المكان والزمان
يشكّل كلِّ من المكان والزمان الروائيين أحد المكونات الأساسية في بناء الرواية. فهما يدخلان في علاقات متعدّدة مع المكونات الحكائية الأخرى للسرد، كالشخصيات والأحداث والرؤيات السردية.
ويوصف المكان الروائي عادة - وهو مكان محدد في كثيرٍ من الأحيان - بأنّه مسرح الأحداث، أو الحيّز الذي تتحرّك فيه الشخصيات، أو تقيم فيه، فتنشأ بذلك علاقة متبادلة، بين الشخصية والمكان، وهي علاقة ضرورية، لتمنح العمل الروائي خصوصيته، وطابعه، ومن ثمّ ليكتسب المكان صفاته ومعناه ودلالته.
أمّا الزمان الروائي، فهو يتجلى في عناصر الرواية كافّة، وتظهر آثاره واضحة، على ملامح الشخصيات وطبائعها وسلوكها، فالأحداث التي يسردها الكاتب، والشخصيات الروائية التي يجسدها، كلُّها تتحرّك في زمن محدّد يُقاس بالساعات وبالأيام والشهور والسنين. وهذا يعني أنّه زمن تصاعدي. إذ يفترض أنْ يجري عرض الأحداث وفق تسلسلها الزمني المنطقي الطبيعي.
على أنّ استجابة الرواية لهذا التتابع الطبيعي في عرض الأحداث، حالة افتراضية أكثر مما هي واقعية، لأن تلك المتواليات الحكائية، قد تبتعد كثيرًا أو قليلًا عن المجرى الخطّي للسرد، فهي تعود إلى الوراء لتسترجع أحداثًا تكون قد حصلت في الماضي. أو على العكس من ذلك تقفز إلى الأمام لتستشرف ما هو آت، أو متوقّع من الأحداث. وفي كلتا الحالتين نكون إزاء مفارقة زمنية، توقف استرسال الحكي المتنامي، وتفسح المجال أمام نوع من الذهاب والإياب على محور السرد، انطلاقًا من النقطة التي وصلتها القصّة. وهكذا فتارة نكون إزاء سرد استذكاري... وتارة أخرى نكون إزاء سرد استشرافي.
وعلى الرغم من صعوبة الفصل بين المكان والزمان لما بينهما من تداخل وتواشج، ولما في فصلهما من عسف وافتعال، سنحاول دراسة كل منهما على حدة. بغية الوقوف على مظاهر وصف المكان الذي يحتضن الشخصية الروائية النسوية، ودوره في تحديد معالمها، وعلاقة كل منها بالآخر فنيًّا، وكذلك الحال بالنسبة إلى دراسة الزمان.
أهميّة المكان في بناء الشخصية
لعب المكان في الرواية الفلسطينية - وليكن مثالًا نقتدي به في شرحنا - دورًا وظيفيًا واضحًا لدى معظم الكتاب. أمثال غسان كنفاني، وإميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا. وشغل حيزا بارزا في رواياتهم، وفي تفكير العديد من الشخصيات الروائية واهتمامها. واتخذ معاني ودلالات ورموزًا متنوعة، ارتبطت بمراحل الصراع العربي الصهيوني، والزمن الفلسطيني في صعوده وهبوطه.
وكان مسرح الأحداث الروائية في كثير من الأحيان يجري على أرض فلسطين بمدنها وقراها وشوارعها وأحيائها وبيوتها. وأحيانًا في مخيمات الداخل، أو الشتات، ويستطيع دارس الرواية الفلسطينية أنْ يقف على ذلك كله، من خلال التحليل الدلالي للمكان، ولكن هذا التحليل لا يعنينا في هذا المجال، إلا بالقدر الذي يوضّح العلاقة بين المكان والشخصية.
وقد حرص الروائي على تقديم شخصياته، وهي تتحرك في وسط اجتماعي معيّن، تبدو فيه خصوصية المكان والزمان. وعمل... أثناء تشكيله للفضاء المكاني الذي ستجري فيه الأحداث،... على أن يكون بناؤه منسجمًا مع مزاج وطبائع شخصياته، وأن لا يتضمن أية مفارقة، وذلك لأنّه من اللازم أنْ يكون هناك تأثير متبادل بين الشخصية والمكان الذي تعيش فيه، أو البيئة التي تحيط بها، بحيث يصبح بإمكان بنية الفضاء الروائي أن تكشف لنا عن الحالة الشعورية التي تعيشها الشخصية، بل وقد تساهم في التحولات الداخلية التي تطرأ عليها.
وهذا ما جعل بعض النقّاد يعطي للشخصية أهميّة كبرى في تشكيل المكان المحيط بها، وجعل بعضهم الآخر يذهب إلى حدِّ المطابقة بين الشخصية والمكان، وتحديداً مكان الإقامة، فيرى أنّ بيت الإنسان هو صورة عنه، وهذا يعني أنّ المكان يكتسب صفة المجاز المرسل أي الساكن هو المسكن. فمن هنا تأتي وظيفة الوصف التفسيرية. وهنا يمكن الوقوف على بعض الأمثلة التي تظهر العلاقة التبادلية بين المكان والشخصية، ودور الوصف في تشكيل صورة المكان، وبنائه فنيًا.
ففي رواية "أم سعد" يقدّم كنفاني شخصيّة بطلته "أم سعد" وهي تتحرك في فضاء المخيّم، الواقع في إحدى ضواحي بيروت. متنقّلة بين المخيم وبيت الراوي، خارج المخيم. وقد اعتادت أنْ تتردد إليه في أوقات محددّة. ويدور جانب كبير من أحداث الرواية في هذا الحيّز المكاني... أمّا البعد المكاني الآخر الذي تجري فيه بقية الأحداث، فينشأ من خلال استرجاع أم سعد لذكريات الماضي في فلسطين عام 1936. وفلسطين الواقع الروائي عام 1967.
ويجيء المشهد الأول في الرواية ليمّثل الخلفيّة المكانية التي تضفي على الشخصية حضورًا متميزًا كثيفًا وذا معنى. يقول الراوي:
وفجأة رأيتها قادمة من رأس الطريق المحاط بأشجار الزيتون. وبدت أمام تلك الخلفية من الفراغ والصمت.... مثل شيء ينبثق من رحم الأرض.
ومن خلال تتابع بعض المقاطع الوصفية لفضاء المكان للمخيم، وما يشمله من أماكن فرعية، كوصف الدروب الضيقة، وبيوت الصفيح والطين الواطئة، وكذلك وصف بيت "أم سعد" الذي يتألف من غرفة مشطورة من النصف بحائط من التنك، يتضح الواقع الاجتماعي البائس، والظروف الصعبة التي تعيشها تلك المرأة مع أبناء شعبها، وهذا ما يدفعها إلى بذل المزيد من الجهد والتضحية لتجاوز هذا الواقع. ولا تلبث تلك الصورة البائسة لفضاء المخيّم أنْ تتبدّد بفعل الحركة الناهضة لأم سعد، ولأبناء المخيّم، عقب النكسة، إذ تحوّلت مخيمات اللجوء والتشّرد إلى معسكرات للتدريب وقواعد للفدائيين، تمثّلت في تلك الخيمة الجديدة، التي تعقد "أم سعد" عليها كل الآمال، والرجاء، وتنظر إليها بإعجاب وإجلال، بعد أن انتظرت عشرين عامًا، وبذلت الكثير، وأعطت بسخاء، لترفع بنيانها، وترسّخ دعائمها في نفوس أبنائها، وأبناء الوطن.
إنّ للمكان أهمية كبرى في الكشف عن الكثير من جوانب الشخصية التي تقيم فيه. لأنّ هناك تأثيرًا متبادلًا بين الطرفين، فكل ما في البيت يكتسب دلالته ومعناه من خلال ارتباطه بالإنسان الذي يقيم فيه. وهذا يعني أن ظهور الشخصيات، ونمو الأحداث التي تساهم فيها، هو ما يساعد على تشكيل البناء المكاني في النص. فالمكان لا يتشكل إلا باختراق الأبطال له، وليس هناك بالنتيجة أي مكان محدد مسبقًا، وإنما تتشكل الأمكنة من خلال الأحداث التي يقوم بها الأبطال، ومن المميزات التي تخصهم. وبذلك يمكن الوقوف على طبيعة العلاقة التي تربط الإنسان بالمكان الذي يقيم فيه، ومقدار ذلك الانسجام أو التنافر بين صورة المكان وساكنه، لأن الإنسان هو الذي يحدد سمات هذا المكان، تبعًا لظروفه المعيشية، ولطبيعة تكوينه النفسي والاجتماعي والفكري.
أهمية الزمان في بناء الشخصية
وإذا كان "المكان" من خصائص الأبعاد المادية للحياة الإنسانية في العمل الأدبي الروائي فإن الزمان هو الحياة نفسها، أو هو الوعي بالحياة. ومن ثمة أمكن أن يقال: إن المكان هو "عالم الثوابت" بينما يندرج الزمان في عالم المتغيرات. ويتمثل الزمن في العمل الروائي، بوعي الشخصيات به، وبحركة الأحداث وتطورها، كما يتمثل أيضًا، بالسرد الذي يجسّد تلك الأحداث.
إن بناء الرواية يقوم من الناحية الزمنية على مفارقة تؤكّد طبيعة الزمن الروائي التخييلية. فمنذ كتابة أول كلمة يكون كل شيء قد انقضى. ويعلم القاصّ نهاية القصة. فالراوي يحكي أحداثًا انقضت، ولكن بالرغم من هذا الانقضاء، فإنّ الماضي يمثّل الحاضر الروائي. أي أن الماضي الروائي استخدام الفعل الماضي في القص له حقيقة الحضور... ولا شك أن هذا الاهتمام بالحاضر جاء نتيجة لاهتمام الروائي بحياة الشخصية الروائية النفسية، أكثر من حياتها الخارجية... ولمّا كان لابد للرواية من نقطة انطلاق تبدأ منها، فإن الروائي يختار نقطة البداية التي تحدد حاضره، وتضع بقية الأحداث على خط الزمن من ماضي ومستقبل، وبعدها يستطرد النص في اتجاه واحد في الكتابة غير أنه يتذبذب، ويتأرجح في الزمن بين الحاضر والماضي والمستقبل.
ولقد وعى الروائيون الفلسطينيون الأهمية الكبيرة للزمن، ولدوره في العمل الروائي، وفي بناء الشخصية الروائية، وتأثيره في حياتها، وفي حركة الأحداث. فانطلقوا في تعاملهم معه من خصوصية الواقع الفلسطيني الحافل بالأحداث والتطورات والتحولات، فجسدوا ذلك برؤية فنية تتسم بالصدق والواقعية. وحرصوا على تحديد الزمن الخارجي للحدث الروائي الذي يُراد تجسيده في رواياتهم أو اتخاذه إطارًا لها، لارتباطه الوثيق بالزمن التاريخي للقضية. هذا، الزمن الذي يمثّل المقابل الخارجي الذي يسقطون عليه عالمهم التخييلي.
واستعملوا في تحديد الزمن المقاييس الموضوعية المعروفة، كالسنة والشهر واليوم والساعة والصباح والمساء... وكثيرًا ما حرصوا على وضع علامات، أو قرائن تشير إلى تواريخ محددة، أو أحداث معروفة، سواء في بداية الرواية، أو في سياقها، لتدل على بداية الحدث الروائي وزمنه التاريخي بوضوح. وغالبًا ما يصرّح الروائي بالزمن الذي ينطلق منه الحدث الروائي في بداية الرواية، كما فعل كنفاني في "أم سعد".
وقد يشير إلى ذلك بصورة ضمنية، فيبث بعض المعلومات أو الإشارات الزمنية في سياق الرواية، تمكّن القارئ من معرفة الحاضر الروائي. إنّ الهدف الجمالي، من التحديد الدقيق للزمن الطبيعي داخل الرواية، هو تحديد اتجاه القراءة لدى القارئ، ليفهم الحوادث، ويفسّر الرموز، والدلالات في ضوء هذا الاتجاه. ويمكن للباحث أنْ يميّز نوعين للزمن في الرواية:
الزمن الداخلي
ويسمّى أيضًا الزمن الشخصي أو الذاتي. وهذا الزمن يرتبط بالشخصيات ارتباطًا وثيقًا، ويدخل في نسيج حياتها الداخلية، ويتلوّن بتلوّن حالتها النفسية والشعورية، فيطول أو يقصر تبعًا لتلك الحالة. ويتجلى الزمن النفسي في تداعيات الشخصية، وذكرياتها ومنولوجاتها الداخلية، وتيارات وعيها، وربّما برز في أحاديثها المباشرة أحيانًا. وليس لهذا الزمن مقاييس ثابتة أو محدّدة منطقيًا، ولكن يمكن للباحث أن يتبيّن طبيعته من خلال اللغة التي تجسّد العالم الداخلي للشخصية، حين يحلّل حركتيّ الزمن السردي في علاقتهما بنظام توالي الحوادث.
الزمن الطبيعي
أو الزمن الخارجي الذي يشكل الدعائم الأساسية أو الخطوط العريضة التي تبنى عليها الرواية. ومقاييس هذا الزمن مستمدة من الزمن الطبيعي الخارجي، ولكنّها غير متطابقة معها على الرغم من أنها تحمل أسماءها.
وللوقوف على العلاقة التي تربط الزمن بالشخصية الروائية، والطريقة التي جسّد فيها الروائي إحساس الشخصية بمرور الزمن، لابدّ من دراسة الزمن النفسي الذي يرتبط مباشرة بالشخصية التي تعطيه صفاته ومعناه ودلالته. ومن ثم الانتقال إلى تحليل حركتي الزمن السردي، المتمثلين في تقنيتي الاسترجاع والاستشراف، انطلاقًا من أن السرد هو المجسّد للزمن وللشخصيات وللحوادث.
الزمن النفسي
للتعبير عن هذا البعد الزمني الذاتي المرتبط أشد الارتباط بالحياة الداخلية للشخصيات، استحدث الروائيون أساليب جديدة في تجسيد الزمن في التجربة أو الخبرة، هذا الزمن الذاتي.. الذي لا يخضع لمعايير خارجية، أو لمقاييس موضوعية، فلجؤوا إلى المونولوج الداخلي، وتداخل عناصر الصور، والرموز والاستعارة لتصوير الذات في تفاعلها مع الزمن.. وهذا البعد الزمني مرتبط في الحقيقة بالشخصية لا بالزمن.
يلعب الزمن في رواية "ماتبقى لكم" لغسان كنفاني دورًا هامُا وأساسيًا فيها، فهو يمثّل إحدى الشخصيات الرئيسية، وتشير إليه أداته، ساعة الحائط التي ترصد دقاتها الرتيبة القاسية، حياة أولئك الذين يعيشون، في مستنقع العجز والانتظار الذي دام ستة عشر عامًا بعد النكبة. فالزمن التاريخي بالنسبة للشخصيات (مريم، حامد، زكريا) واحد. على حين نجد الزمن النفسي ليس كذلك، إذ يبلغ الإحساس بالزمن الثقيل ذروته لدى "مريم". فتتحوّل دقات الساعة في حالة الضياع والقلق والانتظار الممض، إلى دقات مخنوقة تدق في رأسها باعثة فيها الشعور باليأس والمرارة، معلنة عن موتها البطيء، وهي تتحوّل مع دقاتها إلى عانس، وقد بلغت من العمر خمسة وثلاثين عامًا.
مؤذنة في الوقت نفسه عن سقوطها وتخبّطها في مستنقع زكريا النتن، مع كلّ دقّة من دقاتها الباردة الميتة. ولا يلبث هذا الزمن المقيت أن يؤذن بالمغيب، بعد أو وضع الإنسان الفلسطيني حامد، ومريم حدًا لكساحه وعجزه، وقطع صلته بالماضي الذليل، واستطاع أن يواجه عدّوه وجهًا لوجه.
وإذا كان الانتظار، على اختلاف أنواعه، قاسمًا مشتركًا بين الشخصيات النسوية الفلسطينية، وهاجسًا يعشنه كل لحظة من لحظات العمر. فتبدو الأيام بطيئة الحركة، وثقيلة الوقع، تحمل معها تهديدًا بانقضاء الشباب، وضياع العمر دون جدوى، كما هو الحال لدى، مريم. فإن انتظار "أم سعد"، وإحساسها بمرور الزمن، يبدو من نوع خاص. إنّه الانتظار الذي يصحبه العمل، ويحدوه الأمل، بحياة أفضل، في ضوء النهوض الفلسطيني وتنامي وتيرة العمل الفدائي، عقب نكسة حزيران 1967، بعد أن تجرّعت مع جماهير شعبها كؤوس البؤس والشقاء، طوال عشرين سنة مضت. تقول:
أنا متعبة يا ابن عمي. اهترأ عمري في ذلك المخيم. كل مساء أقول يا رب! وكل صباح أقول يا رب! وها قد مرت عشرون سنة. وإذا لم يذهب سعد فمن سيذهب؟
هكذا تجّسد "أم سعد" هذا الإحساس العميق والحاد بمرور الزمن، فيتضح بذلك الدور الذي يؤديه الزمن في حياة هذه الشخصية، من خلال سياق معناه الدلالي الذي يمثل سياق الرواية كلها. فالرواية هي رواية الزمن الفلسطيني الناهض الذي تمثّله "أم سعد". وها هي تعيش فضاء ذلك الزمن الفسيح والجديد الذي ترافق مع المكان الجديد الخيمة الأخرى، بعد أن أسهمت في صنعهما. وقد عبّرت الرواية عن هذا الزمن الجديد، وأثره في "أم سعد":
مثل دقات الساعة جاءت. هذه المرأة تجيء دائمًا تصعد من قلب الأرض. إنّها تعيش زمن النهوض، المتمثّل في الثورة الشعبية المسلّحة. هذا الزمن أنعش روحها المعذّبة، وفتح شهيتها للحياة، وأضاء الطريق للأجيال، وأصبح الحلم قابلاً للتحقق.
وللوقوف على طبيعة العلاقة التي تربط الشخصية الروائية بعناصر الزمن، وأثر تلك العلاقة في تجسيد الشخصية. لابد من دراسة حركتي الزمن السردي بالنسبة للشخصية النسوية حصرًا.
حركتا الزمن السردي
الاسترجاع الفني
المعروف بالفلاش باك وهو تقنية زمنية، تعني سرد حوادث أو أقوال أو أعمال، وقعت في الماضي الروائي. ومعيار الماضي هنا هو الحاضر الروائي الذي انطلق السرد منه. ولا نكاد نعثر على رواية واحدة، من هذه التقنية التي تُبث في مقاطع متفرقة داخل النص الروائي، وتشغل حيزًا هامًا فيه.
ويلجأ الروائي عادة إلى الاسترجاع لغايات فنية وجمالية. فهو يملأ الفجوات التي يخلفها الحاضر الروائي وراءه، حين يقدّم معلومات عن ماضي الشخصيات، أو يستدرك حوادث ماضية، أو يذكّر بحوادث مرّت ليكررها، أو يغيّر دلالة بعضها أو يطرح تفسيراً جديداً لها.
ففي رواية "عبّاد الشمس" لسحر خليفة تكثر المقاطع الاسترجاعية التي تتداخل فيها الذكريات مع المونولوجات الداخلية لبعض الشخصيات الروائية مثل: رفيف، سعدية، خضرة، نوار.... إذ تلجأ سحر خليفة للاسترجاع لتوضّح بعض الجوانب أو القضايا الغامضة، أو الخافية من حياتهن، أو طبيعتهن النفسية، ولتضيء عالمهن الداخلي، وتفسّر ما آلت إليه كل منهن في ضوء تلك المعطيات، التي جاء بها الاسترجاع. فتساعد بذلك القارئ على فهم الشخصية، وإدراك أبعادها النفسية والاجتماعية والفكرية.
فتتضح قصة كفاحها مع الأيام، وانخراطها في العمل. وبذلك تتكشّف جوانب كثيرة من شخصيتها، وتتضح سماتها النفسية، ويقف القارئ على تأثير الزمن في حياتها، ويقتنع بما يلمسه من معالم التغيير والتحول، في سلوكها وتصرفاتها ومظهرها، وطريقة تفكيرها.
ويلاحظ أنّ الروائي، غالبًا، ما يعمد إلى الاسترجاع عبر انفتاح ذاكرة الشخصية، مستعملًا لذلك بعض الألفاظ الدالة على القول أو التذكر أو التفكير، وهذا ما نقف عليه لدى غالبية الشخصيات قبل بدء الاسترجاع. وكثيرًا، ما يرتبط الاسترجاع بعلاقة عكسيّة مع الزمن الروائي، من حيث اتساعه أو ضيقه. بمعنى أنه كلّما ضاق الزمن الروائي شغل "الاسترجاع الخارجي" حيزًا أكبر في الرواية.
وقد يرغب الروائي، في بعض المواقف الروائية، في العودة إلى الماضي البعيد ليستعيد حادثة سابقة ذات علاقة وثيقة بالشخصية، وما يجري في الحاضر الروائي، ليقارن بين الماضي والحاضر، أو ليربط بينهما، بغية الإفادة من دروس الماضي، فيعمد إلى تقديم حدث ما في الحاضر، يمت بصلة ما إلى الماضي، أو أحد رموزه، مما يفجّر الذاكرة لدى الشخصية، فيأتي الاسترجاع طبيعيًا ومنسجمًا مع "مستوى القص الأول" الذي يمثّل الحاضر الروائي، وهذا ما نجده لدى كنفاني، حين جعل "أم سعد" تتذكر قصة فضل، وعبد المولى، في اللوحة السادسة المعنونة بـ"الرسالة التي وصلت بعد 32 سنة"، وكان الدافع لاستعادة تلك الذكريات، رسالة سعد إلى أمه، بخصوص صديقه "ليث" الذي وقع في الأسر. وقد دلّ هذا الربط بين الماضي والحاضر على وعي "أم سعد" بحركة الزمن، وقدرتها على تمثّل دروس الماضي، والاستفادة منها. منطلقة في ذلك، من قناعتها بأنّ الحاضر ليس لحظة متقطّعة الجذور، منعزلة. كجزيرة موحشة وسط بحر متلاطم، بل هي وجود في حركة تاريخ، لها جذور في الماضي، وحركة تتوجه للغد.
ومثل هذا النوع من الاسترجاع الذي يعمد فيه الروائي إلى عقد المشابهة بين حادثتين، أو بين أمرين يذكّر ثانيهما بأولهما، على سبيل الشيء بالشيء يذكر. نجده يتكرر في الرواية الفلسطينية. إذ يأتي الاسترجاع ملتحماً مع سياق النص الروائي، من غير أن يشعر القارئ، بهذا الانعطاف المفاجئ. فتكشف لنا الرواية - وبما أننا نتحدث عن الرواية الفلسطينية - بذلك عن ماضيها، وماضي بعض الشخصيات من خلال ذكرياتها، وتيار وعيها المتدفّق. فتتضح معاناتها، وهي تواجه مصيرها بشجاعة وإباء مع بعض الشخصيات، وتخلص الرواية إلى المقارنة بين الماضي المأساوي، والحاضر المقيت، بغية إدانة هذا الحاضر، وكشف مآسي الماضي.
وقد يستعمل الروائي أسلوب الاسترجاع، حين يعود إلى شخصيات ظهرت بإيجاز في بداية الرواية، أو تمت الإشارة إليها، ولكن المجال لم يتسع لعرض خلفيتها أو تقديمها، فيلجأ الكاتب إلى أسلوب المذكّرات أو الاعترافات، لإضاءة جوانب هامة من حياة الشخصية، ومن ثم لإعادة النظر في تفسير سلوكها ومواقفها والأحداث التي قامت بها، في ضوء المعطيات الجديدة التي حصلت في الحاضر الروائي. ومثل هذا النوع من الاسترجاع، نجده في الروايات التي تعتمد أسلوب الاعترافات أو المذّكرات، سواء بصورة جزئية أو كلية، وينطلق هذا النوع من الاسترجاع من رؤية الشخصية لذاتها، مما يضفي عليها طابعًا خاصًا، يتسم بالصدق والواقعية.
مما تقدم يتضح الدور الهام الذي يقوم به "الاسترجاع" على اختلاف أنواعه، في بناء الشخصية الروائية وإضاءة جوانب كثيرة من ماضيها وعالمها الداخلي، وأبعادها النفسية والاجتماعية... إضافة إلى أهميته في تفسير بعض الأحداث السابقة في ضوء المعطيات الجديدة التي تأتي في سياق الحاضر الروائي. وإذا كان "الاسترجاع" يعود بحركة السرد إلى الوراء، فإنّ "الاستشراف" أو "الاستباق" يستبق الحاضر السردي للنص الروائي، ليطال المستقبل، وهذا ما سنتبينه في الفقرة التالية.
الاستباق الفني
أو الفلاش فورورد وهو تقنية زمنية تخبر صراحة أو ضمنًا، عن أحداث أو أقوال أو أعمال، سيشهدها السرد الروائي في وقت لاحق. وأما الغاية التي يؤديها الاستشراف في الرواية، فهي حمل القارئ على توقّع حادث ما، أو التكهّن بمستقبل إحدى الشخصيات.. ولعل أبرز خصيصة للسرد الاستشرافي هي كون المعلومات التي يقدمها لا تتصف باليقينية، فما لم يتم قيام الحدث بالفعل، فليس هناك ما يؤكد حصوله، وهذا ما جعل الاستشراف حسب "فينريخ" شكلًا من أشكال الانتظار.
ويلاحظ أن الروائي الفلسطيني لم يحفل بهذه التقنية، احتفاله بتقنية الاسترجاع، انطلاقًا من موقفه الواقعي، وحرصه على عدم استباق الأحداث فهذه التقنية تتنافى مع فكرة التشويق التي تكون العمود الفقري للنصوص القصصية التقليدية.... وأيضًا مع مفهوم الراوي الذي يكتشف أحداث الرواية في نفس الوقت الذي يرويها فيه، ويفاجأ مع قارئه بالتطورات غير المنتظرة، وإذا حاول الروائي الاستشراف، فإن استشرافه يبقى في دائرة التطلعات أو التوقعات المشروعة، المبنية على وعي حركة الواقع ومعطياته، وما يستشف من ذلك.
ومن هنا فإننا نجد استعمال هذه التقنية في الرواية خصوصًا الفلسطينية قليلًا، بل يكاد يكون نادرًا، لولا بعض الاستشرافات، أو التطلّعات المبثوثة في عدد قليل من الروايات التي شملها البحث. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، نقف عند الاستشراف الذي يتخذ صفة التطلعات التي تراود الشخصية، وهي تفكر بمستقبلها، كما هو الحال لدى "سعدية" في رواية "عبّاد الشمس". فبعد أن انطلقت "سعدية" في عملها، وحققت بعض المكاسب المادية، نمت لديها بعض التطلعات الطموحة، فبدأت تحلم بشراء قطعة أرض في جبل نابلس، لتبني عليها بيتًا، وتهجر الحارة وأهلها. يقول الراوي، في الفصل الخامس:
لكنّها ستشتري الأرض في الجبل المشمس، ستحصل على قطعة بجوار صبيحة المدرّسة، وستبنيها غرفة غرفة، وحين يكبر الأولاد ويزّودوها بالمال، ستبني طابقًا علويًا له فراندة زجاجية، تجلس فيها صباحًا، تشرب القهوة، وترى المدينة بساطًا ممدودًا تحت قدميها.
وتتحول بعض تطلعات سعدية وأحلامها إلى حقيقة حين تفلح في شراء الأرض، ويتحقق جانب من الاستشراف الذي مهّد إليه الراوي، وألح عليه في أكثر من موضع في الرواية. ولكن القارئ مازال ينتظر الجانب الآخر من ذلك الاستشراف الذي يشير إليه الراوي مرة أخرى: «ستبني الدار هناك، بجانب دار الشاويش، وسترى مداخل المدينة الغربية». ولا يلبث هذا الاستشراف أن يتقّوض في نهاية الرواية، فينهار الحلم، بمصادرة قوات الاحتلال للأرض، فيضيع كل شيء في لحظة واحدة، في الفصل الرابع والثلاثين من الرواية. وهذا يعني أن الاستشراف في وضع كوضع الإنسان - المقيم تحت الاحتلال - لا يمكن أن يتحقق بالصورة التي مهّد إليها الراوي، أو الشخصية نفسها، فكثيرًا ما يجيء الاستشراف مخيّبًا للآمال، كما حصل مع سعدية.
مما تقدم يمكن القول إن الروائي لم يكن ميالًا إلى القفز على حاضر النص الروائي لاستباق الأحداث، وارتياد آفاق شخصياته الروائية، ومستقبل الأحداث، لأن ذلك يتعارض مع اتجاهه الواقعي ومنطق الأحداث وتسلسلها - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - ليس ذلك فحسب، بل لأن الواقع، بكل ما يحفل به من متناقضات ومتغيرات، ومفاجآت جعل الاستشراف أمرًا غير مؤكد بالنسبة للروائي. ولذا وجدنا أن هذه التقنية لم تشغل حيّزًا يذكر في الرواية ولنقل العربية، وهي إن جاءت، فإنّما لتؤدي وظيفة فنية أو جمالية، أو تأتي لتكشف مستقبل إحدى الشخصيات، ولتميط اللثام عمّا ستفعله لاحقًا، ليتمكّن القارئ من فهمها ومتابعتها، وتحليل تصرفاتها الحالية، انطلاقًا من التصورات والتوقعات المعطاة حولها. على حين نجد أن الروائي ألح على استعمال تقنية الاسترجاع، وبرع في توظيفها لخدمة الشخصيات، وكشف بعواطف الشخصية ومشاعرها، إذ ينتقل القارئ بين الحاضر والماضي بيسر، من غير أن يشعر بالانفصال بينهما، أو بعسر الانتقال.