تُستخدم بها هذه المبادئ في التوليد حرة ومتنوعة إلى ما لا نهاية. حتى تفسير الكلمات واستخدامها يتضمن عملية خلق حرة». هذه الفكرة تُعتبر أساسًا لنظريته في القواعد التوليدية، التي تفترض أن القدرة على توليد عدد لا نهائي من الجمل من مجموعة محدودة من القواعد هي سمة فريدة من سمات اللغة البشرية. نظرة تشومسكي للغة على أنها مُنظمة وسائلة في آن واحد تعكس طريقة عمل الأدب. يتبع الأدب بعض القواعد اللغوية والسردية، ومع ذلك يسمح بتعبير إبداعي لا حدود له. هذا الازدواج يمكن الكتّاب من استكشاف أفكار ووجهات نظر وأشكال جديدة، مما يثري المشهد الأدبي. تسلط رؤى تشومسكي في الطبيعة التوليدية للغة الضوء على الإبداع الكامن في كل من التواصل اليومي والخلق الأدبي.

القراءة، وفقًا له، بعيدة كل البعد عن النشاط السلبي. يقول: «...قراءة الكتاب لا تعني فقط قلب الصفحات. تعني التفكير فيه، تحديد الأجزاء التي تريد العودة إليها، التساؤل عن كيفية وضعها في سياق أوسع، متابعة الأفكار. لا فائدة من قراءة الكتاب إذا تركته يمر أمام عينيك ثم نسيته بعد عشر دقائق. قراءة الكتاب هي تمرين فكري، يُحفز التفكير، التساؤلات، والخيال».

هذه النظرة تؤكد على الانخراط الفعال المطلوب في القراءة. بالنسبة لتشومسكي، القراءة هي شكل من أشكال التمرين الفكري الذي يحفز التفكير النقدي، التساؤلات، والخيال. هذا النهج في القراءة يتماشى مع مبادئ القراءة الدقيقة والتحليل الأدبي، التي تتطلب فحصًا دقيقًا وتفسيرًا للنصوص. من خلال تشجيع القراء على الانخراط بعمق مع النصوص، يدعو تشومسكي إلى نهج أكثر تفكيرًا وتأملًا في الأدب. تسلط تأملات تشومسكي حول مدى المعرفة الضوء على قيمة الأدب. يلاحظ بشكل طريف: «أحيانًا عندما أكون في مقابلة مملة على الهاتف، وأحاول التفكير في شيء آخر لأن الأسئلة مملة جدًا، أبدأ في النظر حول الغرفة حيث أعمل، كما تعلم، مليئة بالكتب المكدسة حتى السماء، مواضيع مختلفة. أبدأ بحساب كم قرن سيتعين علي أن أعيش لأقرأ أربع وعشرين ساعة في اليوم كل يوم من أيام الأسبوع لأحدث أثرًا في ما أود تعلمه عن الأشياء، هذا محبط جدًا. […] كما تعلم، لدينا فهم قليل، لمحات، قليل من الضوء هنا وهناك، لكن هناك كمية هائلة من الظلام، وهذا يمثل تحديًا. أعتقد أن الحياة ستكون مملة جدًا إذا فهمنا كل شيء. من الأفضل إذا لم نفهم أي شيء... ونعرف أننا لا نفهم، هذا هو الجزء المهم».

تعكس هذه التأملات اتساع المعرفة البشرية والإدراك المحبط لفهمنا المحدود. بالنسبة لتشومسكي، هذا الوعي ليس سببًا لليأس بل هو مصدر للتحفيز والفضول. السعي اللامتناهي للمعرفة، سواء من خلال العلم أو الأدب، هو ما يجعل الحياة مليئة بالتحدي الفكري. الأدب، بمواضيعه ووجهات نظره الواسعة، يوفر مصدرًا لا ينضب للاستكشاف والاكتشاف. إلى جانب الفوائد الفكرية الشخصية، يؤكد تشومسكي على المسؤولية الأخلاقية للكتّاب. يعتقد أن «مسؤولية الكاتب كوكيل أخلاقي هي محاولة إظهار الحقيقة حول الأمور ذات الأهمية الإنسانية لجمهور يمكنه فعل شيء حيالها». هذه الرؤية تضع الكتّاب كعوامل للتغيير الاجتماعي، قادرين على التأثير على الرأي العام وإلهام العمل على القضايا الاجتماعية الحرجة.

يتماشى منظور تشومسكي مع تقليد الأدب الملتزم اجتماعيًا، الذي يسعى إلى معالجة وإلقاء الضوء على الظلم الاجتماعي ومعاناة الإنسان. الكتّاب، من خلال أعمالهم، يمكنهم رفع الوعي، تحدي السرديات السائدة، والدعوة إلى التغيير. هذا البعد الأخلاقي للأدب يبرز إمكاناته في التأثير الإيجابي على المجتمع ويؤكد على أهمية الاعتبارات الأخلاقية في الخلق الأدبي. تشير تأملات تشومسكي إلى أن الأدب والعلم، رغم تمايزهما، هما شكلان مكملان من المعرفة. يشرح قائلاً: «بوضوح، هذا النهج لا يستبعد طرقًا أخرى لمحاولة فهم العالم. يمكن لشخص ملتزم به (كما أنا) أن يؤمن بشكل متسق (كما أفعل) بأننا نتعلم أكثر عن الاهتمامات الإنسانية حول كيفية تفكير الناس وشعورهم وتصرفهم بقراءة الروايات أو دراسة التاريخ أكثر من جميع علم النفس الطبيعي، وربما دائمًا؛ وبالمثل، قد تقدم الفنون تقديرًا للسماء لا يمكن لعلم الفلك الطموح إليه».

هذه العبارة تعترف بالمساهمات الفريدة للأدب والفنون في فهمنا للعالم. بينما يمكن لعلم النفس العلمي أن يقدم رؤى حول السلوك البشري، يوفر الأدب استكشافًا أكثر ثراءً وأكثر تعقيدًا للأفكار والمشاعر والأفعال البشرية. وبالمثل، بينما يمكن لعلم الفلك أن يشرح الخصائص الفيزيائية للكون، يمكن للفنون أن تثير شعورًا بالدهشة والتقدير لجمال الكون وغموضه. تسلط تأملاته كذلك الضوء أيضًا على أهمية الخيال والإبداع في الأدب. يقول: «يمكن للأدب أن يعزز خيالك وبصيرتك وفهمك». هذه النظرة تؤكد على دور الأدب في تعزيز الإبداع وتوسيع حدود ما يمكننا تصوره وفهمه. من خلال السرد الخيالي والتعبير الشعري، يمكن للأدب أن ينقلنا إلى عوالم مختلفة، يتحدى تصوراتنا، ويلهمنا بأفكار جديدة. الخيال هو عنصر حاسم في الإدراك البشري، يتيح لنا تصور الاحتمالات التي تتجاوز واقعنا المباشر. في الأدب، يسمح الخيال للكتاب بخلق شخصيات معقدة، حبكات معقدة، وإعدادات حية. بالنسبة للقراء، يوفر وسيلة لاستكشاف وجهات نظر وتجارب بديلة، وتعزيز التعاطف والفهم. تؤكد تشديد تشومسكي على الجانب الخيالي للأدب على إمكاناته التحويلية.

للنظريات اللغوية لتشومسكي أيضًا تأثيرات كبيرة على الأدب. نظريته حول القواعد التوليدية، التي تفترض أن البشر لديهم قدرة فطرية على توليد عدد لا نهائي من الجمل من مجموعة محدودة من القواعد، توفر أساسًا نظريًا لفهم الاستخدام الإبداعي للغة في الأدب. تدعم هذه النظرية فكرة أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل بل هي أيضًا أداة للتعبير الفني. الطبيعة التوليدية للغة تسمح للكتّاب بتجريب الشكل والأسلوب والمعنى، ودفع حدود الاتفاقيات الأدبية التقليدية. تقدم رؤى تشومسكي في هيكل ووظيفة اللغة فهمًا أعمق لكيفية صياغة الكتّاب لأعمالهم وكيفية تفسير القراء لها. من خلال استكشاف التفاعل بين اللغة والأدب، يمكننا اكتساب تقدير أكبر لتعقيد وغنى النصوص الأدبية. تسلط تأملات تشومسكي الضوء أيضًا على دور الأدب في الوكالة الإنسانية. يعتقد أن الأدب لديه القدرة على تشكيل فهمنا لأنفسنا والعالم من حولنا، مما يمكننا من التصرف بشكل أكثر فعالية في العالم. تتماشى هذه النظرة مع فكرة أن الأدب يمكن أن يكون شكلًا من أشكال التمكين، حيث يوفر للقراء المعرفة والإلهام اللازمين للتنقل والتأثير في بيئاتهم الاجتماعية والسياسية. من خلال استكشاف التجارب الإنسانية والقضايا الاجتماعية، يمكن للأدب تعزيز التفكير النقدي والوعي الذاتي، مما يشجع القراء على التساؤل عن القواعد السائدة والبحث عن وجهات نظر بديلة. يؤكد تشديد تشومسكي على وكالة الكتاب والقراء على الطبيعة النشطة والمشارِكة للأدب، مما يعزز دوره كوسيلة تعبير ثقافي ديناميكية ومؤثرة.

إسهامات نعوم تشومسكي في الأدب، رغم أنها غالبًا ما تتضاءل مقارنة بأعماله في اللسانيات والنظرية السياسية، هي إسهامات مهمة ومتعددة الأوجه. تأملاته حول القدرة الفريدة للأدب على استكشاف أعماق التجربة الإنسانية، الأدوار التكميلية للأدب والعلم، الطبيعة التوليدية للغة، والمسؤوليات الفكرية والأخلاقية للكتّاب توفر رؤى قيمة في الأهمية الدائمة للأدب. تذكرنا رؤى تشومسكي بأن الأدب ليس مجرد شكل من أشكال الترفيه، بل هو أداة قوية لفهم العالم والانخراط فيه. إنه يغني خيالنا، يعمق تعاطفنا، ويُحدّينا للتفكير النقدي والعمل الأخلاقي. في عصر تهيمن فيه التقدمات العلمية والتكنولوجية على الخطاب، تعمل تأملات تشومسكي حول الأدب كتذكير في وقته بقيمة العلوم الإنسانية التي لا تُستبدل في تعزيز فهم شامل ومتعاطف للحالة البشرية. بينما نواصل استكشاف وتقدير إسهامات الأدب، تقدم رؤى تشومسكي إطارًا توجيهيًا للاعتراف بتأثيره العميق على حياتنا ومجتمعنا. من خلال تأملاته، نُذكر بالإمكانات اللامحدودة للأدب لإلقاء الضوء، والإلهام، والتحول.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق