البداية الأخاذة

 


كتابة بداية الرواية أو مقدمة الرواية تشبه وضع المغناطيس على الطاولة لجذب القطع المعدنية، إلّا أن مقدمات الروايات لا تجتذب المعادن، وإنما قلوب القرّاء وعقولهم.

يطلق على بداية الرواية المُتقنة ’’البداية الخطافية‘‘ لأنها ككلّاب الصنّارة يجعل الكتاب يعلق في يد القارئ فلا يتركه قبل نهايته.

لماذا نحتاج إلى كتابة بداية رواية أخاذة؟

إذا كنت قارئًا للأدب الكلاسيكي فستجد أن الكُتّاب اعتمدوا في السابق على بدايات طويلة تفصيلية يتحدثون فيها عن وصف الطبيعة أو المكان أو تمهيد عن البيئة العامة للقصة دون خوض مباشر في أحداث رواياتهم.

وربما كان هذا الأسلوب مناسبًا لعصره، إذ كان القارئ يملك الوقت، بل ويعاني من الفراغ الذي لا تسده سوى هذه التفاصيل المكتوبة بلغة غنائية مسرفة.

مع تقدم الزمن أصبح القرّاء أكثر انشغالًا، وأصبح الوقت شحيحًا، وأصبح اختيار كِتاب واحد للقراءة من بين مئات الكتب على رفّ المكتبة يعتمد على النظرة السريعة للسطور الأولى للرواية.

ومن هنا طوّر المؤلفون أدواتهم للتوافق مع تغيّر طبيعة الجمهور، فأصبح لبداية الرواية وظيفة تجارية بالإضافة إلى وظيفتها الفنيّة.

وظيفة مقدمة الرواية جذب انتباه القارئ، وتحفيزه على شرائها، واستفزاز عقله لاستكمال تقليب أوراقها.

وهذا ما يميّز أغلب الروايات التي تتصدر قائمة الأكثر مبيعًا على مستوى العالم، أنها بدأت بمقدمات صحيحة وأخاذة نجحت في إقناع القارئ بشرائها دون غيرها.

كيف تكتب بداية رواية أخاذة؟

كتابة مقدمة أخاذة للرواية ليس وحيًا أو إلهامًا كما يظنّ البعض، ولكنّه حِرفة وصنعة يتقنها الكاتب بعد محاولات عدّة من التجريب، والفك والتركيب، والتعلّم من خبرات الآخرين.

في هذه الخطوات العملية تجد - عزيزي الروائي - بعضًا من أفضل النصائح المتداولة عن كيفية كتابة بداية قوية لروايتك.

أنواع البدايات

البداية الصادمة؛ بداية الرواية بفقرة صادمة للقارئ شعوريًا أو ذهنيًا من التقنيات شائعة النجاح في كتابة مقدمة الروايات المميزة. يقدّم الكاتب في الجمل الأولى من روايته اعترافًا صادمًا، أو خبرًا مثيرًا لدهشة القارئ، يحفزّه لاكتشاف القصة الخلفية للشخصية أو لأحداث الرواية.

كتب الروائي الفيتنامي فاييت ثانه نغويين في روايته ’’المتعاطف‘‘ في أول كلمات الرواية:

أعترف بأني جاسوس، من الخلايا النائمة، أو الأشباح المرعبة، باختصار أنا شخصية تؤدي دورين، ربما ليس من المستغرب أيضًا أن يحتوي رأسي على عقلين أو أكثر.

البداية المحورية؛ يمكن للروائي إذا رغب في جذب انتباه القارئ من الصفحة الأولى لعمله، أن يخصص البداية لنقطة محورية أو جملة يفهم منها أن هناك تحولًا كبيرًا سوف يحدث وعلى القارئ أن ينتظر قليلًا ليكون شاهدًا على هذا الانتقال العظيم.

افتتح الروائي السويسري باسكال مرسييه روايته ذائعة الصيت ’’قطار الليل إلى لشبونة‘‘ بهذه الجملة:

عاديًّا بدأ اليوم مثل كلّ الأيام السابقة، ومع ذلك فلا شيء بعده سيظلّ على حاله في حياة ريموند غريغوريوس.

ابدأ من منتصف القصّة؛ في الروايات التي تعتمد على الإثارة مثل روايات الجريمة أو روايات الغموض، يبني الكاتب استراتيجيته على ’’دفع‘‘ القارئ إلى منتصف الحدث دون مقدمات. يضمن المؤلفون بهذه الحيلة ’’تورط‘‘ القارئ في القصة، وانشغاله بتفاصيلها.

يطلق على هذه التقنية أحيانًا (البدء من منتصف السرد)، وفيها يضع الكاتب الحوادث المثيرة في السطور الأولى، ثم يتفرغ على مهلٍ لاحقًا لترتيب الأحداث وفق خطها الزمني.

افتتح الروائي طارق إمام روايته ’’طعم النوم‘‘ بهذه الجملة:

تدسّ الإبرة القاتلة في وريد الرجل العجوز، وتشعر براحة الاقترابٍ من الموت، كأن السائل المميت يجري في عروقها هي.

البداية المحذّرة؛ في البدايات المحذّرة يلجأ الكتاب إلى ضخّ جرعات منبّهة في الفقرة الأولى تنبئ عن أمر غير مألوف في الرواية. البعض يجعلها كلمة واحدة، أو مصطلحًا غريبًا، أو يذكر حقيقة علمية تستدعي في الذهن تفاصيل مدهشة.

والعظماء من الكتّاب يبتكرون مقدمة بصرية خيالية تصبح علامة تجارية مسجلة بأسمائهم، كما فعل الروائي كارلوس زافون في روايته الشهيرة ’’ظل الريح‘‘ حينما بدأ الفقرة الأولى بهذه الصورة: 

لن أنسى أبدًا ذلك الصباح الذي اقتادني فيه والدي إلى ’’مقبرة الكتب المنسية‘‘.

البداية العاطفية؛ يستعيض بعض الروائيين عن الإثارة في مقدمة الرواية بتكوين علاقة عاطفية مع القراء. فيستهلون الصفحة الأولى من قصصهم بإظهار استجابات وجدانية شديدة التأثير للشخصيات الروائية. الرهان على كسب تعاطف القارئ مع شخصيات الرواية، من الرهانات التي يربحها المؤلفون عادة.

وإذا نجح الكاتب في خلق هذه العلاقة بين القارئ وشخصية واحدة من شخصيات الرواية، فسيظلّ القارئ حريصًا على تتبع مسار شخصيته طوال صفحات القصة.

هكذا بدأ الروائي عادل عصمت روايته ’’الوصايا‘‘:

قال لهم: هاتوا لي ’’الولد الساقط‘‘. كان يناديني الولد الساقط منذ أن رسبت في كليّة الزراعة، ولم تعد لي رغبة في أن تسير الحياة بهذه الطريقة. أهانه رسوبي؛ الرسوب .. إهمال، والإهمال ضياع. ضاع الولد الذي تعشّم فيه كثيرًا، عندما حفظ القرآن بسرعة، وكان يقرأ الجرنال للناس في المندرة، وهو لم يتعدّ السابعة من عمره.

لا شك أنك متحفز الآن لتعرف لم وكيف سقط هذا الولد النابغة؟ أليس كذلك؟

البداية المُفَجّرة؛ بداية الرواية المفجرة تعني أن يبدأ الروائي نصّه بحدث مُحرِّض، يؤدي إلى تتابع أحداث أخرى تزيد من تعقد حياة الشخصيات الروائية. يقول بعض النقاد أن القصة الحيّة تدفع الحبكة من سطورها الأولى، والحدث المفجر يساعد الكتاب على القيام بهذا الأمر بسهولة.

لجأ الروائي بول أوستر إلى هذه التقنية في روايته ’’مدينة الزجاج‘‘ فكتب في الفقرة الأولى من الرواية:

بدأ الأمر باتصال هاتفي، برقم خاطئ، وفي قلب الليل دوّى رنين الهاتف ثلاث مرات، وتناهى الصوت من الطرف الآخر طالبًا شخصًا آخر سواه.

البداية من مكان ذي خصوصية؛ تثير بعض الأماكن دون غيرها تناقضات غير مألوفة في نفس القرّاء، فبعض الأماكن تشعرنا بالحنين، والبعض يشعرنا بالخوف، والبعض يشعرنا بالنفور، إلخ. وعندما تجري أحداث القصة في أماكن مثل هذه، فربما على الكاتب أن يستثمر طبيعة هذه الأماكن، وأن يدخل القارئ إلى الرواية عبر بوابة المكان.

كتب الرائع ستيفن كينج في مقدمة رواية ’’الميل الأخضر‘‘:

حدث ذلك في العام 1932، أيام كان سجن الولاية ما يزال في كولد ماونتن، وطبعًا، الكرسيّ الكهربائيّ ما يزال هناك أيضًا.

البداية بشخصية جدلية؛ الشخصيات روح الروايات، والكاتب الذي ينجح في صناعة شخصية روائية لا تنسى يمكنه أن يجعلها محور الرواية. إذا كانت قصتك تدور حول ’’شخصية‘‘، فربما من الأفضل أن تفتح روايتك بمقطع مثير للجدل عنها.

استهل الروائي صنع الله إبراهيم روايته ’’ذات‘‘ التي تحولت لاحقًا إلى مسلسل تلفزيوني بهذا المقطع:

نستطيع أن نبدأ قصة ذات من البداية الطبيعية، أي من اللحظة التي انزلقت فيها إلى عالمنا ملوثة بالدماء، وما تلى ذلك من أول صدمة تعرضت لها، عندما رفعت في الهواء وقلبت رأسًا على عقب، ثم صُفعت على أليتها التي لم تكن تنبئ أبدًا بما بلغته بعد ذلك من حجم جراء كثرة الجلوس فوق المرحاض، لكن بداية كهذه لن يرحب بها النقاد...

نصائح لكتابة بداية رواية أخاذة

فيما يلي بعض النصائح لجعل مقدماتك تتألق:

ابدأ بشكل عام، ثم حدد بشكل محدد؛ فكر في المقدمة الخاصة بك على أنها مسار قمع، يبدأ بالمعلومات الأكثر عمومية - بما في ذلك المعلومات حول المشهد الأكاديمي وأبحاثك - ثم يضيق التركيز ببطء حتى يجلب القراء إلى الأطروحة. قم بالبناء على المعرفة العامة للوصول إلى مواضيع أكثر تحديدًا.

اتبع الصيغة؛ قد تشعر بأن التمسك بصيغة مقدمة سيجعل الكتابة مملة وقاسية. ومع ذلك، سيستفيد القراء أكثر بكثير من المقدمة المبنية على التنسيق التقليدي لأنهم يستطيعون توقع المنظمة ومتابعة حجتك بسهولة أكبر.

اذكر اهتمامك؛ إذا كنت تواجه صعوبة في إيجاد وسيلة جيدة لمقدمة، اسأل نفسك ما الذي يثير اهتمامك في كتابة الورقة. من المحتمل أن تتماشى اهتماماتك مع اهتمامات قرائك. يمكن أن يكون تركيز المقدمة حول اهتمامك الخاص بالموضوع بمثابة نقطة انطلاق رائعة لجذب الانتباه.

المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق