السرد العربي القديم

هل يمكن الحديث عن حضارة دون سرد؟ إنما لمن المجازفة أن يقصى هذا الحقل الثقافي من بنية حضارة ما. ذلك أن السرد ارتبط منذ القدم بحكاية الإنسان مع الحياة، بحواره مع الطبيعة وسؤاله للوجود. وليس لنا أن نختزل الحضارة العربية من نزعة شعرية أحادية لتكوّن الطابع الأساسي لهذه الحضارة، فالسرد هو الآخر كان فضاء يتنفس فيه الإنسان العربي ليختزل ضمنه همومه الوجودية وأسئلته الإنسانية وحيرته الدائمة.

لقد كان القص حركة ينبغي أن تستمر لكي يعيش كل فرد في المجتمع حقيقة الحياة أو بالأحرى حقيقة نظام الحياة.

ومثلما عبّر الإنسان العربي عن آلامه وطموحاته شعرًا، فقد عبر عنها كذلك سردًا. لقد أصّلت دراسات كثيرة لمصطلح «الأدب» من خلال «المأدبة»، وذهبت إلى أنه حين يجتمع القوم على مأدبة الطعام يقال الشعر. هذا التأصيل ينبغي أن يكون في صالح السرد. فحين يحضر الطعام تنفتح قريحة الحكي، ذلك أن المشاركة في الأكل تخلق جوًّا من الألفة والأنس، وعملية السرد تقتضي المودة والقربة والاتصال الحميم. ولا أدل على ذلك من احتفاء كثير من النصوص السردية العربية بهذا الطقس مثل المقامات والبخلاء.

إن الرغبة في تنشيط الحس الجمالي والعثور على قناعات تخفف شيئًا ما من هول الأسئلة الوجودية للإنسان العربي، كل ذلك كان محفزًّا على ظهور السرد لكن في مظاهر بدائية تقوم على الخرافة والقصة العجيبة، والنادرة والحكاية. فكل هذه الأنماط السردية إنما نشأت نتاج رغبة إنسانية ملحة في أن يكون الحكي فضاء جماليات أولًا ثم وجوديًّا.

في بيئة بدائية مثل البيئة الصحراوية العربية، كان الإنسان العربي يحس الوحشة الإنسانية، يشعر أن حياته مهددة بالخطر. كان سؤال الغيب سؤالًا مركزيًا هامًّا. ثمة شيء غريب يحكم قوانين الوجود والحياة ويقودها ضمن مسار خاص. وفي خضم هذه الأسئلة يأتي السرد، «يأتي السرد ليصور هذا الشيء الغريب الذي قد يبلغ في غرابته حد الإبهار»، إنه الجسر الذي يصل بين الطبيعة وما وراء الطبيعة.

في توازٍ مع وجود كم أسطوري وخرافي لا يستهان به في التراث العربي، تَمَظهر سرديًّا ليعبر عن إشكالات وجودية وجمالية، فقد شكّل فن الخبر مجالًا هامًّا في السرد العربي. ويمكن اعتبار فن الخبر المعبر الأساسي عن الخصوصية الشفوية للسرد في مظاهرها الأولى والبدائية. ففي فضاء بدوي ذي نزعة شفاهية تؤثر السرعة والارتجال والتلميح الخاطف، يأتي الخبر ليلبّي هذه النزعة بكل شموليتها وخصائصها.

يتداول الخبر شفاهيًّا، وهو تبعًا لذلك يفتقر إلى خصوصيات البناء المحكم، كما يفتقر إلى الانسجام والترابط، ذلك أن الشفاهية نزعة تضاد النظام والترتيب والتخطيط المسبق، تراهن على التسرع والتلميح والوصول إلى الحقيقة. وعلى الرغم من توفر الرغبة الجمالية والتخيلية أثناء عملية سرد الخبر، فإن الحقيقة تظل عنصرًا طاغيًا، يجب الوصول إلى الحكمة المطابقة للواقع، يجب أن يكون الخبر موجهًا للإنسان في حياته أكثر من تحريك مخيلته وحسه الجمالي، تبعًا لذلك، فإن من أخص خواص الخبر تأكيده على نقل الواقعة الإخبارية نقلًا متتابعًا دون إجراء أية انحرافات تخلخل بنية متنها». فالرهان هنا ليس على المراوغة ومحاولة الإخفاء والإرجاء والتشويق، بل في النقل الأمين والتمثل الواقعي.

وبفعل هيمنة الحس الشفاهي على الخبر، فإنه ينأى عن التحليل والوقوف عند الشخصية تأملًا ونظرًا، «فالذي يجمع الأخبار لا يهمه ما يجول في نفس الشخص، لا تهمه خواطره وإنما أفعاله وأقواله».

إذ بالفعل والقول نتوصل إلى الحقيقة التي هي مدار العملية السردية في فن الخبر، وفي السرود الشفاهية عمومًا. حتى الخرافة والأسطورة فبالرغم من ابتعادهما عن الواقع فإنهما يظلان لصيقين به، وبقدر هيمنة العجائبي يهيمن الواقعي، ذلك أن الخرافة ـ مثلًا ـ ليس الغاية منها الإمتاع من خلال العجيب والمفارق للحقيقة فقط، بقدر ما تكون الغاية منها العثور على قناعات تجيب عن أسئلة الوجود والواقع قبل ذلك.

يمكن أن نعد السيرة الشعبية من أهم النصوص السردية العربية التي يطغى عليها النمط الشفاهي من خلال التركيز على واقعية الأحداث، والسعي وراء تثبيت مصداقيتها من خلال سلسلة السند المتتالية، ذلك أن السيرة الشعبية تلاحق مسيرة بطل أو مسيرة أمة، وهي إلى ذلك تظل مسكونة بها حيث التوثيق بغية إعطاء المروي السردي القدرة على الإثارة أولًا ثم الإقناع بصدق الوقائع والأحداث، ولذلك: «تكثر السيرة الشعبية من إيراد مصطلح الراوي»، دلالة على من سمع قولًا ما، وقام بروايته على الوجه الذي قيل فيه، دونما تغيير أو تحوير.

إن التحول الاجتماعي - الثقافي الهام الذي حققه المجتمع العربي بالانتقال من حيز البداوة والصحراء إلى حيز المدينة والأفق الحضري انعكس بصورة واضحة على بنية الإبداع السردي بشكل خاص، نلاحظ ذلك في انحسار مدّ فن الخبر شيئًا ما، ثم إن الحكاية ذات الأصل الشفاهي «غادرت حقلها الشفاهي وأصبحت أكثر طواعية لأن توصف وتستقر ثوابتها ومتغيراتها وأن تلمس مكوناتها وطرائق التعبير فيها».

مع التحول نحو ثقافة المدينة أضحى الإبداع همًّا جماليًّا بالدرجة الأولى، أصبح فعلًا ممتعًا ومفيدًا في آن. ضمن فضاء متخم اجتماعيًا واقتصاديًا، ذي نمط معيشي ميسور، يأتي الإبداع ليجيب عن هواجس جمالية أولًا. ما الذي يستطيع أن يقدمه السرد للعملية الإبداعية؟ هو السؤال الذي تطرحه ثقافة الكتابة، في مقابل سؤال ما الذي يقدمه السرد للحياة؟ الذي تطرحه الثقافة الشفاهية.

لا نعني بالنزعة الكتابية في مظهرها السردي محاولات التوثيق الكتابي في كتب ومدونات، ذلك هو الجانب المظهري، إن النزعة الكتابية قبل كل شيء هي وليدة ثقافة جديدة ووعي جديد، ثقافة المدينة، ثقافة التوتر والفوضى في مقابل ثقافة البساطة والقنوع. الفضاء المديني يستدعي حتمًا التساؤل المستمر في الأشياء، يستدعي البحث والتنقيب، ومن ثم المكابدة وإجالة النظر. كل ذلك انعكس إبداعيًا، إذ غدت النصوص السردية نصوصًا تتأمل وتبحث لا عن الحقيقة فقط بل أسباب مضاعفة المتعة الجمالية، تنقب عن آليات جديدة تؤسس من خلالها لكينونتها الخاصة، لاسيما وأنها نمت في مجال سيطرة شعرية واضحة.

التوثيق الكتابي إذا ليس علامة على نزعة كتابية، فقد دونت السير الشعبية لاحقًا ومع ذلك ظلت لصيقة بحقلها الشفاهي الذي أفرزها. وتواتر ألف ليلة وليلة شفاهيًا لمدة طويلة ومع ذلك فإنها تعد من النصوص الرائدة ذات النزعة الكتابية الواضحة.

وقبل الحديث عن خصوصيات النص السردي العربي ذي الوجهة الكتابية، تجدر الإشارة إلى إشكالية جوهرية في هذا المجال، وهي موقع السرد في الثقافة العربية.

الموقف من السرد

لقد اختزلت الثقافة العربية إبداعيًا ضمن نمط واحد وهو الشعر ليكون الطابع المميز لهذه الثقافة، فقد ظل الشعر مستأثرًا بالمعاني الفنية، منفردًا بالتعبير عنها، إذ كان اللغة الغنائية الوحيدة (...) لأشركها في ذلك لغة غيرها وثمة ظروف متعددة تكافلت كلها لتجعل من الحضارة العربية حضارة الشعر، فعلى الرغم من عمق التحولات الاقتصادية والثقافية والسياسية التي مست البنى المركزية للمجتمع العربي، فقد ظل الجانب الإبداعي مؤطرًا ضمن نسق واحد وهو الشعر وبقيت الأنساق الإبداعية الأخرى ـ على الرغم من أهميتها ـ هامشية بشكل واضح، ويبدو أن ذلك عائد في الدرجة الأولى إلى ارتباط البنية اللغوية الأدبية ارتباطًا لغويًا عضويًا بالدين (....) وساعد في إبطاء هذا التحول ارتباط البنية اللغوية، الأدبية، الدينية بالنظام السياسي والصراع الدائم بين هذا النظام وخارج العدو، هذه العوامل كلها: الديني والسياسي والخارجي ساهمت في تشييد أفق إبداعي واحد في الثقافة العربية وأعطته مشروعية انتشاره وتناميه، ومن ثمة فإن الشعر العربي ظلت وظيفته تتشبه إلى حد ما وظيفة الأسطورة بالمعنى الذي حدده كلودليفي شتراوس وهو: «إقامة قصر أيديولوجي» في مواجهة الطوارئ الخارجية ومن أجل تحصين الذات والحفاظ على فرادتها ونقائها.

وعلى الرغم من النقلة الثقافية الهامة التي أثارها النص القرآني من خلال احتوائه الجانب السردي، فإن هذه الطاقة الإبداعية الجديدة ظلت هامشية، واكتفت المقاربة التراثية للنص القرآني بالتغني بإعجازه ومفارقته للغة البشرية، ورسخ المنظور الذي أشاعه الفقهاء والمفسرون رؤية استعلائية على النص السردي، انطوت على رفض تام للسرد كحقل إبداعي: «ولم ينظر للقصص في القرآن إلا باعتبارها تنطوي على موعظة، وتهدف إلى ضرب المثل، وتقديم النصح، من خلال وقائع الماضي المغرقة في القدم» والبعد الزمني.

وساعد هذا المنظور الديني في تأسيس تيار مناوئ للحقل السردي يقرن عملية الحكي ـ وبصورة استعلائية ـ «بالعوام والجهال ويعني هنا كل مفتقد للمعرفة الرسمية التي يلم بها الخواص». السرد من خلال هذه الرؤية لا يكون إلا تعبيرًا عن الطبقة الهامشية في المجتمع، إنه لا يرقى إلى مستوى اللغة الأدبية التي استحوذ عليها الشعر، وقد «كانت اللغة هي الأساس الذي ارتكن إليه نقادنا القدماء في التمييز بين ما هو أدبي وما عداه».

لم يتقبل النقد العربي إشكالية الارتباط بين النص السردي وهامشيات الواقع، ففي منظوره لا يمكن للغة العربية ـ ذات البعد التقديسي المرتبط بالدين ـ أن تلامس التفاصيل «المبتذلة» للواقع، عليها أن تتعالى دائمًا، أن تظل دائمًا ملامسة لأفق مثالي يتغنى بالأمجاد والمآثر. لكن السرد العربي كان نتاجًا تاريخيًا لحركة التحديث الاجتماعية، فهو إفراز طبيعي لمسار مجتمع بكامله، ثم إن الظرف التاريخي حتم تنامي هذا الحقل على الرغم من هيمنة فكرة القمع والإقصاء لهذا النمط الإبداعي.

ثمة وعي جديد وذوق جديد نفضا الغبار عن طاقة إبداعية خصبة، نستطيع تمثيل ذلك من خلال اشتغال الشعراء الكبار على آلية السرد مثل المعري في رسالة الغفران: «إن وعي أبي العلاء بأزمة الشعر في عصره ووعيه بالنوع القصصي في الوقت نفسه حفزاه إلى إعلان القطيعة بينه وبين الشعر ليختار طريق القص».

لقد كان ظهور «ألف ليلة وليلة» كنص سردي يختزل في متنه هموم الإنسان العربي والثقافة العربية بل والإنسانية، كان لذلك الصدى الذي يحيل بجلاء على طبيعة الموقف الذي اتخذه الفكر العربي من الحقل السردي كحقل إبداعي ومعرفي.

فعلى الرغم من استثارة «ألف ليلة وليلة» للمخيلة العربية من خلال استثارتها الواسعة داخل المجتمع العربي من ناحية، وتحفيز بعض المفكرين على الإبداع على منوالها، مثل ما فعل الجهشياري الذي قام «بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم (...) واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما حلا بنفسه (...) فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة، كل ليلة سمر تام (...) ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتمة ألف سمر»، على الرغم من هذا الاهتمام بهذا الأثر السردي الخالد، فإن الكتابات النقدية العربية ظلّت متحفظة تجاهه، وفي أكثر الأحيان كانت تظهر رفضًا مطلقًا له وللسرد عموما.

فقد تحدث عنها المسعودي قائلًا: «إن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة نظمها من تقرب للملوك بروايتها». فالمسعودي يظهر رفضه لهذا النص لكونه نصًّا مفارقًا لما كرسته الشفاهية من واقعية، فهي «خرافات» والخرافة تعني في المنظومة الفكرية والنقدية العربية ما يناقض الحس الديني، ويكفي ذلك لتبرير رفضها. إن مقاربة المسعودي ـ وهو هنا يختزل الموقف النقدي العربي ـ لهذا النص اكتفت بالنهل من المخزون الشفاهي الذي لا يكلف نفسه عناء البحث والقراءة والنظر في النصوص، بل يؤسس كلامه بتسرع وارتجالية على أحكام مسبقة كثيرًا ما تكون نتيجة لسيطرة الثقافة الدينية، ثقافة الحسم النهائي في الأشياء، لا ثقافة القراءة والشك والسؤال.

والأمر نفسه نجده عند ابن النديم الذي قال عن ألف ليلة وليلة «وبالحقيقة فهو كتاب غث بارد الحديث»، غث لأنه مبتور عن مثالية الشعر العربي، وأنه مسكون بها جس التعبير عن الهامش الاجتماعي الذي تنكر له الشعر. «وبارد الحديث» لكونه يؤسس لغة مفارقة للغة الشعر، لغة التعالي والقداسة والمثالية، لغة النموذج القومي والديني. إن كلام ابن النديم يختصر أزمة الوعي النقدي العربي تجاه النص السردي؛ ثمة محاولة لتجاهل طبيعة التحولات العامة، تجاهل لأهمية سقوط الأنماط الإبداعية ـ السردية خصوصًا ـ في تعالياتها المثالية لترتطم بالهم الاجتماعي، ومن ثم تؤسس لغة خاصة، تختزل هموم اليومي والمعيشي لا لتقبع في تفاصيله، بل لتعبر عنه من ناحية، وتشيد كينونتها الجمالية والفنية من ناحية أخرى.

وعمومًا فإن المقاربات النقدية القديمة، شكل الشعر هاجسها الأول، وطاقتها المحورية تعاضدها في ذلك منظومة سياسية ودينية توجه الأفق الإبداعي والنقدي بما يخدم كيانها الخاص. ثمة محاولة لإقصاء الأنماط الإبداعية غير الشعرية، والسرد بشكل خاص «رغم كونه في واقع الحال الإنتاج الأكثر إبداعًا وجماعيًا في تاريخ ثقافتنا».

خصوصيات النص السردي العربي

إن المتتبع الدقيق للسرد العربي ذي النزعة الكتابية يلحظ أن بنيته تتحكم فيها خصوصيات عدة، تستحضر في كل نص سردي ضمن مستويات مختلفة وبدرجات متفاوتة. نحاول تقصي هذه الخصوصيات السردية مع ربطها بالبنية الثقافية للمجتمع العربي، ذلك أن كل نمط إبداعي هو في حقيقته إفراز لنمط من الثقافة والحضارة.

السرد العربي سردٌ طلبي

إنه في حقيقته وليد الرغبة من قبل الآخر، الذي يبدأ شغفًا لسماع الحكي، فيتحفز السارد للسرد، ومنه يتحفز القارئ، وتأخذ عملية القراءة شكل البحث والاستقصاء عن سر هذه الرغبة. يشعر القارئ بدافع كمون هذه الرغبة أن السرد يخفي شيئًا ما، ويحيل على أسرار، فتغدو عملية التشفير رغبة أخرى تضاهي رغبة الطلب.

عن تتبع تفاصيل السرد العربي، يمكن استحضار نوعين من الطلب السردي: طلب خارجي، وطلب داخلي.

فالطلب الخارجي: يكون تحفيزًا لعملية التأليف السردي في حد ذاتها، وهو موجه أساسًا إلى المؤلف الأول للنص، يثيره كي يباشر الحكي ويشكل نصه السردي. نلاحظ ذلك في مجموعة من النصوص، كالبخلاء مثلاً فالجاحظ يتلقى رغبة خارجية في أن يكتب عن البخلاء، نجد ذلك في مقدمة الكتاب: «ذكرت ـ حفظك الله ـ أنك قرأت كتابي في تصنيف حيل لصوص النهار، وفي تفصيل حيل سراق الليل (...) وقلت: أذكر لي نوادر البخلاء واحتجاج الأشحاء». ويأتي نص الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي ـ كذلك، استجابة من المؤلف لرغبة أبي الوفاء المهندس كي يصف له مجالس الوزير بن سعدان، الذي كان التوحيدي يسامره فهو يقول: «قد فهمت أيها الشيخ ـ حفظ الله روحك (...) جميع ما قلته لي بالأمس فهمًا بليغًا ووعّيته وعيًا تامًّا (...) وأنا أعيده ههنا بالقلم وأرسمه بالخط وأقيده باللفظ حتى يكون اعترافي به أرسى وأثبت (...) وحكمك به لي وعلي أمضى وأنفذ». وليست رسالة الغفران لأبي العلاء المعري في آخر الأمر إلا استجابة لرغبة ابن القارح في سماع تعقيب المعري الذي كان رده على شكل نص سردي متخيل في الجزء المخصص للرحلة.

أما الطلب الداخلي: فيكون تحفيزًا من طرف متلق للسارد كي يباشر العملية السردية. ويختص الطلب الداخلي بأنه يتموقع ضمن البنية السردية للنص، بخلاف الطلب الخارجي الذي يكون مفارقًا للعملية السردية، فهو فعل يتم قبل عملية الكتابة والتأليف.

يحظى الطلب الداخلي بهيمنة داخل نصوص سردية عدة. يمكن اعتبار نص «ألف ليلة وليلة» استجابة لرغبة شهريار لسماع ما تحكي شهرزاد، وإن لم يتم الطلب بصيغة واضحة، ومع ذلك فإننا نعثر على صيغة طلبية داخلية مثل: «قالت دنيازاد لأختها شهرزاد أتمي لنا حديثك»، الأمر نفسه يتكرر في نص كليلة ودمنة إذ يطلب دبشليم باستمرار من بيدبا أن يحكي له محددًا له إطار الحكي والعبرة منه، ففي باب: «الأسد والثور» على سبيل المثال يأتي الكلام: «قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف وهو رأس البراهمة، اضرب لي مثلًا لمتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال حتى يحملها على العداوة والبغضاء»، وهكذا تتكرر هذه الصيغة الطلبية عبر المسار السردي للنص.

إذًا «فهناك قاعدة شبه عامة وهي أن السرد يكون جوابًا عن سؤال أي تلبية لرغبة أو طلب قد يكتسي صيغة الأمر والمتلقي في أغلب الأحيان هو الذي يطلب السرد من الراوي». فثمة مشروعية للتساؤل حول تواجد الطلب السردي في معظم النصوص السردية العربية، إلى ما يحيل ذلك؟

في قراءتنا لبنية الإبداع العربي وموقعه ضمن الثقافة العربية تبين لنا أن العملية الإبداعية لم تنفصل عن البنية السياسية والدينية، فثمة ترابط ملحوظ بين البنيتين، هناك سلطة ما سواء سياسية أو دينية توجه حركة الإبداع وتحدد مساره، فبفعل وجود سلطة تسعى إلى الحفاظ على ثبات مؤسساتها، وتنزع نزوعًا شموليًا إلى تكريس أديولوجيتها ورؤيتها للعالم تعاضدها في ذلك سلطة دينية ذات توجه دوغمائي ـ سكولاستيكي ـ، يركن لهيمنة النصوص الدينية دون تكلف فعل التأويل والنظر، في ظل سلطة بهذه المواصفات، يجد الإبداع العربي نفسه في أزمة حادة؛ إن كل حركة للتحديث والتجديد لا بد أن يكون لها مقابل. يجب استشارة السلطة قبل كل حركة أو محاولة.

ضمن هذا الإطار يمكن قراءة الخصوصية الطلبية في السرد العربي، إنها تؤول في آخر المطاف إلى سلطة الواقع الثقافي، وهيمنة الأجهزة الدينية والسياسية والمعوقات الأيديولوجية، فيكون تحدي هذه الأجهزة والسلطات بواسطة فعل السرد الذي يستحيل ـ في آخر الأمر ـ إلى محاولة لتدجين السلطة العليا وإرغامها على الرضوخ لسلطة المثقف عبر آليات التحايل السردي.

إن «الكتابة تتم تنفيذًا لطلب من سلطة وسواء أكان هذا الطلب فعليًا أم لا، فالمهم أن الكتاب يتوجه في النهاية إلى هذه السلطة على شكل إهداء. الكتاب يؤول في النهاية إلى مكتبة السلطة». ثمة إذًا جدلية سلطوية؛ جهاز سلطوي سياسي ـ ديني ـ اجتماعي يمارس قمعه وإقصاءه لكل حركة تحديث إبداعي، تتجلى سلطة هذا الجهاز إبداعيًا عبر صيغة الطلب السردي كفعل رضوخ مظهري، ولكن ثمة شيء مستور، يتمظهر من خلال التحايلات السردية، إنه فعل المقاومة والتصدي لهذه السلطة عبر الإعلاء من سلطة الكتابة والإبداع السردي.

وليس مجانًا أن تدور فعاليات النصوص السردية العربية في نمط ثنائي: السارد مثقف، ومتلق صاحب سلطة، القراءة العابرة توحي برضوخ الثقافي للسياسي، لاسيما عندما يلبي السَّادِر المثقف أوامر المتلقي المتسلط فيباشر الحكي، غير أن القراءة المتقصية تكشف عن صراع مستديم، ثبت من خلاله الفعالية الثقافية أنها قادرة على تدجين الفعل السلطوي ودفعه إلى التخلي عن شروره. ألم تستطع شهرزاد ترويض السلوك الوحشي لشهريار؟ ألم يتعمد بيدبا سرد حكايات اليافعين وبسطاء العقل والتفكير وكأنه يحشر دبشليم ضمن هذه الزمرة؟ ألم يثبت أبو حيان التوحيدي للوزير ابن سعدان أن السلطة في حاجة إلى الفعل الثقافي والمعرفي؟

ضمن هذه الجدلية ـ فقط ـ يجب قراءة الخصوصية الطلبية في النصوص السردية العربية.

السرد العربي ذو نظام إسنادي

تحتفي معظم النصوص السردية العربية بمقدمة إسنادية، تحرص على ثباتها طيلة المسار السردي للنص. وتتنوع الصيغ الإسنادية من نص إلى آخر، وأحيانًا داخل النص الواحد. إذ نعثر على صيغة: «بلغني أيها الملك السعيد» في «ألف ليلة وليلة»، و«زعموا» في «كليلة ودمنة»، «وحدثنا عيسى بن هشام» (وهذه هي الصيغة الغالبة) في مقامات الهمداني، وصيغ إسنادية متعددة في البخلاء...

ما الذي يؤديه الإسناد في البنية السردية للنص؟

يبدو أن الإسناد آلية سردية، يحرص المؤلف على توافرها في النص استجابة لنزوع ثقافي عربي يؤثر الصدق والواقعية، «فالخبر لا يعرف به إلا إذا، كان الذي يبلغه معروفًا بالصدق والعدالة. بل إن الخبر الذي تتوافر فيه الشروط المطلوبة هو الخبر الذي يبلغه عدة رواة لا يتعارفون وبالتالي لم يتفقوا على إذاعة خبر كاذب». فهاجس الإسناد الأساس هو الإقناع بصدق الكلام وحقيقة الحدث.

تقول شهرزاد: «بلغني»، لا تحيل هذه الصيغة على تواصل شفاهي فقط، فأن يبلغك شيء، يعني أنه وصل إليك إما مشافهة، وإما كتابة، وإما بطرق أخرى مختلفة. ويبدو أن معنى التواصل الكتابي هو الأرجح، لاسيما إذا علمنا أن شهرزاد «قد قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين»، وأنها من ناحية أخرى ابنة وزير، كل ذلك يجعل من الفعل «بلغني» ذا حضور مميز، إنها تسند سرودها إلى مصدر موثوق وذي هيمنة وسلطة، إنها بذلك «تمتلك امتيازات عديدة لتحقيق ما تريد وتكون متنفذة، ولهذا لا يعصو عليها شيء، وهي ناضجة متجاوزة مرحلة البلوغ: إنها تمتلك إمكانات البلاغة (الفصاحة) وتكون قادرة على لفت الأنظار وبوسعها الوصول إلى مرامها اعتمادًا على محصولها الثقافي المتنوع»، ومعرفته الواسعة.

«بلغني» إذًا، فضاء إسنادي تتنفس شهرزاد من خلاله سلطة تمكنها من ترويض الجبروت الشهرياري، بوضعه في مجاله المناسب، مجال الممارسة السلطوية الموهومة، المنبثة من كل وعي معرفي، وليست «بلغني» في آخر المطاف سوى «محاولة لإضفاء المصداقية على ما امتلكته من معارف شتى: تواريخ، سير لأناس متخلفين في مشاربهم، قصص، حيث يتحول كل شيء إلى عنصر قصصي ليؤدي البلاغ مهمته وتكون البلاغة نافذة» وذات قدرة على تغيير الآخر وتوجيهه.

عبر الفعل «بلغني» المسند إلى الماضي، استطاعت شهرزاد أن تجلب المصداقية لما تحكيه، وتحرز على سلطة الثقافة والسرد، وعبر هذه الصيغة الإسنادية، تمكنت من تقويض السلطة الموهومة لشهريار «وذلك عندما أحالته إلى مجرد مستمع، ووضعته في جدوده الطبيعية، حيث جردته من كل قوة حين جعلت وظيفته إنصاتية فقط»، وظيفة تلقي الأخبار لا أكثر.

في «كليلة ودمنة» ترد الصيغة التالية: «زعموا» يكررها بيدبا طيلة المسار السردي للنص. لا شك أن «بيدبا» قد اخترع تلك الحكايات لدبشليم الملك، ومع ذلك فإنه يسندها إلى آخرين عبر الفعل «زعموا» المسند إلى ضمير الجمع إمعانًا في تحقيق المصداقية، لأن الخبر المتواتر جماعيًا يكون أقوى تأثيرًا وواقعية من الخبر الأحادي ـ ليست الإشكالية هنا. إنما الإشكال في: لماذا استعمل بيدبا الفعل «زعموا» ذا الصيغة التمريضية كما يقول أصحاب علم الحديث، ما دام يسعى هو الآخر إلى تأكيد سرده؟

سبق مع «ألف ليلة وليلة» أن تبين لنا أن الصيغة الإسنادية تحيل على سلطة من قبل السارد، سلطة السرد ذاته. أليس بيدبا هو الآخر يمارس عبر هذه الصيغة سلطة ما؟

مثلما وضعت شهرزاد شهريار في وضعه المناسب، فالأمر نفسه فعله بيدبا، عندما يستعمل صيغة «زعموا» المرتبطة بالحكي الخرافي، فكأنه يفترض أن دبشليم لا تسعفه معارفه وثقافته كي يتلقى الموثوق به، فهو في منظور بيدبا ضمن زمرة اليافعين وبسطاء العقل، وبالتالي فإن كل ما يتلقاه يجب أن يكون من قبيل الخرافي المنبت من كل بعد معرفي.

هكذا يضعنا النظام الإسنادي للسرود العربية ـ ومن خلال هذين النصين ـ أمام وظيفتين أساسيتين: تحقيق المصداقية الحكائية والتوثيق السردي من ناحية، وممارسة السارد لسلطته على المتلقي، التي ليست في آخر الأمر إلا جدلية الثقافي والسياسي.

إن الراوي في النصوص السردية العربية مسكون بهاجس التوثيق الواقعي، إنه يستعمل كافة الصيغ الإسنادية: كحكى ـ روى ـ بلغ ـ حدّث ـ قال... كي «يمنح الشمول لحكايته ولخبره الذي ينقله حيث يدخل جماعة من المحكي لهم في زمرة المتلقين أو المشاركين له في التلقي».

كيف يمكن تأطير النظام الإسنادي كآلية سردية ضمن الثقافة العربية؟

يجد نظام الإسناد في السرود العربية متنفسه في الثقافة العربية الدينية، ثقافة التوثيق والتصحيح والضبط، لقد كان علم الحديث علمًا واسعًا مؤسسًا بالدرجة الأولى على الضبط الإسنادي، فقد «عدّ السند في ظل المشافهة، السبيل الوحيد للتثبت من صحة انتساب الحديث إلى الرسول، لذا فقد اكتسب سمة دينية شأن الحديث، ومثلما عني بالمتن كونه يصدر عن الرسول، عني بالسند لأنه حامل له»، حتى ليمكننا القول أن نظرية الإسناد استطاعت أن تؤطر الثقافة العربية داخل دوائر ومجالات مختلفة، لاسيما مع تنامي الحركة الفلسفية والكلامية والمنطقية التي عنت وبصورة مفرطة بآليات الضبط والتحرز، يعاضدها شعور ديني مدعم بأجهزة ومؤسسات رسمية تسهر كلها على إشاعة ثقافة الضبط والتحري والدقة لا كآليات لترسيخ الوعي بل كحصين أو «كقصر أيديولوجي» كما يذهب كلود ليفي شتراوس للاحتماء من تيار التحديث الصاعد.

النص السردي العربي نص يشتغل على آلية التضمين الحكائي

تخضع كثير من النصوص السردية العربية إلى منطق التضمين السردي. فثمة حكاية إطارية تشكل محور النص العام وبؤرة العملية السردية، تتناسل منها عبر الخيط الحكائي مجموعة من الحكايات «تتكون ضمن هذا الإطار وتتفرع هذه القصص إلى عشرات أخرى غيرها بصورة عنقود من الحكايات القصيرة التي يغذيها ذلك الإطار». نلاحظ ذلك بوضوح في نص ألف ليلة وليلة، حيث تتوالد الحكايات وتتناسل باستمرار مشكلة بنية سردية متداخلة، إذ كل حكاية تسلمك إلى حكاية أخرى، «فمنطق السرد، أو بالأحرى منطق الوحدة البنوية في العمل كله يقوم على الجدل العميق بين القصة الإطار (قصة شهريار الملك مع النساء ومحاولة شهرزاد استخدام القص لتدرأ به عن نفسها الموت) والقصص العديدة التي تسردها شهرزاد في لياليها الألف».

تستند آلية التضمين السردي في ليالي شهرزاد على مرجع خرافي، إذ إن الحكاية الخرافية عادة ما تشتغل على فعالية سردية تسمح «باندراج أفعال قصصية ثانوية في سيادتها، تتوالد باستمرار وتغذي الإمكانات السردية للحكاية الإطار التي هي بمثابة الحكاية الأم التي تمد الحكاية الثانوية بأسباب الحياة والبقاء» والتوالد المستمر.

يأخذ فعل التضمين الحكائي في ليالي شهرزاد بعدًأ سرديًا استراتيجيًا، إنه يسمح ببقاء الفعالية السردية في أوج خصوبتها، كما يكشف عن قدرة الراوي الأول (شهرزاد) على التحكم الكبير في مسار الخيط السردي، من أجل الإبقاء على فعالية الحياة. هنا يأخذ التضمين الحكائي شكل المراوغة السردية. إن شهرزاد تعاني أزمة سلطة موهومة يمارسها النزق الشهرياري، وعليها أن تتحايل وتراوغ من أجل افتكاك الحياة من سلطة تمتهن حرفة القتل والتدجين، «إن السرد مرتبط بالحيلة ويلجأ إليه من يكون في موقف من لا يستطيع بسط حاجته مباشرة، فيستعين باللف والدوران، ويحيد عن الطريق السوي ليسلك طريقًا ملتويًا» طريق الإيهام، إيهام المتلقي بأن ما سيأتي سيكون أعجب وأغرب، وبذلك تعطي مشروعية لحيلة التضمين والتناسل السردي.

يشكل فعل التضمين الحكائي في نص كليلة ودمنة شبه بنية ثابتة، إذ لا تخلو قصة من تواجد حكاية إطار تتفرع عنها حكاية أخرى أو أكثر ليعود المسار السردي في الأخير إلى نقطة الحكاية الأم، لأجل دعم فعالية الحكي يلجأ بيدبا إلى إقحام حكايات أخرى، لكن ضمن استراتيجية سردية، يأخذ فعل التشويق والإبهار فيها شكلًا ثابتًا ودائمًا.

لا ينتقل بيدبا من الحكاية الإطار إلى حكايات أخرى دون تحفيز المتلقي، ووضعه في موقع التأهب والرغبة والفضول: «ومن فعل كذا وكذا سيكون مصيره مثل...» تأتي هذه الصيغة باستمرار كآلية تحفيزية لتؤدي فعل الوظيفة الانتباهية. فيكون رد فعل المتلقي مباشرة: «وكيف كان هذا؟» يبدو أن المسار السردي الذي رسمه بيدبا يطمح إلى الوصول إلى هذا التساؤل ليكون فعل التوالد السردي فعلًا مشروعًا، لأن المتلقي يرغب في ذلك، إذ «يحرص بيدبا على أن تتكون عند دبشليم رغبة في السرد وذلك حتى يضمن متابعة يقظة ومتحمسة، ويجعل المتلقي يشارك في العملية السردية».

هكذا يأتي فعل التضمين الحكائي في كليلة ودمنة مؤطرًا استراتيجيًا بحيث تسهم فيه فعالية السرد وفعالية التلقي على حد سواء، كيف يمكن موقعه التضمين الحكائي كآلية سردية ضمن بنية الثقافة؟

لا شك أن بنية التنوع السردي والاحتفاء بزخم من المكونات التركيبية للنص من خلال تجنيد كم حكائي ضخم داخل الإطار السردي الواحد، يجد مرجعه داخل الطبيعة التأسيسية لكثير من النصوص السردية غير العربية مثل «الأسفار الخمسة الهندية» أو البانتشاتانترا، وكذا الأوديسو والإلياذة اليونانيتين. «فثمة مجموعة من العلاقات التكوينية التي تربط ألف ليلة وليلة بمثيلاتها من النصوص المشابهة في الثقافات المختلفة (...) حيث يقع العملان (ليالي شهرزاد والبانتشانانترا) ضمن إطار بنية واحدة تقيم حوارًا بين القصة الإطار والقصص الكثيرة المروية داخل هذا الإطار السردي»، غير أن بنية التنوع السردي في ألف ليلة وليلة تأخذ شكلًأ مكثفًا ومتداخلًا كون النص الهندي يشتغل على أفق الوعظ والنصح في حين تشتغل الليالي على أفق الحياة نفسها، ذلك أن مهمة شهرزاد هي افتكاك الحياة من قبضة شهريار من خلال «إغراق الملك في بحر حكاياتها حتى تضمن استمرار حياتها بدل الخروج به من بحر الحكايات إلى بر الحكم والمواعظ» والإرشاد.

إن آلية التضمين الحكائي وإن كانت تجد مرجعها الأساس في بنية الثقافات الأجنبية، إلا أنها تأخذ شكلًا عربيًا من خلال التحامها بمنطق الجدل الصوفي الذي يرى الوحدة في التنوع، والائتلاف في الاختلاف، إنها الوحدة الوجودية التي أصل لها محيي الدين بن عربي «تلك التي تتخلل العالم بأكمله فيضًا عن فيض فيأتي ذلك الفيض فاعلًا لكل شيء، يلبس في كل آن صورة جديدة لا نهاية لخلعه إياها في العالم فلا يمل من خلع الصور عن نفسه لتتمثل في أشكال وصور جديدة أخرى إلى ما لا نهاية».

هذا الفيض الوجودي المتعدد، والذي يؤول في آخر المطاف إلى وحدة كلية منسجمة في وحدة الوجود، يقابلها فيض سردي متنوع في ألف ليلة وليلة خصوصًا، ليشكل البناء السردي المتداخل والمتعدد والمكثف حكائيًا، بنية واحدة مترابطة ومنسجمة هي بنية النص السردي في حد ذاته، ونجد مشروعية الربط بين التضمين الحكائي في ليالي شهرزاد وفكرة الوحدة في التنوع والاختلاف كما حددها الفكر الصوفي، في أن نص الليالي في حد ذاته ذو إشكالية وجودية، إنها إشكالية افتكاك الحياة من براثن الموت.

النزعة الغرائبية في النص السردي العربي

تنزع كثير من السرود العربية نزوعًا غرائبيًا، عجيبًا، حيث «تتعمد مفارقة الواقع والارتحال إلى مناطق خيالية لم تعرفها الخبرة الإنسانية» فتغدو بذلك فضاء يعج بالأسرار والطلاسم والأشياء المفارقة للواقع، نعثر على هذه الخصوصيات العجائبية بصورة مكثفة في نص الليالي، وبصورة أقل حدة في رسالة الغفران للمعري، ورسالة التوابع والزوابع لابن شهيد. ينهض الأدب الغرائبي عند تودورف «على ثلاثة شروط هي الحدث الخارق والمفارق للمعقول، حيرة القارئ وتردد البطل أو شخصية داخل النص العجيب» ومع ذلك فإن تودوروف لا يولي هذه الشروط الثلاثة الأهمية نفسها فهو يرى «أن هذه الشروط الثلاثة لها نفس القيمة فالأول الأحداث اللامعقولة والثالث ـ التردد في التأويل ـ يمثلان حقا الجنس» إذ قد يكون النص عجيبًا دون أن نعثر على بطل في مجال حيرة، بل قد يتصرف بكل تلقائية وطبيعية ومن هنا تكتسي الفاعلية التأويلية في الأدب العجائبي مكانة متميزة، ففعل القراءة هو وحده الذي يمكن أن يموقع النص في إطاره الخاص انطلاقًا من آليات التأويل.

ينطوي نص الليالي على مخزون عجائبي متميز، يغدو النص من خلاله فضاء للمفارقة والصراع الذي تخوضه كائنات فوق طبيعية، إن كل حكاية تروى لابد أن تنطوي على شيء من السحر والغرابة بصورة تدعو إلى التحفيز وتبرير العملية السردية التي تمارسها شهرزاد وسلسلة الرواة التي تديرها، «لأنه إذا لم تكن الحكاية عجيبة وغريبة فإنها لا تستحق أن تروي»، من هنا يأخذ التباعد الزماني (كان في قديم الزمان) والتباعد المكاني (حين ينتقل البطل إلى أرض بعيدة) شكل التبرير للغرائبية، إن شهرزاد تضع المتلقي منذ البدء أمام فضاء مفارق للواقع، ولكنها تثير الحساسية التأويلية للقارئ التي راهن عليها تودوروف حين عدها من مقومات الأدب العجائبي.

تتبنى غرائبية النص في «ألف ليلة وليلة» على الانتشار الواسع لمخزون الأسرار والطلاسم والمحرومات بصورة شديدة الوظيفية تحفز العملية السردية لأجل الكشف عن الأسرار وخرق الفضاءات المحرمة «فالأبواب الموصدة والغرف المغلقة والطلاسم والخواتم كلها تطالب المتجول والطارئ والدخيل والزائر بالامتناع عن السؤال أو اللمس، فكل سؤال شروع في اختراق وكل لمس شروع فعلي بالتجاوز» إنه فضاء للفتنة والتساؤل والحيرة.

هكذا يغدو الفضاء الغرائبي في «ألف ليلة وليلة» فضاء لتدجين السلطة الموهومة لشهريار، إن الفعالية السردية لشهرزاد تسعى إلى أن «تعيد المثل والمفاهيم والصور والألوان والأذواق إلى بدائية المعنى، فيستعيد الإنسان عراءه الأول» ووضعه البدائي، فيدرك أن سلطة القمع والمنع سلطة مصطنعة يمكن أن تخرق في كل لحظة، مثلما تمكنت شخصيات بسيطة في الحكايات العجيبة من خرق حواجز المنع والمحرم والمغلق، وكشفت عن الأسرار، وتحدت سلطة الأشياء المحرمة.

ضمن فضاء الغرابة تأتي «رسالة الغفران» للمعري نصًّا مشحونًا بزخم عجائبي بيد أنه لا يرقى إلى مستوى التوظيف الجمالي المكثف في نص الليالي، ينسج المعري رحلة سردية متخيلة، تقود ابن القارح إلى فضاء مكاني مفارق ومشحون بكل الدلالات الأسطورية والرمزية، إنه فضاء الجنة والنار «فقد غرس لمولاي الشيخ الجليل ـ إن شاء الله ـ بذلك الثناء شجر في الجنة لذيذ اجتناء، كل شجرة منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظل غاط (...) وتجري في أصول ذلك الشجر، أنها تختلج من ماء الحيوان يمدها في كل مكان، من شرب منها النغبة فلا موت...» عبر رسالة الغفران ينقل المعري الفعالية السردية من مجال الانغلاق الواقعي إلى مجال الرحابة العلوية، تغدو «مدينة السماء» فضاء اللامعقول والغرائبي والغيبي يتنفّسه متلق واقعي يسكن حضرة المدينة الأرضية وهنا تكمن المفارقة.

على منوال «رسالة الغفران» ينسج ابن شهيد نصًّا متخيلًا يسميه «رسالة التوابع والزوابع»، وإذا كانت رحلة «الغفران» تقود ابن القارح إلى مدينة السماء فإن رحلة «التوابع» تقود البطل إلى وادي الجن بواسطة كائن من الجن اسمه زهير بن نمير، يصطحب البطل إلى هذا المكان المفارق ويتكفل بمهمة تعريفه بتفاصيله، «ولو كنت أبا بكر متى أرتج علي، أو انقطع بي مسلك أو خانني أسلوب أشد الأبيات فيمثل لي صاحبي (زهير بن نمير الجني) فأسير إلى ما أرغب وأدرك بقريحتي ما أطلب».

لا شك أن الفضاء الغرائبي «للغفران» و«التوابع» قد أوقع بطلهما في مصاف البطل الخرافي، ذلك الذي يعيش «حلماً متواصلًا ولا يحس بالزمن الذي يترك أثره في الأشياء المحيطة به فيرحل إلى أمكنة بعيدة ويعيش في أمكنة نائية ويبحر في بحار مجهولة (...) ثم يعود إلى مسقط رأسه كأن الزمن لم يؤثر فيه». هكذا تخرق البنية السردية لهذين النصين صيغ الجمعي والمتعارف، لتؤسس لنظام سردي مفارق وعجيب، لكنه في الوقت نفسه يبني على هموم بشرية وواقعية، إذ أنه يستند في أساسه إلى أسئلة معرفية فرضتها كينونة الواقع وزخمه بصورة تجعل إشكالات المدينة الأنية (مدينة الأرض) وآفاق الحضرة العلوية (مدينة السماء) يدخل كلاهما في جدل يختزل سؤال الوجود الأول، سؤال الإنسان الأزلي.

ما هو الأساس الثقافي الذي استندت إليه الخصوصية الغرائبية للسرد العربي؟

يمكن التأسيس للبعد الغرائبي للسرد العربي من خلال الفضاء الديني الذي صاغه النص القرآني بشكل خاص بما أضفاه على الثقافة العربية من آفاق العجائبية والغيب وخصوصيات الارتحال إلى عوالم الأخرى ومفارقة الواقع، وقد كان الباحث الروسي فلاديمير بروب في تقصيه للأبعاد الثقافية للحكاية الروسية العجيبة قد أشار إلى أهمية الأفق الديني في صياغة هذه الحكايات حينما قال: «يجب اعتبار الحكاية تدخل في علاقة مع مكانها ومع الوضعية التي خلقت فيها وتعيش فيها، هنا تكون الحياة العملية والدين بالمعنى الواسع للكلمة أهمية كبيرة».

لقد تشكلت عقلية الغرابة والغيب والمفارقة في الثقافة العربية من خلال التأسيس الديني لها، بيد أنها تجد مرجعيتها الثقافية في ما قبل نزول الوحي، إذ إن ظاهرة الكهانة وارتباط الطاقة الشعرية بعالم الجن كان أمرًا متداولًا في الثقافة العربية في ما قبل الإسلام، فقد تصور العرب الجن تعيش في تنظيم قبلي هي الأخرى في واد سموه «وادي عبقر» وادي الإلهام الشعري والخيال الإبداعي «ولأن عالم الجن وعالم البشر عالمان متجاوران فقد تصور العرب إمكانية الاتصال بين البشر والجن» لتغدو هذه الفكرة الأساس المرجعي للموروث الديني عند العرب، فقد كان ارتباط ظاهرتي الشعر والكهانة بالجن في العقل العربي وما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي، ذلك أن النص القرآني لم يكن نصًّا مبتور العلاقة بالجذور الثقافية للمجتمع العربي، بل كان تأسيسًا على خصوصيات هذه الثقافة ومتموقعًا داخل بنيتها الكلية وإن كان نسيج كينونته النصية الخاصة من خلال آلياته اللغوية المتميزة، ورؤيته الجديدة للعالم والأشياء.

هكذا استند البعد الغرائبي للسرد العربي على مخزون ثقافي يمتد حتى ما قبل اندراج الوحي القرآني في سياق المجتمع العربي وتاريخه، لكن النص القرآني قد أصّل هذه الثقافة وأعطاها بعدًا متميزًا من خلال تشكيلها وفق منظوره الخاص وإدراجها ضمن سياق المفهوم الخلاصي الذي بشر به.

النص السردي العربي نص يشتغل على آلية المفارقة

يمكن التأسيس لإشكالية المفارقة بين النص السردي العربي، من خلال اشتغال كثير من النصوص على أفق الفضاء الساخر، لكن ينبغي التحرز من كل مقاربة، تأخذ هذا الفضاء في بعده التسطحي البراني «المبتور من كل رؤية معرفية تأخذ في اعتبارها قدرة الفضاء الساخر على الانطواء على تناقضاته، بصورة يغدو كيانًا إشكاليًا».

أعني بالمفارقة، قدرة النص على احتواء المتناقضات، ليغدو من خلالها حيزًا دراميًا، تتنفس مكوناته الخصوصية الإشكالية، يطرح ظاهرًا ويخفي مستورًا، يقول متعارفًا ويبطن مضمورًا، نص يمارس لعبة البوح والسكوت بصورة تحفز المخزون الدلالي المنطوي عليه.

تتمظهر المفارقة في مستويات متباينة «فقد تكون سلاحًا للهجوم الساخر، وقد تكون أشبه بستار رقيق عما وراءه من هزيمة الإنسان» وربما أدارت المفارقة ظهورها لعالمنا الواقعي وقلبته رأسًا على عقب لتكشف عما يحاصره من تناقضات وصراعات.

ضمن هذه الأفق تشغل كثير من النصوص السردية العربية، نصوص تظهر مظهرًا ساخرًا وتبطن حقائق درامية إشكالية، ويكبر السؤال حينما نجد معظم المقاربات الفكرية والسردية لهذه النصوص تؤسس لنفسها من خلال الأفق الأول أعني الفضاء المظهري للسخرية.

كان الجاحظ يمارس وعيًا متميزًا في بنية الإبداع الأدبي العربي لقد مكنته قدراته المعرفية والفكرية من إنضاج فعالية الفعل السردي في كتاب البخلاء، السرد في منظوره يرفض أن يكون أداة لنكتة متبذلة، وسخرية مفضوحة، إنه بخلاف ذلك وعي بالوجود وإشكاليات الإنسان وهمومه وتساؤلاته، السرد في مفهوم الجاحظ يضعك في مفرق التأمل والسؤال، يقول في مقدمته البخلاء: «... وأنت في ضحك منه إذا شئت، وفي لهو منه إذا مللت الجد، وأنا أزعم أن البكاء صالح للطبائع، ومحمود المغبة...» دعوة للبكاء ظاهرًا، ولكنها دعوة لمشاركة شخوص النص في آلامها وهمومها، إن الجاحظ يزعم أنه بقدر ما يسليك فإنه يفضحك ويضعك في مواجهة تهافتك وهشاشة ذاتك يضعك أمام إشكالاتك الواقعية والوجودية، يجب أن تعيش هذه الإشكالات كي تتمكن من الانخراط في اللعبة السردية.

يبدو أن «صانع المفارقة يعيش على الدوام حالة من عدم الثقة وهي حالة تبدأ من خارج الذات، ثم لا تلبث أن تنتقل إلى داخل الذات فتهزها هزًّا وعندئذ تصبح الذات مهددة بالتشيؤ إثر إحساس بنقص شديد في حريتها» مما يجعلها عرضة لتلاعبات الواقع والوجود.

إن الإحساس بالتهديد وانعدام الثقة وهشاشة الذات أمام حجم الواقع الكثيف، هو ما يعيشه شخوص «البخلاء» إن ممارسة البخل في هذه الحالة تغدو سلوكًا انتقاميًا من واقع يشيئ الإنسان ويحيله إلى لعبة في يد قوانين القمع والتسلط، وهو الإحساس نفسه الذي يعيش أبطال المقامة ممثلين في شخص أبي الفتح الإسكندري في مقامات الهمذاني يمارس هذا البطل السخرية عبر الفضاء السردي للنص بكامله، ومن خلالها يكشف عن «بطل إشكالي» كما يقول لوكاتش: بطل مسكون بهموم الواقع وإشكالاته واقع لم يقدم له ما يطمئن إليه، لذلك فإنه يواجهه بالحيلة والمراوغة واللامبالاة أحيانًا.

ويغدو صراعه مع ضحاياه في حقيقة الأمر «صراعًا بين البطل الفرد فوق هذه الأرض».

هكذا يحاول أبو الفتح الإسكندري أن يمتلك كافة آليات التمويه والمراوغة من أجل افتضاض سماكة الواقع وكثافته وهكذا يعثر عليه الراوي في كل مرة متنكراً بزي ما أو منتحلًا شخصية معينة في أجواء تثير الضحك والسخرية، لكنها الأجواء التي لا تلبث أن تنطق بالحكمة وتقول بوضوح عراء الإنسان وقبحه، هذا القبح الذي لا بد أن يواجه بقبح مثله، قبح التمويه والمراوغة.

في المقامة الثانية (المقاومة الأزدية) يرسم أبو الفتح الإسكندري هذه الاستراتيجية، وكأنه يحاول التأسيس لإشكالية المفارقة منذ بدء الفعالية السردية لتكون الدافع وراء مسار التحولات في النص. حيث يقول أبو الفتح:

فقض العمر تشبيهًا

على الناس وتمويهًا

أرى الأيام لا تبقى

على حال فأحكيها

فيومًا شرها في

ويومًا شرتي فيها

وبهذا يغدو التمويه عند البطل استراتيجية لمقاومة سلطة الواقع، ومثلما ينطوي التمويه على ظهر وباطن كذلك ينطوي البطل على إحساس عنيف بالمفارقة فهو يعيش تفاصل الواقع مظهريًا ولكنه يخفي إحساسًا بوجوب تقويض أركانه ونسف أسسه.

هكذا تتحدد خصوصية المفارقة في السرد العربي إنها تلتحم بفضاء السخرية، لا لتقبع في ابتذاله وهشاشته، بل لتؤسس من خلال رؤية جدية يدعمها حس درامي مفجع يغدو البطل من خلالها الجلاد والضحية في الآن، وتكون السخرية في حد ذاتها إشكالية «تخفي أزمة وألمًا والضحك يبطن مأساة ومرارة، والامتناع ينتهي إلى نقد وفضح» وتعريه لسلطة القمع والتحريم، هذه السلطة التي كانت ـ ولازالت ـ ذات حضور متميز في بنية الثقافة العربية، وفي وعي الإنسان العربي.


المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق